تفسير قوله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قومًا مسرفين}
■ معنى {نضرب عنكم}
نضرب عنكم أي نترككم ونعرض عنكم، قاله الفراء وأبو منصور الأزهري وأبو جعفر النحاس، وغيرهم من أهل اللغة.
قال الفراء: (والعرب تقول: قد أضربت عنك، وضربت عنك إذا أردت به: تركتك، وأعرضت عنك)
قال أبو جعفر النحاس: (يقال: ضربت عنه, وأضربت, أي: تركته).
قال أبو منصور الأزهري: ( وضَرْبُ الذِّكْر: رَدُّه وكَفُّه، وَقد أضْرب عَن كَذَا أَي كفَّ عَنهُ وَتَركه).
■ معنى الذكر:
الذِّكر مصدر، يأتي بمعنى التذكر ضد النسيان.
قال ابن دُريد في جمهرة اللغة: (الذِّكْر: ضد النّسيان ذَكَرْتُ الشيءَ أذكُره ذِكْراً وذُكراً، وَهُوَ منّي على ذِكْر وعَلى ذُكْر، والضمّ أَعلَى، وذَكَرْتُه ذِكْراً حسنا)
ويأتي كذلك بمعنى الصيت والثناء
قال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي في معجم الصحاح: («والذِكْرُ: الصيتُ والثَناءُ. وقوله تعالى: (ص والقرآنِ ذي الذِكْرِ) أي ذي الشَرَف»
■ المراد بالذكر:
ورد في المراد بالذكر في هذه الآية قولان:
القول الأول: القرآن، قاله قتادة وابن زيد.
قول قتادة رواه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق
- وقول ابن زيد رواه ابن جرير الطبري، وسيأتي الإشارة لنص أقوالهم لاحقًا.
والذكر من أسماء القرآن، كما قال الله عز وجل: {إنّا نحنُ نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
وتسمية القرآن بالذكر تأتي على معنيين، يرجعان للمعنى اللغوي للكلمة:
الأول: بمعنى التذكير؛ كما قال الله عز وجل: {كلا إنّه تذكرة}
قال الشيخ عبد العزيز الداخل في كتاب بيان فضل القرآن: (فسمّي بالذكر على هذا المعنى لكثرة تذكيره وحسنه؛ فهو يذكّر العبد بربّه جلّ وعلا، ويذكّره بسبيل سعادته وفوزه برضوان ربّه تعالى وعظيم فضله وثوابه، ويذكّره بما يجب عليه أن يتجنّبه ليتّقي سخطه وعقابه؛ ويذكّره بما ينفعه في دينه ودنياه وآخرته من أنواع الذكرى الكثيرة والمتنوّعة والمحكمة)
الثاني: القرآن له الذكر الحسن والشرف العالي:
روى ابن جرير الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ أنه قال: (قوله: {وإنّه لذكرٌ لك ولقومك} يقول: إنّ القرآن شرفٌ لك).
قال الشيخ عبد العزيز الداخل في كتاب بيان فضل القرآن: (ومن آثار هذا المعنى أن القرآن يرفع أصحابه ويجعل لهم ذكراً؛ فإنّ تشرّفهم به ورفعتهم به أثر من آثار شرفه هو ورفعته).
القول الثاني: العذاب، والتذكير به وهو قول مجاهد والسدي وأبي صالح، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله الزجاج.
أما قول مجاهد فرواه الفريابي - كما في فتح الباري - وابن جرير الطبري في تفسيره من طريق ابن أبي نجيح عنه، قال: (تكذّبون بالقرآن، ثمّ لا تعاقبون عليه)، ورواه البخاري معلقا في صحيحه.
وأما قول السدي فرواه ابن جرير الطبري من طريق أسباط عنه، قال: ( أفنضرب عنكم العذاب)
وقول أبي صالح رواه ابن جرير الطبري من طريق سفيان عن إسماعيل عنه، قال: (بالعذاب).
وروى ابن جرير الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: ({أفنضرب عنكم الذّكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين} يقول: أحسبتم أن نصفح عنكم ولمّا تفعلوا ما أمرتم به)
قال الزجاج: (والمعنى: أفنضرب عنكم ذكر العذاب , والعذاب بأن أسرفتم.والدليل على أن المعنى هذا, وأنه ذكر العذاب)اهـ، يعني في الآيات التالية، قال الله عز وجل: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)} سورة الزخرف.
وقول الزجاج يجمع بين معنى العذاب والتذكير به.
ويكون معنى الذكر على هذا القول تذكيرهم بالعذاب لعلهم يعتبرون فيؤمنون، ولا شكَ أن في القرآن تذكير للعباد بالعذاب كما قال تعالى: {فذكّر بالقرآن من يخافُ وعيد} وبهذا يتبين لك وجه الجمع بين هذا القول والقول الأول.
■ معنى صفحًا:
الصفح بمعنى الإعراض، ويأتي صفة لله عز وجل بمعنى العفو عن الذنب.
قال الخليل بن أحمد في العين: (وقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً}، هو الاِعراض)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ في غريب القرآن: ({أفنضرب عنكم الذكر صفحا}: يقال: مر بنا فلان صفحا إذا مر ولم يقف).
وقال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة: (وَأما الصَّفوح من صِفَات الله جلّ وعزّ فَمَعْنَاه العَفُوّ. يُقَال: صَفَحْتُ عَن ذَنْبِ فلَان أَي أعْرَضت عَنهُ فَلم أُؤاخِذه بِهِ)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ في غريب القرآن: ({أفنضرب عنكم الذّكر صفحاً}: أي نمسك عنكم فلا نذكركم صفحا، أي إعراضا. يقال: صفحت عن فلان، إذا أعرضت عنه.
والأصل في ذلك: انك توليه صفحة عنقك, قال كثير يصف امرأة:
صفوحًا ما تلقاكَ إلا بحيلة … فمن مل منها ذلك الوصل ملت
أي : معرضة بوجهها.
ويقال: ضربت عن فلان كذا، أي أمسكته , وأضربت عنه).
■ إعراب صفحًا:
ورد في إعراب صفحًا عدة أوجه منها:
الأول: منصوب على المصدر، من معنى الفعل (أفنضرب عنكم)؛ فيكون المعنى؛ نصفح عنكم صفحًا، أي: نعرض عنكم إعراضًا، قاله أبو جعفر النحاس والكرماني وأبو البقاء العكبري والزمخشري وابن جزي والسمين الحلبي وغيرهم.
الثاني: النصب على الحال: أي أفنضرب عنكم الذكر صافحين، قاله أبو جعفر النحاس والسمعاني وأبو البقاء العكبري والزمخشري وابن جزي والسمين الحلبي وغيرهم.
الثالث: مفعول من أجله، ويأتي على معنيين حينئذ:
أفنضرب عنكم الذكر عفوًا عنكم، أو أفنضرب عنكم الذكر إعراضًا عنكم، قاله الزمخشري وابن جزي والسمين الحلبي وغيرهم.
الرابع: منصوب على الظرف.
قال الزمخشري: (وإمّا بمعنى الجانب من قولهم: نظر إليه بصفح وجهه وصفح وجهه، على معنى: أفننحيه عنكم جانبا، فينتصب على الظرف كما تقول: ضعه جانبا، وامش جانبا)
■ أوجه تفسير قوله تعالى:{أفنضرب عنكم الذكر صفحاً}، ومعنى الاستفهام وغرضه على كل وجه.
الألف في {أفنضرب} للاستفهام، والفاء للتفريع من قوله {إنا جعلناه قرآنا عربيًا لعلكم تعقلون}، قاله ابن عاشور.
ثم اختلف المفسرون في معنى الاستفهام بناء على الخلاف في المسائل السابق ذكرها ويمكن تلخيص الأقوال في معنى الاستفهام إلى ثلاثة أقوال:
الأول: أفنعرض عنكم فلا ننزل عليكم الذكر (القرآن) إعراضًا عنكم، فالاستفهام هنا للتهديد والتقريع والتوبيخ، تهديد لهم برفع القرآن عنهم.
روى ابن المبارك في الزهد عن جويبر عن أبي سهل كثير بن زياد البُرساني عن الحسن البصري أنه قال: ( لم يبعث الله نبيًا إلا أنزل عليه كتابًا، فإن قبله قومه وإلا رفع، فذلك قوله عز وجل: {أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين} [سورة الزخرف: 5]، أي: لا تقبلوه فتقبله قلوب نقية، قالوا: قبلنا ربنا، قالها ثلاث مرات، ولو لم يفعلوا رفع، فلم ينزل منه شيء على ظهر الأرض)
قال ابن جرير: حدّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {أفنضرب عنكم الذّكر صفحًا} قال: الذّكر ما أنزل عليهم ممّا أمرهم اللّه به ونهاهم، {صفحًا} لا يذكر لكم منه شيئًا.
ومناسبة هذا القول الآيات التي افتُتحت بها السورة كما سبق بيانه.
الثاني: أفنعرض عنكم فلا نعذبكم عفوًا عنكم لأن كنتم قومًا مسرفين، أو إن كنتم قومًا مسرفين.
والاستفهام هنا للتهكم، فهم يستحقون العذاب لإعراضهم.
روى الفريابي - كما في فتح الباري - وابن جرير في تفسيره من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قول اللّه عزّ وجلّ: {أفنضرب عنكم الذّكر صفحًا}: (تكذّبون بالقرآن، ثمّ لا تعاقبون عليه.)
وروى نحوه ابن جرير الطبري في تفسيره عن أبي صالح والسدي.
وقال بهذا القول الزجاج ورجحه الطبري لأن الله عز وجل أخبر بهلاك الأمم السابقة في الآيات التالية، كما سبق بيانه.
القول الثالث: أتحسبون أن إعراضكم عما نزل من الكتاب يبعثنا على أن نقطع الذكر عنكم، قاله ابن عاشور.
وهو مستفاد من الأثر الذي رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم - كما في تغليق التعليق - عن سعيد عن قتادة: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا) . قال: والله لو أن هذا القرآن رفع حيث رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله تعالى عاد عليهم بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنةً، أو ما شاء اللّه من ذلك.)
وليس في لفظ ابن جرير: (فكرره عليهم)
قال ابن كثير: (وقول قتادة لطيف المعنى جدًّا، وحاصله أنّه يقول في معناه: إنّه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير والذّكر الحكيم -وهو القرآن-وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي من قدّر هدايته، وتقوم الحجّة على من كتب شقاوته)
والاستفهام على هذا القول (إنكاري) كما قال ابن عاشور: (والاستفهام إنكاري، أي لا يجوز أن نضرب عنكم الذكر صفحا من جراء إسرافكم)
■ قوله تعالى:{ أن كنتم قومًا مسرفين}
القراءات في {أن}
الأولى: بفتح الهمزة، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر.
وتوجيه هذه القراءة على قولين:
الأول: على معنى التعليل، وحُذفت اللام، فيكون المقصود: أفنضرب عنكم الذكر صفحًا لأن كنتم قومًا مسرفين، أي: بسبب كونكم مسرفين، قاله الأخفش الأوسط، وابن قتيبة والزجاج.
وعلى هذا القول يكون الإسراف متحققًا منهم.
الثاني: تأتي (أن) المفتوحة الهمزة بمعنى الشرط على مذهب الكوفيين، بدلا من (إن) بكسر الهمزة، قاله الفراء في معاني القرآن، وذكره أستاذ محمد عبد الخالق عضيمة في كتابه دراسات لأسلوب القرآن الكريم.
واستشهد الفراء بقول الفرزدق:
أتجزع أن أذنا قتيبة حزّتا = جهارًا ولم تجزع لقتل ابن حازم
وبقول أحدهم:
أتجزع أن بان الخليط المودّع = وحبل الصّفا من عزّة المتقطّع
قال الفراء: "وفي كلّ واحدٍ من البيتين ما في صاحبه من الكسر والفتح".
الثانية: بكسر الهمزة، وهي قراءة نافع وحمزة والكسائي.
وتوجيه هذه القراءة أنها جاءت على معنى الشرط (إن كنتم قومًا مسرفين) وجوابه محذوف دل عليه الاستفهام قبله، أي: إن كنتم قومًا مسرفين نضرب عنكم الذكر.
وعلى القول بالشرط يكون الزمن للمستقبل، أو إشارة لإنكارهم تحققه.
قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف استقام معنى [أن] الشرطية، وقد كانوا مسرفين على البت؟
قلت هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته، كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه، استجهالا له»
■ معنى {مسرفين}
يأتي السرف على معانٍ عدة في اللغة يجمعها معنى تجاوز الحد.
فيأتي بمعنى تجاوز الحد في الإنفاق ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}[الفرقان/ 67]
ويأتي بمعنى الخطأ، لأن فيه التجاوز بوضع الشيء في غير موضعه.
ومنه قول جرير:
أعطَوا هُنيدةَ يحدوها ثمانيةٌ … ما في عطائهم منٌ ولا سرفٌ
هنيدة: أي مائة من الإبل، يحدوها ثمانية: أي يسوقها ثمانية عبيد
والشاهد: ولا سرف.
قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافًا}
بعدما استشهد بهذا البيت: (يعني بقوله:"ولا سرف"، لا خطأ فيه، يراد به: أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطئونها)
ومن الخطأ أيضًا، الجهل والإغفال
يقال: مررت بكم فسَرَفتكم، أي جهلتكم أو أغفلتكم.
قال الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن: (وقولهم: مررت بكم فَسَرِفْتُكُمْ ، أي: جهلتكم، من هذا، وذاك أنه تجاوز ما لم يكن حقّه أن يتجاوز فجهل، فلذلك فسّر به)
وقال أيضًا:(السَّرَفُ: تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}[الفرقان/ 67] ، {وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً}[النساء/ 6] ، ويقال تارة اعتبارا بالقدر، وتارة بالكيفيّة، ولهذا قال سفيان: (ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سَرَفٌ، وإن كان قليلا))
وما روي عن السلف في تفسير المراد بـ {مسرفين} في هذه الآية، أنها بمعنى (مشركين)، قاله قتادة.
روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم - كما في فتح الباري - من طريق سعيد عن قتادة وروى ابن حجر في تغليق التعليق من طريق معمر عن قتادة،، أن {مسرفين} بمعنى (مشركين).
والشرك فيه تجاوز للحد بصرف العبادة لغير الله عز وجل.
وجاءت (مسرفين) على صيغة اسم الفاعل دلالة على لزومهم وصف الإسراف، وثباتهم عليه، أسأل الله السلامة لي ولكم.
■ خلاصة القول في تفسير الآية:
بالنظر للخلاف الوراد في مسائل هذه الآية، نجد أنه من قبيل خلاف التنوع، وأن الآية تحتمل جميع المعاني، فجاءت على وجازة ألفاظها جامعة بين الترغيب والترهيب
فما بين الترغيب بأن الله عز وجل أتم علينا نعمته بنزول القرآن ولم يعاقب الأمة بإعراض مشركي قريش عنه، على معنى الاستفهام الإنكاري، ففيها أيضًا تهديد ووعيد بأن يحرموا نعمة التذكر بالقرآن والشرف والرفعة به إن هم أصروا على الإعراض عنه، وأي تذكر أعظم من ذكر العذاب الذي يمنع المرء من مواصلة إسرافه وجهله؛ فإن من أيقن أن عاقبة أمره العذاب، عقل ومنع نفسه من التورط فيما يهلكه، ومن الغرور الظن بأن يعرض المرء عن القرآن ومواعظه وزجره ونهيه ثم يرجو ألا يناله العذاب ولو بحرمانه بركة هذا القرآن في الدنيا !
وأما الأقوال في معنى قوله تعالى:{أن كنتم قومًا مسرفين}؛ على معنى التعليل (لأن كنتم قومًا مسرفين) أو معنى الشرط (إن كنتم قومًا مسرفين)
أي سواء تحقق منكم هذا الإسراف فعلا، أو إن تحقق منكم مستقبلا، فأنتم داخلون في هذا الوعيد؛ فلا يأمن أحد أبدًا مكر الله عز وجل، ويحرص على التوبة، وسؤال الله الثبات فالقلوب متقلبة، ويستمسك بذكر الله عز وجل ما كانت فيه حياة وإلا فإن ركن للقوم المسرفين فهو متوعد بهذا الوعيد الشديد :{أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين}
وإنه لشديد على من عظَّم القرآن وقدّره قدره، وذاق حلاوة تلاوته وتدبره والاهتداء بنوره في ظلمات الشبهات والشهوات.
ثم جاءت آيات سورة الزخرف مبينة لصور هذا الإسراف، مقيمة الحجة على كل من أعرض عن القرآن على اختلاف صور هذا الإعراض وأسبابه، منذرة لمن أعرض ومبشرة لمن استمسك بالقرآن؛ وذلك في نظم بديع، لا يمكن أن يكون إلا من الحكيم العليم، كما قال الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وإنّك لتُلقى القرآن من لدن حكيم عليم} [سورة النمل: 6]