رسالة تفسيرية في قوله -تعالى- :" قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) " .
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، حمداً يليق بجلاله و عظمته ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، هو الذي يجتبي من عباده من يشاء ، و يرفع شأن من يخشاه ، وأصلي و أسلم على خير البرية محمد بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة و السلام- .
قال الله -تعالى- :" قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) " الجمعة .
ففي هذه الآيات الكريمة تكذيب دعوى اليهود أنهم أولياء لله من دون الناس ، فكما هو معروف عن اليهود أنهم مصابين بداء الاستعلاء و الاستكبار على جميع الخلق ، و يدّعون بأنهم شعب الله المختار و أنهم أبناء الله و أحباؤه ، و كل تلك الأقاويل ناتجة عن ضلالهم و زيغ قلوبهم عن الحق .
و لقد بين الله -تعالى- في كتابه الكريم بطلان زعمهم بالأدلة الواضحة و الحجج الدامغة ، و من ذلك :
* أن الله -تعالى- بيّن بطلان أصل الادعاء و حقيقة أمرهم ، فقال -تعالى- :" وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ " [المائدة : 18 ]
ففي ذلك رد على زعمهم بأنهم أرفع مكانة عن سائر البشر ، و الحق أنهم كسائر البشر لا فضل لأحد على أحد عند الله إلا بالإيمان والتقوى وهو المقياس الصحيح .
*وتحداهم الله -عزوجل - أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين في دعواهم بأنهم أولياء لله ، فقال -تعالى- :" قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " [ الجمعة: 6 ] ، و قال -تعالى- :" قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " [البقرة : 94 ] .
فبيّن حقيقتهم وكذبهم بأنهم لا يتمنون الموت أبداً خوفاً منه ؛ لأنهم يعلمون كفرهم وضلالهم وظلمهم و شناعة أعمالهم من تحريفٍ للتوراة وتبديلها و قتلهم الأنبياء بغير حق و غيرها من الأعمال القبيحة ، فهو- سبحانه- عليم بظلمهم لا يخفى عليه أمرهم ، قال -تعالى- :" وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " [الجمعة : 7] ، و قال- تعالى- :" وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ " [البقرة : 95 ] .
كما أن أولياء الله الصادقين الذين اختصهم الله حقيقةً حالهم يختلف عن غيرهم فهم يشتاقون لملاقاة الله -تعالى- و لا يهابون الموت ، وذلك لا ينطبق على اليهود أبداً فهم يفرّون من الموت فرارً .
* ثم إن اليهود أمرهم عجيب ومستنكر .. كيف يدّعون بأنهم أبناء الله و أحباؤه و أنهم أولياء لله من دون الناس و قد غضب الله عليهم ولعنهم في كتابه العزيز، فإنه لا يُعقل بتاتاً أن يكون المحب لاعناً لمحبوبه غاضباً عليه ، فقد ورد في القرآن الكريم لعن الله -تعالى- وغضبه عليهم صريحاً ، فقال -تعالى-:" وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ " [البقرة : 88 ] ، و قال- تعالى- : " ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " [ آل عمران : 112 ] ، وقال -تعالى- : " قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ " [ المائدة : 60 ] .
فإن المتأمل لآيات القرآن الكريم يجد أنها شاهدة على بطلان مزاعم اليهود وأقاويلهم الكاذبة ، و داحضة لشبهاتهم بأوضح الأدلة والبراهين ، مبيّنة لتناقضهم العجيب بين حالهم وحقيقة ما يدّعونه عن أنفسهم .
" نسأل الله -عز وجل- أن لا يزيغ قلوبنا و أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه و يرينا الباطل باطلاً و يرزقنا اجتنابه " .
-وصلّ اللهم و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين -.