رسالة في تفسير قول الله تعالى: "والعاديات ضبحا"
قوله تعالى: "والعاديات ضبحا" هو في صدر سورة العاديات وهي من السور القصار في الجزء الأخير من القرآن، والذي يغلب على سوره الطابع المكي من قصر الآيات وقوة الألفاظ. وهذا نراه واضحا في الآية محل الدراسة.
وقد جاء في سبب نزول الآية وما بعدها ما ذكره ابن عطية والسيوطي فيما أَخْرَجَه البَزَّارُ، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ أبي حاتِمٍ، والدَّارَقُطْنِيُّ في "الأَفْرادِ"، وابنُ مَرْدُويَهْ، عن ابنِ عبَّاسٍ، حين قالَ:
بَعَثَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْلاً فاسْتَمَرَّتْ شَهراً لا يَأْتِيه مِنها خَيْلٌ، فَأَشْهَرَت شَهْرًا لا يَأْتَيهِ منه خَبَرٌ، حتى أرجف بعض المنافقين، فَنَزَلَتْ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً}: ضَبَحَتْ بأَرْجُلِها- ولفظُ ابنِ مَرْدُويَهْ: ضَبَحَتْ بِمَنَاخِيرِها.
والعاديات هي جمع عادية، فالخيل الواحد عاد والأنثى عادية ويقال عدا الفرس يعدو عدوًا وأعداه صاحبه إعداء ويقال مر يعدو ويعدي ويجري ويجري وأراد: ونكر العاديات والعادية أيضًا الجماعة يعدون على أرجلهم، قال الهذلي:
وعادية تلقي الثياب كأنما ....... تزعزعها تحت السماة ريح
والعاديات: القوم يحملون في الغارة، والعادية: الإبل إذا كانت مقيمة في الخلة. ذكره الأنباري.
ومن المعنى اللغوي السابق نجد ان أقوال المفسرين في تفسير معنى العاديات لا يخرج عن هذا المعنى، فإن للسلف في المراد بالعاديات قولان مشهوران، هما:
القول الأول: هي الخيل.
القول الثاني: هي الإبل.
وقد قال
بالقول الأول ابن عباس رضي الله عنهما، وجماعة آخرون منهم مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والضحاك، واختار هذا القول ابن جرير الطبري، وقد علّل سبب اختياره ذلك بأن الإبل لا تضبح وإنما التي تضبح الخيل، فقد نقل ابن جرير عن ابنِ عبَّاسٍ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً}؛ قوله: ليسَ شيءٌ مِن الدوابِّ يَضْبَحُ إلا كلبٌ أو فَرَسٌ، وأضاف عكرمة: وما ضبح بعير قط. ولكن ابن عطية علّق على ذلك قائلا: وهذا عندي لا يصحّ عن ابن عبّاسٍ؛ وذلك أنّ الإبل تضبح، والأسود من الحيّات، والبوم، والصّدى، والأرنب، والثعلب، والفرس، هذه كلّها قد استعملت العرب لها الضّبح.
وقد ذكر ابن عطية ما أنشده أبو حنيفة في صفة قوسٍ:
حنّانةٌ من نشمٍ أو تألب ....... تضبح في الكفّ ضباح الثّعلب
أما من قال
بالقول الثاني فهو علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما و جماعة آخرون منهم إبراهيم وعبيد بن عمير وأبي صالح، وقد ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عطية وابن كثير وغيرهم.
وقد استند أصحاب هذا القول على الحديث المروي عن سعيد بن جبيرٍ، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ، حدّثه قال:
بينما أنا في الحجر جالسًا أتاني رجلٌ، فسألني عن {العاديات ضبحاً}، فقلت: الخيل حين تغير في سبيل اللّه، ثمّ تأوي إلى اللّيل، يصنعون طعامهم ويورون نارهم؛ فانتقل عنّي فذهب إلى عليّ بن أبي طالبٍ، وهو تحت سقاية زمزم، فسأله عن {العاديات ضبحاً}، فقال: «سألت عنها أحدًا قبلي؟»، قال: فقال: نعم، سألت عنها ابن عبّاسٍ، فقال: الخيل حين تغير في سبيل اللّه؛ قال: «اذهب فادعه لي»؛ فلمّا وقف على رأسه قال: «تفتي النّاس بما لا علم لك به؛ واللّه، إن كانت لأوّل غزوةٍ في الإسلام لبدرٌ وما كان معنا إلا فرسان، فرسٌ للزّبير وفرسٌ للمقداد بن الأسود، فكيف تكون {العاديات ضبحاً}، إنما {العاديات ضبحاً} من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منىً، فأوروا النيران .. .. ، وكانت {فالمغيرات صبحاً}، من المزدلفة إلى منًى، فذلك جمعٌ، وأمّا قوله: {فأثرن به نقعاً}، فهي نقع الأرض حين تطأها أخفافها وحوافرها»؛ قال ابن عبّاسٍ: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الّذي قال عليٌ. وهذا الأثر ذكره ابن جرير وابن عطية والسيوطي وابن كثير وغيرهم.
و
التحقيق كما قال ابن عطية: أن الظاهر في الآية أن القسم بالخيل أو الإبل أو بهما.
وهو كذلك حاصل ما ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم وابن كثير وغيرهم.
وسبب تسميتها ب "العاديات":
- فمن رجح معنى العاديات على أنها الخيل، قال بأنها من العدو حين تغير الخيل في سبيل الله، أي تجري بسرعة، وقد ذكره العيني عن ابن كيسان وجماعة من أهل التفسير كابن جرير وابن أبي حاتم وابن عطية وابن كثير.
- ومن قال بأنها الإبل، قال بأن الإبل تعدو في الحج من عرفة إلى مزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى إذا دفع الحاج، وكذلك عدو الإبل في الإغارة في غزوة بدر كما ذكر علي رضي الله عنه.
قال الأنباري: تعدو في بعض أوقات الحج وكذلك تغير، على أن الإسراع بها يشبه الإسراع في حال الإغارة. وهو حاصل أقوال ابن وهب المصري وابن جرير وابن عطية وابن كثير وغيرهم.
أما ضبحا فهي ضبعا وضبحا فأبدلت الحاء من العين، كما تقول العرب: بعثر ما في القبور، وبحثر ما في القبور وهما واحد في السير فيقال: ضبعت الناقة وضبحت، ومثله للفرس والهام والبوم والثعلب والصدى. وهي لغة من الصوت، أي تصويتٌ جهيرٌ عند العدو الشديد، ليس بصهيلٍ ولا رغاءٍ ولا نباحٍ، بل هو غير المعتاد من صوت الحيوان الذي يضبح.
ذكر ذلك كلا من اليزيدي والدينوري وإبراهيم بن السري والقيسي وقطرب البصري والأصمعي والسكري والأنباري وابن عطية.
أما الصوت المراد بالآية، فقد جاء فيه ثلاثة أقوال لأهل التفسير، هي:
القول الأول: صوت أنفاس الخيل أو إذا جهدت في الجري فضبحت بمناخرها فهي تحمحم. ذكره الفراء والعيني والتيمي واليزيدي والأنباري والنيسابوري وغيرهم من أهل اللغة وأهل التفسير.
وقد روى السيوطي عن ابن جرير عن ابن عباس قوله:
ضبح الخيل زحيرها، ألم تَرَ أن الفرسَ إذا عَدَا قالَ: أَحْ أَحْ؟ فذَاك ضَبْحُها.
القول الثاني: صوت نفس الإبل.
كما روى عن ابن جرير عن علي قوله:
الضبح من الخيل الحمحمة، ومن الإبل النفس.
القول الثالث: أي ضبحت بأرجلها. ذكره الهيثمي وابن كثير.
روى الهيثمي وابن كثير عن عكرمة عن ابن عباس قوله،
بعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلاً، فَأَشْهَرَتْ شَهْرًا لا يَأْتِيهِ مِنْهَا خَبَرٌ فَنَزَلَتْ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}؛ ضَبَحَتْ بِأَرْجُلِهَا.
والآية هي قسم، ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، فأقسم تعالى بالخيل لما فيهما من آيات الله الباهرة، ونعمه الظاهرة ما هو معلوم للخلق، أو بالإبل التي تنقل الحجاج في الحج بين المشاعر، ويصح أن يشملهما القسم جميعا. وهنا تخصيص للحال التي عليها الخيل أو الإبل وهي حين الضبح، أي حين تصدر صوتا بمناخرها أو بأرجلها أثناء العدو في الإغارة في سبيل الله كما هو في الخيل، أو في الغزو أو الحج كما هو الحال في الإبل. وهذا يدل على عظم العمل التي تقوم به تلك الدواب من جهاد في سبيل الله، ومن إعانة للحجاج على أداء مناسك الحج الركن الخامس من أركان الإسلام.
ولا شك أن هناك غاية من القسم، وهنا ذكر ابن عطية في ذلك قولان، هما:
القول الأول: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث خيلًا إلى بني كنانة سريّةً، فأبطأ أمرها عليه حتى أرجف بعض المنافقين، فنزلت الآية معلمةً أنّ خيله عليه الصلاة والسلام قد فعلت جميع ما في الآيات.
القول الثاني: القسم هو بالخيل جملةً؛ لأنها تعدو ضابحةً قديمًا وحديثًا، وهي حاصرة البلاد وهادمة الممالك، وفي نواصيها الخير إلى يوم القيامة. وهو حاصل قول ابن كثير كذلك.