بسم الله الرحمن الرحيم .
بحث اجتياز المستوى السادس .
عنوان البحث :-
رسالة تفسيرية بإسلوب التقرير العلمي ، حول قوله تعالى " وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم و أغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " ،سورة البقرة الآية :50 .
- مع بيان أحكام ما ورد فيها من روايات إسرائيلية .
الحمدلله رب العالمين ، و أصلي و أسلم على خاتم النبيين، وإمام المرسلين، نبينا محمد ،وعلى آله و صحبه أجمعين ،و بعد:
فهذه الرسالة التفسيرية تتناول ما يلي :-
أولا:- مقدمة .
ثانيا : تفسير الآية بإسلوب التقرير العلمي .
ثالثا:- بيان أحكام الروايات الإسرائيلية الواردة في الآية.
المقدمة .
يخبر الله سبحانه و تعالى في سياق الآيات السابقة لهذه الآية ،تعداد نِعمه على بني إسرائيل ، ومن أعظم تلك النعم، ما أنعم الله به على نبيه موسى - عليه السلام - ،و قومه من إنجاء لهم من براثن الطاغية فرعون و جنده ، بعد معركة حامية و طويلة مع هذا الطاغية المتجبر ؛ منذ ما بعث موسى -عليه السلام -بالدعوة للتوحيد ، و علم فرعون ذلك ، فكان يكيل لنبي الله -عليه السلام - الحيل و المكائد ،للقضاء على دعوة التوحيد ، وقد بلغ من جبروته أن ادعي الألوهية ، فأراد الله -جل شانه -أن يقصمه ،و يجعله عبرة لمن يعتبر إلى يوم القيامة.
و في هذه الآية و مثيلاتها في سور الشعراء :78،و طه: 63، و الدخان : 24، و غيرها ، تصوير للمشهد الأخير من فصول الملحمة المعجزة ، وبيان للنصر الإلهي لمن رام الحق ، و اتبع سبيل المؤمنين ،و تنكب طرق الغي و الضلال ،
و قد تضمنت الآية العديد من النعم لموسى -عليه السلام -و قومه :-
1- معجزة فرق البحر ،و فصله .
2- إنجاء موسى -عليه السلام -و قومه .
3- هلاك فرعون و ملائه .
4- مشاهده العدو فرعون و قومه ،وهم يهلكون .
5- إلحاق الذل و الخزي و العار بفرعون و ملائه .
و لاريب أن ماحدث يعد من خوارق العادات ، ومن معجزات الله لأنبيائه ،
قال الدوسري :" هي سنة أخرى في ملكه ، يخلقها متى يشاء على يد من يختار من عباده ، إظهارا لحجته على خلقه ، و انتصارا لمن يشاء من عبادة ،و أوليائه على أعدائه الذين اقتضت حكمته تنكيلهم"(1).
ثانيا :- التفسير بالأسلوب العلمي :-
1- مناسبة الآية لما قبلها:
ذكر البقاعي وجه ارتباط هذه الآية :" وإذ فرقنا بكم البحر .." ،بما قبلها بأنه " لما كان ما فُعِل بهم في البحر إهلاكا للرجال ، و إبقاء للنساء ، طِبق ما فعلوا ببني إسرائيل ، عقّبة به ، فقال :" وإذ" ،أي : اذكرو إذ فرقنا "2.
فالعطف الوارد في الآية يعد من جملة المعطوف على " نعمتي " ،أو على :" اذكروا " ،فالمقصود :تعداد النعم عليهم " 3.
و ذكر النحاس في إعراب القرآن "4" ، أن " إذ فرقنا " في موضع نصب ، و البحر مفعول " .
و يقرر ابن عاشور ماسبق بأن قوله " وإذ فرقنا " :تمهيد للمنة ، لأنه سبب الأمرين : النجاة ، و الهلاك ، وهو مع ذلك معجزة لموسى عليه السلام"5".
2- دلالات لفظة " فرقنا في الآية :-
تدور دلالة لفظة " فرقنا " على معنيين :-
1- التمييز.
2- الفصل .
قال الثعلبي: " أي : فلقنا و ميزنا الماء يمينا و شمالاً، فأنجيناكم من آل فرعون و الغرق" 6.
حيث أن " فرق " يعني :ميز الشيء عن الشيء " .
و المعنى الثاني الانفصال :-
قال الراغب :" و الفرق يقال اعتبارا بالانفصال ، و استشهد بالآية ...،و الفِرق : القطعة المنفصلة"8.
فأصل الفِرق : الفصل ، ومنه فرق الشَعْر ، و منه الفرقان ، لأنه يفرق بين الحق و الباطل "9.
و حدّد الماوردي :أن في اللفظة تأويلان :-
1- فصلنا ، لأن الفرق : الفصل بين الشيئين .
2- ميزنا ، فأصل الفرق : التمييز بين الشيئين ،و الفِرقة من الناس : الطائفة المتميزة من غيرهم "10.
و ذكر الراغب الأصفهاني أن ذلك الفصل يمكن أن يدركه البصر ، أو بفصل تدركه البصيرة "11.
و أضاف ابن عاشور دلالة تختص بأن لفظ " فرق " فيه التخفيف و التشديد ،و أنهما بمعنى واحد ،
1- التشديد " فرّق " : و يفيد تعديه ، و معناه الفصل بين أجزاء شيء متصل الأجزاء ، و يدل على شدة التفرقة ، و ذلك إذا كانت الأجزاء المفرّقة أشد اتصالا.
2- التخفيف " فرقْنا " :- منظور فيه إلى عظيم قدرة الله تعالى ، فكان ذلك الفرق الشديد خفيفا،
ثم عقّب ابن عاشور في التمييز بينهما ،بقوله " فالوجه أن فرّق بالتشديد :لما فيه علاج و محاولة ، و أن المخفف و المشدد كليهما حقيقة في فصل الأجسام ، وأما في فصل المعاني المتلبسة :فمجاز " 12.
3- تفسير سياق اللفظة " فرقنا " :-
و الفرق إنما كان للماء ، نعمة من الله لعبادة المتقين ، " أي : فلقناه لكم "13.
يقول الأخفش :" فرقنا بين الماءين حيث مررتم به "14،
و أشار الزجاج إلى تفسير القرآن بالقرآن في كتابه معاني القرآن ، قال :"و معنى فرقنا بكم :جاء تفسيره في آية أخرى ،وهو قوله "فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطور العظيم "13 ، أي : فانفرق البحر فصار كالجبال العظام ، وصاروا في قراره ، و كذلك قوله " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركاً ولا تخشى "16.
و يبين ابن عطية وصفاً لكيفية الفرْق الذي حصل و يصوره بقوله :" ولم يفرق البحر عرضاً جزعا من ضفة إلى ضفة ، و إنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة ، و كان ذلك الفرق بقرب موضع النجاة ، و لايلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأعار حائلة "18،
و المعنى :"أن الله سبحانه و تعالى فرق بهم البحر ، يميناً و شمالاً ، كالجبليين المتقابلين ، و كما ورد أن بينهما كُوى من طريق إلى طريق ، في اثني عشر طريقاً ، على عدد الأسباط ، ينظر كل سبط إلى الآخر "19.
4- نوع الباء في " بكم " ،و أوجه إعرابها :
اختلف المفسرون وأهل اللغة في المراد بالباء في " بكم " على ثلاثة أقوال:
القول الأول :- وهذا القول لأبي حيان و العكبري و البغوي وابن الجوزي و القرطبي و ابن عطية:
أن "الباء "في معنى : "اللام "أي :فرقنا لكم البحر ، أي : لأجلكم ،و معناها راجع للسبب ،20.
القول الثاني :- وهو قول أبوحيان وابن عطية والجمل والعكبري ،ورجحه القرطبي: أن الباء للسببية ، اي :- بسببكم ،أي لأجلكم ، أو لأجل أن يتيسر لكم سلوكه ،أو بسبب دخولكم ،
قال القرطبي : " يبينه : فانفلق" 21.
القول الثالث : وهو قول أبوحيان ، و السمين الحلبي و العكبري و زاده و ابن عاشور :
أن الباء :للمصاحبة و الملابسة و الاستعانة، قال أبوحيان : أي :جعلناه فرقاً بكم ، كما يفرق الشيئين بما توسط بينهما ، وهو قريب من معنى الاستعانة" 22.
حيث تكون " الباء " المعدية ، و التقدير: " أفرقناكم البحر " ، و قرر السمين أن " الظاهر أن الباء
على بابها من كونها داخلة على الآلة ، فكأنه فرق بينهم ، كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما "23،
ومال إلى ذلك زاده، وأن الباء للاستعانة و التشبية بالآلة ، فتكون استعارة تبعية في معنى باء الاستعانة "24،
و ألمح ابن عاشور إلى أن فرق البحر ملابسا لكم ، و المراد من الملابسة: أن يفرق وهم يدخلونه ، فكان الفرق حاصلا بجانبهم "25،
وفي الأوجه الإعرابية للباء في بكم :-
1- أن تكون في موضع نصب مفعول ثان ،و البحر مفعول أول .
2- أن تكون الباء للحال ، أي :فرقنا البحر و أنتم به ، فيكون إما حالاً مقدرة ،أو مقارنة .
3- أن يكون ظرفا مستقرا في دلالة المصاحبة "26".
5- لفظة "البحر ":-
لفظة البحر يمكن إجمال الحديث عنها في أربع نقاط :-
1- تعريفه .
2- اشتقاقه .
3- سبب التسمية .
4- تعيين البحر .
أولاً: تعريف البحر :
ذكر أبوحيان أن " البحر : مكان مطمئن من الأرض ،يجمع المياه "27.
وزاد الصاوي :" هو الماء الكثير ، عذباً أو مالحاً ، لكن المراد هنا : الملح "28" ،
وخصه القرطبي بأنه الماء المالح ، و يقال :أبحر الماء : مَلُحَ"29.
ثانياً : اشتقاقه :-
يجمع في القلة على أبحر ، وفي الكثرة على بحور و بحار ، و أصله ، قيل : الشق ، و قيل السعة"30