دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دورات برنامج إعداد المفسّر > أصول التفسير البياني

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ربيع الأول 1442هـ/25-10-2020م, 10:53 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي الدرس الثامن عشر: الاستثناء

الدرس الثامن عشر: الاستثناء
عناصر الدرس:
تمهيد.
● إجمال أنواع الاستثناء.
● الاستثناء التامّ الموجب.

● الاستثناء التامّ المنفي.
● الاستثناء الناقص.

- هل يقع الاستثناء المفرَّغ في الكلام الموجب؟
- الاتصال والانقطاع في الاستثناء الناقص.

● الاستثناء المتصل.
● الاستثناء المنقطع.
- الاستثناء التام المثبت المنقطع.
- الاستثناء التام المنفي المنقطع.
- الاستثناء الناقص المنقطع.
- استثناء المعنى من الجثّة والكون من العين.

● التفريق بين الاستثناء المتصل والاستثناء المنقطع.

● الاستثناء من المتعاطفات.
● الاستثناء من الاستثناء.
● استثناء النصف فأكثر.
- قول الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}.
- قول الله تعالى: {قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه}.
- قول الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}.

- قول الله تعالى: {فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ}.
● أدوات الاستثناء.
● أمثلة لدراسة مسائل الاستثناء في التفسير:
- المثال الأول: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى}.
- المثال الثاني: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
- المثال الثالث: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ}.
- المثال الرابع: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
● أمثلة من أقوال المفسرين:
- المثال الأول: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}.

- المثال الثاني: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلامًا}.
- المثال الثالث: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ}.
● تطبيقات الدرس الثامن عشر.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 9 ربيع الأول 1442هـ/25-10-2020م, 10:54 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تمهيد:
الاستثناء مأخوذ من الثُنيا، بالضمّ، وهو ما كُفَّ عن أصله، يقال: ثنيتُ الحبل إذا كففت طَرَفَه، فما كففتَه فهو الثُنيا، والثَنِيَّة، والثَّنْوَى، والمَثْنَاة، وفعلك: ثَنْيٌ، واستثناء؛ لأنك استثنيتَ المكفوف من طول الحبل.
ومن ذلك أُخذ الاستثناء في الكلام على الراجح من أقوال أهل اللغة، وهو إخراج جزء من كلّ بأداة ظاهرة.
وللاستثناء أنواع بينها تداخل؛ ويشتمل كلّ نوع منها على تفصيل ودلالات بيانية، ويتركّب من هذه الأنواع المتداخلة دلالات أخرى، وربما احتملت الجملة الواحدة نوعين أو أكثر من أنواع الاستثناء.
ولذلك فإنّ أسلوب الاستثناء من الأساليب البيانية التي تكرر استعمالها كثيراً في القرآن الكريم لأغراض بيانية بديعة واسعة الدلالات؛ يحسن بالمفسّر دراستها وتعرّف أنواع الاستثناء ودلالاته.
وربما اختلف المفسّرون في مسائل بسبب اختلاف أنظارهم في تفسير الاستثناء وتفهّم غرضه.


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 9 ربيع الأول 1442هـ/25-10-2020م, 10:57 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

إجمال أنواع الاستثناء.
للاستثناء أنواع باعتبارات متعددة.
فينقسم من حيث التمام: إلى تامّ وناقص.
- فالتامّ: هو ما ذُكر فيه المستثنى منه كقولك: قام القوم
إلا زيداً.
- والناقص: ما لم يذكر المستثنى منه نحو: ما قام
إلا زيد.

وينقسم الاستثناء من حيث الإيجاب وعدمه إلى: موجب ومنفي، ويُقال: مثبت ومنفي.
- فالاستثناء الموجب هو ما كان حكم المستثنى منه فيه الإثبات لا النفي ولا شبه النفي.
كقولك: قام القوم
إلا زيداً.
فأثبتَّ القيام للقوم، ثم استثنيتَ زيداً، فكان حكمه خلاف حكم المستثنى منه وهو عدم القيام.
- والاستثناء المنفي هو ما كان حكم المستثنى فيه النفي أو شبهه، كما يقال: ما قام القوم
إلا زيداً، فتنصب زيداً على الاستثناء، ويصحّ فيه الإتباع فتقول: ما قام القوم إلا زيدٌ؛ فتجعل زيداً بدلاً من القوم.
وشبه النفي: النهي والاستفهام والتحضيض لأنها لا تدلّ على الثبوت.

والاستثناء الناقص على نوعين:
أحدهما: المفرّغ، وهو الذي حُذف منه المستثنى منه، وتفرّغ ما قبل
"إلا" للعمل فيما بعدها، كما يقال: ما قام إلا زيد ؛ وما مررت إلا بزيد، وما رأيت إلا زيداً، فيكون إعراب "زيد" على مقتضى العامل قبل "إلا".
والآخر: ما حُذف منه المستثنى منه في اللفظ مع بقاء تقديره، ووقوع الاستثناء من اللفظ المقدّر، كما لو قيل: سحقاً
إلا لمن آمن.
فالمستثنى منه محذوف في اللفظ للعلم به، ولذلك صحّ أن يقع الاستثناء منه مع حذفه.

وينقسم الاستثناء من حيث الاتصال والانقطاع إلى: استثناء متصل واستثناء منقطع.
- فالاستثناء المتصل هو ما كان المستثنى فيه من جنس المستثنى منه، وهو الاستثناء الحقيقي، كما يقال: قام القوم
إلا زيداً؛ فزيد من القوم.
- والاستثناء المنقطع هو ما كان فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه، وهذا استثناء غير حقيقي إذ لا يشتمل على إخراج جزء من كلّ، وإنما هو على معنى الاستدراك، ولذلك يصحّ فيه أن تضع
"لكن" موضع "إلا" كما في قول الله تعالى: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظنّ} واتباع الظن ليس من العلم، فالمعنى: ما لهم به من علم ولكن اتباعاً للظنّ.
وقوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً} والسلام ليس من اللغو، فالمعنى: ولكن سلاماً.

فتلخّص أن الاستثناء على أنواع:
1: الاستثناء التام الموجب.
2: الاستثناء التامّ المنفي
3: الاستثناء الناقص، ومنه الاستثناء المفرَّغ.
4: الاستثناء المتصل.
5: الاستثناء المنقطع.

فهذا إجمال أنواع الاستثناء لتقريب تصوّرها، وفي كلّ نوع مسائل وتفصيل يأتي بيانها إن شاء الله.


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 9 ربيع الأول 1442هـ/25-10-2020م, 10:58 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

الاستثناء التامّ الموجب
الاستثناء التامّ الموجب هو الذي تمّت أركانه بذكر المستثنى منه، وكان خالياً من النفي وشبهه، وذلك مثل قول الله تعالى: {فأنجيناه وأهله إلا امرأتَه}، وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}.
وقد ذهب أكثر النحاة إلى وجوب نصب المستثنى في هذا النوع من الاستثناء مطلقاً، سواء أكان الاستثناء متصلاً أم منقطعاً.
ورُوي الرفع في شواهد أكثرها لا يثبت، ومن النحاة من يثبتها ويتأوّلها، ومنهم من ذهب إلى جواز رفع المستثنى.
ومن الأمثلة التي جرى فيها خلافهم:
1: ما ذُكر من قراءة الرفع في قول الله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}
- قال الأخفش: (وفي قراءة عبد الله: [ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ] و [إِلاَّ قَلِيلٌ مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ] رفع على أن قوله: [إِلاَّ قَلِيلٌ] صفة)ا.هـ.
ولا تثبت هذه القراءة عن عبد الله بن مسعود، وقد أنكرها أبو إسحاق الزجاج، ولم أر لها ذكراً في كتب علماء القراءات.
2: ومن ذلك ما ذُكر في حديث: ((كلّ أمتي معافى إلا المجاهرين)) رواه البخاري، وهو هكذا بالنصب في أكثر روايات صحيح البخاري، ووقع في رواية النسفي ((إلا المجاهرون)) بالرفع، وهي الرواية التي عليها شرح ابن بطّال وشرح ابن التين كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح.
3:
ورواية: (أحرموا كلُّهم إلا أبو قتادة) في صحيح البخاري هي رواية مرجوحة فرواية الكشميهني بالنصب، وهي أرجح الروايات، وهي الرواية التي اعتمدها الحافظ ابن حجر لصحيح البخاري من طريق أبي ذرّ الهروي، وهي الرواية الموافقة لرواية مسلم في صحيحه.

وقد اختلف النحاة في هذه الأمثلة.
- فمنهم من أنكرها، وتمسّك بالأصل وهو وجوب نصب المستثنى "بإلا" إذا كان الاستثناء تاماً موجباً.
- ومنهم من أجاز ورود هذه الأمثلة ثم اختلفوا في تأويلها على أقوال:
القول الأول: يصحّ أن يكون الرفع على أنها مبتدأ لخبر محذوف، والاستثناء منقطع و"إلا" بمعنى "لكنْ" المخففة، والتقدير: فشربوا منه
"لكنْ" قليلٌ منهم لم يشربوا، وكل أمتي معافى "لكنِ" المجاهرون منهم لا يُعافون.
وهذا القول نسبه أبو حيان للفراء، وذكر ابن مالك في التسهيل أن ابن خروف استحسنه، وردّه أبو حيان في التذييل؛ فقال: (وهذا الذي ذهبا إليه ضعيف؛ لأنه لا دليل على الخبر؛ لأن "شربوا" لا يدل على أن غيرهم لم يشربوا؛ ألا ترى أنه لو جاء هنا بخبر آخر غير لم يشربوا المقدر لأمكن؛ فيحتمل:
إلا قليل اغترفوا غرفة، ويحتمل: إلا قليل لم يشرب).
القول الثاني: أنه على الصفة بإلا، فيكون "إلا قليل" صفة للضمير في "فشربوا" ، وهذا قول الأخفش وابن عصفور.
القول الثالث: أن الاستثناء مؤوّل بالنفي، فقالوا في قراءة الآية [ فشربوا منه إلا قليل منهم ] أي: لم يكونوا منه
إلا قليل منهم، لأن قبله: {فمَن شَرَب منه فليس مني} فبذلك صار "شربوا منه" بمعنى "لم يكونوا منه".
قالوا: ومنه قول الشاعر:

وبالصَّريمة منهم منزلٌ خَلَقٌ ... عافٍ تغيَّر إلا النُّؤْيُ والوَتَدُ
قال ابن مالك في شرح التسهيل: (لأن تغيّر بمعنى لم يبق على حاله).

والفراء اختلفت أقواله في "معاني القرآن" في هذه المسألة:
- فقال في موضع: (وقوله: {فشربوا منه إلا قليلا منهم} وفي إحدى القراءتين: [إلا قليل منهم] والوجه في
"إلا" أن ينصب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فيه)ا.هـ.
- وقال في موضع آخر: (وقوله: {إلا ما يتلى عليكم} في موضع نصب بالاستثناء، ويجوز الرفع، كما يجوز: قام القوم
إلا زيداً وإلا زيدٌ، والمعنى فيه: إلا ما نبينه لكم من تحريم ما يحرم وأنتم محرمون، أو في الحرم)ا.هـ.

وبعض النحاة استكثر من الروايات الواهية للأحاديث التي فيها رفع المستثنى في الاستثناء الموجب، وذلك مما لا طائل من ورائه، بل ذكر الأستاذ محمد عضيمة في دراساته أن ابن عمار المالكي ألَّف رسالة سماها «التاج المذهب في رفع المستثنى من الموجب».
والخلاصة أنّ القراءات وروايات الأحاديث التي ذُكر فيها رفع المستثنى في الاستثناء التام الموجب لا تثبت، فلا حاجة للخوض في توجيه ما لا أصل له.
وأما أشعار العرب فقد سُمع فيها الرفع وهو قليل نادر؛ فإما أن يُحكم عليه بالشذوذ فلا يقاس عليه، وإما أن يُتأوّل بما يسوغ، وهذا خارج عن غرضنا في هذا الكتاب.
- قال أبو إسحاق الزجاج: (وقوله عزَّ وجلّ: {تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (قليلاً) منصوب على الاستثناءِ، فأما من روى [تَولوْا إِلا قليلٌ منهم ] فلا أعرف هذه القراءَة، ولا لها عندي وجه، لأن المصحف على النصب والنحو يوجبها، لأن الاستثناء إِذا كان أولُ الكلام إِيجاباً نحو قولك: "جاءَني القوم
إلا زيداً" فليس في زيد المستثنى إِلا النصب، والمعنى "تولوا أسْتَثْنِي قَليلاً مِنْهم"، وإِنما ذكرت هذه لأن بعضهم روى [فشربوا منه إِلا قليلٌ منهم] وهذا عندي ما لا وجه له)ا.هـ.


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 9 ربيع الأول 1442هـ/25-10-2020م, 11:14 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

الاستثناء التامّ المنفي
ويدخل في هذا النوع كل استثناء تام دخل عليه نفي أو شبه نفي.
ويراد بشبه النفي: النهي والاستفهام والتحضيض لأنها لا تدلّ على ثبوت الحكم.
وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه الوجهان: الإتباع والنصب على الاستثناء؛ فإذا كان الاستثناء متصلاً فالإتباع أولى مع جواز النصب على الاستثناء، وإذا كان الاستثناء منقطعاً فالنصب فيه لازم عند الحجازيين ولا يجيزون الإتباع، وأما تميم فتتبعه على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

1: النفي، ويدخل على الاستثناء التام في حالتيه من الاتصال والانقطاع، ولكل منهما أحكام:
أ: الاستثناء المتصل: والأولى فيه إتباع المستثنى للمستثنى منه على البدلية، ويجوز نصبه على الاستثناء.
نحو قولك: ما جاءني أحد
إلا زيدٌ؛ فترفعه على الإتباع؛ فالمستثنى منه "أحد" وهو مرفوع؛ فما يُبدل منه يكون مرفوعاً.
ويجوز أن تنصبه على الاستثناء، فتقول: ما جاءني أحدٌ
إلا زيداً.
- وإذا كان المستثنى منه مجروراً كقولك: ما مررت بأحدٍ
إلا زيدٍ؛ فيجرّ المستثنى على الإتباع، ويجوز نصبه على الاستثناء.
- وإذا كان المستثنى منه منصوباً كقولك: ما رأيت أحداً
إلا زيداً؛ فيجوز فيه النصب على الإتباع أو على الاستثناء.
ولو قلت: ما جاءني من أحد
إلا زيد؛ فلك أن ترفع على موضع "من أحد"، وأن تجرّ بالإبدال من "أحد"، وأن تنصب على الاستثناء.
وقد جاء الإبدال من الموضع في القرآن في قوله تعالى: {وما من إلهٍ إلا اللهُ}، وقوله تعالى: {وما من إلهٍ إلا إلهٌ واحدٌ}.
ب: الاستثناء المنقطع: ونَصْبُه لغةُ أهل الحجاز في الاستثناء التام المنفي، وقد أجمع القراء على النصب في قوله تعالى: {ما لهم به من علم إلا اتّباعَ الظنّ}، وقد سُمع فيه الإتباع، والإتباع هنا على البدلية، وهو لغة بني تميم، كما في قول الشاعر:

وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ
اليعفور: الظبي، والعيس: الإبل العِرَاب، وهي البيض التي يخالط بياضها شُقرة، والشاهد أنه رفعَ اليعافيرَ والعيسَ على الإتباع.
وقال عدي بن زيد:
في ليلةٍ لا نَرى بها أحداً ... يَحكى علينا إلاَّ كواكبُها
فرفع "كواكبها" على الإتباع.

ويقال: ما له عليه سلطانٌ
إلا التكلفُ، والتكلف ليس من السلطان، ويقال: ما له عتاب إلا السيف، والسيف ليس بعتاب بل هو مؤاخذة، ولا قرى لهم إلا الرماح، والرماح ليست بقِرىً للضيف، وإنما هي حرب لمن نزل بساحتهم.
فأهل الحجاز ينصبون ذلك كلّه على الاستثناء، وتميم ترفعه على البدل؛ كأنهم يجعلون التكلّف سلطانه، والسيف عتابه، والرماح قِرَاهم وهكذا في سائر الأمثلة.
وسيأتي شرح أحكام الاستثناء المنقطع، وإنما المراد هنا بيان حكم الاستثناء التام المنفي إذا كان الاستثناء منقطعاً.
قال ابن مالك في ألفيته:
ما اسْتَثْنَتِ (الاَّ) مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِــــبْ ... وَبَعْدَ نَفْيٍ أَوْ كَنَفْيٍ انْتُخِبْ
إِتْبَاعُ ما اتَّصَلَ وَانْصِــبْ مَا انْقَطَــــعْ ... وعَنْ تَمِيمٍ فِيهِ إِبْــــــدَالٌ وَقَــــــعْ

أي: يُختار في الاستثناء المتصل الإتباع مع جواز النصب، وفي الاستثناء المنقطع لغتان: وجوب النصب عند أهل الحجاز، والإتباع عند تميم.

وأمثلة الاستثناء التام المنفي في القرآن الكريم كثيرة ومنها:
في الاستثناء المتصل:
أ: قول الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}.
ب: وقوله تعالى: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}.
ج: وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}.
وكلها جاءت على الإتباع.

وفي الاستثناء المنقطع:
أ: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}.
ب: وقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}.
ج: وقوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا}.
د: وقوله تعالى: {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ}.
وكلها جاءت على النصب.
هـ: وفي قول الله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ}.
قرأ جمهور القراء بالنصب على الاستثناء.
- قال الفراء: (ولو رَفع {إلا ابتغاء وجه ربه} رافعٌ لم يكن خطأ لأنك لو ألقيت "مِنْ" من النعمة لقلت: "ما لأحد عنده نعمةٌ تجزى إلا ابتغاءُ"، فيكون الرفع عَلَى اتباع المعنى، كما تَقُولُ: ما أتاني من أحد
إلا أبوك).
- وقال أبو حيّان: (وقرأ ابن وثاب بالرفع على البدل في موضع نعمة لأنه رفع، وهي لغة تميم).
وابن وثّاب هو يحيى بن وثاب (ت:103هـ) من موالي بني أسد، وأصله من خراسان، من كبار القراء في الكوفة قرأ على عبيد بن نضلة الخزاعي صاحب علقمة آية آية، وروى عن زرّ بن حبيش الأسدي، وعن علقمة النخعي وأبي عمرو الشيباني وغيرهم، وقرأ على بعضهم عرضاً، وهذه القراءة المذكورة لا أعلم لها أصلاً في كتب علماء القراءات.
وكثيراً ما يأتي المستثنى في القرآن جملة أو مفرداً معرباً بحركة مقدّرة فيحتمل أكثر من وجه في الإعراب.

2: النهي
وحكمه كحكم النفي في الاستثناء المتصل والاستثناء المنفصل:
فمن أمثلة الاستثناء المتصل:
أ: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}.
{عابري سبيل} منصوب على الاستثناء من أحوال المستثنى منه.
ب: وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
{إلا الذين تابوا} استثناء من قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} وليس من قوله {فاجلدوهم} لأن حدّ الجلد لا يسقط بالتوبة بالإجماع.
ج: وقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.
دـ: وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}.
هـ: { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.

وفي الاستثناء المنقطع:
أ: قول الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
ب: وقوله تعالى: [وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُكَ] على قراءة الرفع وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والاستثناء هنا منقطع لأنها غير داخلة في قوله: {منكم} لأنها بكفرها ومخالفتها لزوجها لوط عليه السلام ليست منه، وليس منها، بل هو بريء منها ومِن كفرها، كما قال الله تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه الغريق: {إنه ليس من أهلك}.
وأما قراءة النصب: {إلا امرأتَك} وهي قراءة جمهور القراء فالاستثناء فيها من قوله تعالى: {فأسر بأهلك}، والتقدير: فأسر بأهلك
إلا امرأتك، والنصب هنا واجب في الاستثناء المتصل والمنقطع لأنه استثناء تامّ موجب.
ج: وقوله تعالى: { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)}.

3: والاستفهام
ومن أمثلته في الاستثناء المتصل:
أ: قول الله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا اللهُ}.
ب: قول الله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}.
ج:
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}.
د: وقوله تعالى: {ومن يقنط من رحمة ربّه إلا الضالون}.
هـ: وقوله تعالى: {فماذا بعد الحقّ إلا الضلال}.

ومن أمثلته في الاستثناء المنقطع:
أ: قوله تعالى: { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)} على أحد وجهي التفسير في الآية.
ب: وقوله تعالى: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ}.

ومما يحتمل الاتصال والانقطاع:
أ: قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى}.
- إذا كان المقصود المتبوعين من أئمة الكفر فالاستثناء متصل، وإذا كان المقصود الأصنام والأوثان فالاستثناء منقطع.
ب: وقوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}.
- الاستفهام للإنكار والاستبعاد، والاستثناء يحتمل الاتصال والانقطاع:
فالاتصال على معنى استثناء أولئك المعاهدين من جملة المشركين.
والانقطاع على إبقاء الاستفهام على عمومه، وتكون "إلا" بمعنى "لكن" لإنشاء جملة جديدة من مبتدأ وخبر، وهي جملة مستدركة لا تخصص معنى الاستفهام، والتقدير: ولكن الذين عاهدتم من المشركين عند المسجد الحرام فاستقيموا لهم ما داموا مستقيمين لكم في عهدهم.
فالعهد المثبت بالاستثناء المتصل غير العهد المنفي بالاستثناء المنقطع؛ وبيان ذلك أن العهد المثبت هو العهد الشرعي الحُكمي الذي تجري عليه الأحكام الشرعية من وجوب الوفاء بشروطه.
والعهد المنفي هو العهد الحقيقي الذي تنعقد عليه قلوبهم وفاء وحفظاً للمواثيق وإبراءً للذمة، فهذا غير متحقق فيهم كما بيّنته الآيات التي بعدها: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}.
فهذه الآيات تفسير لمعنى العهد المنفي في الاستفهام الإنكاري.
وذلك أنّ المشركين لا يحملهم على الالتزام بالعهد إلا كون كلمة المؤمنين هي العليا؛ فالتزامهم إنما هو إذعانٌ لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، ولو كانت لهم الجولة لم يرقبوا في مؤمن عهداً ولا ميثاقاً.

4: والتحضيض
ومن أمثلته:
1: قول الله تعالى: {فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
على أحد وجهي التفسير في الآية، وهو أنّ الاستثناء من جملة التحضيض وهي شبه نفي، والتقدير: لولا كانت قرية آمنت
إلا قومَ يونس آمنوا؛ فيكون النصب على الاستثناء؛ وهذا الوجه مرجوح، ولا تصحّ قراءة برفع "قوم"، والكلام على هذه الآية يستدعي تفصيلاً، ولذلك نقلته إلى قسم الأمثلة.

2: قول الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا}.
الاستثناء تامّ منقطع، وهو قول سيبويه والفراء وابن جرير والزجاج وغيرهم، أي: لكن قليلاً ممن أنجينا منهم ينهون عن الفساد في الأرض.
ونصبه على الاستثناء هو لغة قريش، وقد رويت القراءة بالرفع لكنّها لا تثبت، وهي محمولة على الإبدال في لغة تميم، أي: إلا قليل ممن أنجينا منهم ينهون عن الفساد.
- قال المبرّد: (وقوله جل وعز: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا} من هذا الباب؛ لأن "لولا" في معنى "هلاّ"، والنحويون يجيزون الرفع في مثل هذا من الكلام، ولا يجيزونه في القرآن لئلا يغير خط المصحف).
- قال سيبويه في كتابه: (هذا باب ما لا يكون
إلا على معنى "ولكن"؛ فمن ذلك: قوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} أي: ولكن من رحم، وقوله عز وجل: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا} أي ولكن قوم يونس لما آمنوا، وقوله عز وجل: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقيّةٍ ينهون عن الفساد في الأرض إلاّ قليلاً ممّن أنجينا منهم} أي: ولكن قليلا ممن أنجينا منهم، وقوله عز وجل: {أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} أي: ولكنهم يقولون ربنا الله، وهذا الضرب في القرآن كثير)ا.هـ.


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10 ربيع الأول 1442هـ/26-10-2020م, 03:22 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

الاستثناء الناقص
الاستثناء الناقص هو الذي حُذف منه المستثنى منه.
ويسمَّى "الاستثناء المفرّغ" لتفرّغ ما قبل "إلا" فيه للعمل فيما بعدها؛ فلا يكون حينئذ للمستثنى إلا وجه واحد وهو الإتباع.
يقال: ما قام
إلا زيد، فليس في "زيد" إلا الرفع على أنه فاعل، وذلك لتفرّغ الفعل "قام" للعمل في ما بعد "إلا" فرفعه على أنه فاعل.
ويقال: ما ضربت
إلا زيداً، فلا يكون فيه إلا وجه واحد وهو النصب على أنه مفعول به، لتفرّغ الفعل "ضرب" للعمل في ما بعد إلا ونصبه على أنه مفعول به.
وكذلك في قول القائل: ما مررت
إلا بزيد، ليس في إعراب زيد إلا وجه واحد وهو الجرّ.
قال ابن مالك في ألفيته:

وإن يُفرّغ سابق إلا لما ... بعد يكن كما لو "إلا" عُدما
أي من جهة الإعراب؛ فقولك: ما قام إلا زيد، كقولك: قام زيد؛ فزيد فاعل.

فالاستثناء المفرّغ واجب الإتباع، وأكثر ما يرد في النفي والنهي والاستفهام:
- فالنفي مثل قول الله تعالى: {وما محمد إلا رسول} ، وقوله تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ} وقوله تعالى: {ما يمسكهنّ إلا الله} ، وقوله تعالى: {فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم}، وقوله تعالى: {وما يضلون إلا أنفسهم}.
يُعرب فيها ما بعد
"إلا" بحسب العامل قبلها.
- والنهي مثل قول الله تعالى: {ولا تقولوا على الله إلا الحقّ}، وقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم}، وقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}
- والاستفهام مثل قول الله تعالى: {فهل يُهلك إلا القوم الفاسقون}، وقوله تعالى: {وهل نُجازي إلا الكفور}، وقوله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله}.

مسألة: هل يقع الاستثناء المفرَّغ في الكلام الموجب؟

للنحاة في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يقع الاستثناء المفرّغ في الكلام الموجب مطلقاً، وهو قول جمهور النحاة المتأخرين، وهؤلاء يتأوّلون ما ورد من الأمثلة الصحيحة في القرآن وغيره بما يفيد النفي، كما فعل الزمخشري وابن مالك وابن هشام وغيرهم.
- قال ابن هشام: (وقع الاستثناء المفرغ في الإيجاب في نحو: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} لما كان المعنى وإنها لا تسهل
إلا على الخاشعين، ولا يريد الله إلا أن يتم نوره)ا.هـ.
القول الثاني: يجوز أن يقع ذلك في غير الفاعل والمفعول كظرف المكان وظرف الزمان، وهذا قول ابن الحاجب في أماليه.
- قال: (وأما غير الفاعل والمفعول من نحو ظرف الزمان والمكان فيجيء في الموجب والمنفي جميعًا، إذ لا يتعذر ذلك في المعنى لصحة وقوعه كقولك: ضربت
إلا يوم الجمعة، إذ يصح أن تضرب في كل يوم غير يوم الجمعة، ويصح العكس، فجاز الأمران فيه لذلك).
القول الثالث: يجوز أن يقع الاستثناء المفرّغ في الكلام الموجب بشرط الإفادة، فلا يصحّ أن تقول: قام
إلا زيد، وأكرمت إلا سعداً، لكن يصحّ أن تقول: أبى العدوّ إلا القتال، والبرّ هيّن إلا على المحروم، وحُجّ إلا أن تُحصر، ففي هذه الأمثلة ونحوها مما تحصل به الإفادة من الاستثناء المفرّغ في الكلام الموجب، ولا ريب في صحته.
وله أمثلة صحيحة في القرآن الكريم لا يتأتّى معها إلا القول بصحة الاستثناء المفرّغ في الكلام الموجب.

وخلاصة ما احتجّ به أصحاب القول الأول يرجع إلى أمرين:
أحدهما: أنه محال من الكلام لا يصحّ، وهذا سببه اقتصارهم على أمثلة غير مفيدة، كما مثلوا بقولهم: رأيت
إلا زيداً، وقام إلا زيد؛ فلما رأوا هذه الأمثلة من محال الكلام الذي لا يقوله عربي حكموا على جميع ما يقع من الاستثناء المفرغ في الكلام الموجب بالفساد، وهو حكم خاطئ؛ فلما رأوا له بعد ذلك أمثلة صحيحة في القرآن تأولوها على معنى النفي، وفساد الأمثلة التي ذكروها لا يقتضي عدم وجود أمثلة صحيحة للاستثناء المفرّغ في الكلام الموجب.
والأمر الآخر: أنه يؤدي إلى الكذب، وهذا احتجاج غريب، سببه قصر النظر على الأمثلة الخاطئة.
- قال السيوطي في "همع الهوامع": (وجوز بعضهم وقوعه في الموجب أيضا نحو "قام
إلا زيد" و"ضربت إلا زيدا" و"مررت إلا بزيد"، والجمهور على منعه لأنه يلزم منه الكذب، إذ تقديره ثبوت القيام والضرب والمرور بجميع الناس إلا زيداً، وهو غير جائز بخلاف النفي؛ فإنه جائز)ا.هـ.
- قلت: لا أعلم أحداً سوّغ هذه الأمثلة، وقد سوّغ ابن الحاجب وغيره نحو قولهم: "قرأت
إلا يوم الجمعة"، و"صمت إلا يوم العيد".
وهي أمثلة ضعيفة غير مسموعة، ولا أدري لم تُتركُ الأمثلة الحسنة السائغة المسموعة، مع ورودها في القرآن الكريم والأشعار الصحيحة الفصيحة، وتُختار أمثلة ضعيفة معلولة، ليبنى عليها مثل هذا الحكم الخاطئ.
وما ذكره السيوطي وغيره من المنع بحجة الإفضاء إلى الكذب فلا يصلح أن يكون علّة للمنع، لأن الكلام غير المفيد لا يؤدي معنى يمكن أن يُحكم عليه بالصدق أو الكذب.
ولو أنّ قائلاً أتمّ الكلام فقال: ضربت كل الناس
إلا زيداً؛ لكان الكلام صحيحاً من جهة النظم والتركيب، ولا تعلّق للمعربين بصدقه وكذبه.
ويكفي في بطلان هاتين الحجّتين ورود الأمثلة الصحيحة للاستثناء المفرغ في الكلام الموجب في القرآن الكريم وفي كلام العرب.

فأما الأمثلة من القرآن الكريم فكثيرة منها:
1: قول الله تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} وقد تأوّلها بعض النحاة على أنها على معنى: "لا تسهل
إلا على الخاشعين"، فراراً من الإقرار بالاستثناء المفرّغ الموجب، وهو تقدير لا يقتضيه ظاهر اللفظ الذي ورد بتأكيد الإثبات بمؤكّدات يمتنع معها القول بتأويله بالنفي، فأكدّت بـ"إنّ"، و"باللام" الموطّئة لجواب القسم، وبالتنكير المفيد للتعظيم.
2: وقوله تعالى: {ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره} ، وتأوّله بعض النحاة على معنى "ولا يريد الله
إلا أن يتمّ نوره" وهذا تقدير فيه نظر، وإنما حملهم عليه الفرار من الإقرار بالاستثناء المفرّغ الموجَب.
3: وقوله تعالى: {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}.
4: وقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}.
5: وقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}.
6: وقوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}.
7: وقوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ}.
في أمثلة غيرها كثيرة.

وأما كلام العرب ففيه أمثلة كثيرة منها:
1: قول النابغة الذبياني:
أبى الله إلا عــــدلَـــــــــه ووفــــــــــــــــــــــاءَه ... فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
2: وقول زهير بن أبي سلمى:
لأرتحـــــــــلنْ بالفـــــــــجــــــــرِ ثم لأدأبــنْ ... إلى الليــــــــــــــل إلا أن يعرِّجَــــــــــني طَفْـلُ
3: وقول الحطيئة:
نَأَتْـــــــــــــكَ أُمَــــــامَــــــــــــــــــــةُ إلاَّ سُــــــؤَالاَ ... وأَبْصَــــــــرْتَ مِنْهَـــــــــــــا بغَـــــــيْبٍ خَــــــيالا
4: وقول الحطيئة أيضاً:
أبـــت شَفَتَـــــــايَ اليَـــــوْمَ إلا تكـلـماً ....... بشـــــرٍّ فمـــــا أدري لمـــنْ أنـــا قائــــلهْ
5: وقول عمرو بن معد يكرب:
أَشَـــــــــاب الـــــــرَأسَ أيـــــــــــــامٌ طـــــوالٌ ...... وهــــــــمٌ مَــــــــا تُبَــــــــلَّغُهُ الضُلُــــــــــــــــــــوعُ
وســــــوقُ كتيبــــــــةٍ دلفَــــــتْ لأخــــــرى ...... كَــــــــــــــأَنَّ زهاءَهـــــــــــا رَأسٌ صليــــــــــــــعٍ
دَنَــــــــــتْ واستـــــأخرُ الأوغــــالُ عنهَــــا .... وخُلّــــــــــــــــيَ بينهــــــــــــم إِلَّا الوَريــــــــــــــــــعُ
الوريع الذي يورّع الناس بعضهم عن بعض لئلا يقتتلوا، والأوغال: الضعفاء.

الاتصال والانقطاع في الاستثناء الناقص.

لا يخلو الاستثناء الناقص من أن يمكن فيه تقدير المستثنى منه أو لا يمكن:
1: فإذا أمكن تقدير المستثنى منه تقديراً صحيحاً تبيّن كون الاستثناء متصلاً أو منقطعاً.
- فإذا قيل: ما قام إلا زيد، فتقدير المستثنى منه: ما قام أحدٌ إلا زيد؛ فيكون الاستثناء متصلاً.
- وإذا قيل: لم يغنم زيد
إلا الخيبة؛ فالتقدير: لم يغنم زيد غنيمة إلا الخيبة، والخيبة ليست بغنيمة، فالاستثناء منقطع.
- وإذا قيل: ما عليك
إلا العمل؛ فتقدير المستثنى منه: ما عليك شيء إلا العمل، والعمل شيء؛ فيكون الاستثناء متصلاً.
وهكذا في نظائره.

2: وإذا لم يمكن تقدير المستثنى منه فهو محمول على الانقطاع؛ لأن الاستثناء حينئذ غير حقيقي.
وهذا القسم له أمثلة عامّتها معلول، ولا أعلم له مثالاً صحيحاً في القرآن.
ومما يلتحق بالاستثناء المنقطع أيضاً أن يَقْصُر عمل ما قبل
"إلا" عما بعدها فلا يعمل فيه؛ كما لو قيل: ما عاهد زيد إلا أوفى، وما حدّث إلا صدق.

وقد حُمل عليه ما مثّل به سيبويه في الكتاب من قول بعض العرب: ما زاد
إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضرّ، على اعتبار ما بعد "إلا" مصدرية.
أي ما زاد
إلا نقصاناً، وما نفع إلا ضرّاً.
وهذا الحمل فيه نظر، لأن ما بعد
"إلا" في المثالين في محلّ نصب مفعول به ثانٍ إذا كانت "زاد" متعدية، وفي محلّ نصب تمييز إذا كانت "زاد" لازمة.

وفي قول الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)}.
الفعل "زاد" في الآيتين متعدّ لمفعولين، وما بعد
"إلا" مفعول ثانٍ منصوب، والاستثناء يحتمل الاتصال والانقطاع:
- فإذا كان الاستثناء من أعمّ الأحول أي: "ما زادوكم شيئاً
إلا خبالاً" ، و"ما زادهم النذير شيئاً إلا نفوراً"؛ فالاستثناء متصل.
- وإذا كان تقدير المستثنى منه "ما زادوكم قوة إلا خبالاً"، و"ما زادهم هدى إلا نفوراً" فالاستثناء منقطع.


والمقصود أن الاستثناء المتصل والمنقطع يَرِدَان في الاستثناء الناقص كما يَرِدَان في الاستثناء التامّ، وذلك بحسب تقدير المستثنى منه، ولذلك أمثلة كثيرة في القرآن الكريم، ومنها:
1: قول الله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ}.
والاستثناء هنا مفرّغ منقطع.
2: وقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.
والاستثناء هنا مفرّغ متّصل.
3: وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.
والاستثناء هنا مفرّغ من أعمّ الأحوال فهو متّصل.
4: وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}.
والاستثناء هنا مفرّغ منقطع.


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10 ربيع الأول 1442هـ/26-10-2020م, 03:23 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

الاستثناء المتصل
الاستثناء المتصل هو ما كان فيه المستثنى من جنس المستثنى منه.
واتصال الاستثناء يقع في الاستثناء التام الموجب، والاستثناء التامّ المنفي، والاستثناء الناقص.
1: فأما الاستثناء التام الموجب المتصل فمثاله: قام القوم إلا زيداً، ويجب فيه نصب المستثنى كما تقدّم بيانه.
ومن مواضع وروده في القرآن الكريم:
أ: قول الله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} وذلك أنهم كانوا يعبدون الله ويشركون به؛ فاستثنوا مما يعبدون "الله" وحده فلم يعتزلوا عبادته، بل أفردوه بالعبادة.
ب: وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}.
ج: وقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}.
د: وقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ}.
هـ: وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ}.
و: وقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}.
ز: وقوله تعالى: {أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ}.

2: الاستثناء التام المنفي المتصل
ويجوز فيه الوجهان: النصب على الاستثناء، والإتباع كما تقدّم شرحه.
تقول: ما جاء أحدٌ
إلا زيداً؛ فتنصب "زيداً" على الاستثناء، وتقول: إلا زيدٌ؛ فترفعه على الإتباع بأن تجعل زيداً بدلاً من "أحد"؛ فكأنّك قلت: ما جاء إلا زيد.
وإذا كان الإتباع يوجب النصب كما في قولك: "هل ضربت أحداً
إلا زيداً" فلك أن تحمل النصب على الاستثناء، ولك أن تحمله على البدلية من "أحد".
والإتباع أكثر وأشهر في لسان العرب ما لم يتقدّم المستثنى على المستثنى منه؛ فيكون النصب على الاستثناء هو الأولى.

وأكثر ما ورد في القرآن الإتباع، وورد النصب على الاستثناء في بعض القراءات.
أ: قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}.
- قرأ جمهور القراء بالرفع على الإتباع {إلا قليلٌ منهم}.
- وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء [ إلا قليلاً منهم ].
ب: وقال تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ}.
الاستثناء متصل على الأرجح، والنصب على الإتباع بدلاً من {طريقاً}.

وما تقدّم كلّه في حال كون المستثنى منه متقدماً في الذكر على المستثنى؛ أما إذا تقدّم المستثنى على المستثنى منه؛ فالأفصح نصب المستثنى، وهو أكثر استعمال العرب، قال السِّيدُ الحميري: "وما لي إلا مذهبَ الحقّ مذهبُ" فنصب "مذهب" على الاستثناء.
وقد سُمع الإتباع كما في قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

فإنهمُ يرجون منه شفاعة ... إذا لم يكن إلا النبيون شافعُ
وهذا على إبدال المستثنى من المستثنى منه.
ولم أقف على موضع في القرآن الكريم فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه إلا ما ذكره بعض المفسرين في قول الله تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}.
فتقدير الكلام على تقديم المستثنى: ولا تؤمنوا
إلا لمن تبع دينكم أن يُؤتى أحد مثل ما أوتيتم.
وجملة {قل إن الهدى هدى الله} معترضة.
ويكون التقدير على تأخير المستثنى: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم
إلا لمن تبع دينكم.
أي: لا تقبلوا دعوى النبوة
إلا ممن تبع دينكم.
- قال العكبري: (وهذا الوجه بعيد؛ لأن فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه، وعلى العامل فيه، وتقديم "ما" في صلة
"أن" عليها).
وفي آيات كثيرة يحتمل المستثنى أن يكون منصوباً على الاستثناء، وأن يكون تابعاً للمستثنى منه، وذلك في المستثنى الذي لا تظهر عليه حركة الإعراب.

3: الاستثناء الناقص المتصل
والإتباع فيه واجب، وهو الاستثناء الذي يمكن تقدير المستثنى منه المحذوف، ويكون الاستثناء متصلاً، كما يقال: لا تصحب إلا تقياً، والتقدير: لا تصحب أحداً إلا تقياً.
ومن أمثلته في القرآن الكريم:
أ: قول الله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}.
وهو استثناء مفرّغ من جميع الأحوال.
ب: وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}.
التقدير: لن يؤمن أحدٌ من قومك
إلا من قد آمن.
ج: وقوله تعالى: {وهل نجازي إلا الكفور}.
التقدير: وهل نجازي أحداً
إلا الكفور.


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 10 ربيع الأول 1442هـ/26-10-2020م, 03:24 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

الاستثناء المنقطع
الاستثناء المنقطع
هو ما كان فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه؛ فلا يكون في الجملة استثناء حقيقي يُخرج به بعضٌ من كلٍّ كان داخلاً فيه، وهذا هو معنى انقطاعه.
ويعرف الاستثناء المنقطع بأحد أمرين:
1: أن يصحّ وضع "لكن" المخففة أو المثقّلة موضع "إلا".
2: أن يكون الحكم على المستثنى موافقاً للحكم على المستثنى منه غير مناقض له، وذلك أنّ الغرض من الاستثناء المتّصل إعطاء المستثنى حكماً يخالف حكم المستثنى منه؛ فإذا رأيت المستثنى يوافق حكمُه حكمَ المستثنى منه فاعلم أنّ الاستثناء منقطع.

فإذا تحقق أحد الأمرين كان ذلك دليلاً على أن الاستثناء منقطع، وأن المستثنى غير داخل في المستثنى منه، وإنما أتي بأسلوب الاستثناء لغرض بيانيّ، كما يُؤتى بالأمر والنهي والاستفهام أحياناً لغرض بيانيٍّ لا يراد منه حقيقة الأمر والنهي والاستفهام.
والاستثناء المنقطع يرد في أنواع الاستثناء: التام المثبت، والتام المنفي، والناقص.

1: الاستثناء التام المثبت المنقطع

ويجب فيه نصب المستثنى بالعلامة الظاهرة أو الحركة المقدّرة أو يكون في موضع نصب على الاستثناء.
ومن مواضع وروده في القرآن الكريم:
أ: قول الله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون
* إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين} وإبليس ليس من الملائكة على الصحيح من قولي المفسرين.
ب: وقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
الاستثناء منقطع، و
"إلا" بمعنى "ولكن"، والجملة بعدها مبتدأ وخبر.
ج: وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}.
الاستثناء منقطع؛ لأن المستضعفين المعذورين ليسوا بظالمي أنفسهم إذ لا يكلّف الله نفساً
إلا وسعها.
د: وقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}.
وإخراجهم لقولهم ربنا الله إخراج بغير حق؛ فالمستثنى حكمه موافق لحكم المستثنى منه، فتبيّن بذلك أن الاستثناء منقطع.

2: الاستثناء التام المنفي المنقطع

ويجوز فيه النصب والإتباع، والنصب لغة أهل الحجاز، والإتباع لغة تميم ومن جاورها.
وقد أجمع القراء على النصب في قول الله تعالى: {ما لهم به من علم إلا اتّباعَ الظنّ} وهي لغة قريش.
واتباع الظنّ ليس من العلم، وقد قيل: إن الاستثناء إنما هو من لازم العلم، أي: ما لهم به من علم يتّبعونه إنما يتبعون الظنّ، كما ذكر ذلك ابن القيّم في بدائع الفوائد.
وتميم ومن جاورها يجيزون الإتباع في مثل هذا النوع من الاستثناء على تسمية علمهم بالظنّ تحقيراً وتهكماً.
وللإتباع شواهد كثيرة في لسان العرب منها قول جِرَان العَوْدِ واسمه عامر بن الحارث النميري:

وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ
ونمير من بني عامر بن صعصعة.
وقال عدي بن زيد العبادي، وهو من بني زيد مناة بن تميم:
في ليلةٍ لا نَرى بها أحداً ... يَحكى علينا إلاَّ كواكبُها
فرفع الكواكب لما استثناها ممن يحكي استثناءً منقطعاً إذ الكواكب ليست من الناس.
ويقال: ما له عليه سلطان
إلا التكلف، والتكلف ليس من السلطان، ويقال: ما له عتاب إلا السيف.
فأهل الحجاز ينصبون كلَّ ذلك على الاستثناء، وتميم ترفعه على البدل.
وقال النابغة الذبياني:
يا دارَ ميّةَ بالعلياء فالسّنــــــدِ ... أقوَتْ وطال عليها سالفُ الأبــــدِ
وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائلهــا ... عيّتْ جَواباً وما بالرَّبْعِ مِن أحــــدِ
إلا الأواريُّ لأياً ما أبيّنهــــــــــا ... والنّؤيُ كالحَوْض بالمَظْلومة الجلَــــــدِ
الرَّبْع هو المكان الذي أقاموا فيه.
والأواريّ: جمع آريّ، وهو محبس الدابة في الأرض، وهو الموضع الذي يُربط فيه خطامها.
والنؤي: حاجز من رمل يشبه الحوض يجعله الأعرابيّ حول بيته يحرف به مجرى الماء ليمنعه من الوصول إلى بيته.
والأواري والنؤي ليسا من الناس، ولذلك كان قوله: وما بالربع من أحد
إلا الأواريّ والنؤي استثناءً منقطعاً.
وهذا البيت يُروى بالرفع وبالنصب.
وقال الحصين بن الحمام المرّي الغطفاني:
عشيةَ لا تُغني الرماحُ مكانها ... ولا النّبلُ إلا المشرَفيَّ المصَمّما
فنصب على الاستثناء وهو منقطع.
ونُسب إلى ضرار بن الأزور الأسديّ رضي الله عنه قوله:
أجاهد إذ كان الجهاد غنيمــــــــــة ... وَلَلهُ بالعبد المجاهد أعلـــــــــــم
عشية لا تغني الرماح مكانهــــــا ... ولا النبلُ إلا المشرفيُّ المصممُ
ولا أعلم لهذه النسبة أصلاً يُعتمد عليه إلا ما ذكره الطبري في تاريخه من طريق سيف بن عمر التميمي وهو متروك الحديث، والأبيات من قصيدة لا تطمئن النفس لصحتها، وليست من رواية أهل المعرفة بالأدب والشعر، بل أمارات الصنعة ظاهرة عليها، وقد ذكر الواقدي هذه القصيدة على ما فيها في كتاب "الردّة" له، من دون هذا البيت.
ولا أستبعد أن يكون هذا البيت مروياً على الرفع من قصيدة أخرى؛ فقد روى سيبويه هذا البيت في كتابه على الرفع بالإتباع من غير نسبة، فإن كان أراد بيت الحصين بن الحمام فهو على النصب كما تقدم؛ لأنه من قصيدة له معروفة ذكرها المفضّل الضبي في المفضليات، ومطلعها:
جزى الله أفناءَ العشيرة كلّها ... بدارة موضوع عقوقاً ومأثما
وإن أراد سيبويه غيره فمحتمل.
- قال سيبويه: (وأما بنو تميم فيرفعون هذا كله، يجعلون اتباع الظنّ علمهم، وحُسنَ الظن علمه، والتكلّف سلطانه، وهم يُنشدون بيت ابن الأيهم التغلبي رفعاً:
ليس بيني وبين قيسٍ عِتابُ ... غيرُ طعنِ الكُلى وضربِ الرّقابِ
جعلوا ذلك العتاب.
وأهل الحجاز ينصبون على التفسير الذي ذكرنا، وزعم الخليل أن الرفع في هذا على قوله:
وخيلٍ قد دلَفتُ لها بخيلٍ ... تحيّةُ بينِهم ضربٌ وَجيعُ
جعل الضرب تحيّتَهم، كما جعلوا اتِّباعَ الظن علمَهم)ا.هـ.

وقد ورد الاستثناء التام المنفي المنقطع في مواضع كثيرة في القرآن الكريم تقدّم ذكر بعضها ومنها:
أ: قول الله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ}
ب: وقوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ}
ج: وقوله تعالى: {وإن نشأْ نُغرقْهُم فلا صريخَ لهم ولا هُم يُنقَذون. إلا رحمة منا}
د: وقوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}
أي: ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، والحاجة التي في نفس يعقوب لا تغني عنهم من الله شيئاً، وإذا كان المستثنى موافقاً للمستثنى منه في الحكم فالاستثناء منقطع.
وكل هذه المواضع جاءت على النصب على الاستثناء، وهي لغة قريش.

وكثيراً ما يأتي المستثنى في الاستثناء التام المنفي المنقطع جملة؛ فيكون الأولى حملها على النصب على الاستثناء اتباعاً لنظائره المتقدمة، ولأنها لغة قريش التي اجتمع الصحابة على كتابة المصحف بها زمن عثمان رضي الله عنه.
ومن تلك المواضع:
أ: قول الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا}.
ب: وقوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ}.
ج: وقوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}.

3: الاستثناء الناقص المنقطع

ومن أمثلته:
أ: قول الله تعالى: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}.
ب: وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}.
ج: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}.

استثناء المعنى من الجثّة والكون من العين

من الاستثناء المنقطع ما يسمّيه بعض النحاة استثناء المعنى من الجثة، أو استثناء الكون من العين، ويريدون بالمعنى ما كان من جنس المعاني ليس له ذات قائمة بنفسه كالقوة والعلم والرحمة، والكون معنى من المعاني، والجثّة والعين ما كان له ذات قائمة بنفسها كالإنسان والحيوان والحجر.
فإذا استُثنيَ معنى من جثة أو كونٌ من عينٍ فهو استثناء منقطع لأنه استثناء من غير الجنس.
ولهذا النوع من الاستثناء أمثلة في القرآن منها:
أ: قول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
فالأموال جثث وأعيان، والكون معنى، فهذا استثناء منقطع، و
"إلا" بمعنى "لكن" لتفيد التأكيد، والتقدير: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل أبداً، ولكن تاجروا تجارة عن تراض منكم.
ب: وقول الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}.
الاستثناء منقطع، لأنه كون، وما قبله عين، ويجوز أن يكون نصبه بدلاً على لغة بني تميم، ونصباً على الاستثناء على لغة أهل الحجاز.


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10 ربيع الأول 1442هـ/26-10-2020م, 03:25 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

التفريق بين الاستثناء المتصل والاستثناء المنقطع.
هذا المبحث هو واسطة عقد هذا الباب ومجتنى ثمراته، وفائدته لطالب علم التفسير كبيرة، وتطبيقاته كثيرة، فهو باب مهم من أبواب توجيه أقوال المفسرين والجمع بينها، ومعين على استخراج أوجه تفسيرية قد يُغفل عنها، وما تقدّم من المباحث التي فيها تعريف بحقيقة الاستثناء المتصل والاستثناء المنقطع لا تغني عن دراسة أمثلة تفصيلية لمسائل يتبيّن بها أثر التفريق بين الاستثناء المتصل والاستثناء المنقطع على التفسير وتأدية المعنى البياني للآية.
وينبغي لطالب علم التفسير أن يستكثر من دراسة هذه الأمثلة ونظائرها حتى يتقن هذا الباب بعون الله تعالى.

ومن الأمثلة التي يتبيّن بها أثر معنى الاستثناء:
1: قول الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)}
في معنى الاستثناء وجهان مبناهما على معنى الإضافة في قوله تعالى: {عبادي}:
أحدهما: أن تكون الإضافة عامّة، وهي إضافة المخلوق إلى خالقه، والمملوك إلى مالكه؛ فيكون الاستثناء متصلاً، لأن المستثنى من جنس المستثنى منه، فالذين يتبعون الشيطان هم من جملة عباد الله بالمعنى العام للعبودية.
والوجه الآخر: أن تكون الإضافة خاصة، وهي إضافة التشريف والتكريم التي يختصّ بها أولياء الله؛ فيكون الاستثناء منقطعاً، لأن من يتبع الشيطان ليس من أولياء الله، بل هو من أولياء الشيطان.

2: قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}.
الاستثناء هنا ناقص، فلم يُذكر المستثنى منه، مع إمكان تقديره، لكنّ تقديره يحتمل أن يكون بالمصدر وأن يكون بالمفعول.
فتقدير المفعول: أن يكلّمه الله كلاماً إلا وحياً.
وتقدير المصدر: أن يكلّمه الله تكليماً إلا وحياً.
فعلى التقدير الأول الاستثناء متصل لأن الوحي من الكلام، وعلى التقدير الثاني: الاستثناء منقطع لأن الوحي ليس من المخاطبة بالتكليم.

3: قول الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون الفعل {ينفع} متعدياً، والمستثنى منه تقديره "أحداً" فيكون الاستثناء متصلاً، لأن التقدير: يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون أحداً إلا من أتى الله بقلب سليم؛ فينفعه ماله وبنوه، وقد دلّت النصوص على أنّ المؤمن ينتفع يوم القيامة بماله الذي ينفقه في سبيل الله، وبدعاء بنيه الصالحين؛ فتكون جملة {من أتى} في محلّ نصب مفعول به.
والوجه الآخر: أن يكون الفعل {ينفع} فعلاً لازماً لا يتطلّب مفعولاً؛ كما يقال: فلان لا ينفع، أي ليس بذي نفع؛ فيكون الاستثناء مفرّغاً منقطعاً لقصور عمل ما قبل
"إلا" عمّا بعدها، و"إلا" بمعنى "لكن" وجملة "من أتى" في محلّ رفع على الابتداء، وخبره مقدّر بما يناسب السياق.

4: قول الله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الا ما قد سلف}.

"ما" في قوله تعالى: {ما نكح آباؤكم} تحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية.
فإذا كانت موصولة ففي الاستثناء وجهان:
أحدهما: أن يكون منقطعاً، وذلك إذا كان المراد بالنكاح الزواج، والمعنى: ولا تتزوجوا ما تزوّج آباؤكم من النساء، ولكن ما قد سلف فمعفو عنه، وهو ما يخرّج عليه قول ابن عباس وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وقتادة.
والوجه الآخر: أن يكون متصلاً، وذلك إذا كان المراد بالنكاح الوطء المستحلّ بعقد الزواج في الجاهلية.
وذهب عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إلى أنه الزنا بحلائل الآباء، لكن يردّه أن الزنا بهنّ محرّم بكلّ حال، ولا يصحّ أن يحمل العفو عن زنا أهل الجاهلية على مجرّد أنه قد سلف، وإنما بإسلامهم وتوبتهم، والذي يُحمل عليه الإقرار لما قد سلف إنما هو الزواج بحلائل الآباء كما كانت تفعله العرب في الجاهلية؛ فإنه أمر حاصل بنكاح كانوا يعتقدون صحّته، ولم يكن قد ورد فيه نهي من الشرع قبل نزول هذه الآية.

وإذا كانت
"ما" مصدرية فالمعنى: لا تنكحوا نكاح آبائكم في الجاهلية إلا ما قد سلف، يقال: فعلتُ فعلَه، ومشيتُ مشيه، وجريت جريَه، وبعت بيعه، إذا اتّبعت طريقته في ذلك؛ فتكون الآية متضمنة لنهيٍ وإقرار:
- النهي عن عقود النكاح التي كانت في الجاهلية مما يخالف الشريعة.
- والإقرار لما قد سلف منها، فيكون معفواً عنه.
ثم لا ينعقد بعد ذلك نكاح إلا بشروطه الشرعية.
ويكون الاستثناء على هذا المعنى منقطعاً.
وهذا الوجه هو ما رجّحه ابن جرير في تفسيره، وذهب إلى أنه أعمّ دلالة؛ فيدخل فيه نكاح حلائل الآباء، وغيره من الأنكحة الجاهلية.

5: قول الله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}.

جملة: {ما ملكت يمينك} مستثناة:
- فإن كان الاستثناء من "النساء" فهو استثناء متصل، لأنّ ما ملكت يمينه من جملة النساء، ويُختار في إعراب الجملة الرفع على البدل.
- وإن كان الاستثناء من الأزواج؛ فهو استثناء منقطع، لأن ما ملكت يمينه لسن من أزواجه، ويُختار فيه النصب على الاستثناء، ويصحّ فيه النصب على البدلية من موضع {من أزواج}.

6: قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}.

الاستثناء في الآية يحتمل الاتصال والانقطاع:
- فالاتصال على معنى أن الله تعالى لا يظهر على غيبه أحداً إلا الرسل الذين ارتضاهم؛ فأظهرهم على غيبه بمعنى أطلعهم على ما يشاء من أمور الغيب، ويكون الإظهار بمعنى الإعلام.
- والانقطاع على معنى أنّ الله تعالى لا يظهر على غيبه أحداً أبداً؛ فيكون معنى الإظهار الاطلاع الظاهر على علم الغيب، ولكن الذين ارتضاهم الله من رسله يسلك من بين يديهم ومن خلفهم رصداً فيُطلعهم على ما يشاء من الغيب.
فتحتمل جملة {من ارتضى من رسولٍ} وجهين في الإعراب:
أحدهما: أن تكون مبتدأ، وجملة {فإنه يسلك} خبر مقترن
"بالفاء".
والآخر: أن تكون "من" شرطية، وجملة {فإنّه} جواب الشرط مقترن بالفاء.

7: قول الله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ}.

الاستثناء هنا يحتمل الاتصال والانقطاع:
- فالاتصال على معنى أنّ من آمن وعمل صالحاً انتفع بماله وولده فيما يقرّبه إلى الله، وله جزاء الضعف بما ينفق من ماله ويعلّم ولده.
- والانقطاع على أنّ الأموال والأولاد ليست هي التي تنفع على الحقيقة، وإنما الذي ينفع هو الإيمان والعمل الصالح، وهذا كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)).
فإذا تحقق الإيمان والعمل الصالح كان ما سواهما في النفع تبعاً.


رد مع اقتباس
  #10  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 04:23 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

الاستثناء من المتعاطفات
من المباحث المتعلقّة بالاستثناء الاستثناء من المتعاطفات؛ فإذا وقع استثناء من جمل عُطف بعضها على بعض فأيّها يكون هو المستثنى منه؟
في جواب هذه المسألة خلاف بين الفقهاء والأصوليين والنحاة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: منها كلها، وهو اختيار ابن مالك، والمشهور من أصول فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة.
والقول الثاني: من آخرها لأنها أقرب مذكور لأداة الاستثناء، وهو اختيار الرضى الاستراباذي وأبي حيان من النحاة، وفقهاء الحنفية.
ولبعض فقهاء الأحناف مسائل خالفوا فيها هذا القول.
والقول الثالث: مما يصلح أن يكون مستثنى منه بحسب السياق؛ فقد يكون الاستثناء من الجملة الأولى، وقد يكون من الثانية، وقد يكون من الأخيرة، وقد يكون من أكثر من جملة، وهذا القول هو الصواب الذي تدلّ عليه النصوص، وهو اختيار ابن الحاجب، وأبي حامد الغزالي، والآمدي، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي.

وفي القرآن مواضع تعقّب الاستثناء فيها جملاً متعاطفة، ومنها:

1. قول الله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
- وقع الاستثناء {إلا الذين تابوا} بعد ثلاث جمل متعاطفة {فاجلدوهم} و{ولا تقبلوا لهم شهادة} و{أولئك هم الفاسقون}، والاستثناء إنما هو من النهي عن قبول شهادتهم والحكم بفسقهم، وأما الجلد فلا يسقط بالتوبة بالإجماع.

2: وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}
- الاستثناء من الدية، لا من تحرير الرقبة من غير خلاف.

3: وقوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}
الاستثناء من الجملتين على الصحيح:
- أما جملة {لا تقولوا على الله إلا الحقّ} فالمعنى فيها ظاهر.
- وأما جملة "لا تغلوا في دينكم إلا الحقّ" فيدل عليها قول الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}.

4: وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}
الاستثناء من الأخذ والقتل، وليس من اتخاذهم أولياء وأنصاراً؛ فإنه لا يجوز اتخاذ غير المسلمين أولياء.
- قال محمد الأمين الشنقيطي: (فالاستثناء في قوله: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} لا يرجع - قولاً واحداً - إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل إليه، أعني قوله تعالى: {ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا} إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار، ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: {فخذوهم واقتلوهم} والمعنى فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق؛ فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم؛ لأنّ الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم).

5: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)}
- الاستثناء صحيح من الجملتين.

6: وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}
- الاستثناء في قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع؛ فما أدركت ذكاته منها فهو مستثنى مما حرّم، ولم تدخل الميتة لأنها لا تذكى، ولا الدم ، ولا لحم الخنزير، ولا ما أهلّ لغير الله به.
- قال أبو بكر الجصاص: (وأما قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه؛ لأن قوله: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه، وأن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة، وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه، وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة، فكان حكم العموم فيه قائماً، وكان الاستثناء عائداً إلى المذكور من عند قوله: {والمنخنقة}).
والاستثناء على هذا القول متصل، وهو قول جمهور المفسرين والفقهاء.

فإن قيل: لم نصّ على المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع مع أنها من جملة الميتات؟
قيل: لأمرين:
أحدهما: أنها لا تسمّى ميتة حتى يتحقق موتها، فإنها تتردى فتسمَّى متردية وبها رمق، فإن ماتت فهي ميتة، وإن أدركت ذكاتها فهي مذكاة ليست بميتة.
والأمر الآخر: أن من العرب من لا يعدّ هذه الأصناف من الميتة، فكانوا يأكلونها، وإنما يعدون الميتة ما ماتت بحتف أنفها من مرض ونحوه، وأما هذه الأصناف المذكورة؛ فكان منهم من لا يعدّها ميتة؛ فنصّ على أنّها إذا ماتت من ذلك فهي ميتة.
- قال السّدّيّ في قوله تعالى: ({والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم} يقول: هذا حرامٌ، لأنّ ناسًا من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدّونه ميّتًا، إنّما يعدّون الميّت الّذي يموت من الوجع، فحرّمه اللّه عليهم، إلاّ ما ذكروا اسم اللّه عليه وأدركوا ذكاته وفيه الرّوح). رواه ابن جرير.

وذهب الإمام مالك إلى أن السبع إذا أكل من البهيمة ما لا تعيش معه فإنها لا تحلّ بالذكاة، كأن يبقر بطنها، أو يكسر ظهرها، أو يقطع بلعومها، وأما إذا اقتطع طرفاً من أطرافها بحيث يمكن أن تعيش من دونه؛ فيجوز عنده أن تذكّى وتؤكل.
والمالكيّة يحملون الاستثناء في الآية على الانقطاع، أي هذه هي المحرمات، ولكن ما ذكيتم مما هو من شأن المؤمنين تذكيته فهو حلال.
وذكر ابن بطال في شرح صحيح البخاري أن الموقوذة لا تسمّى موقوذة حتى تموت بالوقذ، وكذلك المنخنقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع؛ فلم يكن لهم بدّ من حمل الاستثناء على الانقطاع.
وهذا القول لا يصحّ في اللغة؛ فإن الموقوذة هي التي وُقِذَت وإن عاشت بعد وقذها، وقد قال جران العود يصف ضرب امرأته له وأنها وقذته ثم عاش:

تُداورني في البـــــيــت حتى تكـــــــــبَّني ... وعيني من نحـــــــو الهـِــرَاوة تلمـــــــحُ
وقد علَّـــمتني الوَقْـــــــــــذَ ثم تجـــــــــــرّني ... إلى المــــــــــــاء مغـــشـــــياً عليَّ أرنَّـــحُ
ولم أر كالموقـــــــــــــوذ ترجى حيـــــــــــاته ... إذا لم يَرُعْــــه الماءُ ســـــاعةَ يُنضَحُ
أقول لنــفسي أين كنت وقــــد أرى ... رجــالاً قيــــــــاماً والنســــــــاء تسبح
أباِلغَــوْرِ أم بالجَلْسِ أم حيث تلتقي ... أمــــاعز من وادي بُرَيكٍ وأبطح

قوله: (وقد علَّمتني الوقذ) أي عرَّفتني الوقذ كيف يكون بما فعلته به من الضرب بالعصا الغليظة حتى أغشي عليه.
والشاهد أنّه سمّى نفسه موقوذاً وقد عاش بعد أن أغمي عليه، ونُضح عليه الماء ورأى حوله رجالاً قياماً عليه ونساء يقلن: سبحان الله!! سبحان الله!! يتعجبن مما به من الضرب؛ فأخذ يتذكّر أين هو، وتخطر على ذهنه الأماكن التي كان فيها وهو يرعى غنمه.
وقد صحّ عن السلف إطلاق اسم الموقوذة على التي ضربت بخشبة ونحوها وبقي بها رمق فتطرف بعينها أو تحرّك أطرافها؛ وجمهورهم على جواز ذكاتها وأكلها لبقاء الروح فيها، وهو الأقرب من جهة النظر؛ فإن بقاء الروح دليل على عمل القلب، فإذا ذُبحت خرج الدم من عروقها، وإذا ماتت بطل عمل القلب، وبطل عمل الجوارح التي كان على القلب أن يستحثّها لإخراج ما فيها من الدم.
- قال الحسن البصري: (إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها، أو تركض برجلها، أو تمصع بذنبها، فاذبحْ وكلْ). رواه ابن جرير.
- وقال إبراهيم النخعي: (إذا أكل السّبع من الصّيد أو الوقيذة، أو النّطيحة أو المتردّية فأدركت ذكاته، فكل). رواه ابن جرير.
وروي نحو ذلك عن جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب وابن عباس وطاووس بن كيسان وقتادة.


رد مع اقتباس
  #11  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 04:27 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

الاستثناء من الاستثناء
من المباحث المتعلقة بالاستثناء مبحث الاستثناء من الاستثناء، وهي مسألة أصولية لغوية ولها صلة بالتفسير لاستدلال عامة من يبحث هذه المسألة بقول الله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}.
والاستثناء في هذه الآية اختلف فيه على قولين:
القول الأول: هو استثناء من المستثنى؛ فاستثني آل لوط من القوم المجرمين الذين أرسلوا لعذابهم، ثمّ استثنيت امرأة لوط من آله، وهذا القول قال به جماعة من الأصوليين والمفسرين.
القول الثاني: الاستثناء الثاني من قوله تعالى: {إنا لمنجوهم} فليس في لفظ الآية استثناء من المستثنى.
- قال الزمخشري: (استثنى من الضمير المجرور في قوله: {لَمُنَجُّوهُمْ} وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء، لأنّ الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، وفي قول المقرّ: لفلان علىّ عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً. فأمّا في الآية فقد اختلف الحكمان، لأنّ {إِلَّا آلَ لُوطٍ} متعلق بـ{أرسلنا} أو بـ{مجرمين}، و{إِلَّا امْرَأَتَهُ} قد تعلق بـ{منجّوهم}، فأنَّى يكون استثناءً من استثناء).
- وقال أبو حيان الأندلسي: (ومن قال: إنه استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين:
أحدهما: أنه لما كان الضمير في {لمنجوهم} عائد على {آل لوط} وقد استثنى منه المرأة، صار كأنه مستثنى من {آل لوط} لأنَّ المضمر هو الظاهر في المعنى.
والوجه الآخر: أنَّ قوله: {إلا آل لوط} لما حكم عليهم بغير الحكم على قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم، فجاء قوله: {إنا لمنجوهم أجمعين} تأكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى: إلا آل لوط فلم يرسل إليهم بالعذاب، ونجاتهم مترتبة على عدم الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير قولك: "قام القوم إلا زيداً فإنه لم يقم"، أو "إلا زيداً لم يقم".
فهذه الجملة تأكيدٌ لما تضمّنه الاستثناء من الحكم على ما بعد "إلا" بضدّ الحكم السابق على المستثنى منه، فـ{إلا امرأته} على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من {آل لوط} لأنَّ الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء به للتأكيد)ا.هـ

وجمهور الأصوليين على جواز الاستثناء من الاستثناء؛ فيصحّ أن يقال: وهبته غنمي إلا السود منها إلا خِرَافها.
فيكون الموهوب غنمه كلها سوى السود، والخراف من السود دون النعاج.


رد مع اقتباس
  #12  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 04:38 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

استثناء النصف فأكثر
اختلف النحاة والأصوليون في غاية ما يجوز استثناؤه من المستثنى منه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجب أن يكون المستثنى أقل من نصف المستثنى منه، وهو قول عامّة نحاة البصرة، واختيار أبي حيان الأندلسي.
- قال أبو إسحاق الزجاج: (لم يأت الاستثناء في كلام العرب إلا في القليل من الكثير).
- وقال ابن عصفور: (والصحيح أن المخرج أقل من النصف أبداً، وما قلَّ كان أحسن).
القول الثاني: يجوز استثناء النصف فما دونه، وهو قول لبعض البصريين وبعض الكوفيين.
القول الثالث: يجوز استثناء النصف وأكثر منه، وهو قول جمهور الفقهاء والأصوليين، والمشهور عن نحاة الكوفة، وقال به السيرافي وابن خروف وابن مالك وغيرهم.
والتحقيق في هذه المسألة أنّ أمثلتها على أربعة أصناف:
الصنف الأول: استثناء عدد من عدد، وهذا ليس له مثال في القرآن يكون فيه المستثنى نصف المستثنى منه أو أكثر، ولا أعلم له مثالاً في السنة، وما ذُكر له من شواهد لغوية أخرى فمعلول؛ كاستدلال بعضهم بقول الشاعر:

أدّوا التي نقصت تسعين من مئةٍ ... ثم ابعثوا حكمًا بالحق قوّالا
فهذا البيت غير معروف، والصنعة فيه ظاهرة، وقد ذكر ابن قدامة في "روضة الناظر" عن ابن فضّال الفرزدقي أنه قال فيه: (مصنوع، ولم يثبت عن العرب).
ثمّ هو ليس من أسلوب الاستثناء في شيء، وإنما هو كقول القائل أخذت تسعة دراهم من عشرة؛ فليس فيه استعمال أداة استثناء.
وما ورد من استثناء عدد من عدد في القرآن فهو أقلّ من النصف، ومنه قول الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً}.


ومما يلتحق بهذا الصنف استغراق المستثنى للمستثنى منه في العدد وهو ممتنع، لأنه يبطل الاستثناء، وإنما يستعمل في المعاياة والإلغاز، وذلك كأن يقول: له عليّ عشرة دراهم إلا عشرة.
وكذلك استثناء ما يكون أكثر من المستثنى منه، وهذا لغو لا معنى له؛ كأن يقول: له عليّ عشرة إلا خمسة عشر.
وأما ما ذكره ابن مالك في شرح التسهيل عن الفرّاء أنه يجيز قول القائل: له عليّ ألف إلا ألفين، فهذا إنما يمثّل به للاستثناء المنقطع، وله وجهان:
أحدهما: على إرادة البدل، ويكون ذلك في الغلط، كأنّه أقرّ بألف ثمّ تذكّر ألفاً آخر فقال: إلا ألفين.
والوجه الآخر: أن تكون "إلا" بمعنى "سوى"؛ كأنّه أقرّ بالألف، ثمّ تذكّر ألفين غيرها فقال إلا ألفين، فيكون مجموع ما عليه ثلاثة آلاف.
فالألفان على الوجهين لم تدخلا في الألف حتى تُخرجا منه.

وإنما الخلاف في استثناء النصف وما هو أكثر منه مما هو دون عدد المستثنى منه، كأن يقول: له عليّ عشرة دراهم إلا خمسة، أو: له عليّ عشرة دراهم إلا سبعة.
فهذا لا يكاد يُعرف له مثال صحيح محفوظ عن العرب، لكن جمهور الفقهاء والأصوليين على جواز وقوعه، والمؤاخذة به في كثير من الأحكام؛ فهي عبارة مفيدة لمعنى، وإن كانت خلاف الأفصح والأصحّ.
والعبرة في الألفاظ التي يتعامل بها الناس ما يظهر من قصدهم بمعانيها، وإن كان كلامهم على خلاف ما هو أولى في اللغة.
وعلى كلّ حال فلا ينبغي أن يُحمل كلام من قال من الفقهاء والأصوليين بجواز وقوع استثناء الأكثر من الأعداد في كلام الناس والمؤاخذة به على أنه مسموع من كلام العرب؛ فغرَضُ الأصوليين والفقهاء من ذكر هذه المسألة غير غرض النحاة والبلاغيين.
والصنف الثاني: استثناء عدد مما ليس بعدد، وله مثال واحد في القرآن فيما أعلم، وهو قول الله تعالى: {قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلا} ، وسيأتي الحديث عنه مفصلاً إن شاء الله.
والصنف الثالث: استثناء موصوف من عدد، كأن يقول: قبضت منه مئة درهم إلا الزيوف منها.
وهذا استثناء مبهم، لا يوقف فيه على أنّ المستثنى أكثر من نصف المستثنى منه أو أقلّ، ولا أعلم له مثالاً في القرآن.
والصنف الرابع: استثناءُ موصوفٍ مما ليس بعدد، وهذا يسوغ فيه أن يكون المستثنى أكثرَ من نصف المستثنى منه، بل يسوغ فيه أن يستغرق المستثنى جميع المستثنى منه؛ لأنه استثناء معلّق بوصف فأشبه الشرط، وذلك كما لو قال قائل: لا تبقِ من كتبي إلا الكتب النافعة؛ فتبيّن أنها كلها نافعة.

وكما لو قال: أوصي لأبناء فلان إلا من بلغ منهم؛ فتبيّن أنهم كلّهم بالغون؛ فلا يستحقون شيئاً.
وباب استثناء الصفاتِ أوسع من باب استثناء الأعداد، ولا ينبغي أن يستراب في صحته، وفي الحديث القدسي الصحيح: [ يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم ]رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه، والذين أطعمهم الله أكثر.
- قال الآمدي: (نحن إنما نمنع من استثناء الأكثر إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرحاً به كما إذا قال: "له علي مائة إلا تسعةً وتسعين درهماً"، وأمّا إذا لم يكن العدد مصرحاً به، كما إذا قال له: "خذ ما في الكيس من الدراهم سوى الزيوف منها" فإنه يصحّ، وإن كانت الزيوف في نفس الأمر أكثر في العدد)ا.هـ.

هذا وقد استدلّ جماعة من العلماء في هذه بآيات من القرآن ينبغي التوقف عندها، وبيان ما فيها من الحجج وأوجه الاستدلال، فمن ذلك:

1: قول الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}
هذه الآية استدلّ بها من ذهب إلى جواز استثناء الأكثر، لأنَّ الذين اتّبعوا إبليس من الغاوين أكثر من الذين لم يتبعوه، كما دلّ عليه قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)}.
وهذا الاستدلال لم يسلم من معارضة منكري استثناء الأكثر، فتأوَّلوه بما لا يكون فيه دليل على المسألة.
والتحقيق أنّ معنى الاستثناء راجع إلى تعيين معنى الإضافة ومعنى السلطان، ولذلك كان في الآية ثلاثة أوجه من التفسير:
الوجه الأول: الاستثناء من العباد الذين أضافهم الله إليه إضافة تشريف، وهم عباده المؤمنون؛ فيكون الاستثناء منقطعاً، أي: ولكن من اتبعك من الغاوين.
وهذا الوجه مناسب لقوله تعالى قبلها: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)}.
والوجه الثاني: الاستثناء من جميع بني آدم، فتكون الإضافة في {عبادي} إضافة مملوك إلى مالكه ومخلوق إلى خالقه، فيكون في الاستثناء وجهان:
أحدهما: أنه استثناء متصل، وذلك إذا أريد بالسلطان تسلط الشيطان واستحواذه على أتباعه بالوسوسة والاستزلال والإضلال كما قال تعالى:{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}.
والآخر: أنه استثناء منقطع؛ إذا أريد بالسلطان الحجة والقوة على الإجبار؛ لأنه ليس له عليهم سلطان بهذا الاعتبار، كما قال الله تعالى:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}.
ويبيّن الوجهين في السلطان قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}.
فالسلطان المنفي هو المناسب للاستثناء المنقطع في آية الحجر.
والسلطان المستثنى هو المناسب للاستثناء المتصل فيها.

فلا يتأتّى الاستدلال بهذه الآية إلا على اعتبار الاستثناء متّصلاً، وعلى أنّ السلطان هو الوسوسة لأتباعه، كما تقدّم شرحه.
- قال أبو حيان: (ويجوز أن يكون متصلًا، ويكون {عبادي} يعمّ الملَك والإنس والجان، فيكون الاستثناء إذ ذاك أقلّ).
- قلت: وهذا التجويز لا يجوز، لأن الحديث في الآية إنما هو عمّن أقسم ليغويهم، وما كان ليبلغ ظنّه أن يغوي الملائكة.

2: قول الله تعالى: {قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه}
هذه الآية استدلّ بها بعض القائلين بجوز استثناء النصف فما دونه؛ لأنهم جعلوا قوله: {نصفه} بدلاً من {قليلا} فيكون التقدير: قم الليل إلا نصفه.
وهذه الآية فيها أوجه في التفسير:
الوجه الأول: ما ذكروه من أنّ {نصفه} بدل من {قليلاً}. أي: قم الليل إلا نصفه، وزد على هذا النصف أو انقص منه.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم نصف الليل، ويزيد أحياناً إلى قريب من ثلثي الليل، وينقص أحيانا إلى الثلث كما قال الله تعالى: {إن ربك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك}
والوجه الثاني: أن يكون {نصفه} بدلاً من {الليل} والتقدير: قم الليل إلا قليلاً، قم نصف الليل أو انقص من نصفه أو زد على نصفه.
وهذا الوجه ذكره مكي بن أبي طالب، وقريب منه ما ذكره أبو جعفر النحاس وغيره أن {نصفه} منصوب على إضمار فعل، أي: قم نصفه.
وليس في هذا الوجه دليل على هذه المسألة.
الوجه الثالث: أن يكون التعريف في الليل في قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا} تعريف للجنس، أي قم جميع الليالي إلا قليلاً منها، وهو أحد الوجهين في قول الله تعالى: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} أي قلّ ليلة إلا ويقومون فيها لله تعالى.
وقوله: {نصفه أو انقص منه قليلا} جملة مبيّنة لمقدار ما يكون فيه القيام في كلّ ليلة، فيقوم نصفه أو يزيد على النصف أو ينقص منه.
وهذا الوجه ذكره ابن عطية في تفسيره ثمّ قال: (وكيف ما تقلّب المعنى، فإنه أمر بقيام نصف الليل أو أكثر شيء أو أقل شيء، فالأكثر عند العلماء لا يزيد على الثلثين، والأقل لا ينحطّ عن الثلث).

وقد ذهب الفراء والأخفش إلى أنّ قوله تعالى: {نصفه} معطوف بحرف عطف محذوف والتقدير أو نصفه.
- قال الأخفش: (فقال السائل عن هذا: قد قال: {قم اللّيل إلاّ قليلاً} فكيف قال: {نصفه}؟

إنما المعنى: "أو نصفه أو زد عليه" لأنَّ ما يكون في معنى تكلّم به العرب بغير "أو" تقول: "أعطه درهماً درهمين ثلاثةً" تريد: "أو درهمين أو ثلاثةً")ا.هـ.
وهذا القول يرجع إلى معنى الوجه الثاني، ولا حاجة لتقدير حرف العطف لأنه بدل.

وعندي أنّ الأوجه الثلاثة المتقدّم ذكرها كلها صحيحة، وهي من بديع نظم القرآن؛ ففي إبدال {نصفه} من {قليلا} لطيفة في تلقي النفس للأمر الأول بما يخفّ عليها؛ فالقليل مبهم، وقد يقع على أقلّ جزء من الوقت، فلما فسّر بالنصف كان ذلك أخفّ في التكليف، وكان هذا القدر من الصلاة مفروضاً في أوّل الأمر ثمّ نُسخ بالصلوات الخمس.
وإذ كان النصف يصحّ أن يوصف بأنه قليل استوى أن يقال: قم الليل إلا نصفه، وقم نصف الليل.
وقد جمع بينهما جمعاً بديعاً لا حشو فيه ولا ضعف، لما لكلّ جملة من فائدة بيانية.

3: قول الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}
- قال ابن مالك في شرح التسهيل: (ومن سفه نفسه أكثر ممن لم يسفه، فإنّ المراد بمن سفه المخالفون لملّة إبراهيم، وهم أكثر من الذين يتبعونها).
- فقال أبو حيان: (وأما {إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} فاستثناء منقطع، والإنكار وقع على كل من يرغب عن ملة إبراهيم، وكأنه قال: لكن من سفه نفسه يرغب عنها)ا.هـ.

قلت: الاستثناء مفرّغ متّصل، والاستفهام إنكاري مؤوَّل بالنفي، والتقدير: ولا يرغب عن ملة إبراهيم أحدٌ إلا من سفه نفسه، ولا ريب أنّ من سفه نفسه أكثر ممن اتّبع ملّة إبراهيم.

4: قول الله تعالى: {فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ}
- قال ابن مالك: (ومن استثناء الأكثر قوله تعالى: {فلا يأمنُ مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون} لأن القوم الخاسرين هم غير المؤمنين لقوله تعالى: {إنّ الإنسانَ لفي خسر إلّا الذين آمنوا}.
- وقال أبو حيان: (وأما {فَلا يَأمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ} فاستثناء مفرغ، ولم يذكر المستثنى منه فيه، وعلى تقدير أن لو صرح بالمستثنى منه قدر عامًا، أي: فلا يأمن مكر الله أحدٌ، و"أحد" يعمّ العاقل ملكاً وإنسًا وجانًا)ا.هـ.
- قلت: إدخاله الملائكة لأجل أن يكون المستثنى أقلّ من المستثنى منه فيه تكلّف، وهو مخالف للسياق، فإنّه عن أهل القرى من المكلَّفين.
قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}
وقوله تعالى: {أفأمنوا مكر الله} الاستفهام إنكاري، والضمير راجع إلى من تقدّم ذكرهم، وهو استثناء موصوف مما ليس بعدد.


رد مع اقتباس
  #13  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 04:38 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

أدوات الاستثناء
أدوات الاستثناء متعددة منها حروف، وأسماء، وأفعال.
- فمن الحروف: "إلا" وهي أشهر أدوات الاستثناء وأكثرها استعمالاً.
- ومن الأسماء: "غير"، و"سِوَى".
- ومن الأفعال: "ليس"، و"لا يكون".
- ومن الأدوات ما يكون حرفاً تارة، ويكون فعلاً تارة أخرى بحسب الاستعمال، وهي: "خلا" و"عدا" و"حاشا"؛ فإذا كانت حروفاً جرَّت ما بعدها، وإذا كانت أفعالاً نصبت ما بعدها.
ويتعيَّن كون "خلا" و"عدا" أفعالاً إذا سُبقتا بـ"ما" المصدرية.

1: "إلا"، وقد تقدّم الحديث عنها مفصَّلاً.
2: "غير" وهي ملازمة للإضافة، والمستثنى بها مجرور بالإضافة، كما في قول الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلامِ ديناً فلن يُقبل منه} ، وقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم}.
وتُعرب "غير" بما يُعرب به المستثنى مع "إلا" سواء بسواء، وسبيل ذلك أن تقدّر "إلا" مكان "غير" فتنظر فيما يُعرب به المستثنى بإلا فهو ما تُعرب به "غير".
- إذا قيل: قام القوم إلا زيداً، فيقال: قام القول غيرَ زيد، بنصب "غير".
- وإذا قيل: ما قام القوم إلا زيدٌ وإلا زيداً، فيقال: ما قام القوم غيرَ زيدٍ، وغيرُ زيد.
- وإذا قيل: ما قام إلا زيدٌ، فيقال: ما قام غيرُ زيدٍ.

قال ابن مالك:
واستثن مجروراً بغيرٍ معرباً ... بما لمســـــتثنى بإلا نُسبا
3: سوى، وفيها لغات: سُوى، وسَوَاء، وسِواء، وهي ظرف بمعنى "مكان" أو "بدل" يجرّ المستثنى بالإضافة، تقول: قام القوم سوى زيدٍ؛ فزيد مستثنى مجرور بالإضافة.
ولم ترد "سوى" الاستثنائية في القرآن، ووردت في السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بملة سوى الإسلامِ كاذبا؛ فهو كما قال)). رواه مسلم من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
وقال قيس لبنى:
وكل مصيبات الزمان رأيتها ... سوى فُرقةِ الأحباب هيّنةَ الخَطْبِ
4: حاشا، وفيها لغتان: حَشَى، وحاش، وقد تُرسم "حاشى" على الأصل.
وتأتي فعلاً وحرفاً؛ فإذا نصبت المستثنى فهي فعل، وإذا جرَّته فهي حرف.
قال عبيد الله بن عمر بن الخطاب:
أنا عبـــيدُ الله سمَّــــــــــــــــــــــــــاني عمر
خير قريـــش من مضى ومن غبر
حاشــا نبيَّ اللهِ والشــــــــــيخَ الأغرّ
يريد بالشيخ الأغرّ أبا بكر الصدريق رضي الله عنه.
وقال عمر بن أبي ربيعة:

حشَى رَهْطِ النَّبِي فإنّ مِنْهُم ... بُحوراً لَا تكدرُها الدَّلاَءُ
وقد اختلف في رواية بيت الجميح الأسدي:
حاشى أبا ثوبان إنَّ أبا ... ثوبان ليس ببكْمةٍ فَدْمِ
فرواه الأصمعيّ في الأصمعيات بالنصب، ورواه المفضّل الضبيّ في المفضّليات بالجرّ "حاشى أبي ثوبان"
- قال أبو بكر الأنباري: (معنى "حَاشَا" فِي كَلَام الْعَرَب: أَعْزِلُ فلَانا من وصْفِ الْقَوْم بالحَشَا، وأعْزِلُه بناحيته وَلَا أُدْخِلُه فِي جُمْلتهم، وَمعنى الحشا النَّاحِيةُ وَأنْشد:
وَلَا أُحَاشِي من الأَقْوَامِ مِنْ أَحَدِ).
وقد اختلف في دخول "ما" على حاشا؛ فمنع منه سيبويه ، وأجازه آخرون واستدلوا له بقول الأخطل:
رأيت الناس ما حاشا قريشاً ... فإنا نحن أكثرهم فعالا
ولم ترد "حاشا" الاستثنائية في القرآن، وإنما وردت "حاشا" التنزيهية، وذلك في موضعين في سورة يوسف:
أحدهما: قول الله تعالى: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)}.
والآخر: قول الله تعالى: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}.
و"حاشا" الاستثنائية فيها شوب معنى "حاشا" التنزيهية، فتعني تنزيه المستثنى وتبرئته عما نسب إلى المستثنى منه.

5: خلا، وهي أداة استثناء تكون حرفاً، وتكون فعلاً.
- فإذا كانت حرفاً جرَّتِ المستثنى، كقول الفارعة بنت معاوية القشيرية في يوم النِّسَار:
وفرّت كلابٌ على وجهها ... خلا جعفرٍ قبلَ وَجْهِ النَّهار
شفى الله نفسيَ من معشرٍ ... أضاعوا قُدامة يومَ النسار
- وإذا كانت فعلاً نصبت المستثنى، كما في قول النابغة الجعدي يصف حصاناً:
أغرٌّ قسَاميٌ كُمَيْتٌ محجَّل ... خلا يَدَهُ اليُمْنَى فتحجيله خسا
وإذا سبقتها "ما" تعيّن أن تكون فعلاً، كما قال لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا اللهَ باطلُ ... وكلّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
ولم ترد "خلا" الاستثنائية في القرآن.
6: عدا، والكلام فيها كالكلام في "خلا"
- تجرّ المستثنى إذا كانت حرفاً ، كما في قول الشاعر:
أبــحنـــــا حيــَّهم أسرًا وقــــتـــــلًا ... عـدا الشمطاءِ والطفلِ الصغيـر
- وتنصبه إذا كانت فعلاً، كما في قول الشاعر:
يا من دحا الأرض ومن طحاهـــا ... أنزل بهـــــم صــــاعــــقة أراهـــــــــــــــا
تحـــرِقُ الأحشــــــــــاءَ مـــــــن لظاهــــــــا ... عــــــــدا سُلـــيمَى وعـــــدا أباهــــــا
فنصبت "عدا" "سليمى" بفتحة مقدرة، ونصبت "أباها" بالألف.
- وإذا سُبقت "عدا" بـ"ما" المصدرية تعيّنت أن تكون فعلاً، كما في قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (الكلالة ما عدا الولدَ والوالدَ).
ولم ترد "عدا" الاستثنائية في القرآن.
7: ليس، ومن معانيها الاستثناء، وهي فعل ينصب المستثنى، ومنه حديث رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعاً: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر)).
ولم ترد "ليس" الاستثنائية في القرآن.
8: لا يكون، وهو فعل استثناء ينصب المستثنى، ومنه قول ابن عمر رضي الله عنهما: (وإنَّ من أعظم الغدر لا يكون الإشراكَ بالله تعالى أنْ يبايعَ رجلٌ رجلاً على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته). رواه أحمد.
ولم يرد في القرآن استثناء بـ"لا يكون".


رد مع اقتباس
  #14  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 04:40 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

أمثلة لدراسة مسائل الاستثناء في التفسير:
المثال الأول: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى}.

قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}
الاستفهام للنفي والإنكار، فأفاد أنه ليس من شركائهم من يهدي إلى الحق لأنهم مفتقرون أولاً إلى من يهديهم ويبصّرهم بالحقّ، وإنما ذلك لله تعالى وحده، فهو الذي يهدي إلى الحقّ دلالة بيان وإرشاد، ويهدي للحقّ دلالة توفيق وإلهام، وأما سائر الخلق فهم مفتقرون إلى من يهديهم كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: [يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم]
فذكر في حقّهم الحدّ الأدنى وهو هداية الدلالة والإرشاد المدلول عليها بحرف "إلى" لأنّ عجزهم عنها دليل على أنهم عما هو أعلى منها أعجز.
وذكر في حقّه تعالى هداية التوفيق والإلهام المدلول عليها بحرف "اللام"، لأن ثبوتها له تعالى يدلّ على ثبوت ما دونها من باب أولى.
وقوله تعالى: {أفمن يهدي إلى الحقّ } ذكر حرف "إلى" هنا لأن الاتباع متعلّق بهداية الدلالة والإرشاد، وفيه نوع احتباك مع ما قبله.
{أمن لا يهدّي إلا أن يهدى} {أمّن} مركّبة من "أم" و "من" الموصولة ، ثمّ وصف شركاءهم بوصف جامع "لا يهدّي إلا أن يهدى".
{لا يهدّي} كتبت في المصحف بدون "تاء"، وقرئت على قراءات ترجع إلى وجهين:
أحدهما: [لا يَهْدِي ] بإسكان "الهاء" وتخفيف "الدال"، وهي قراءة حمزة والكسائي، والفعل فيها يحتمل اللزوم والتعدّي.
والوجه الآخر: {لا يهدّي} بإدغام "التاء" في "الدال" وتشديد "الدال"، وهي قراءة جمهور القراء، واختلفوا في حركة "الهاء" و"الياء" فتحاً وكسراً، وأصلها: لا يهتدي، وذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأها: [ أمن لا يهتدي إلا أن يهدى ]
والفعل على هذا الوجه لازم غير متعدٍّ.
والتضعيف في "الدال" فيه مبالغة في وصف شركائهم بعدم الاهتداء، فهم قد بلغوا أقصى غايات عدم الاهتداء، وكتبت الكلمة في المصحف بغير "الدال"؛ فاحتملت وجهي القراءة المذكورين.
فدلّت القراءات الواردة في هذه الآية على أنّ شركاءهم لا يهتدون بأنفسهم ولا يهدون غيرهم إلا أن يُهدوا.

وشركاؤهم على صنفين:
- الأصنام والأوثان التي من شأنها أنها لا تسمع ولا تعقل، وما كان في حكمها.
- وصنف من كبرائهم ومتبوعيهم الذين أشركوهم بطاعتهم في تبديل دين الله تعالى وتحليل الحرام وتحريم الحلال وتشريع ما لم يأذن به الله.
فعلى إرادة الصنف الأول يكون الاستثناء منقطعاً؛ فهذه الأصنام والأوثان لا تهتدي وليس ذلك من شأنها، لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن عابديها شيئاً، ويكون الاستثناء على أحد معنيين:
1: على معنى ولكن تُهدى، أي تُنقل من مكان لآخر، قال الفرّاء: (يقول: تعبدون ما لا يقدر على النقلة من مكانه، إلا أن يحوّل وتنقلوه).
2: لإفادة التعجيز فأقيمت هدايتها مقام الشرط التعجيزي، كما يقال: لن أفعل إلا أن يزول هذا الجبل من مكانه.
وأنّى لهم باهتداء هذه الأصنام والأوثان التي لا تعقل.

وعلى إرادة الصنف الثاني يكون الاستثناء متصلاً؛ لأنهم لا يُهدون لشأن من شؤونهم إلا بمن يهديهم؛ فلا يستقلّ عبد بهداية في أمر من الأمور مطلقاً، ولا يهتدي إلا أن يهديه الله حتى في أمور معاشه؛ فلا يُبصر إلا ما شاء الله له أن يبصره، ولا يسمع إلا ما شاء الله له أن يسمعه، ولا يعقل إلا ما شاء الله له أن يعقله؛ فكيف يزعم أنه يستقل بهداية غيره وهو لا يستقلّ بهداية نفسه في أمور معاشه.
فهو لا يهتدي بنفسه ولا يهدي غيره إلا أن يهديه الله.
{أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يُتَّبع أمّن لا يهدّي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون}.


رد مع اقتباس
  #15  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 04:50 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

المثال الثاني: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
هذه الآية الكريمة هي بمثابة الثمرة لخلاصة الحجج المتعلقة بقضية من أهمّ قضايا الدعوة إلى الله تعالى، وهي إيمان المدعوّين وتكذيبهم، وقد بيّنها الله تعالى في هذه السورة بيانا شافياً من وجوه متعددة؛ فشفى بهذا البيان صدرَ كلّ قائم بالدعوة إلى الله تعالى مما قد يعرض له من أحوال المدعوّين، ومواقفهم من الدعوة إلى الإيمان، إذ اشتملت هذه السورة على بيان ثلاثة أصول عظيمة:
الأصل الأول: أنّ الإيمان لا يكون إلا بهداية من الله تعالى وإذن منه، وأنه لا سلطان لمخلوق على قلوب الناس ليكرهها على الإيمان؛ فالله تعالى قد كتب لكلّ نفس حظها من الإيمان والكفر؛ ويعلم ما يؤول إليه حال كلّ نفس، وإنما على الرسل تبليغ رسالات الله ، والدعوة إلى الله تعالى كما أمر؛ فمن شاء الله تعالى أن يهديه من عباده هداه.
والأصل الثاني: أنّ عمل العبد له أثر في هداه وضلاله؛ وقد جعل الله تعالى لكلّ عبد إرادة وقدرة؛ فيملك أن يختار طريق الهداية ويختار طريق الضلالة، وليس لأحد على الله حجّة إذا ضلّ وكفر، فمن اهتدى زاده الله هدى، ومن زاغ أزاغ الله قلبه؛ فيكون الضلال الأول قبل العلم ضلالاً سببه الجهل، ولا يعذّب الله عليه كما قال الله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} فإذا جاء الهدى للعبد فأعرض عنه استحقّ العقوبة بالإضلال، وهذا الإضلال عقوبة له على إعراضه وتعدّيه حدود الله، وقد تصل العقوبة بالعبد إلى أن يُطبع على قلبه والعياذ بالله.
والأصل الثالث: أن الذين يسألون الآيات تعنّتاً لا يؤمنون؛ فحالهم بعد مجيء الآيات كحالهم قبلها، وقد بيّن الله تعالى حال الأمم في ذلك تفصيلاً لبعضها وإجمالاً لكثير منها.

ثمّ جاءت هذه الآية التي سمّيت السورة بسببها مبيّنة للثمرة المتحصَّلة من هذه الأصول ودلائلها وبراهينها المبثوثة في السورة؛ فقال تعالى: { فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
هذه هي الثمرة المبيَّنة بالمثال الذي ينبغي لكل أمّة أن تعتبر به لتنجو من عذاب الله، وهو خطاب متجدد، وعبرة قائمة لكلّ قرن، ولكلّ طائفة تبلغها هذه الدعوة.

وقد قرأ عامّة القراء {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} بالنصب على الاستثناء، ولا تصحّ قراءة بخلافها، والاستثناء في الآية قيل فيه بالانقطاع وهو قول الجمهور، وقيل فيه بالاتصال، وسبب الخلاف تعيين المستثنى منه؛ فإذا أريد جميع القرى فالاستثناء متّصل، لأن قوم يونس أصحاب قرية كبقية القرى، وإذا أريد القرى التي حقت عليها كلمة العذاب المذكورة في الآية قبلها فالاسثتناء منقطع، لأن قوم يونس لم يحقّ عليهم العذاب، هذه خلاصة الفرق بين القولين، وفي تفصيلهما فوائد ولطائف ينبغي التوقف عندها وبيانها.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
فوجه القول بالاستثناء المنقطع حمل الكلام في الآية على القرى التي حقّت عليها كلمة العذاب، والمعنى: فهلا كانت قرية من تلك القرى التي حقّ عليها العذاب آمنت فنفعها إيمانها، ولكن قوم يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم؛ فتكون "إلا" بمعنى "لكن" ، وهذا قول سيبويه والفراء، وذُكر عن الكسائي والأخفش، وغيرهما.
- قال سيبويه: (باب ما لا يكون إلا على معنى "ولكن"؛ فمن ذلك قوله تعالى: {لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلا مَن رحم} أي: ولكن من رحم، وقوله عز وجل: {فلولا كانت قرية آمنتْ فنفعها إيمانُها إلا قومَ يونسَ لما آمنوا} أي: ولكن قوم يونس لما آمنوا)ا.هـ.

فكان في هذه الآية إثبات للقدر والجزاء، وبيان جليّ بأنّ الأمّة التي يحقّ عليها العذاب لا تؤمن حتى ترى العذاب، وبرهان ذلك التفكّر في أحوال القرى التي ذكر الله إهلاكها في هذه السورة نصاً وإشارة؛ فنصّ الله تعالى على ذكر قوم نوح عليه السلام، وأنهم كذبوا بآيات الله، وقد أخبر في موضع آخر أنه أوحى إليه أنه : {لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}
ثم قال تعالى بعد ذكر قوم نوح: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}
وهذه إشارة إلى قرى كثيرة جاءتهم الرسل بالبينات {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل} وهذه هي العلّة الجامعة لما عوقبت به تلك الأمم، وفيها أوجه من التفسير كلها صحيحة:
الوجه الأول: فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينات التي جاءتهم بها الرسل، ففيه أنهم كانوا يسألون الآيات والبيّنات تعنّتاً حتى إذا جاءتهم لم يؤمنوا؛ فكان حالهم قبل مجيء الآيات التي سألوها وبعدها في الإيمان واحداً.
وهذا المعنى تكرر ذكره في هذه السورة في مواضع، ومنها سؤالهم وقوع ما وعد الله به كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)}.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)}
والوجه الثاني: فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل، أي فيما مضى من علم الله تعالى بهم، بما كتب عليهم في اللوح المحفوظ، وبأخذه الميثاق عليهم، وجَعْلِه فريقاً في الجنّة وفريقاً في السعير، وهذا قول أبيّ بن كعب رضي الله عنه ومجاهد والسدي رواه عنهم ابن جرير، وفيه بيان للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته أنّ من كُُتب عليه الضلال فلن يهديه أحد بعد الله.
وهذا المعنى تكرر ذكره في هذه السورة في مواضع منها قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} ، وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)}

وحذف المضاف إليه في قوله تعالى: {من قبل} بديع جداً؛ ففيه جمع الوجهين من غير تعارض.
وهذان الوجهان مبناهما على أنّ حرف "الباء" الأول في قوله تعالى: {بما كذبوا به} للتعدية، و"ما" موصولة، أي: فما كانوا ليؤمنوا بالذي كذبوا به من قبل مما أمروا بالإيمان به.


والوجه الثالث: فما كانوا ليؤمنوا بسبب تكذيبهم من قبل، فتكون "الباء" سببية، و"ما" مصدرية.
وهذا الوجه كالتعليل لسبب عدم إيمانهم ، وأنهم إنما طبع على قلوبهم بسبب تكذيبهم من قبل، وهذا فيه تحذير من عواقب الذنوب، كما قال الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}.
وهذا المعنى أشير إليه في مواضع في هذه السورة منها قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}

والآيات من الأربعين إلى الرابعة والأربعين من هذه السورة انتظمت هذه الأوجه الثلاثة انتظاماً بديعاً على هذا الترتيب، وهي تنتظم الأصول الثلاثة المذكورة في صدر هذه الرسالة.

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)} فيه أمران:
أحدهما: الإشارة إلى ما تحتمله الجملة التي قبلها من المعاني، وبيان أنها هي أسباب الطبع على قلوبهم، والعلة الجامعة لذلك هي تعدّيهم لحدود الله، واعتداؤهم على أوليائه.
والأمر الآخر: تحذير المعتدين في زمانه صلى الله عليه وسلم من هذه العقوبة المرتبطة بعلّتها.

والمقصود أنه لم تؤمن قرية من القرى التي حقّت عليهم كلمة العذاب أبداً حتى ترى العذاب، ومما يزيد ذلك بياناً النصّ على ذكر عاقبة فرعون في هذه السورة وإيمانه بلسانه بعد معاينته العذاب كما قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}.

وهذا المعنى الذي دلّ عليه الاستثناء المنقطع في هذه الآية ظاهر في مواضع كثيرة في هذه السورة الكريمة.

واستثناء قوم يونس مع أنّهم لم تحقّ عليهم كلمة العذاب استثناء بيانيّ، وفيه فائدتان:
إحداهما: كشف الإشكال لمن قد يستشكل نجاتهم بعد أن أنذرهم نبيّهم بالعذاب وخرج من بين أظهرهم فآمنوا بعد أن كادوا أن يهلكوا؛ فيظنّ أنَّهم نجوا بعد أن حقَّت عليهم كلمة العذاب؛ فبيَّنت الآية أنّ هؤلاء آمنوا فنفعهم إيمانهم لأنهم لم تحقّ عليهم كلمة العذاب؛ فهذا استثناء منقطع؛ غرضه البيان ودفع إشكال قد يرد من أهل الكتاب فيكون لدى المؤمنين من العلم به ما يدفع الشبهة.
وفيه أنّه لا سبيل للمخلوقين إلى العلم بأنّ كلمة العذاب قد حقَّت على قوم حتى يؤخذوا بالعذاب فيهلكوا وهم على كفرهم وضلالهم.
والفائدة الأخرى: ما نصّ عليه ابن عاشور رحمه الله بقوله: (وفي الآية إيماء إلى أنَّ أهل مكة يعاملهم الله معاملة قوم يونس إذ آمنوا عند رؤية العذاب، وذلك حالهم عند ما تسامعوا بقدوم جيش غزوة الفتح الذي لا قبل لهم به عِدَّة وعُدَّة، فكاد يحلّ بهم عذاب استئصال لولا أنهم عجلوا بالإيمان يوم الفتح؛ فقال لهم النبيء صلى الله عليه وسلم: «أنتم الطلقاء»)ا.هـ.

والاستثناء المتصل على إرادة الاستثناء من جميع القرى، أي: فلولا كانت قرية إلا قوم يونس آمنت فنفعها إيمانها.
واستثناء القوم من القرية يصحّ أن يكون متصلاً باعتبار دلالة القرية على ساكنيها أي: أهل قرية، أو أن القرية اسم لمن تقرَّوا في البيوت؛ فتُطلق القرية على البيوت المتقاربة المأهولة؛ فهي متضمنة لمعنى القوم؛ فيصحّ استثناء القوم من القرية، كما يصحّ استثناء القبيلة من القوم.
وهذا الوجه يجوز فيه الرفع والنصب، لكن قراءة النصب شاملة للمعنيين.
ومن النحاة من ذهب إلى أنّ هذا الاستثناء منقطع أيضاً لأن القوم من غير جنس القرية فيكون النصب على الاستثناء هو الأولى.
وقد جوَّز الفرّاء والزجاج الرفع في غير القرآن على الإبدال، وهي لغة تميم باعتبار أن الاستثناء من جملة التحضيض وهي شبه نفي، والتقدير: ما آمنت قرية إلا قومُ يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم.
- وقال الزمخشري: (وقُرِئَ بالرفع على البدل، هكذا رُويَ عن الجرمي والكسائي).
وهذه القراءة لا أعلم لها أصلاً في كتب القراءات.
- وقال أبو إسحاق الزجاج: (لا أعلم أحداً قرأ بالرفع).


رد مع اقتباس
  #16  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 09:40 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

المثال الثالث: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ}
قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)}
هذه الآية استشكلها جماعة من العلماء حتى قال أبو إسحاق الزجاج: (هذه الآية صعبة في التفسير).
وهي آية كريمة جمعت ببديع تركيبها أنواعاً من الدلالات والأدوات البيانية؛ فاتّسعت ألفاظها الموجزة لمعانٍ واسعة متعددة.
ومن تلك الأدوات والدلالات:
1: الجمع بين المعنى الكوني والمعنى الشرعي في قوله تعالى: {وجعلنا} وقوله: {ما كتبناها}.
2: دلالة النص على ذكر القلوب لصفات من المعلوم أن محلّها القلب بداهة.
3: دلالة معنى التعريف بالاسم الموصول في قوله: {الذين اتّبعوه}.
4: تعدد عامل النصب في قوله {رأفة ورحمة ورهبانية}.
5: دلالة تناسب صفات الرأفة والرحمة والرهبانية.
6: تعدد معنى التنوين في قوله تعالى: {ورهبانية}.
7: الجمع بين الاستثناء المتصل والاستثناء المنقطع في قوله تعالى: {إلا ابتغاء رضوان الله}.
8: تعدد مرجع الضمير في قوله تعالى: {فما رعوها حقّ رعايتها}.
9: دلالة معنى النفي في قوله تعالى: {فما رعوها}.
10: دلالة معنى الإضافة في قوله تعالى: {حقّ رعايتها}.

والحديث المفصّل عن هذه الدلالات والأدوات البيانية يطول به المقام، ولذلك سأقتصر على ما يتحرَّرُ به فهم معنى الآية، وينفتح به باب التفكّر في اتساع دلالاتها وشمولها لأصناف أتباع عيسى عليه السلام وأحكامهم.
ولذلك سأبدأ بمعنى الاستثناء في الآية لاتصاله بكثير من هذه الدلالات، وفيه وجهان يجتمعان ولا يتناقضان:
أحدهما: أن يكون الاستثناء منقطعاً؛ والمعنى: ابتدعوا رهبانية لم يفرضها الله عليهم، وإنما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم يبتغون بها رضوان الله، وأخطأوا في ذلك، وهذا يصدق على طائفة منهم.
والوجه الآخر: أن يكون الاستثناء متصلاً؛ والمعنى: ابتدعوا طريقة في الرهبانية لم يكتبها الله عليهم، وذلك أن الله لم يكتب عليهم الرهبانية ليغلوا بها في دين الله، ويأكلوا بها أموال الناس بالباطل، ولا يصدّوا الناس بها عن دين الله، وإنما ليبتغوا بها رضوان الله؛ فخالف أكثرهم أمر الله تعالى في ذلك.
ويشهد للمعنى الثاني قول الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}

وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}.
والمستثنون هم الذين أثنى الله عليهم من أصحاب الرهبانية الصحيحة، وهذا الوجه يصدق على طوائف منهم.

وعامل النصب في قوله تعالى: {ورهبانية} يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون هو الفعل المتأخر عنها "ابتدعوا"، ويكون المنصوب بـ"جعل" إنما هو {رأفة ورحمة}، و"الواو" بعدهما للاستئناف، وهذا الوجه لا يتأتّى إلا على المعنى الأول.
والآخر: أن يكون عامل النصب هو الفعل "جعل" وهو هنا جَعْلٌ كونيٌّ؛ فاجتمع في الرهبانية المبتدعة معنيان:
- أن الله جعلها بقضائه وقدره وليس بشرعه.
- وأنهم ابتدعوها.
فدلت على خلق أفعال العباد، وعلى نفي الجبر.

وهذا الوجه يشمل المعنيين الأول والثاني للاستثناء في الآية.

وقوله تعالى: {ما كتبناها}
الكتابة هنا تحتمل معنيين:
أحدهما: الكتابة الشرعية بمعنى فرضناها في دينهم، وهو ما يناسب المعنى الأول.
والآخر: الكتابة القدرية، فيكون الضمير عائداً لمجموع الصفات الثلاث "الرأفة والرحمة والرهبانية" أي: ما جعلها الله في قلوبهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله، لكنّ كثيراً منهم فَسَق.
وهذا يفسّر النصّ على ذكر القلوب، فإنه لو لم ينصّ عليها لدلّ على أنّهم تلبسوا بها في جميع أحوالهم في قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم.
فأفاد النصّ على ذكر القلوب على قصور لدى طوائف منهم، فتعبّدوا الله تعالى على جهل، ومنهم من هداه الله.

وقوله تعالى: {فما رعوها} مرجع الضمير على المعنى الأول إلى الرهبانية، وعلى المعنى الثاني إلى الصفات الثلاث.
ومعنى النفي في قوله تعالى: {فما رعوها حقّ رعايتها} يحتمل أمرين:
أحدهما: نفي كمال الرعاية، أي: لم يقوموا كلّهم بما ينبغي من الرعاية الفاضلة التامّة.
والآخر: نفي الرعاية الواجبة، أي: لم يقوموا بالقدر الواجب من الرعاية.
وإسناد النفي إليهم يكون على إرادة العموم إذا أريد نفي كمال الرعاية، أو على التغليب إذا أريد واجب الرعاية؛ فإنّ الأكثر إذا لم يقم بواجب رعايتها صحّ إسناد نفي الرعاية لهم على التغليب.

والإضافة في قوله تعالى: {حق رعايتها} إضافة صفة إلى موصوف، والأصل: رعايتها الحقّ؛ وذلك لتفخيم واجب الرعاية، وليتسع الوصف لأصناف المقصودين؛ فإن منهم من أدى بعض الرعاية.


فانظر كيف دلّت هذه الآية الكريمة، بألفاظ موجزة، وتركيب بديع على معانٍ واسعة، شملت طوائف أتباع عيسى عليه السلام، وأحكامهم، بإيجاز بديع، وإنصاف للمؤمن منهم، وبيان لحال أكثرهم.


رد مع اقتباس
  #17  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 10:56 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

المثال الرابع: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
هذه الآية من أعجب الآيات لبديع تركيبها، وكثرة وجوه التفسير فيها، ودلالة كلّ وجه على معنى يختلف عن الآخر، حتى بلغت الأقوال المأثورة عن السلف فيها نحو ثمانية أقوال، كلّها صحيحة، ويصحّ حمل الآية على هذه الأوجه كلها من غير تعارض كما تحمل على القراءات المتعددة.
قال الشعبي: (أكثر الناس علينا في هذه الآية: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى}). رواه الحاكم في المستدرك.

وتعدد معاني الآية ووجوه التفسير فيها راجع إلى تعدد الدلالات، وسأبدأ بذكر هذه الدلالات ثمّ ألخّص المعاني المتحصّلة منها من غير حصر.
أولا: الخطاب في قوله تعالى: {أسألكم} فيه أربعة أوجه:
أحدها: لقريش.
والثاني: للمذكورين في قوله تعالى: {عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات}.
والثالث: لجميع المكلفين.
والرابع: من باب خطاب غير المعيّن؛ فيعمّ كلّ من يصلح له الخطاب.
وقد قال بكلّ وجه جماعة من المفسّرين.


ثانياً: مرجع الضمير في قوله تعالى: {عليه}، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والفرقان فيكون من باب رجوع الضمير إلى معهود في الذهن، ويخرّج عليه بعض الأقوال المروية عن السلف.
والوجه الآخر: إلى ما يرجع إليه اسم الإشارة في أول الآية {ذلك} وهو الفضل الكبير المذكور في الآية التي قبلها، وعليه أكثر أقوال السلف في تفسير هذه الآية.
ثالثاً: معنى الاستثناء في الآية وهل هو متصل أو منقطع؟
رابعاً: التعريف في المودة قائم مقام التعريف بالإضافة: أي مودة القربى، وهي إضافة تحتمل أن تكون على معنى الفاعل، وأن تكون على معنى المفعول، أي: أي "إلا أن أودّكم في القربي"، و "إلا أن تودوني في القربي".
خامساً: القربى تحتمل معنى القرابة ومعنى التقرّب.
سادساً: التعريف في القربى التي بمعنى القرابة يحتمل أن يكون للجنس، وأن يكون للعهد.

فتركّب من هذه الدلالات والأدوات البيانية معانٍ متعددة، أكثرها مبنيٌّ على أن ضمير الغائب في قوله: {لا أسألكم عليه} راجع إلى الفضل الكبير الذي يبشّر الله به عباده بشرطي الإيمان وعمل الصالحات.
قال الله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
فعرَّفه باسم الإشارة للبعيد إعلاء لمقامه وتفخيماً لشأنه، ثمّ عرّفه بالاسم الموصول زيادة في تفخيمه وتعظيمه، وأنزله منزلة البشارة التي يُستبشر بها ويبتهج بذكرها، ثمّ خصّ بالبشرى بها {عباده} فأضافهم إليه إضافة تشريف وتكريم لتتطلّع النفوس للفوز بهذا الشرف والفضل الكبير؛ ثمّ عرّفهم بالسبيل إليه بأن وصف عباده وعرَّفهم بالاسم الموصول تعييناً لهم وتبييناً لصفاتهم التي من اتّصف بها التحق بهم {الذين آمنوا وعملوا الصالحات}.
فلما ذكر هذا الأمر العظيم وقرر تفخيمه وتعظيمه حتى تهيَّأت النفوس لأن يكون لهذا التبشير والفضل حقٌّ يستحقّه البشير، وأجر لا يُنازع فيه على هذه البشارة العظيمة وعلى الدلالة لسبيل الفوز بها قال: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} وفي هذا معانٍ عدّة هذا تقريبها من غير حصر:
المعنى الأول: قل لا أسألكم عليه أجراً ولكن بشَّرتكم به لمودتي إيّاكم في القربى؛ فيكون الاستثناء منقطعاً، وهو استثناء من السؤال لا من الأجر؛ والبشارة ليست سؤالاً.

والمعنى الثاني: لا أسألكم عليه أجراً، ولكن لي عليكم أداء حقّ المودة في القربى؛ فتسنتصحوني ولا تتهموني، وتصدقوني ولا تكذبوني، وتمنعوني من أعدائي حتى أؤدّي رسالة ربي.
فيكون الاستثناء من الأجر، وهو استثناء منقطع أيضاً؛ لأنّ المودّة في القربى مستحقَّة عليهم قبل هذه البشارة.
ولو قال: "لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة" ولم يذكر القربى لأوهم أن يكون أجره على هذا الفضل هو أن يودّوه، لكنّه نصّ على أنّ المودة في القربى لبيان أنّها مستحقَّة عليهم قبل هذا الأمر.
- قال معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة في جميع قريش، فلما كذبوه فأبوا أن يتابعوه قال: «يا قوم أرأيتم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم، ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم» رواه الطبراني في المعجم الكبير، وابن جرير في التفسير.
- وقال ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: ({قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} أن تتبعوني وتصدقوني وتصلوا رحمي). رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار.
- وقال شعبة: أخبرني عمارة، عن عكرمة، في قوله: ({قل لا أسألكم عليه أجرًا إلاّ المودّة في القربى} قال: (تعرفون قرابتي، وتصدّقونني بما جئت به، وتمنعوني). رواه ابن جرير.
- وقال عبيد بن سليمان الباهلي: سمعت الضّحّاك يقول في قوله: ({قل لا أسألكم عليه أجرًا إلاّ المودّة في القربى} يعني قريشًا يقول: إنّما أنا رجلٌ منكم، فأعينوني على عدوّي، واحفظوا قرابتي، وإنّ الّذي جئتكم به لا أسألكم عليه أجرًا إلاّ المودّة في القربى، أن تودّوني لقرابتي، وتعينوني على عدوّي). رواه ابن جرير.
- وقال سفيان بن عيينة عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن ابن عباس، في قوله: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} قال: «تصلوا قرابتي ولا تكذبوني» رواه الطبراني في المعجم الكبير.
- وقال هشيم بن بشير: أنبأنا داود، عن الشعبي، قال: أكثر الناس علينا في هذه الآية {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فكتب ابن عباس: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط بيت في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا قد ولده؛ فقال الله عز وجل: {قل لا أسألكم عليه أجرا}إلى ما أدعوكم إليه إلا أن تودوني بقرابتي منكم وتحفظوني بها). رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة.
- قال ابن القيّم: (معنى الآية: لا أسالكم عليه أجراً إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة؛ فإنه لم يكن بطنٌ من قريش إلا وللنبيّ صلى الله عليه وسلم قرابة؛ فقال: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً، ولكن صلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وليست هذه الصلة أجراً، فالاستثناء منقطع فإنَّ الصلة من موجبات الرَّحِم؛ فهي واجبة على كل أحد).

والمعنى الثالث: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا أجراً نفعُه لكم، وهو أن تودّوني في القربى؛ فتفتح لكم هذه المودة أبواباً من فضل الله ورحمته وبركاته.
فيكون الاستثناء متصلاً وحقيقته تؤول إلى معنى الاستثناء المنقطع؛ لأن نفع هذه المودّة عائد إليهم؛ كما قال الله تعالى: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} أي نفع عائد عليكم، على أحد الوجهين في تفسير هذه الآية، والوجه الآخر أنها لتأكيد النفي أي لم أسألكم أجراً، ولا تعارض بين الوجهين.

والمعنى الرابع: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا أجراً هو من حقّي عليكم المستحقّ بالقربى، وهو المودة، والاستثناء على هذا المعنى متّصل، وهو سؤال حقّ له استحقَّه عليهم بالقرابة لا بقدر زائد عنها، وهذا فيه إزراء عليهم بتقصيرهم في أداء حقّ القربى، فكان أشبه بالتبكيت، وهو شديد الوقع عليهم.
- قال عبد الملك بن ميسرة: سمعت طاووسًا يقول: سألَ رجلٌ ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما عن قوله عز وجل: {إلّا المودّة في القربى} فقال سعيد بن جبيرٍ: قربى آل محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم؛ فقال ابن عبّاسٍ: عجلتَ، إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن بطنٌ من قريشٍ إلّا كان له فيهم قرابةٌ؛ فقال: «إلّا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة» رواه البخاري والترمذي والنسائي.
- وقال خصيف بن عبد الرحمن: سألت سعيد بن جبير، عن قوله: {لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} فقال: قال ابن عباس: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً من قريش، كلّها له رحم، فقال: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} إلا أن تودّوني في قرابة ما بيني وبينكم» رواه الطبراني في المعجم الأوسط.
- وقال يحيى بن أيوب البجلي: سألت عكرمة عن قول الله عز وجل: ({قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} قال: كانت قرابات النبي صلى الله عليه وسلم من بطون قريش كلها؛ فكانوا أشد الناس له أذى؛ فأنزل الله تعالى فيهم {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى}). رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار.
- وقال حبيب بن الزبير: أتى رجل عكرمة فقال: يا أبا عبد الله قول الله عزّ وجلّ: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} قال: أسبائيٌّ أنت؟
قال: لست بسبائي، ولكني أريد أن أعلم.
قال: إن كنت تريد أن تعلم؛ فإنه لم يكن حي من أحياء قريش إلا وقد أعرق فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانت قريش يصلون أرحامهم من قبله؛ فما عدا إذا جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الإسلام؛ فقطعوه ومنعوه وحرموه؛ فقال الله عز وجل: ({قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} أن تَصِلوني لما كنتم تصِلون به قرابتكم قبلي). رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار.
- وقال معمر عن قتادة في قوله تعالى: {إلا المودة في القربى} قال: (لا أسألكم أجراً على الذي جئتكم به إلا أن توادّوني لقرابتي).

قال: (فكلّ قريش بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة). رواه عبد الرزاق.

- وقال أبو مالكٍ الغفاري: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واسط النّسب من قريشٍ، ليس حيٌّ من أحياء قريشٍ إلاّ وقد ولدوه، قال: فقال اللّه عزّ وجلّ: ({قل لا أسألكم عليه أجرًا إلاّ المودّة في القربى} إلاّ أن تودّوني؛ لقرابتي منكم وتحفظوني). رواه ابن جرير.
- وقال عبد الله بن وهبٍ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلاّ المودّة في القربى} قال: (يقول: إلاّ أن تودّوني في قرابتي كما توادّون في قرابتكم وتواصلون بها، ليس هذا الّذي جئت به يقطع ذلك عنّي، فلست أبتغي على الّذي جئت به أجرًا آخذه على ذلك منكم). رواه ابن جرير.

المعنى الخامس: قل لهم يا محمد لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تتودّدوا إلى الله بالتقّرب إليه بالإيمان وعمل الصالحات، فالقربى من التقرّب، والاستثناء هنا منقطع.
وهذا المعنى رواية عن ابن عباس والحسن البصري.
- قال قزعة بن سويد الباهلي: حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((لا أسألكم على ما آتيتكم من البيّنات والهدى أجرًا، إلّا أن توادوا اللّه وأن تقرّبوا إليه بطاعته)). رواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك.
وقزعة بن سويد محلّه الصدق كما قال أبو حاتم الرازي، فهو غير متّهم بالكذب، لكنه ليس بالمتين في الرواية، ولذلك اختلف فيه أهل الحديث فضعّفه جماعة منهم من جهة خفة الضبط، ووثّقه يحيى بن معين في رواية، وله أحاديث مستقيمة كما ذكر ابن عديّ في الكامل، وقال: أرجو أنه لا بأس به.
وهذه الرواية نحملها على القبول لثلاثة أمور:
1: لأن الراوي ليس متروك الحديث، وليس هذا الحديث مما انتقد به وأعلّ به حديثه.
2: ولأن معناه صحيح تدلّ عليه الآية.
3: ولسلامته من المعارض الراجح.
- قال قتادة: قال الحسن في قوله تعالى: ({قل لا أسألكم عليه أجرًا إلاّ المودّة في القربى}: قل لا أسألكم على ما جئتكم به، وعلى هذا الكتاب أجرًا، إلاّ المودّة في القربى، إلاّ أن تودّدوا إلى اللّه بما يقرّبكم إليه، وعملٍ بطاعته). رواه ابن جرير.
وقريب منه ما رواه معمر وعوف ومنصور بن زاذان عن الحسن قال: (إلاّ التّقرّب إلى اللّه، والتّودّد إليه بالعمل الصّالح). ورواياتهم في تفسير عبد الرزاق وابن جرير وشرح معاني الآثار للطحاوي بألفاظ متقاربة.

المعنى السادس: لا أسألكم عليه أجراً إلا مودّة من يتقرَّب إلى الله، كما قال الله تعالى: {إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا}
وهذا المعنى رواية عن الحسن البصري.
- قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن الحسن في قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} قال: (كلّ من تقرّب إلى الله بطاعة وجبت عليك محبته). رواه البيهقي في شعب الإيمان.

والمعنى السابع: قل لمن اتبعك من المؤمنين لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى أي: إلا أن تودّوا قرابتي، وتحفظوني فيهم، ويكون المراد بالقربى قربى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والتعريف للعهد، والقربى على درجات فأخصّهم آل محمّد صلى الله عليه وسلم ممن تحرم عليهم الصدقة، ثمّ كلّ قريش قرابة للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن عباس: (إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن بطنٌ من بطون قريشٍ إلاّ وله فيهم قرابةٌ).
والخطاب للمعنيين في قوله تعالى: {عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات}
وهذا المعنى قال به علي بن الحسين، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، وقُتل وهو يذكّر به؛ فإنّه لمّا خرج مع أبيه في وقعة الجمل اعتزل القتال ولازم جمل عائشة رضي الله عنها؛ فإذا اقترب منه أحدٌ قال له: أذكّرك حم، يشير إلى هذه الآية؛ فينصرفون عنه، حتى أتاه رجلٌ شاهراً رمحه فذكّره فطعنه وقال في ذلك أبياتاً منها:

وأبيض قوّام بآيـــــــــــات ربّـــــــــــــــه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخــــــــــرَّ صريعاً لليديــــن وللفـــــــــــمِ
يــــــذكّرني حــــم والرمح شــــــــــاجر ... فهـــــــلا تـــــلا حــــــم قبـــــل التقــــدّم

المعنى الثامن: إلا المودة في القربى أي إلا أن توددوا إلى قراباتكم فتصلوا أرحامكم؛ فتكون القربى هنا عامة لجميع المخاطبين ليست خاصة بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى قال به عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان من قرّاء التابعين من أقران سعيد بن المسيّب.
- قال أبو عامر العقدي: حدثنا قرة بن خالد السدوسي عن عبد اللّه بن القاسم، في قوله: {إلاّ المودّة في القربى} قال: (أمرت أن تصل قرابتك). رواه ابن جرير.

فانظر كيف دلّت هذه الآية ببديع تركيبها على جميع هذه المعاني من غير تعارض.
ومن تمرّن على دراسة مسائل التفسير وأقوال المفسرين بتفهّم ما بُنيت عليه الأقوال من الدلالات اتّسع نظره في التفسير، ورأى للقرآن وجوهاً كثيرة من المعاني.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


رد مع اقتباس
  #18  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 12:29 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

أمثلة من أقوال المفسرين:

المثال الأول: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}.
- قال ابن القيّم رحمه الله في "بدائع الفوائد": (قال الزمخشري: "هو استثناء منقطعٌ جاء على لغة تميم، لأن الله تعالى وإن صحَّ الإخبار عنه بأنه في السماوات والأرض، فإنما ذلك على المجاز؛ لأنه مقدَّس عن الكون في مكان بخلاف غيره، فإنَّ الإخبار عنه بأنه في السماء أو في الأرض ليس مجازًا، وإنما هو حقيقة، ولا يَصِحُّ حملُ اللَّفظِ فى حالٍ واحدٍ على الحقيقة والمجاز".
قلت: وقولُه "على لغة تميم" يريدُ أن من لغتهم: أن الاستثناءَ المنقطعَ يجوزُ إتباعُهُ كالمتَّصِل إن صحَّ الاستغناءُ به عن المستثنى منه، وقد صحَّ هاهنا، إذ يَصِحُّ أن يقالَ: لا يعلمُ الغيبَ إلا الله.
قال ابن مالك: والصحيحُ عندي أن الاستثناءَ في الآية متَّصِلٌ، وفي متعلقه بفعل غير "استقر" من الأفعال المنسوبة حقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين كـ: "ذكَرَ" و"يذْكُرُ" ونحوه، فكأنه قيل: "لا يعلمُ مَنْ يُذكَرُ في السَّماواتِ والأرض الغيبَ إلا الله".
قال: ويجوزُ تعليقُ "في" بـ "اسْتَقَرَّ" مستندًا إلى مضاف حُذِف، وأقيمَ المضافُ إليه مقامَهُ، والأصل: "لا يعلمُ من استَقَرَّ ذكره في السَّماوات والأرضِ الغيبَ إلا الله" ثم حذف الفعل والمضاف واستتر المضمر لكونه مرفوعًا.
هذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حال واحد، وليس عندي ممتنعًا لقولهم: " القَلَم أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ" و" الخَالُ أَحَدُ الأبَوَيْنِ" وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الأيْدِي ثَلاثَةٌ: يَدُ اللهِ، ويَدُ المُعْطِي، ويَدُ السَّائلِ)) ). تم كلامُه.
فهذا كلام هذين الفاضلين في هذه الآية، وأنت ترى ما فيه من التكَلُّف الظاهر الذي لا حاجة بالآية إليه، بل الأمرُ فيها أوضحُ من ذلك.
والصوابُ: أن الاستثناءَ مُتَّصِلٌ، وليس في الآية استعمالُ اللَّفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن {من في السَّماوات والأرض} هاهنا أبلغُ صيغ العمومِ، وليس المُراد بها مُعَيَّنًا، فهي في قوَّة "أحد" المنفي بقولك: "لا يَعْلمُ أَحَدٌ الغَيْبَ إلاّ الله"، وأتى في هذا بذكر السموات والأرض تحقيقًا لإرادة العموم والإحاطة فالكلام مُؤدٍّ معنى: "لا يَعْلَمُ أحَدٌ الغَيْبَ إلاّ الله".
وإنما نشأ الوهمُ مِن ظَنِّهم أن الظرفَ هاهنا للتَّخصِيص والتَّقييد، وليس كذلك، بل هو لتحقيق الاستغراق والإحاطة، فهو نظيرُ الصِّفة في قوله تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} فإنها ليست للتخصيص والتَّقييد، بل لتحقيق الطَّيران المدلول عليه بـ"طائر"، فهكذا قوله: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لتحقيق الاستغراق المقصود بالنفي.
ومن تأمَّلَ الآية عَلِم أنه لم يقصدْ بها إلاّ ذلك.
وقد قيل: إنه لا يمتنعُ أن يطلقَ عليه تعالى أنه في السموات كما أطلقَه على نفسه، وأطلقَه عليه رسولُهُ، قالوا: ولا يلزم أن يكون هذا الإطلاقُ مجازًا بل له منه الحقيقة التي تليقُ بجلاله ولا يشابهُهُ فيها شيءٌ من مخلوقاته، وهذا كما يطلق عليه أنه سميعٌ بصيرٌ عليمٌ قديرٌ حيٌّ مريدٌ حقيقةً، ويطلقُ ذلك على خلقِهِ حقيقةً، والحقيقَةُ المختصَّةُ به لا تُماثِلُ الحقيقةَ التي لخَلْقِهِ، فتناوُلُ الإطلاقِ بطريق الحقيقة لهما لا يستلزمُ تماثُلاً حتى يُفَرَّ من نفيه إلى المجاز.
وأما قوله: "إن الظرفَ متعلّقٌ بفعل غير "استقر"، من الأفعال المنسوبة إلى الله وإلى المخلوقين حقيقة كـ "ذَكَرَ ويَذْكُرُ" إلى آخره".
فيقال: حذف عامل الظَّرف لا يجوزُ إلا إذا كان كونًا عامًا أو استقرارًا عامًا، فإذا كان استقرارًا أو كَوْنًا خاصًّا مُقَيَّدًا لم يَجُز حذفُهُ، وعلى هذا جاء مصرَّحًا به في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} لأن المُرَادَ به الاستقرارُ الذي هو الثبات واللُّزومُ، لا مطلق الحصول عنده، فكيف يسوغُ ادّعاء حذفِ عامل الظرفِ في موضع ليس بمعهودٍ حذفُه فيه؟!
وأبعدُ من هذا التقدير ما ذكره في التقدير الثاني أن عاملَ الظرف استقرار مضاف إلى ذكر محذوف استغني به عن المُضاف إليه، والتقديرُ: "استقرَّ ذكرُه "، فإن هذا لا نظيرَ له، وهو حذفٌ لا دليلَ عليه، والمضافُ يجوز أن يُستغنى به عن المُضاف إليه بشرطينِ: أن يكون مذكورًا، وأن يكونَ معلومَ الوضع مدلولاً عليه لئلا يلزمَ اللَّبْسُ.
وأما ادعاءُ إضافة شيءٍ محذوف إلى شيء محذوف، ثم يضافُ المُضاف إليه إلى شيءٍ آخر محذوف، من غير دلالة في اللَّفظ عليه، فهذا مما يُصَانُ عنه الكلام الفصيح فضلاً عن كلام ربِّ العالمينَ!.
وأما قولُه: "على أنه لا يمتنعُ إرادةُ الحقيقة والمجاز معًا" واستدلالُه على ذلك بقولهم: "القَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ "، فلا حُجَّةَ فيه! لأن اللَّسانينِ اسم مثنَّى، فهو قائمٌ مقامَ النُّطق باسمين أُريدَ بأحدهما الحقيقة وبالآخر المجاز، وكذلك: "الخَالُ أَحَدُ الأبَوَيْنِ" وكذلك "الأَيْدِي ثَلاثَةٌ".
وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} فالاستدلال به أبعدُ من هذا كلِّه، فإنَّ الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم من الله وملائكته حقيقةٌ بلا رَيْب، والحقيقةُ المضافة إلى الله من ذلك لا تُماثِلُ الحقيقةَ المُضافةَ إلى الملائكة، كما إذا قيل: "الله ورسولُهُ والمؤمنونَ يعلمونَ أن القرآنَ كلامُ الله "، لم يَجُزْ أن يُقَالَ: إن هذا استعمالُ اللَّفظ في حقيقته ومجازه، وإن كان العِلْمُ المضافُ إلى الله غيرَ مماثِل للعِلْم المُضافِ إلى الرسول والمؤمنين، فتأمَّلْ هذه النُّكَت البديعة، ولله الحمد والمنّة)
ا.هـ.


رد مع اقتباس
  #19  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 12:31 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

المثال الثاني: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلامًا}.
- قال محمد الأمين الشنقيطي: (والظاهر أن قوله: {إلا سلاما} استثناء منقطع، أي: لكن يسمعون فيها سلاماً، لأنهم يسلّم بعضهم على بعض، وتسلّم عليهم الملائكة، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: {تحيتهم فيها سلام} الآية، وقوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم} الآية ، كما تقدم مستوفى.
وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء في غير هذا الموضع أيضا كقوله في الواقعة: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما} وقد جاء الاستثناء المنقطع في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} الآية، وقوله: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}، وقوله: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} وكقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} الآية ، إلى غير ذلك من الآيات، فكل الاستثناءات المذكورة في هذه الآيات منقطعة، ونظير ذلك من كلام العرب في الاستثناء المنقطع قول نابغة ذبيان:

وقفت فيها أصيلاناً أسائلها ... عيّت جواباً وما بالربع من أحد
إلا الأواريّ لأياً ما أبيّنها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
فالأواري التي هي مرابط الخيل ليست من جنس "الأحد".
وقول الفرزدق:
وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن ... لها خاطب إلا السنان وعامله
وقول جران العود:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
«فالسنان» ليس من جنس «الخاطب» و «اليعافير والعيس» ليس واحد منهما من جنس «الأنيس» .
وقول ضرار بن الأزور:
أجــــاهد إذ كان الجهــاد غنيمــــــــــة ... ولله بالعبد المجـــــاهد أعلـــــــــــم
عشيـــة لا تغني الرمــــــاح مكانهـــــــــا ... ولا النبل إلا المشرفي المصـــمم).


رد مع اقتباس
  #20  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 12:36 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

المثال الثالث: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ}.
- قال ابن القيّم رحمه الله في تعداد أمثلة للاستثناء المنقطع: (قوله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ} على أصحّ الوجوه في الآية؛ فإنه تعالى لما ذكر العاصم استدعى معصوماً مفهوماً من السياق فكأنه قيل: لا معصوم اليوم من أمره إلا من رحمه.
فإنه لما قال: {لا عاصم اليوم من أمر الله} بقي الذهن طالباً للمعصوم؛ فكأنه قيل: فمن الذي يُعصم؟! فأجيب بأنه لا يُعصم إلا مَنْ رحمه الله.
ودلَّ هذا اللفظ باختصاره وجلالته وفصاحته على نفي كل عاصم سواه، وعلى نفي كل معصوم سوى من رحمه الله.
فدل الاستثناء على أمرين:
أ: على المعصوم من هو.
ب: وعلى العاصم وهو ذو الرحمة.
وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه وأوجزه.
ولا يُلتفت إلى ما قيل في الآية بعد ذلك، وقد قالوا فيها ثلاثة أقوال أُخَر:
أحدها: أن عاصما بمعنى معصوم، كماء دافق وعيشة راضية، والمعنى لا معصوم إلا من رحمه الله، وهذا فاسد لأنَّ كل واحد من اسم الفاعل واسم المفعول موضوع لمعناه الخاص به؛ فلا يشاركه فيه الآخر، وليس الماء الدافق بمعنى المدفوق، بل هو فاعل على بابه، كما يقال: ماء جارٍ؛ فدافق كجار؛ فما الموجب للتكلّف البارد؟!
وأما عيشة راضية؛ فهي عند سيبويه على النسَب كتامِر ولابِن، أي ذات رِضَى، وعند غيره كنهار صائمٍ، وليل قائمٍ، على المبالغة.
والقول الثاني: إنَّ {من رحم} فاعل لا مفعول والمعنى لا يَعْصِمُ اليوم من أمر الله إلا الراحم؛ فهو استثناء فاعل من فاعل، وهذا وإن كان أقلَّ تكلفاً فهو أيضا ضعيف جداً، وجزالة الكلام وبلاغته تأباه بأول نظر.
والقول الثالث: إنَّ في الكلام مضافاً محذوفاً قام المضاف إليه مقامه، والتقدير: لا معصوم عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله، وهذا من أنكر الأقوال وأشدها منافاة للفصاحة والبلاغة، ولو صرح به لكان مستغثَّا)
ا.هـ.


رد مع اقتباس
  #21  
قديم 11 ربيع الأول 1442هـ/27-10-2020م, 12:40 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تطبيقات الدرس الثامن عشر:
بيّن معاني الاستثناء في الآيات التاليات:
1: قول الله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ}.
2: قول الله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ}.
3: قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً}.
4: قول الله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}.
5: قول الله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا}.


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثامن, الدرس

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:03 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir