الأسلوب الوعظي
اخي المطفف أتدري عظم الذنب الذي تقع فيه, إنه كبيرة من الكبائر. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَمْسٌ بِخَمْسٍ: مَا نَقَضَ قَوْمُ الْعَهْدَ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَلَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَمَا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِيهِمْ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَمَا طَفَّفُوا الْكَيْلَ إِلَّا مُنِعُوا النَّبَاتَ، وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَلَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلَّا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ) خَرَّجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ بِمَعْنَاهُ
و سبب نزول هذه السورة, أن أهل يثرب لما هاجر إليهم النبي صلي الله عليه وسلم وجدهم يطففون الميزان وكانوا أخبث الناس كيلاً فنزلت فيهم هذه السورة كما رَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ.
والويل معناه شدة العذاب في الآخرة وقيل معناه الخسار والهلاك وقيل هو واد في جهنم كما قال ابن عباس إِنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. فيكون هذا الوادي مستقر هؤلاء المطففين, فالمطفف موعد بالخسار والهلاك في الدنيا وفي الأخرة موعود بشدة العذاب في النار وهو الوادي الذي يسيل فيه صديد أهل النار وما أشد نتن ريحه.
ومعني التطفيف كما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمُطَفِّفُ: الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْمِكْيَالَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَحِيفُ فِي كَيْلِهِ فَوِزْرُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: التَّطْفِيفُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ والوضوء والصلاة والحديث. وفي الموطأ قال مالك: ويقال لكل شي وفاء وتطفيف. ويمكن القول بأن التطفيف يشمل الأمرين التطفيف في الميزان إِمَّا بِالِازْدِيَادِ إِنِ اقْتَضَى مِنَ النَّاسِ، وَإِمَّا بِالنُّقْصَانِ إِنْ قَضَاهم ويشمل أيضا التطفيف والنقصان في العبادات في فروضها واركانها وهيئاتها.
وقد توعدهم الله عز وجل بقوله {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} ؟ أَيْ: أَمَا يخافُ المطففونَ مِنَ الْبَعْثِ فِي يَوْمٍ عَظِيمِ الْهَوْلِ، كَثِيرِ الْفَزَعِ، جَلِيلِ الْخَطْبِ، وهو يوم القيامة. والظن هنا معناه اليقين وقيل معناه التردد والمراد أنهم لو أيقنوا أو حتي ترددوا في بعثهم وحسابهم لمنعهم ذلك من التطفيف لأنهم سيحاسبوا علي نقصهم أموال الناس وأكلهم أموالهم بالباطل.
وهذا اليوم العظيم هو يوم الوقوف لفصل القضاء بين العباد واختلف المفسرون في مقداره وما يحدث فيه من أهوال.
فقال بعضهم إن طوله :
1- مقدار ثلثمائة عام كما ورد عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبشير الغفاري: "كَيْفَ أنْتَ صَانِعٌ فِي: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِربّ الْعَالمِين مِقْدَارَ ثَلثِمائَةِ سَنَةٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيا، لا يأتِيُهْم خَبرٌ مِنَ السَّماءِ، وَلا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بأمْر"، قال بشير: المستعان الله يا رسول الله، قال: "إذَا أنْتَ أوَيْتَ إلى فِراشِكَ فَتَعَوَّذْ بالله مِنْ كُرَب يَوْمِ القِيامَة، وَسُوءِ الْحِساب".
2- وقيل مائة عام واستدل بما روي عن ابن عمر، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: يقومون مئة سنة.
3- وبعض يقول: مقدار أربعين عاما. كما في حديث عبد الله بن مسعود، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: يمكثون أربعين عاما رافعي رءوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق كلّ برّ وفاجر، قال: فينادي مناد: أليس عدلا من ربكم أن خلقكم ثم صوّركم، ثم رزقكم، ثم توليتم غيره أن يولي كلّ عبد منكم ما تولى في الدنيا؟ قالوا: بلى، ثم ذكر الحديث بطوله.
4- وقيل خمسين ألف سنة كما روي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقام فيه خمسين ألف سنة» .
أما أهواله فقد ذُكر أن الناس يقومون لربّ العالمين يوم القيامة حتى يلجمهم العرق كما روي عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف أذنيه. وعنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ النَّاس يُوقَفُون يَوْمَ الْقِيامَةِ لِعَظَمَةِ اللهِ، حتى إنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إلى أنْصَافِ آذَانِهِمْ".
ومن رحمته بعباده المؤمنين أنه يخفف عليهم هذا اليوم كما ذكر مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَنِ الْمُؤْمِنِ، حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا) في سَأَلَ سائِلٌ «2» [المعارج: 1]. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَهُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَدْرَ صلاتهم الفريضة. وقيل: إِنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَزَوَالِ الشَّمْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تعالي (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
فليحذر المطفف من هذا الذنب العظيم وليعلم أنه يأكل أموال الناس بالباطل وقد قال الله تعالي ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) وانه سيطلب منه يوم القيامة أداء حقوق الناس الذين أكل اموالهم يوم لا يوجد درهم ولا دينار وأنما يؤخذ من حسناته او يطرح عليه من سيئاتهم, وليعلم أنه موقوف بين يدي الله عزوجل في يوم طويل ثم يحاسب بعد ذلك. فليتقي الله المطفف سواء في الكيل او في العبادة وليحذر عاقبة فعله الوخيمة وليتب من فوره من هذا الذنب وليعمل علي رد المظالم إلي أهلها ما استطاع إلي ذلك سبيلا وليحسن فيما بقي من عمره عسي الله أن يغفر له ويتجاوز عنه إنه ولي ذلك والقادر عليه.