u لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ
· معنى اللام
اللام للتعليل ؛تعليل لقوله "بدلناهم " .
وقوله "ليذوقوا العذاب" أي ليدوم لهم ذوق العذاب ولا ينقطع إلا فهم ذائقون مستمرون عليه.
· دلالة التعبير بالفعل "ذاق"
وعبر بالفعل " يذوقوا" الذي يدل على إدراك شيء يسير من المذوق ؛ والحال أنهم في أشد العذاب وأعظمه كما أخبر الله تعالى ؛ وذلك لبيان أن إحساسهم بالعذاب مستمر في كل حال وحين لا ينقص ولا يزول بسبب الاحتراق ..ذكره الرازي
· الحكمة من تبديل الجلود
- الجلد مركز الإحساس ؛ موصل إحساس العذاب إلى النفس ؛فلو لم يبدّل الجلد بعد احتراقه لما أمكن وصول عذاب النار إلى النفس. وهذا معروف مشاهد في طبيعة خلقة الناس ؛ لما يموت أو يخدر الجلد يصبح فاقد الإحساس؛ فلا يشعر به صاحبه؛ فمهما أوذي في ذلك الموضع أو ضرب لا يشعر بألم . لهذا قبل إجراء العلمية الجراحية للعبد يخدر المكان أو الجزء المريض المراد علاجه
u إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا
· معنى عزيز حكيما
-عزيزا في نقمته إذا انتقم قاله أبو العالية ومقاتل.
أخرج قول أبي العالية ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس عنه
عزيزا في نصرته ممن كفر إذا شاء قاله محمد ابن إسحاق
أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سلمة عنه
حكيما " حكم لهم بالنار قاله مقاتل
مناسبة ختم الآية بصفتي العزة والحكمة
. وحسن ذكر صفتي العزة والحكم بعد ذكر عذاب أهل الكفار المكذبين بآيات الله ؛لبيان أن الله لا يغالبه مغالب إلا غلبه الله ، وهو مع ذلك لا يفعل شيئاً إلا بحكمة وإصابة ، لا إله إلا هو تبارك وتعالى . فكأن فيه رد عن سؤال: كيف يقع العذاب ؛أو كيف يعذب الله الكفار ؛ أو كيف يمكن بقاء الإنسان في النار الشديدة الحرارة أبد الآباد ؛فيقال : أن الله قادر عليهم وهم تحت قبضته لا يعجزه أمرهم ؛ و أن ما يصيبهم من العذاب هو لحكمة أرادها سبحانه وتعالى
-قال ابن عاشور:" فالعزّة يتأتى بها تمام القدرة في عقوبة المجترىء على الله ، والحكمة يتأتّى بها تلك الكيفية في إصلائهم النار.اهـ
قال الله تعالى :
( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا) [النساء : 57]
§ علوم الآية
u مناسبة الآية لما قبلها
-لما ذكر الله وعيد الكفار، عقب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال الصالحة.
u وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
الذين أمنوا بالله عزوجل وبرسوله وبكل ما يجب الإيمان به من آياته الشرعية والكونية وغير ذلك ؛ وعملوا الأعمال الصالحات تقربا إلى الله عزوجل امتثالا لأمر واجتنابا لنهيه
u سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
· تجري من تحتها الأنهار
تجري من تحتها الأنهار أيتجري من تحتها مياه الأنهار، لأن الجاري على الحقيقة الماء.
وهذه الأنهار تجري في جميع فجاجها ومحالها وأرجائها حيث شاؤوا وأين أرادوا .
· خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
خلود أبدي سرمدي ؛ أي نعيم الجنة دائم مستمر لا انقطاع له أبدا ؛ وهم خالدون فيها باقون لا يموتون و لا يحولون عنها ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا . فنعيم الجنة خالد أبدا وهو خالدون أبدا
u لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا
· المراد ب أزواج مطهرة
في المراد بمطهرة قولان : مطهرة طهارة حسية و مطهرة طهارة معنوية
- 1 طهارة حسية
وفي تعين متعلق الطهارة أقول :
أولا :مطهرة من القذر والأذى وهو قول ابن عباس(68)
& التخريج
رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
ثانيا: مطهرة من الحيض والبول والنخام والبزاق والمني والولد . وهو قول مجاهد وروى عن عطاء والحسن والضحاك ، والنخعي وأبي صالح ، وعطية والسدي نحو قول ابن عباس .
& التخريج
قول مجاهد رواه ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
و أما باقي الأقوال فقد ذكرها ابن أبي حاتم معلقة بدون سند
الثالث مطهرة من الأذى والمآثم.وهو قول قتادة
& التخريج
قول قتادة أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد وأبان عن قتادة به
الرابع مطهرة : ولا حيض ولا كلف .وهو قول قتادة
& التخريج
قول قتادة أخرجه ابن أبي حاتم من طريق خليد عن قتادة به
.
. -2 طهارة معنوية
مطهرة من الأخلاق الرذيلة ، والصفات الناقصة . ذكره ابن كثير
ويدخل فيه الطهارة من الذنوب والمآثم كمال قال قتادة
روى ابن أبي حاتم بسنده من سعيد وأبان ، عن قتادة { لهم فيها أزواج مطهرة } قيل : مطهرة من الأذى والمآثم .
الترجيح
وجميع هذه الأقوال متفقة لا تبان بينها فنساء الجنة مطهرة من جميع أقذار الدنيا و عيوبها ونقائصها المعنوية الحسية
u وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا
· معنى الظل
الظِّلُ: عتَمَةٌ تَغْشَى مكانًا حَجَبَ عنه أَشِعَّةً ضوئيّةً حاجزٌ غيرُ شفَّاف.
· معنى ظليل
ظليل نعت للظل وهو مشتق من لفظه ؛ لتوكيد معناه و للدلالة على المبالغة ؛ وهو أسلوب عربي مشهور يأتون بالوصف بلفظ الموصوف لتأكيد الموصوف.
-وقد يأتون هذا الوصف بوزن فعيل : كما هنا ، وقولهم : داء دويُّ ، ويأتون به بوزن أفْعل : كقولهم : لَيْلٌ ألْيَل ؛ ويَوْم أيْوَم ، ويأتون بوزن فَاعل : كقولهم شمس شامس شِعْر شاعر ، ونَصَب نَاصِب وكل ذلك مبالغة في الوصف
قال ابن عاشور :" ووصف بالظليل وصفاً مشتقّاً من اسم الموصوف للدلالة على بلوغه الغاية في جنسه .اهـ
وقال أبو مسلم كما عند أبي حيان :" الظليل : هو القوي المتمكن .
· المراد بالظل الظليل
في ذلك أقوال:
1-ظل ظليل أي؛ يقي الحر والبرد و هو اختيار الزجاج .
قال الزجاج :" أعلم الله - عزَّ وجلَّ - أن ظِل أهل الجنَّة ظليل لا حَرَّ مَعَه ولا بَرْدَ" ..وقال أيضا :"وليس كل ظل كذلك."
2-ظل ظليل أي ؛ ظل دائم لا يستحيل ولا ينتقل، كما يفعل ظل الدنيا، وهو قول الحسن البصري
&تخريج القول
قول الحسن البصري ذكره يحي بن سلام كما في تفسير ابن أبي زمنين.
3- ظل ظليل أي؛ ظل ممدود ؛ فوصف بظليل لامتداده ذكره ابن عطية دون نسبة لأحد
& توجيه القول
واحتج له ابن عطية بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها» .رواه أحمد
4- ظل ظليل أي كثيف؛لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك.. وهو قول الحسن كما عند القرطبي
وعبر عنه وعبر عنه ابن جرير بقوله :" وندخلهم ظلا كَنينًا".
5- وقيل هو ظل عرش الرحمان الذي لا يزول وهو قول الربيع ابن أنس
& تخريج القول
روى ابن أبي حاتم من طريق أبي جعفر عن الربيع بن أنس في قوله { وندخلهم ظلا ظليلا } قال : هو ظل العرش الذي لا يزول .
& توجيه القول:
ولعل وجه هذا القول :
- أن العرش هو أعلى المخلوقات وأرفعها، وكل المخلوقات دونه، وهو سقف الجنة؛ كما ثبت ذلك نصوص السنة فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..: (فإذا سألتُم الله، فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة ) رواه البخاري
- و ثبت أيضا أن للعرش ظل كمال جاء في الحديث عن ابن عباس عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله ). رواه أحمد غيره والحديث صحيح صححه جمع من أهل العلم
وحديث:"( من نَفَّسَ عن غريمه أو محا عنه؛ كان في ظل العرش يوم القيامة) رواه أحمد وغيره وصححه الألباني في ((صحيح الجامع))
- قال الذهبي في ((العلو)): (بلغ في ظل العرش أحاديث تبلغ التواتر) اهـ.
- والأمر الآخر أن ظل الجنة لا يفنى ولا يبيد؛ لعدم فناء الجنة ؛ و كذلك العرش باق لا يفنى ولا يبيد لهذا قال الربيع ظل العرش الذي لا يزول.
- وأيضا لما ثبت لعرش الرحمان من صفات المجد والكرم والعظمة فكانت صفاته بالغة الحسن والكمال ؛ فيكون ظله كذلك هو أكمل الظل و أحسنه وأدومه.
فإذا كان للعرش ظل وهو سقف الجنة أمكن أن يكون الظل الذي في الجنة هو ظل العرش – والعلم عند الله-
وقد يكون مراد الربيع بظل العرش ؛ الظل الذي يكون يوم القيامة في أرض المحشر يوم تدنو الشمس على رؤوس الخلائق حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ ؛ فإن الله يضل من يشاء من عباده بظل عرشه.
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)
وفي رواية "عند سعيد بن منصور (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه..))
لكن هذا يشكل عليه أمور من أهمها أن الحديث وارد في أناس اتصفوا بخصال مخصوصة ؛ فهؤلاء الذين استحقوا أن يظلهم الله ؛ أما الآية فهي عامة في كل من أمن وعمل صالحا.
الترجيح
ومما سبق ذكره من الأقوال في المراد بالظل الظليل كلها معاني صحيحة ؛ لا تعارض بينها وهى بمجموعها تعطي وصفا جامعا للظل الجنة ؛ وأنه قد بلغ الغاية والكمال فيما يدل عليه معنى الظل
× فالعبد يتطلب الظل لما فيه من اعتدل الجو وهذا مقتضى من قال ظل ظليل: أي لا حر ولا بارد وهذا لبلوغ كمال ونهاية اعتداله.فلا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم
×و يطلب الظل أيضا إذا كان دائما بحيث لا يخاف زواله وانحلاله ونسخ الشمس له ؛ وهذا مقتضى من قال ظل ظليل أي دائم و هذا لبلوغ الغاية والكمال في دوامه.
× ويطلب الظل أيضا إذا كان متصلاً لا فرج فيه وهذا مقتضى من قال ظل ظليل: أي كثيف غزير و هذا لبلوغ الغاية والكمال في اتصاله وكثافته وتراكم بعضه على بعض
× ويطلب الظل إذا كان منبسطاً لا ضيق معه وهذا مقتضى من قال ظل ظليل أي ممدود وذلك بلوغ الغاية والكمال في امتداده
فظل الجنة لا يزول. فهو لا ينسخ، ولا ينسلخ، ولا يضمحل، ولا يتدرج، بل هو دائم
لهذا كانت عبارات بعض المفسرين جامعة لهذه المعاني كلها
قال الراغب في المفردات : وظِلٌّ ظَلِيلٌ: فائض. اهـ.
أي فاض هذا الظل في صفاته؛ زادت صفاته حتى بلغت نهايتها وغايتها ؛ كما يقال فاضت صفات الرجل المحمودة ؛ أي عمت عليه وبلغت غايته حتى أصبح لا يكاد يظهر للصفات المذمومة عين.
قال الزمخشري :" وهو ما كان فينانا لا جوب فيه ، ودائماً لا تنسخه الشمس ، وسجسجاً لا حرّ فيه ولا برد ، وليس ذلك إلا ظل الجنة ."اهـ
وقال ابن كثير :" ظَلَّا عَمِيقًا كَثِيرًا غَزِيرًا طَيِّبًا أَنِيقًا.
وإذا ثبت قول الربيع ابن أنس يكون ظل الجنة هو ظل العرش ؛ و ظل العرش بلغ الحسن غايته وكماله؛ لما للعرش من صفات الجلال والجمال والعظمة والكرم والمجد وهو بالغ حسنى غايته ؛ وهو دائم لا يفنى ولا يبيد فكذلك ظله دائم لا يفنى ولا يبيد
نسأل الله أن يجعلنا من أهلها السابقين مع النبيين والصدّيقين .
.u وجه الاقتصار على لذة الجنة و لذة النساء في بيان نعيم الآخرة
قال ابن عاشور:واقتصر من نعيم الآخرة على لذّة الجنّات والأزواج الصالحات ، لأنّهما أحبّ اللذّات المتعارفة للسامعين ، فالزوجة الصالحة آنس شيء للإنسان ، والجنّات مَحّل النعيم وحُسن المنظر "اهـ
u وجه المنة والنعمة بذكر الظل الظليل
ما وجه المنة التي يمتن الله بها على عباده بذكر ظلال الجنة ؛ وفي الجنة نور و لا شمس فيها
يقال أن العبد إذا كان داخل النور ؛والنور محاط به من كل جوانبه لا يقدر على التميز في النظر والتمتع بالأنوار ؛ لكن إذا كان في ظل تميز النور عن الظل فتمتع بالنظر إلى الأنوار.
وهذا أمر مشاهد في الدنيا فنحن نتمتع بالنظر إلى القمر و لا نتمتع بالنظر إلى الشمس وليس ذلك إلا بسبب الظل الذي يكون مع القمر و لا يكون مع الشمس..
وكذلك أهل الجنة يجدون تمتعا بالنظر إلى الأنوار ولا يحصل لهم ذلك إلا بوجود الظل...
والله أعلم