بحث المستوى السادس
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث نهاية المستوى السادس
أسلوب التقرير العلمي
في تفسير قوله تعالى :
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[البقرة 260]
( الله ولي الذين آمنوا ) ولأنه وليهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور ... ولأنه سبحانه يتولاهم فينزل السكينة في قلوبهم ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) ... ويغمر قلوبهم بالطمأنينة إذا ذكروه ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ليتلقوا البشارة إذا بلغت الروح الحلقوم ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) ؛ وأي نداء أجمل من هذا النداء نداء الطمأنينة ، وتلك البشارة : بشارة الرضا ...
في هذه الآية خليل الرحمن ينشد الطمأنينة فيقول لمولاه ( ولكن ليطمئن قلبي ) ... فيسأله أن يريه إحياء الموتى في سياق تتحدث فيه الآيات عن البعث و الإحياء ؛ لترسخ الأقدام فيها وتطمئن القلوب ، ولتحاجج فيها وترى العلم عيانا ...
تنتقل الآيات إذن إلى خليل الرحمن ،،، الحليم الأواه المنيب ... الذي آتاه الله رشده وآتاه حجته وأراه من ملكوت السموات والأرض وجعله من الموقنين ؛ تأخذنا الآيات في صورتين مع الخليل .. صورة إبراهيم عليه السلام وهو يحاجج من آتاه الله الملك في صفات الإله المعبود رب العالمين ليقول ( إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت )
ثم صورته وهو يطلب من الله عز وجل أن يريه ذلك الأمر عيانا ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) ...
وبين هذا وذاك يجلي الله حقيقة الإحياء بعد الإماتة والبعث بعد الموت ... لصاحب القرية ليعلم أن الله على كل شيء قدير ثم لخليله عليه السلام ليطمئن قلبه بالعيان والمشاهدة بعد العلم والخبر ...
♦ولأن هذه الآية تطرح عددا من الأسئلة حول سؤال إبراهيم عليه السلام ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى ، وسبب هذا السؤال ، ومعنى طمأنينة القلب هنا ... آثرت أن أكتب تفسير الآية كلها بما ترجح من تفسيرها ومعناها ثم أنتقل للإجابة عن الأسئلة التي أثيرت حولها :
🔹
والإشكالات التي طرحت حولها :
- هل شك إبراهيم عليه السلام في قدرة الله على إحياء الموتى ؟
- وما معنى قول رسولنا عليه الصلاة والسلام ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) وعلاقته بمعنى الآية ؟
- ما سبب سؤال إبراهيم عليه السلام ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ؟
- ما معنى ليطمئن قلبي ؟ وما هي الطمأنينة التي ارادها الخليل عليه السلام ؟
- لم أجاب الله سؤال الخليل في رؤية إحياء الموتى ولم يجب موسى عليه السلام في قوله ( رب أرني أنظر إليك ) ؟
- الإسرائيليات الواردة في الآية والتعامل معها
1- سبب سؤال إبراهيم عليه السلام رؤية الإحياء
2- الطير التي أمر بتفريقها على الجبال
3- عدد الجبال التي أمر بتفريق الطير عليها
🔹
تفسير الآية :
في سياق الآيات التي ترسخ حقيقة البعث بعد الموت والإحياء بعد الإماتة يأتي طلب إبراهيم عليه السلام ...
طلب الرؤية عيانا ...
وهذه الآية تدل على أن رؤية المغيبات عيانا ليس شرطا للإيمان ، بل يتم الإيمان خبرا ويزداد رسوخه استدلالا ويطمئن عيانا ، فإن إبراهيم عليه السلام كان مؤمنا موقنا قبل أن يطلب إحياء الموتى .. ولذلك لما سأله الله مقررا إيمانه ( أولم تؤمن ؟ قال بلى ) آمنت وأيقنت ...
وإنما رؤية المغيبات عيانا منزلة يمن الله بها على من يشاء من عباده كما من على رسولنا الكريم في رحلة المعراج ليريه من آياته الكبرى ..
🔹
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ :
- وإذ : ظرف منصوب
قيل نصب
أ. بإضمار ( واذكر ) كقوله تعالى ( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت )
أي واذكر يا محمد قول إبراهيم إذ سأل ربه رؤية كيفية إحياء الموتى ... اذكر ذلك لقومك وللناس واذكره في القرآن
ب. وقيل بالعطف على جملة ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ) أي وألم تر إذ قال إبراهيم ...
و( تر ) أو ( تذكر ) في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى العلم ... ألم تر : أي ألم تعلم ...
▪
قال مكي في الهداية :
“إذ " في موضع نصب بمعنى: " واذكر ".
وقيل: هو معطوف على ما قبله لأن قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ}: ألم تر بقلبك يا محمد، فتذكر الذي حاج، وتذكر إذ قال إبراهيم
وقد أوصى الله نبيه أن يذكر لقومه قصة إبراهيم عليه السلام ، وقص عليه قصة الذي مر على قرية خاوية لأن قومه والذين عاصروا دعوته كانوا أكثر الناس شكا بالبعث بعد الموت ، بل إن أحد أهم أسباب كفرهم هو إنكارهم للبعث بعد الموت .. فجاءت هذه الصور المادية لتبين لهم ذلك بتجارب بشرية مرت فيمن قبلهم ...
🔹
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ
- رب : حذفت ياؤه للنداء والدعاء تخفيفا وتحببا
قال الشوكاني : آثره على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء
- أرني : الرؤية هنا هي الرؤية البصرية لا القلبية
- قال الأخفش : لم يرد رؤية القلب إنما أراد رؤية العين
- وقال الشوكاني : ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية هنا لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة
والأصل في الفعل ( رأى ) البصرية أن تنصب مفعولا واحدا ، لكنها هنا نصبت اثنين لدخول الهمزة ( أرني )
فالمفعول الأول ياء المتكلم ، والثاني جملة ( كيف تحيي الموتى )
- وسؤال الخليل ربه هنا هو سؤال عن كيفية إحياء الموتى لا إمكانها ، ويدل على ذلك السؤال ب( كيف ) الذي يسأل به عن الهيئة والكيفية ، لا ب( هل ) التي يسأل بها عن الإمكان ...
▪والسؤال عن الكيفية هي كما يسأل أحد وقد علم أن محمدا قاض : كيف يحكم محمد بين الناس ؛ فهو سؤال عن كيفية لا عن شك في أن محمدا قاض ...
ولو كان السائل يسأل عن ثبوت ذلك أو عدمه لقال ( أمحمد قاض أو يحكم بين الناس ؟) أو ( هل هو يحكم ؟!)
▪قال ابن منير الإسكندراني في الانتصاف : وسؤاله ( كيف تحيي الموتى ) ليس عن شك والعياذ بالله في قدرة الله على الإحياء ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ..
ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها ، فإنما هي طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه ، ويدل على ذلك السؤال بكيف وموضوعها السؤال عن الحال .
فأراد الخليل أن يريه الله كيف يكون جمع اللحم والعظم وإعادة الحياة إلى الميت بعد بلاه وتفرقه ...
▪فهو إذن سؤال من يعلم يقينا أن الله محيي الموتى ، ويدل على ذلك تعريفه ربه في محاججته النمرود ( قال ربي الذي يحيي ويميت ) فهذا متقرر خبرا ويقينا واستدلالا عند إبراهيم عليه السلام
وهو سؤال من تاقت نفسه لتنتقل من علم اليقين إلى عين اليقين ، ومن تاقت نفسه لرؤية ما علمته يقينا كما تتوق نفوسنا لرؤية الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام مع إيماننا به ، لكنه الشوق والتطلع إلى الرؤية ، وكذلك رؤية الجنة مع علمنا يقينا بوجودها وإيماننا بها ... وهو فطرة جبلت عليها الطبيعة البشرية ... ومثل ذلك حديث آخر أهل الجنة دخولا الجنة ... إذ كلما أدناه الله من الجنة طلب القرب أكثر والمعاينة أكثر ثم الملابسة ...
وإن لإبراهيم عليه السلام نفسا تواقة دائمة الطلب للترقي ؛ وإن له نفسا تطمح أن تصل في مراقي القرب والطمأنينة وسكون الفكر ما لم يصل غيرها ... وهو دائم النظر والتفكر ودائم الجولان بفكره في حقائق الأشياء ... كما ورد في مواضع عدة من القرآن ... فكان من ذلك هذا السؤال ...
▪وقال القرطبي : قال الجمهور : إنما طلب المعاينة وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به .
♦ولأن السؤال ب( كيف ) قد يراد به مجازا التعجيز كقول شخص لآخر أخبره أنه يستطيع رفع صخرة عظيمة ، فيقول له متحديا لا إيمانا بقدرته( أرني كيف ) ، ورغم أن المعنى الحقيقي ينبغي ألا يتحول عنه إلى مجاز إلا لضرورة ، ورغم أن المعنى مفهوم أن الخليل عليه السلام موقن بالقدرة وإنما أراد المشاهدة والعيان إلا أن الله أراد نفي الاحتمال والشك عنه ، فقال تعالى :
🔹
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ
قالوا : لما كان الله عالما بما في الصدور ، وهو عالم بحقيقة إيمان إبراهيم عليه السلام وبسبب سؤاله فما فائدة الاستفهام ؟
قال العز بن عبد السلام في كتابه ( فوائد في مشكل القرآن ) : لا شك أنه تعالى وتقدس عالم بأنه أعرف الناس إيمانا وأقواهم يقينا ، لكن سأله ليجيب بما أجاب فيعلم السامعون غرضه من ذلك السؤال .
وغرضه إضافة العيان إلى الإيقان لا الشك والتردد في الإيمان .
- قال أولم تؤمن
والهمزة هنا همزة تقرير لا استفهام
وهي كقول جرير : ألستم خير من ركب المطايا
أي أنتم كذلك
وكذلك هنا أولست قد آمنت أي أنت آمنت وأيقنت أني أحيي الموتى
- قال : بلى : ويكون جواب الخليل واثقا بلا تلكؤ ولا تردد مقرا بإيمانه : بلى قد آمنت يا رب وأيقنت بقدرتك على الإحياء
▪قال القاسمي في تفسيره : بلى آمنت ولكن سألت لأزداد بصيرة وسكون قلب برؤية الإحياء، فوق سكونه بالوحي. فإن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين
🔹
وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ
ولكني سألتك ذلك لأني أحببت أن يطمئن قلبي بالمشاهدة والعيان بعد أن اطمأن بالخبر والاستدلال
وسألتك شوقا لرؤية ما علمته يقينا فإن نفسي قد تاقت لرؤيته
وليسكن الفكر في قلبي بكيفية الإحياء فأنتقل إلى عين اليقين بعد أن علمت علم اليقين
▪
فإن اليقين مراتب :
أولها علم اليقين ، وهو ما لا يشك فيه من اليقين بالغيبيات كلها التي نعلمها بالخبر اليقين
فإن رأى ما علمه يقينا كان ذلك عين اليقين
فإن عايشه صار حق اليقين وهو أعلاها جميعا
فنحن نعلم أن الله أعد الجنة لعباده المؤمنين ، فهذا علم يقين ، وحين نرى الجنة بإذن الله فذلك عين اليقين كما قال تعالى ( ثم لترونها عين اليقين ) ، فإن دخلناها برحمة من الله وفضل فذلك حق اليقين ... كما قال تعالى في سورة الواقعة بعد ذكره أهل الجنة ينعمون وأهل النار يعذبون ( إن هذا لهو حق اليقين )
▪
وقال أبو بكر الوراق : اليقين على ثلاثة أوجه : يقين خبر ويقين دلالة ويقين مشاهدة
- قال ابن القيم :
يريد بيقين الخبر سكون القلب إلى خبر المخبر وتوثقه به ، ويقين الدلالة أن يقيم له الأدلة على ما أخبر به مع وثوقه بصدقه ،
ويقين المشاهدة وهي الدرجة الثالثة بحيث يصير المخبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم
▪وقال : اليقين ملاك القلب ، وبه كمال الإيمان ، وباليقين عرف الله وبالعقل عقل عن الله .
▪وقال الجنيد : اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب
ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا وانتفى عنه كل ريب وسخط وهم وغم ؛ ومتى وصل القلب إلى اليقين اطمأن وسكن .
▪ والطمأنينة كما قال أبو هلال العسكري : الطمأنينة أصلها الانخفاض ، والمطمئن من الأرض المنخفض ؛ ثم استعمل في السكون
▪و قال ابن القيم :
الطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه ...
وقال : فالطمأنينة موجب السكينة وأثر من آثارها وكأنها نهاية السكينة ، وهي سكون القلب مع قوة الأمن الصحيح الذي ليس أمن غرور .
وسبب صحة هذا الأمن المقوي للسكون شبهه بالعيان بحيث لا يبقى معه شيء من مجوزات الظنون والأوهام ، بل كأن صاحبه يعاين ما يطمئن به فيأمن به اضطراب قلبه وقلقه وارتيابه .
ثم قال : والاستراحة في منزل الطمأنينة تكون مع زيادة أنس وذلك فوق مجرد الأمن وقدر زائد عليه ..
وكذلك فإن الطمأنينة تكون في العلم والخبر به ، واليقين والظفر بالمعلوم .
فأجاب الله خليله إلى سؤله وأكرمه بأن أراه ما طلبه بل جعل ذلك على يديه ؛ وذلك منة من الله وفضل ، فقال :
🔹
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ
حقق الله سؤل خليله فأمره أن يأخذ أربعة من الطير ...
واختيار الطير دونا عن سائر الحيوان كما قال الأنصاري لزيادته عليه بطيرانه فيكون ذلك أبلغ في الرؤية والمشاهدة ..
وقيل لأن الطير أطوع له وأسهل في تقطيعها وتوزيع أجسادها من سائر الحيوان
واختلف في نوع الطير على أقوال كما سيأتي بيانه في مناقشة الروايات ، ومن المعلوم أن ما سكت الله في كتابه ولم يبينه رسوله في سنته من عدد أو نوع أو اسم فليس من معرفته زيادة علم ولا فهم للآية ؛ وليس من جهله نقص في الفهم والعلم ... فكما قال ابن كثير عند ذكره حصول الاختلاف في نوع الطير : والمقصود حاصل على كل تقدير
فأخذ عليه السلام الطير كما أمر ... فصارهن إليه ...
▪
فصرهن إليك :
والفاء للترتيب بلا مهلة و للتعقيب
- صرهن : قرئت : فصُِرهن : بضم الصاد ، وبكسرها ..
- فقرأ حمزة وابو جعفر ورويس وخلف العاشر بالكسر
- والباقون بالضم مع التخفيف في كلتيهما
- ووردت قراءتان لابن عباس ( صَرِّهن )( صُرَّهن )وهما شاذتان
▪
واختلف في معنى ( صرهن ) بالضم وبالكسر على قولين :
1- أنهما لغتان ومعناهما واحد وهو الأرجح
- صرهن : بالضم من صار يصور ، وبالكسر من صار يصير
- فقال اليزيدي : ( صرهن ) بالضم والكسر لغتان والمعنى واحد
واختلف في هذا المعنى للكلمتين فقيل هنا بمعنى :
أ. أملهن واجمعهن واضممهن إليك
ب. أو قطعهن وشققهن وفرق أجزاءهن
والمعنى الثاني هو ما رجحه الطبري وأيده ابن عطية في ترجيحه لسياق الآية ، والحقيقة أن الآية تحتمل المعنيين
2- أن قراءة الضم بمعنى الجمع والإمالة وقراءة الكسر بمعنى القطع
فالمعنى على كلا القولين دائر بين الجمع والإمالة ؛ والتقطيع
- فإن كانت بمعنى أملهن واجمعهن أي فخذ أربعة من الطير فاجمعهن إليك وتفحصهن واعرف أشكالهن ثم ( وهنا قالوا بوجود محذوف تقديره قطعهن ) دل عليه قوله (
ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) ... أي ثم قطعهن وفرق أجزاءها على الجبال
- وعلى تقدير معنى قطعهن وشققهن ومزقهن فيكون في الآية تقديم وتأخير ، إذ يكون التقدير خذ إليك أربعة من الطير فصرهن أي قطعهن ثم اجعل على كل جبل جزءا منها
[ وسيأتي الخلاف في معنى الكلمة في المناقشة بعد التفسير ليكتمل التفسير بالراجح من المعنى دون تشتيت له ]
فأمر الله الخليل أن يأتي بأربعة طيور ، فيجمعها إليه ويتفحصها ويعرفها ويميزها ثم يقطعها ويمزق ريشها ولحومها ويخلطها ببعضها ثم يقسمه
▪
قال أبو يحيى زكريا الانصاري في ( فتح الرحمن ) :
التقييد بالأربعة في الطير ثم في الأجبل بعده : للجمع بين الطبائع الأربعة في الطير ، وبين مهاب الرياح من الجهات الأربع في الأجبل ( الأجبل أي الجبال )
وقيل غير ذلك ...
🔹
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا
كل : لفظ من ألفاظ العموم
وهو يدل على الإحاطة بما أضيف إليه ... وهو يدل على الجمع
فأمر الله نبيه بعد أن ذبح الطير وقطعها وفرق أعضاءها عن بعضها أن يفرق هذه الأجزاء على الجبال ... وكل جبل أي كل جبل تصل إليه ولك إلى وصوله سبيل ...
وكان أمر الله له بذلك ليرى إبراهيم عليه السلام كيفية تجمع الأجزاء المتفرقة في أماكن شتى ، كيف يؤلف الله بعضها إلى بعض ويجمعها بعد تفرقها وتمزقها وتبعثرها فيرجعن كهيأتهن قبل ذبحن وتقطيعهن ...
🔹
ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ
ادعهن : أي نادهن
فأمره الله أن ينادي الطير إليه بعد تفرقه فيقول : تعالين إلي بإذن الله
وقيل : هل كان أمر الله له بدعائهن وهن ممزقات لا حياة فيهن ؟ أم كان بعد إحيائهن؟
وإن كانت الأولى فكيف ينادى من لا حياة فيه ، وإن كانت الثانية فما حاجة ندائهن وقد أحيين ؟
قيل : إنما نداؤه لهن وهن ممزقات هو أمر إيجاد وتكوين لا أمر عبادة ، وهو كقوله ( كونوا قردة خاسئين ) فهو لم يأمرهم ليطيعوا ، وإنما هو قوله للشيء كن فيكون
معنى ما أجاب به الطبري ...
وقال الشعرواي رحمه الله أن في هذا إشارة إلى الفرق بين قدرة واجب الوجود سبحانه إذ قدرته مطلقة يهب من شاء من خلقه قدرة على شيء ليس من عادة البشر كما أعطى عيسى عليه السلام القدرة على الشفاء وإحياء الموتى ، وكذلك هنا لإبراهيم عليه السلام إذ أحيا له الطير بندائه ؛ فكله بأمر الله وبإذنه ..
وأما قدرة المخلوق ممكن الوجود لا تتعدى غيره ولا يستطيع أن يهب منها أحدا غيره
- سعيا : أي مشيا مسرعا جادا على أرجلهن ، وذلك أبلغ في رؤية إبراهيم عليه السلام للطير تجتمع بعد تفرق وتحيى بعد بلاها وتأتيه بعد ابتعادها
قال الثعلبي : والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبلغ في الحجة وأبعد من الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطير أو ان أرجلها غير سليمة والله أعلم
قال الخليل : ولا يقال للطير إذا طار : سعى
🔹
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
عزيز لا يغالب ولا يغلبه شيء ولا يمتنع عليه شيء ، وما شاء كان بلا ممانعة ولا مغالبة
حكيم : يجري الأمور بمقاديرها وفق حكمته سبحانه فهو ذو الحكمة البالغة لا يعجزه شيء ولا تحكمه أسباب المخلوقات ...
والحكمة هي وضع الشيء في موضعه
والله حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره فلا يكون شيء خير مما قدره الله أو شرعه لعباده ... سبحانه
أي واعلم يا إبراهيم أن الله الذي أحيا لك الطير بين يديك وجمعها بعد بلاها وتفرقها حتى أعادها إليك كما كانت من قبل عزيز في بطشه إذا بطش بمن خالفه ، حكيم في أمره ..
وخَتْمُ الآية بهذين الاسمين لخير دليل على أن إبراهيم عليه السلام كان موقنا لما سأل الله أن يريه كيفية إحياء الموتى ، ذلك أن الله ختم الآية التي سبقت هذه الآية والتي تعجب فيها الذي مر على القرية من إمكانية إحيائها بعد موتها ، فقال متعجبا :(
أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) فلما أراه الله الإحياء عيانا قال تعالى (
فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) وفرق واضح بين التعبيرين والخاتمتين .. فالحديث في قصة صاحب القرية عن القدرة والإمكانية فناسبته تلك الخاتمة
- بينما سؤال الخليل كان حب رؤية ومعاينة شوقا لذلك وطلبا لكمال اليقين والعلم لا عن إمكانية وقدرة لذلك ناسب الختام بالعزة والحكمة ...
وبعد بيان معنى الآية وهي هكذا بظاهر دلالتها .. طلب طمأنينة ورفعة وعلو ... وتجربة فريدة ؛ وإكرام للخليل ...
نأتي الآن لبيان بعض ما بتعلق فيها من أجوه خلاف في المعاني أو إشكالات عرضت للمفسرين فيها ...
♦
الأقوال الخلافية التي وردت في تفسير الآية :
🔹
الخلاف في معنى صرهن :
قلنا انها قرئت ( صرهن ) بضم الصاد وفتحها مع التخفيف
- واختلف في هذا المعنى على أقوال :
أ .
صرهن : أملهن واجمعهن وضمهن ووجههن إليك
كما يقال : صُر أو صِر وجهك إلي : أي أقبل به علي
قال الخليل : يقال: فلانٌ يصُورُ عُنُقَه الى كذا أي مالَ بعُنُقه ووَجْهِهِ نحوَه، والنعت أصْوَرُ .
وهو قول رواه الطبري عن : عطاء وابن زيد
- فروى عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن ( فصرهن ) قال : اضممهن إليك
- وعن ابن زيد قال اجمعهن
▪وأخذ به نحوييو الكوفة كالفراء وابن قتيبة
فقال الفراء أنهما جميعا بمعنى واحد وهو من الإمالة
وقال أن العرب على لغة الضم ، والكسر لغة هذيل وسليم
ب.
قطعهن وشققهن ومزقهن .. وهو ما رجحه نحوييو البصرة في هذا الموضع ورجحه الطبري وقال أنه أولى بالصواب هنا لكثرة ما ورد من أقوال تؤيد ذلك
فبينوا أنه سواء قرئ بالكسر أو الضم فالمعنى في هذا الموضع واحد وهو : قطعهن
وهو مروي عن مجاهد وقتادة والضحاك والسدي والربيع وعكرمة أن صرهن أي قطعهن .
- روى الطبري عن ابن عباس والضحاك : أنها نبطية
وأنها تعني شققهن ، وعن عكرمة أنها بالنبطية قطعهن
- وروى عن ابن عباس قال : إنما هو مثل قال قطعهن ثم اجعلهن في أرباع الدنيا .. وروى مثله ابن ابي حاتم عن ابن عباس
- كما روى الطبري عن أبي مالك مجاهد والسدي وابن إسحق قالوا : قطعهن
- وروى عن مجاهد قوله : انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا ... وعن قتادة والربيع مثله
وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد وقتادة مثله
وبمعنى القطع قال الأخفش
▪بينما قال الفراء أن معنى التقطيع غير معروف في كلمة ( صرهن من صار يصير أو يصور )
قال الفراء : ( ولم نجد قطعهن معروفة من هذين الوجهين ( صُرهن و صِرهن )
ثم قال :ولكني أرى- والله أعلم- أنها إن كانت من ذلك أنها من صريت تصري
أي أنه جعلها من المقلوب ، فتكون لام فعله مكان عينه
كقول العرب : بات يصري في حوضه أي استقى ثم قطع
واستقى
ورد الطبري هذا القول ( أي أنها من المقلوب ) وضعفه
🔺
وبين ابن الأنباري أن كلمة ( صرهن ) من الأضداد وهي بالمعنيين : صرت الشيء إذا جمعته ، وصرته إذا قطعته ومزقته
▪وقد قال الخليل في العين ، واليزيدي وقطرب أنهما بالمعنيين معا
▪و قال الراغب :
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَ
أي: أَمِلْهُنَّ من الصّوْرِ، أي: الميل،
وقيل: قَطِّعْهُنَّ صُورَةً صورة،
وقرئ: صرهن وقيل: ذلك لغتان، يقال: صِرْتُهُ وصُرْتُهُ،
2-
وفرق بعضهم فقال :
- بل معنى قراءة الضم من صار يصور إذا مال إلى الشيء
يقال : إني إليكم أصور أي مشتاق مائل
وعليه فصرهن بالضم أي أملهن إليك واجمعهن واضممهن نحوك
- وصرهن بالكسر من صار يصير بمعنى قطعهن
وهو قول أبي عبيدة معمر بن المثنى
قال : فمن قال صرت تصور ضم قال : ضمهن إليك ، ثم اقطعهن
ومن جعل صرت أي قطعت وفرقت
🔺
وعلى أي المعنيين حملت فالمعنى في الآية واحد :
1- فمن قال صرهن أي أملهن يكون تقدير الكلام هنا على محذوف : أي خذ أربعة من الطير فاجمعهن وأملهن إليك ثم قطعهن ثم اجعل على كل جبل جزءا
قال ابن قتيبة : “فأضمر "فقطعهن"، واكتفى بقوله: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ) عن قوله: فقطعهن. لأنه يدل عليه. وهذا كما تقول: خذ هذا الثوب، واجعل على كل رمح عندك منه عَلما.
2- وعلى معنى التقطيع يكون في الكلام تقديم وتأخير : أي خذ إليك أربعة من الطير فصرهن أي قطعهن
🔺
وأما قراءتا ابن عباس :
1- صَرِّهن من التصرية أي الحبس ( ومنه الغنم المصراة )ذكره الثعلبي
- وروى الطبري عن ابن عباس قال : صرهن : أوثقهن
- وروى ابن أبي حاتم قال : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ قَالَ: صُرْهُنَّ: أَوْثِقْهُنَّ. فَلَمَّا أَوْثَقَهُنَّ، ذَبَحَهُنَّ، ثُمَّ اجعل على كل جبل منهن جزءا.
2- وصُرَّهن من الصر وهو الشد ( ومنه صرة المال ) وتكون بمعنى الجمع والضم والشد
▪ وذكر القرطبي أن من القراءات ( صِرّهن ) أي صيحهن إليك من قولك صرّ الباب أو القلم إذا صوّت وهو منسوب إلى النقاش حيث قال :وقرئ: (فَصُرَّهُنّ) من الصّرِيرِ، أي: الصّوت، ومعناه: صِحْ بهنّ ،
وعقب القرطبي بقول ابن جني أنها قراءة غريبة
وهذا المعنى ذكره الخليل فقال :
“وعُصفورٌ صَوّارٌ: وهو الذي يُجيب الدّاعي. وقوله تعالى: ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) أي فشفِّقُهُنَّ اليك، قال: فقال له الرحمن: صرْها فإنّها تأتيك طوعاً عند دعوتك .
قال الراغب في المفردات : وقال بعضهم: صُرْهُنَّ، أي: صِحْ بِهِنَّ
▪وذكر ابن أبي حاتم وجها آخر قال : صرهن أي علمهن ، فعلمهن أن يجبنه إذا دعاهن
قال : عن عمرو بن مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ فَصُرْهُنَّ قَالَ: عَلَّمَهُنَّ، حَتَّى كَانَ إِذَا دَعَاهُنَّ أَتَينَهُ. ثُمَّ شَقَّقَهُنَّ، فَدَعَاهُنَّ، فَأَتَينَهُ كَمَا كُنَّ يَأْتِينَهُ قَبْلَ أَنْ يُشَقَّقْنَ.”
وهو معنى غريب هنا
والراجح هو ما مر من أنها بمعنى التقطيع وهو الأرجح أو بمعنى الجمع والضم والتقطيع يفهم من سياق الآية
🔹
التساؤلات والإشكالات التي أثيرت حول هذه الآية :
ورد على هذه الآية إشكالات وحامت حولها ظنون وتساؤلات وهي :
لماذا سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ؟ هل كان عليه السلام شاكا في ذلك ( حاشاه ) فأراد إزالة الشك ، وهل زوال الشك هي الطمأنينة التي نشدها في قوله ( ليطمئن قلبي )؟
وإن كان عليه السلام لم يسأل شكا فلماذا قال نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام : نحن أحق بالشك من إبراهيم ؟
وسأذكر هنا ما ورد من أقوال في ذلك مع نسبتها لقائليها وتخريجها
ثم أناقش الأقوال بإذن الله :
♦
هل شك إبراهيم عليه السلام في القدرة ؟
وهنا لا بد من معرفة ما الذي أثار هذه الشبهة في هذه الآية ، فإن نبي الله موسى عليه السلام سأل ربه أن ينظر إليه فقال ( قال رب أرني أنظر إليك ) ومع ذلك لم يتطرق أحد إلى تفسير سؤاله ربه رؤيته بالشك - حاشاه عليه السلام - ، فما الذي أثار الهذا التساؤل هنا :
▪
لعل أكبر ما أورد هذه الشبهة هنا أمران :
1- سؤال الله لإبراهيم عليه السلام ( أولم تؤمن ) فمع أن السؤال تقريري ، لكن البعض فهمه بغير ذلك
2- حديث رسول الله في الصحيحين ( نحن أحق بالشك من إبراهيم )
ولأن تفسير الحديث وإزالة اللبس في معناه يجلي معنى الآية ويوضحها فسيكون البيان لمعنى الحديث ومن خلاله التطرق للإجابة على معنى الآية والإشكالات فيها ...
♦
أولا : الحديث :
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، وَسَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } . رواه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير ورواه أحمد بذلك في مسنده
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَالَ : {
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } . قَالَ : وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ ". رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب زيادة طمأنينة القلب ، وفي كتاب فضائل الأنبياء ، باب فضل إبراهيم عليه السلام
ورواه ابن ماجه بذلك
فالحديث صحيح مروي في الصحيحين ...
ورواية مسلم له في باب فضل نبي الله إبراهيم له دلالاته ... إذ أنه يوحي أن الحديث مدح وفضيلة لإبراهيم بعكس ما أورده البعض من كونه تقرير لشكه ...
▪نأتي الآن لمعنى الحديث : وتفسيره يدور على أمور :
1- المراد بالشك هنا
2- المقصود بقوله عليه السلام ( نحن )
3- معنى التفضيل في ( أحق بالشك )
📌
المراد بالشك هنا :
احتلف شراح الحديث والمفسرون في المراد بالشك هنا
فحمله قوم على ظاهره ، وأوله قوم ...
1⃣ من حمله على ظاهره : وفيه أقوال :
1-
الأول : أن الشك هو على معناه من التردد بين أمرين ، وأن هذا الحديث يثبت ورود هذا الشك على إبراهيم عليه السلام إذ شك - معاذ الله - في قدرة الله على البعث والإحياء ؛ ولكن ذلك كان قبل أن يرزق الولد وقبل أن يبعث رسولا نبيا
وهذا القول ذكره ابن حجر في فتح الباري ولم ينسبه وذكره السندي في حاشيته على ابن ماجة ولم ينسبه
وهو قول مردود لما في آيات القرآن من الدلائل التي تشير أنه عليه السلام كان دائما في رعاية الله منذ صباه ، فالفتى هو صغير السن ، وقد كسر أصنام قومه وهو فتى ، قال تعالى (
قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ) فإبراهيم عليه السلام كان رافضا لأصنام قومه ودين أبيه آزر وهو فتى ، وكان مؤمنا قبل أن يرزق بالولد ، وآتاه الله رشده ومدحه بيقينه وبأنه تعالى أراه ملكوت السموات والأرض ليكون من الموقنين ولقنه الحجة على قومه
قال تعالى في إبراهيم :
-
وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام 75]
- وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام 83]
- إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود 75]
- وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء 51]
- وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ [النجم 37]
فلا يستقيم مع كل هذه الدلائل القول بأن حقيقة الشك أي التردد بين الإيمان والكفر والعياذ بالله طرأت طروءا على إبراهيم عليه السلام
قال ابن كثير : ( ليس المراد ههنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف )
وقال ابن عطية : ( وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام ... فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة ... )
كما أن القول بأن الشك هنا بمعنى التردد ينافي عصمة النبوة إذ الشك في الإيمان ينافي عصمة النبوة ورسوخها .
2-
الثاني : الشك هنا هو الخواطر والوساوس التي لا تستقر في القلب ولا تزلزل الإيمان ولا تذهب باليقين ولا تغيره ، وإنما هي تمر مرورا على القلب وتذهب ...
وهذا القول روي عن ابن عباس ، وبه أخذ عطاء ورجحه الطبري ورده ابن عطية ورفضه .
واستند الطبري في ذلك إلى :
- رواية ابن زيد في سبب سؤال الخليل الرؤية :
قال : مرّ إبراهيم بحوتٍ نصفه في البرّ، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدوابّ البحر تأكله، وما كان منه في البرّ فالسّباع ودوابّ البرّ تأكله، فقال له الخبيث: يا إبراهيم، متى يجمع اللّه هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى، قال: {أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي}.رواه الطبري
فهذه الرواية تبين أن الشيطان ألقى في قلبه من الوساوس مثل ما يلقي في قلوب الناس
- ما روي عن سعيد بن المسيّب، قال: اتّعد عبد اللّه بن عبّاسٍ، وعبد اللّه بن عمرٍو أن يجتمعا، قال:
ونحن يومئذٍ شببةٌ، فقال أحدهما لصاحبه: أيّ آيةٍ في كتاب اللّه أرجى لهذه الأمّة؟ فقال عبد اللّه بن عمرٍو {
يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم}
حتّى ختم الآية، فقال ابن عبّاسٍ: أما إن كنت تقول إنّها، وإنّ أرجى منها لهذه الأمّة قول إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم {
ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي}.رواه الطبري
- وعن محمد بن المنكدر عن ابن عباس قال :
أرجى آية في القرآن ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ) قال ابن عباس : هذا لما يعرض في الصدور ويوسوس به الشيطان ، فرضي الله من إبراهيم عليه السلام بأن قال بلى . رواه الطبري وابن أبي حاتم وعبد بن حميد
- عن ابن جريجٍ، قال: سألت عطاء بن أبي رباحٍ، عن قوله: {
وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي} قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب النّاس، فقال: {
ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى}، {
قال فخذ أربعةً من الطّير} ليريه. رواه الطبري وروى ابن أبي حاتم مثله
▪فالملاحظ من قول ابن عباس : هذا لما يعرض في الصدور ويوسوس به الشيطان
وقول عطاء : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب النّاس أي من العوارض والوساوس
يرى أنه صريح في إثبات عروض الخواطر على قلب إبراهيم عليه السلام وأنه ليس مما يغير شيئا في الإيمان
- وقد بين ابن حجر أن تفسير الحديث بظاهره لابن عباس له طرق تشد بعضها بعضا ، وأن الشك المثبت هو وسواس عرض وخطر للقلب فأراد دفعه عليه السلام دون أن يعاوده فسأل الله ذلك
و هو كالذي عبر عنه رسول الله لصحابته ( ذلك محض الإيمان )
- روى مسلم و أبو داود و أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
قَالَ جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِى أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : « وَ قَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ » . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ « ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ »
وَ فِي روَايَةٍ أُخْرَى : ( سُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ عَنْ الْوَسْوَسَةِ ؟ فَقَالَ : ( تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ ) .
- قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث :
قوله صلى الله عليه وسلم : ( ذلك صريح الإيمان , و محض الإيمان ) معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان , فإن استعظام هذا و شدة الخوف منه و من النطق به فضلاً عن اعتقاده ؛ إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً ، و انتفت عنه الريبة والشكوك ...
و قيل : معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيِسَ من إغوائه فيُنَكِّدُ عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه
▪وقال ابن تيمية في الفتاوى كلاما قيما في توضيح ذلك ، وذلك في تفسيره معنى الظن في قوله تعالى ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) وترجيحه لما فسره ابن عباس بظاهر الآية حيث قال :
كانوا بشرا فضعفوا ... وعن ابن مسعود لما سئل عن تفسيرها قال هو الذي تكره
وورود مثل هذا على الرسل واستبطائهم النصر مع الشدة فقال :
وَهَذَا الْبَابُ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ}
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي هِيَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ كَمَا ثَبَتَ {
فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يُحْرَقَ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً أَوْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ: أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ}
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ.}
فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ تَعْرِضُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
- مِنْهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ يَضْعُفُ بِهِ الْإِيمَانُ وَإِنْ كَانَ لَا يُزِيلُهُ ، وَالْيَقِينُ فِي الْقَلْبِ لَهُ مَرَاتِبُ .
- وَمِنْهُ مَا هُوَ عَفْوٌ يُعْفَى عَنْ صَاحِبِهِ
- وَمِنْهُ مَا يَكُونُ يَقْتَرِنُ بِهِ صَرِيحُ الْإِيمَانِ.
وَنَظِيرُ هَذَا: مَا فِي الصَّحِيحِ ( ثم أورد حديث ( نحن أحق بالشك من إبراهيم )
فجعله نظيرا لذلك المعنى من أنه مما يعرض على القلب من الوساوس والخواطر
ثم قال : يَكُونُ الشَّخْصُ مُؤْمِنًا بِذَلِكَ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ فَلَا يَطْمَئِنُّ فَيَكُونُ فَوَاتُ الِاطْمِئْنَانِ ظَنًّا أَنَّهُ قَدْ كُذِّبَ فَالشَّكُّ مَظِنَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي أَفْعَالِهِمْ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ.
وَفِي قَصَصِ هَذِهِ الْأُمُورِ عِبْرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَوْا بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَيْأَسُوا إذَا اُبْتُلُوا بِذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَكَانَتْ الْعَاقِبَةُ إلَى خَيْرٍ ..
ثم قال : وَإِذَا كَانَ الْاتِسَاءُ بِهِمْ مَشْرُوعًا فِي هَذَا وَفِي هَذَا فَمِنْ الْمَشْرُوعِ التَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ وَالثِّقَةُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ ظَنٌّ مِنْ الظُّنُونِ وَطَلَبُ مَزِيدِ الْآيَاتِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ للاتساء وَالِاقْتِدَاءِ دُونَ مَا كَانَ الْمَتْبُوعُ مَعْصُومًا مُطْلَقًا.
وهو كلام نفيس للغاية ، بين فيه أن هذه الخواطر هي من طبيعة البشر وهي مما عفي عنه ، ثم هي لا تنافي العصمة ولا تقر في القلب
▪وكما قلنا أن ابن عطية رد ذلك وأول الأثر الوارد عن ابن عباس وعطاء فقال :
- ومحمل قول ابن عباس عندي أنها أرجى آية لما فيها من الإدلال على الله وسؤال الإحياء في الدنيا
او لأن الإيمان يكفي فيه الإجمال ولا يحتاج إلى تنقير وبحث ...
- ومحمل قول عطاء ( دخل إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس ) أي من طلب المعاينة .
وهو تاويل بعيد عن ما يفهم من ظاهر اللفظ
▪ونتوقف هنا عند قول ابن عطية ...
فإن كان قصد في تعليقه بأن الإيمان يكفي فيه الإجمال : أن المعاينة ليست شرطا لثبوت الإيمان واستقراره بل يحصل الإيمان ويتحقق اليقين بالخبر اليقيني وخبر الصادق المصدوق ، كما يحصل بالاستدلال ... وليس من حاجة لبحث الكيفيات والهيئات والأحوال ليكتمل الإيمان ... إن كان هذا ما قصده ابن عطية بالبحث والتنقير فلا غبار عليه ...
فالمؤمنون كانوا يوقنون أن الله يخلق الطفل في رحم أمه ويعرفون بالخبر اليقيني مجمل ذلك لكنهم لم يروا أو يعاينوا شيئا .. ونحن اليوم بما علم الله الإنسان ومن عليه بالمعرفة أمكننا رؤية الجنين في بطن أمه منذ أيامه الأولى ورؤية شكله وانتقاله من طور إلى طور ...
ونحن لسنا أكثر يقينا وإيمانا منهم ، لكن الرؤية تزيدنا أنسا بالمعرفة وترسخ الإيمان بما لا يبقي للوسواس سبيلا على النفس ...
- أما إن كان أراد ما يقوله المتكلمون من أن الإيمان قول اللسان ولا عمل أو قولهم أن : أَصْل الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَعليه فالزِّيَادَةُ تُمَكِّنُ مِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ. كما اورد القاسم بن سلام من قولهم ..
فهذا مخالف لما عليه أهل السنة من أن الإيمان قول اللسان وانعقاد القلب على ذلك والعمل بما يترتب عليه
فهو قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ...
ثم هو عنده على ذلك أن الإيمان إما أن يكون كاملا أو غير موجود بالكلية ، لأن الإقرار إما موجود أو غير موجود وعليه يفهم قوله لا يحتاج بحثا ولا تنقيرا أنه بمجرد التصديق والإقرار حصل الإيمان الكامل فلا مزيد عليه ... وهو كذلك مخالف في هذا لقول أهل السنة ولنصوص الآيات التي تدل على زيادة الإيمان ونقصه (
ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) ولذلك عبر المفسرون عن الطمأنينة قالوا : ليزداد إيماني أو يقيني ...
والله أعلم بما أراد ...
3-
الثالث: أن الشك هنا هو لفظ أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنزلة التي بين الإيمان والطمأنينة
فالإيمان ثابت مستقر لم يطرأ عليه شك أو تغير ، وإنما طلب زيادة سكون وطمأنينة ليقر القلب تماما ...
وهو ما ذهب إليه ابن تيمية في الفتاوى وابن القيم في مدارج السالكين وقاله ابن كثير
- قال ابن تيمية : “
وَقَدْ تَرَكَ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ قَوْلِهِ: " بِالشَّكِّ " لَمَّا خَافَ فِيهَا مِنْ تَوَهُّمِ بَعْضِ النَّاسِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} وَلَكِنْ طَلَبَ طُمَأْنِينَةَ قَلْبِهِ كَمَا قَالَ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِاطْمِئْنَانِ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكًّا”
وقال في باب سجود السهو : لَكِنَّ لَفْظَ الشَّكِّ يُرَادُ بِهِ تَارَةً مَا لَيْسَ بِيَقِينِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ دَلَائِلُ وَشَوَاهِدُ عَلَيْهِ حَتَّى قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيمَ} أَنَّهُ جَعَلَ مَا دُونَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ الَّتِي طَلَبَهَا إبْرَاهِيمُ شَكًّا وَإِنْ كَانَ إبْرَاهِيمُ مُوقِنًا لَيْسَ عِنْدَهُ شَكٌّ يَقْدَحُ فِي يَقِينِهِ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} . فَإِذَا كَانَ قَدْ سُمِّيَ مِثْلُ هَذَا شَكًّا فِي قَوْلِهِ: {نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيمَ} فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَقِينَ عِنْدَهُ؟ فَمَنْ عَمِلَ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ. فَقَدْ عَمِلَ بِعِلْمِ لَمْ يَعْمَلْ بِظَنِّ وَلَا شَكٍّ .
- وقال ابن القيم :
طلب إبراهيم عليه السلام من ربه أن يكون اليقين عيانا والمعلوم مشاهدا ، وهذا هو المعنى الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالشك في قوله ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) وهو لم يشك ولا إبراهيم حاشاهما من ذلك وإنما عبر عن هذا المعنى بهذه العبارة .
▪ثم قال ابن القيم أن هذا المعنى هو أحد الأقوال في الحديث ، وأن فيه قولا ثانيا على وجه النفي وصححه وهو ما سيذكر في التالي..
فهو كمعنى : هذا الذي ترونه شكا ليس بالشك الذي تعرفون إنما هو طلب زيادة الطمأنينة ، ونحن أشد اشتياقا للمعاينة وتحصيل الطمأنينة بذلك
- والملاحظ أن الذي رجحه الطبري والذي عبر عنه بالشك في القدرة ، ثم استدل له بما أوردنا هو ليس شكا حقيقة كما يتبادر إلى الذهن ؛ أي هو ليس الشك بمعنى التردد بين الأمرين دون ترجيح أحدهما ؛ بل كل ما دلل عليه الطبري ثم أقوال السلف الذين أوردهم في ( ليطمئن قلبي ) وقوله أنه من قال بإثبات الشك قال بازدياد الإيمان أو اليقين ليدل أنه قصد بالشك هنا الخواطر والوساوس التي تعرض للقلب فلا تغير إيمانه ولا تستقر فيه ...
▪وقد فرق ابن حجر بين قول الطبري وقول من أثبت شكا ينافي العصمة فقال عن الحديث :
- فحمله بعضهم على ظاهره وقال ذلك قبل النبوة
- وحمله الطبري على ظاهره وجعل سببه حصول وسوسة الشيطان لكنها لم تستقر ولا زلزلت الإيمان الثابت
- والذي رجحه ابن تيمية وابن القيم في كون الشك هو ما بين الإيمان والطمأنينة مع وجود اليقين يثبتان وجود الشك لكنه ليس بالمفهوم الاصطلاحي للشك
- والقولان يؤكدان رسوخ الإيمان واليقين عند إبراهيم عليه السلام وانتفاء الشك الذي هو تردد في القدرة وشك في الإمكانية الذي يخالف العصمة ويستحيل على مؤمن فكيف بنبي معصوم ...
وأن السؤال هو لنفي الخواطر والوساوس وقطع طريقها ، وتحقيق الطمأنينة والأنس بالمعاينة والمشاهدة والترقي من علم اليقين إلى عين اليقين
وسيأتي بعد هذا ما ورد في سبب سؤال الخليل رؤية ذلك .
♦
ولكن لا بد قبل ذلك من بيان لتوضيح عصمة الأنبياء فيم تكون ؛ والحديث فيها يكون في أمرين :
1- العصمة في تبيلغ الدين .. فالنبي في تبليغه لدين ربه وشريعته لا يخطأ في شيء البتة لا كبير ولا قليل ، بل هو معصوم دائماً من الله تعالى .
2- العصمة من الأخطاء البشرية
وأما الأخطاء البشرية فهي :
- إما كبائر وهذه عصم منها الأنبياء تماما
-
وإما صغائر وهذه قد تقع من الأنبياء ولكن لا يقرون عليها ويسارعون للتوبة كقول الله عن نبيه آدم عليه السلام (
وعصى آدم ربه فغوى ؛ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى )
-
وإما في أمور الدنيا وهذه قد يقع فيها خطأ في الاجتهاد مع تمام العقل ووفرته ولا يناقض عصمة
وإذا كان عارض او وسواس خطر فهو على ذلك ينافي العصمة بل هو مما عفي عنه ، وإن اعتبر ذنبا فالأنبياء لا يقرون على صغار الذنوب ... والله أعلم
▪وقد وضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القاعدة في ذلك
-
فقال في العصمة في التبليغ : فان الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقاً وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه ...
- وقال في العصمة من الذنوب : إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام ، وجميع الطوائف ... وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء ، بل لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول ...
- وعامة ما يُنقل عن جمهور العلماء أنهم ( أي الأنبياء ) غير معصومين عن الإقرار على الصغائر ، ولا يقرون عليها ، ولا يقولون إنها لا تقع بحال ، وأول من نُقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقاً ، وأعظمهم قولاً لذلك : الرافضة ، فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل .
▪وعليه فقول رسول الله ( نحن أحق بالشك منه ) يحتمل عدة معان كما سيأتي
2⃣
القول الثاني في الشك هو تأويله :
واعتمد المأولون هنا على أن الحديث نفي للشك الذي هو التردد عن إبراهيم عليه السلام
كما نفوا ورود الخواطر والوساوس التي تعرض للقلب ...
وهؤلاء أولوا معنى قوله عليه السلام (
نحن أحق بالشك من إبراهيم )
▪واستدلوا بنفيهم الشك على الآية نفسها ، التي ورد أنها سبب قول الحديث : فقد أورد ابن حجر أنه لما نزل قوله تعالى ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) قال جماعة من المسلمين : شك إبراهيم ولم يشك نبينا ، فبلغه ذلك صلى الله عليه وسلم فقال : نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال ( رب أرني كيف تحيي الموتى )
أي ليس الأمر كما ظننتم بل إن إبراهيم عليه السلام لم يشك ولم يدخل قلبه ريبة أو شك .. بل كان موقنا مؤمنا لكنه أراد طمأنينة القلب وسكينته ... ولو كان الشك متطرقا إليه لكنت أنا أحق به ، وأنا لم أشك فاعلموا أنه هو لم يشك . ( وهذا أحد تفسيرات الحديث كما سيأتي )
▪
وأما ما دلت به الآية على نفي الشك عن الخليل :
أ. أن سؤال الخليل عليه السلام كان عن كيفية لا عن إمكان وقدرة ، فقد قال ( أرني كيف تحيي الموتى )
والسؤال عن الكيفية هو سؤال عن شيء يتحقق في الذهن وجوده ولكن تجهل كيفيته ...
ب. سؤال إبراهيم كان طلب رؤية بصرية .. فكما ورد عن رسول الله ( ليس الخبر كالمعاينة ) فهو عليه السلام تطلعت نفسه للمعاينة وتاقت لها فطلبها
قال أبو المظفر السمعاني :( فالجواب أنه لم يكن شاكا ولكنه إنما آمن بالخبر والاستدلال فأراد أن يعرفه عيانا )
ج. سؤال الله له ( أولم تؤمن ) هو سؤال تقرير لا استفهام ، وهو كقوله تعالى ( ألم نشرح لك صدرك ) أي قد شرحنا لك صدرك
وكذلك قوله تعالى ( أولم تؤمن ) أي قد آمنت بأني أحيي الموتى فلم تريد رؤيته ؟
- ولذلك كان سؤال الله له دفعا لما قد يتوهمه البعض من طروء شك عليه ، فسأله سبحانه ليقرره بإيمانه وليسمعنا جوابه ليدفع ما قد يرد من شبهة على خليله ...
ولذلك قال عليه السلام : بلى ، أي قد آمنت وتيقنت من قدرتك على ذلك ولكن أردت الاطمئنان برؤية العيان
وذلك كما نتشوق نحن لرؤية الجنة ونحن نوقن يقينا لا شك فيه بوجودها على الصفة الواردة في كتاب الله عز وجل ، وإنما آمنا بها بالخبر اليقيني ...
وكذلك عليه السلام كان موقنا يقينا لا شك فيه ، موقنا بالخبر وبالاستدلال على إحياء الموتى ، فتاقت نفسه لتطمئن بكمال العلم بالمشاهدة والعيان .
▪ثم إن أصحاب هذا القول قالوا ، ما دام سؤال الخليل رغبة في الرؤية والمعاينة ولم يكن شكا ، فما الذي هيج هذا الشوق للرؤية في نفسه ؟ ولم طلبها وهو الموقن المطمئن بخبر الله العالم بالأدلة وبما أراه الله من ملكوته قدرته على ذلك ...
فأوردوا في ذلك أسبابا كلها تستند على روايات من أهل الكتاب إذ لم يأت دليل عليها ولا خبر بها ... وهي مما لا يصدق ولا يكذب ، وابتداء هي مما لا يزيد العلم بها فهما للآية ولا ينقص جهلها فهمها ، ولذلك أغفلها كثير من المفسرين عمدا ونبهوا إلى ورودها لأن العبرة فهم الآية ، فكل ما أعان على الفهم حقه أن يذكر ، وما لم يكن كذلك فلا بأس من تركه
وإنما أورده هنا تماما للبحث ولمناقشة التعامل مع الإسرائيليات
🔹
وقد ورد في سبب سؤال الخليل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى أقوال :
1-
أنه عليه عليه السلام رأى دابة توزعتها السباع والطير تأكل منها ، فتعجب من حالها وسأل الله أن يريه كيف يحييها بعد تمزقت في بطون السباع والوحش والطير
.. وهو قول قتادة والضحاك وابن جريج وروي عن ابن عباس
🔺
أما ابن عباس :
فروى عنه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك :
قَالَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ مَرَّ بِرَجُلٍ مَيِّتٍ، قَالَ: زَعَمُوا أَنَّهُ حَبَشِيٌّ- عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرَأَى دَوَابَّ الْبَحْرِ تَخْرُجُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ، وَسِبَاعَ الأَرْضِ، تَأْتِيهِ فَتَأْكُلُ مِنْهُ، وَالطَّيْرَ تَقَعُ عَلَيْهِ فَتَأْكُلُ مِنْهُ، قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ ذَلِكَ: رَبِّ: هَذِهِ دَوَابُّ الْبَحْرِ تَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ، وَسِبَاعُ الأَرْضِ وَالطَّيْرُ، ثُمَّ تميت هذه فَتَبْلَى، ثُمَّ تُحْيِيهَا بَعْدَ الْبِلَى، فَأَرِنِي كَيْفَ تحي الْمَوْتَى. وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ، نَحْوَ ذَلِكَ.”
🔺و
أما قتادة :
عن قتادة قوله: {
وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } ذكر لنا أن خـلـيـل الله إبراهيـم صلى الله عليه وسلم أتـى علـى دابة توزّعتها الدوابّ والسبـاع، فقال: {
رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى }. رواه الطبري
🔺
وأما الضحاك
عن عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } قال: مرّ إبراهيـم علـى دابة ميت قد بلـي وتقسمته الرياح والسبـاع، فقام ينظر، فقال: سبحان الله، كيف يحيـي الله هذا؟ وقد علـم أن الله قادر علـى ذلك، فذلك قوله: {رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ }.
رواه الطبري
🔺
وأما ابن جريج
قال ابن جريج: بلغنـي أن إبرهيـم بـينا هو يسير علـى الطريق، إذا هو بجيفة حمار علـيها السبـاع والطير قد تـمزّعت لـحمها وبقـي عظامها. فلـما ذهبت السبـاع، وطارت الطير علـى الـجبـال والآكام، فوقـف وتعجب ثم قال: ربّ قد علـمت لتـجمعنها من بطون هذه السبـاع والطير {رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ } ولكن لـيس الـخبر كالـمعاينة. رواه الطبري
والمتأمل من هذه الأقوال جميعا يرى أنها صدرت من متأمل متفكر مسبح معظم للخالق متطلع متشوق للرؤية والمعاينة ليس إلا
2-
أن سؤاله عليه السلام كان بعد مناظرته للنمروذ .. فأحب أن يرى ما ناظر به عيانا ...
روي ذلك عن محمد بن إسحاق :
🔺
قال مـحمد بن إسحاق، قال: لـما جرى بـين إبراهيـم وبـين قومه ما جرى مـما قصه الله فـي سورة الأنبـياء، قال نـمروذ فـيـما يذكرون لإبراهيـم: أرأيت إلٰهك هذا الذي تعبد وتدعو إلـى عبـادته وتذكر من قدرته التـي تعظمه بها علـى غيره ما هو؟ قال له إبراهيـم: ربـي الذي يحيـي ويـميت. قال نـمروذ: أنا أحيـي وأميت. فقال له إبراهيـم: كيف تـحيـي وتـميت؟ ثم ذكر ما قصّ الله من مـحاجته إياه. قال: فقال إبراهيـم عند ذلك: {
رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } من غير شكّ فـي الله تعالـى ذكره ولا فـي قدرته، ولكنه أحبّ أن يعلـم ذلك وتاق إلـيه قلبه، فقال: لـيطمئنّ قلبـي، أي ما تاق إلـيه إذا هو علـمه. رواه الطبري
وقال الطبري وهو قريب من الأول فهو شوق للرؤية ورغبة فيها
-
وقيل لما قال عليه السلام : ربي الذي يحيي ويميت قال له : هل عاينت ذلك ؟ فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى ، ثم طلب من ربه أن يعاين حتى يقول نعم عاينت إن سئل ثانية ... ذكره ابن كثير
- وهو ضعيف جدا ، فإن انتقاله عليه السلام إلى حجة أخرى لم يكن ضعفا منه عليه السلام وعدم قدرة على الإجابة بل هو أحد اثنين :
أ- إما انتقال لحجة أخرى لعلمه بأن النمروذ لا فائدة من نقاشه في الإحياء والإماتة
وهو ما ذهب إليه العز بن عبد السلام إذ قال :
إن الذي ذكره نمرود هذيان لا يستحق الجواب ، لأن إبراهيم أثبت أن لله خلق الحياة والموت وهذا لا يقدر عليه إنسان ، فذكر نمرود أمرا يقدر عليه كل من في دولته فينبغي أن يكونوا كلهم آلهة .
وشأن العقلاء أنهم لا يجيبون عن الهذيان لأن ذلك مشاركة فيه . ( فوائد في مشكل القرآن )
ب- وإما هو إلزام له بحجته ، أي إن كان لك من خصائص الربوبية قدرة على إحياء الموتى كما تدعي فأت بالشمس من المغرب ...
وهو ما أخذ به ابن القيم فقال : وليس هذا انتقالا من حجة إلى حجة أوضح منها كما زعم بعض النظار ، وإنما هو إلزام للمدعي بطرد حجته إن كانت صحيحة .
وهذا أقوى في الحجة وأنسب لمقام البهتان الذي بهته عدو الله ..
ثم إن الله امتدح إبراهيم عليه السلام بأنه آتاه رشده (
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين )
وأنه آتاه الحجة على قومه (
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء )
وليس بعد كلام الله كلام ، فمن آتاه الله الحجة لا يقطعه ...
3 -
وقيل أن سؤاله عليه السلام كان ليري قومه أن ذلك كائن ؛ كما يطلب أقوام الأنبياء مشاهدات مادية محسوسة ليؤمنوا ، فسأل الله أن يري قومه تلك الكيفية
وهو توجه لا تعين عليه الآية ،... فسؤاله عليه السلام كان لنفسه ، وتعليله بقوله ولكن ليطمئن قلبي يدل على أن الأمر خاص به لا بقومه
- وقد روى ذلك ابن أبي حاتم عن الحسن : عن عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أرني كيف تحي الموتى قَالَ: سَأَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ، أَنْ يريه كيف يحي الْمَوْتَى، وَذَلِكَ مِمَّا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الأَذَى، فَدَعَا رَبَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ، مِمَّا لَقِيَ مِنْهُمْ مِنَ الأَذَى، فَقَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تحي الْمَوْتَى”
- وقال البيهقي عَنِ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قَالَ: أَيْ لِيُرَى مَنْ أَدْعُوهُ إِلَيْكَ مَنْزِلَتِي وَمَكَانِي مِنْكَ فَيُجِيبُونِي إِلَى طَاعَتِكَ ”
4 -
وقيل أن سؤاله ذلك كان لما بشر بالخلة ، فكان سؤاله ليطمئن بالخلة ويعلم أن الله يجيب دعاءه إذا دعاه
فقد روي عن ابن جبير أنه قد جعل له علامة ذلك له أن يريه كيفية إحياء الموتى ويجيب دعاءه ، فأراد تحقق العلامة ليطمئن قلبه بالخلة .. وهو قول السدي وابن جبير
كما روي عن إبراهيم المزني وابن المبارك
🔺
أما السدي :
فروى عنه الطبري وابن أبي حاتم أثرا طويلا في ذلك :
عن السدي، قال:
لـما اتـخذ الله إبراهيـم خـلـيلاً سأل ملك الـموت ربه أن يأذن له أن يبشر إبراهيـم بذلك، فأذن له، فأتـى إبراهيـم ولـيس فـي البـيت فدخـل داره، وكان إبراهيـم أغير الناس، إن خرج أغلق البـاب؛ فلـما جاء وجد فـي داره رجلاً، فثار إلـيه لـيأخذه، قال: من أذن لك أن تدخـل داري؟ قال ملك الـموت: أذن لـي ربّ هذه الدار، قال إبراهيـم: صدقتٰ وعرف أنه ملك الـموت، قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الـموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتـخذك خـلـيلاً. فحمد الله
وقال: يا ملك الـموت أرنـي الصورة التـي تقبض فـيها أنفـاس الكفـار. قال: يا إبراهيـم لا تطيق ذلك. قال: بلـى. قال: فأعرِض فأعرض إبراهيـم ثم نظر إلـيه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فـيه لهب النار، لـيس من شعرة فـي جسده إلا فـي صورة رجل أسود يخرج من فـيه ومسامعه لهب النار. فغشي علـى إبراهيـم، ثم أفـاق وقد تـحوّل ملك الـموت فـي الصورة الأولـى، فقال: يا ملك الـموت لو لـم يـلق الكافر عند الـموت من البلاء والـحزن إلا صورتك لكفـاه، فأرنـي كيف تقبض أنفـاس الـمؤمنـينٰ قال: فأعرِض فأعرض إبراهيـم ثم التفت، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجهاً وأطيبه ريحاً، فـي ثـياب بـيض، فقال: يا ملك الـموت لو لـم يكن للـمؤمن عند ربه من قرّة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفـيه. فـانطلق ملك الـموت، وقام إبراهيـم يدعو ربه يقول: {رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } حتـى أعلـم أنـي خـلـيـلك {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } بأنـي خـلـيـلك، يقول تصدق، {قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } بخـلولتك.
🔺
وأما ابن جبير:
فرواه الطبري عن عمرو بن ثابت، عن أبـيه، عن سعيد بن جبـير: {وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } قال: بـالـخُـلة.
- قال سعيد بن جبير : لما بشر عليه السلام بالخلة قال ما علامة ذلك ؟ قال أن يجيب الله دعاءك ويحيي الموتى بسؤالك . فسأل هذا السؤال
- ورواه عنه ابن أبي حاتم من طريق سفيان الثوري :
“عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بلى يعني: أو لم تُؤْمِنْ أَنِّي خَلِيلُكَ.
🔺
وأما ابن المبارك
فروى البيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قَالَ: بِالْخِلَّةِ، يَقُولُ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ اتَّخَذْتَنِي خَلِيلًا”
وأما الاطمئنان إلى إجابة الدعاء :
🔺
وأما المزني :
فقد روى البيهقي في الأسماء والصفات عن مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُزَنِيَّ، يَقُولُ، وَذَكَرَ عِنْدَهُ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ»
فَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَمْ يَشُكِّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، وَإِنَّمَا شَكا أَنْ يُجِيبَهُمَا إِلَى مَا سَأَلَا .
5- وقيل أن سؤاله كان فقط شوقا للمعاينة بعد الإيمان والاستيقان ...
وسؤال الخليل عليه السلام ما اشتاقت له نفسه يشبه سؤال كليم الله موسى عليه السلام أن يرى ربه ، فموسى عليه السلام كان يكلم الله ويؤمن يقينا لا خاطر فيه ، لكنه تاقت نفسه لرؤية مولاه فسأل الله ذلك ...
▪وهنا قالوا :
- لم
أجاب الله سؤال الخليل في رؤية إحياء الموتى ولم يجب موسى عليه السلام في قوله ( رب أرني أنظر إليك ) ؟
وأجاب الأنصاري عن ذلك :
أ. بأن ما طلبه موسى عليه السلام لا يبقي تكليفا بعده ، ذلك أن الله وعد المؤمنين برؤيته يوم القيامة ، ولم يأذن لبشر برؤيته في الحياة الدنيا لأنه ينقطع بالرؤية التكليف
- أما سؤال إبراهيم عليه السلام فليس فيه ذلك ، والتكليف يبقى معه ، بل إن إحياء الموتى حصل مشاهدة وعيانا لأقوام وأناس غير الخليل
فكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى بإذن الله
(
وأحيي الموتى بإذن الله ) ، وكذلك لبني إسرائيل في قصة البقرة (
فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته ) ، وكذلك للذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ( فأماته الله مئة عام ثم بعثه ) ..
ب. وقالوا لاختلاف الأحوال والمقام فناسب إجابة الخليل لسؤله ولم يناسب إجابة الكليم
والأول أظهر
▪
وذكر ابن حجر أسبابا أخرى لسؤال الخليل منها قوله :
- أن سؤاله كان لأنه أراد أن يجري الله الإحياء على يديه فأراد أن يقول رب أقدرني على إحياء الموتى لكنه تأدب في السؤال
وهو قول لا تعين عليه الآية وألفاظها
- وقال بعض المتصوفة أن السؤال كان عن القلوب : أي أرني كيف تحيي القلوب ، وهو مردود بما بعده ، وبظاهر لفظ الآية إذ لا يصح حملها على المجاز والمعنى الحقيقي صحيح لا يحتاج تاويلا ولا مجازا لفهمه
🔺
وبناء على ما سبق من أسباب ومعان فما معنى قوله عليه السلام ( نحن أحق بالشك من إبراهيم) ؟
▪قيل معناه :
أ.
إذا لم نشك نحن فإبراهيم أولى ألا يشك ، إذ لو كان الشك متطرقا إلى الأنبياء لكنت أولى بذلك منهم
وقد علمتم أني لا أشك فإبراهيم أولى ألا يشك ... وهو ما رجحه ابن حجر في فتح الباري والنووي في شرح مسلم من قول إبراهيم المزني وقاله السندي في حاشيته على سنن ابن ماجه كما ذكره البيهقي ورجحه جمهور المفسرين
وهو منه عليه السلام على جهة التواضع وهضم النفس وإلا فهو خير الأنبياء والرسل ... ،وقيل أن ذلك قبل أن يعلمه الله أنه خير المرسلين ...
قال البيهقي : وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "
مَذْهَبُ هَذَا الْحَدِيثِ التَّوَاضُعُ وَالْهَضْمُ مِنَ النَّفْسِ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» ، اعْتِرَافٌ بِالشَّكِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، لَكِنْ فِيهِ نَفْيُ الشَّكِّ عَنْ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، يَقُولُ: إِذَا لَمْ أَشُكَّ أَنَا وَلَمْ أَرْتَبْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، فَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَشُكَّ فِيهِ وَلَا يَرْتَابَ
ب.
وقيل هو على ما جرت به العادة في المخاطبة لمن أراد أن يدفع عن أحد شيئا يقول : مهما أردت أن تقوله لفلان فقله لي ، ومقصوده لا تقل ذلك ... ذكره ابن حجر ؛ وهو مما رجحه النووي
ج.
وقيل أن ( أحق ) وهي على وزن أفعل قد يراد بها ليس التفضيل وإنما نفي الشيء وهو هنا الشك عن الاثنين ..
فهو كقول القائل : الشيطان خير من فلان ، أي لا خير فيهما ...
وكذلك ( نحن أحق بالشك) : أي لا شك عندنا جميعا
د.
وقيل بل قوله عليه السلام ( نحن ) لا يقصد به نفسه بل :
- قد يكون المقصود به أمته ، وهو مخرج من ذلك بدلالة العصمة ... فنحن أي أمته هم الذين يجوز علينا الشك
ذكره ابن حجر
-قد يكون قصده سائر الأنبياء ، أي لو كان الشك يتطرق إلى أحد من الأنبياء لكانوا أولى به من إبراهيم لما اراه الله من ملكوت السموات والأرض وآتاه رشده واتخذه خليلا فهذا لا يدع مجالا لأن يتطرق له شك
هـ.
وقيل معناه هذا الذي ترونه شكا ليس بشك وإنما هو زيادة طمأنينة وطلب عيان ومشاهدة ونحن أحق بذلك من إبراهيم ...
▪قال ابن الجوزي : إنما صار أحق من إبراهيم لما عانى من تكذيب قومه وردهم عليه وتعجبهم من أمر البعث ، فكأن معناه أنا أحق أن أسأل ذلك لعظيم ما جرى لي من قومي ولمعرفتي بتفضيل الله لي ولكني لا أسأل ..
و.
وقيل نحن أشد اشتياقا إلى الرؤية والمعاينة من إبراهيم
قال الخطابي : وَفِيهِ الْإِعْلَامُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ تُعْرَضْ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ، لَكِنْ مِنْ قِبَلِ طَلَبِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَاسْتِفَادَةِ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، وَالنَّفْسُ تَجِدُ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ بِعِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ مَا لَا تَجِدْهُ بِعِلْمِ الْأَنِيَّةِ، وَالْعِلْمُ فِي الْوَجْهَيْنِ حَاصِلٌ، وَالشَّكُّ مَرْفُوعٌ..
▪فنرى بذلك أن المفسرين المعتبرين للحديث ، من أثبت الشك لم يجعله على معناه الاصطلاحي من الترددوالريبة ، وإنما جعله الشوق إلى الكمال وزيادة الاطمئنان بالعيان لزيادة الإيمان ، أو خاطرا يخطر للقلب لا يستقر فيه ولا يثبت ولا يزحزح إيمانا ولا يزعزع يقينا
ومن نفاه فعلى معنى النفي لما يعرف من معنى الشك والتردد ..
- واعتبر النووي أن أصح القولين في تفسير الحديث هو القول الاول بنفي الشك مطلقا عن إبراهيم عليه السلام
والقول الخامس بتأويل الشك أنه طلب الطمأنينة والمشاهدة
وأعرض عن ذكر ما سواهما
وبعد ما تبين معنى الحديث وعلاقته بالآية يبقى بيان مراد إبراهيم عليه السلام بالطمأنينة التي نشدها ، وهو مرتبط بما ورد من أسباب سؤاله الرؤية :
🔹
ما معنى ليطمئن قلبي ؟ وما هي الطمأنينة التي ارادها الخليل عليه السلام ؟
وعلى الخلاف بين المفسرين في معنى سؤال الخليل وسببه
▪اختلفوا في المراد بالطمأنينة في ( قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) على أقوال :
1-
من أثبت ورود الشك والخواطر على إبراهيم نوعان :
أ.
نوع أثبت له الشك بالقدرة ( والعياذ بالله ) ، وهذا أول سؤاله بأنه كان قبل بعثه نبيا ، وقيل قبل أن يريه الله ملكوت السموات والأرض
وعند هؤلاء فالاطمئنان هو زوال الشك وهدوء الفكر لحصول الاستيقان
وهذا القول مردود لرد جزئه الأول
إذ لم يثبت أحد من المفسرين المعتبرين شك إبراهيم عليه السلام في القدرة ، فالشك الذي هو التردد منفي بالعصمة
ب.
والثاني أثبت ورود الخواطر والوساوس التي تعرض للناس والتي سماها رسول الله محض الإيمان وقال : الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة
ومن قال بإثبات الوساوس قال بأن الطمأنينة هنا زيادة الإيمان ،
وهذا المعنى هو قول : سعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة والربيع ، والحسن وهو الذي رجحه الطبري واستدل له
🔺
أما ابن جبير
فرواه عنه ابن أبي حاتم والطبري :
- روى الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما من طريق سفيان عن قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قلبي قال: ليوفق ... واللفظ للطبري ، ولفظ ابن أبي حاتم : ليوقن
- وروى الطبري عن ابن جبير قوله : ليزداد يقيني ، وفي لفظ ليزداد يقينا
- وعن ابن أبي حاتم عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ لِيَزْدَادَ إِيمَانًا
🔺
وأما الحسن
فرواه عنه ابن أبي حاتم : عن عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أَيْ: لِيَعْرِفَ قَلْبِي وَيَسْتَيقِنَ.”
🔺
وأما الضحاك :
فرواه عنه الطبري عن جويبر عنه قال : ليزداد يقينا
🔺
وقتادة :
فروى عنه الصنعاني عن معمر عنه قوله : لأزداد يقينا
وعن الطبري مثله
🔺
والربيع :
روى ابن جرير عنه من طريق أبي جعفر عن أبيه عنه قال : أراد إبراهيم أن يزداد يقينا
🔺
مجاهد وإبراهيم :
وكذلك روى ابن منصور الخراساني و الطبري عن مجاهد وإبراهيم من طريق ليث بن سليم قولهما : لأزداد إيمانا مع إيماني
▪
وقال النووي في شرح مسلم : سأل زيادة اليقين وإن لم يكن الأول شكا ؛ فسأل الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين فإن بين العلمين تفاوتا
▪وقال سهل التستري : سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين تمكنا
▪وقال الخطابي : وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا طَلَبُ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ حِسًّا وَعَيَانًا، لِأَنَّهُ فَوْقَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَالْمُسْتَدِلُّ لَا يَزُولُ عَنْهُ الْوَسْوَاسُ وَالْخَوَاطِرُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ»
▪قال ابو هلال العسكري : الطمأنينة السكون وزوال الوسوسة ، لأنه إن شاهد إحياء الموتى لم يكن للشيطان عليه سبيل
▪
وقد رد السندي في حاشيته على ابن ماجه هذا القول فقال : ومن قال أراد زيادة الإيقان ونحوه فقد بعد ؛ إذ معلوم أن مرتبة إبراهيم فوق مرتبة من قال : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا .. والله أعلم
▪بينما ذهب صاحب كتاب إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم في كتاب الإيمان أن هذه الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص ، وأنه لا غبار في طلب زيادة الإيمان
وأنها دليل علي مراتب اليقين التي هي علم اليقين بالخبر الصادق أو الدليل القاطع ، وعين اليقين بالمشاهدة ، وحق اليقين بالذوق والملابسة
🔸 وقد بين ابن تيمية كما أوردنا أن الأنبياء قد يعرض لهم شيء من الخواطر لكن لا يقرون عليها ، وهي مما لا يقدح في الإيمان الواجب ولا ينافي العصمة ...
2-
ومن قال أن سؤاله كان شوقا وتوقا للمعاينة بعد الخبر والاستدلال للارتقاء من علم اليقين إلى عين اليقين قال أن ليطمئن قلبي بالمشاهدة والعيان بعد الخبر والاستدلال فيسكن عن الفكر في الكيفية ، إذ ليس الخبر كالمعاينة
روي عن ابن قتيبة والضحاك
🔺
قال ابن قتيبة في غريب مفردات القرآن :
“قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بالنظر. كأن قلبه كان معلَّقا بأن يرى ذلك . فإذا رآه اطمأن وسكن، وذهبت عنه محبة الرؤية.”
🔺
وأما الضحاك
قال ابن أبي حاتم عَنِ الضَّحَّاكِ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ: لَتَرَى عَيْنِي.
🔺
قال العسقلاني في فتح الباري :
-
ليطمئن قلبي أي ليزيد سكونا بالمشاهدة المنضمة إلى اعتقاد القلب ، لأن تظاهر الادلة أسكن للقلوب ؛ كأنه قال أنا مصدق ولكن للعيان لطيف معنى .
- وقال عياض : لم يشك إبراهيم بأن الله يحيي الموتى ولكن أراد طمأنينة القلب وترك المنازعة لمشاهدة الإحياء فحصل له العلم الاول بوقوعه ، وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته .
🔸
والمتأمل في هذا القول يراه الأقرب إلى ظاهر معنى الآية ، ويناسب معنى الحديث ، ويرجح ما قاله ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من أن الطمأنينة التي طلبها الخليل فوق الإيمان .. وهي بأن يتحقق للقلب توقه لرؤية ما علمه وتيقنه ، وهو فضل الله فضل به بعض أنبيائه على بعض
ففضل نبينا عليه السلام برؤية الآيات في رحلة الإسراء والمعراج
وشرف عيسى عليه السلام بالإحياء للموتى بيديه
وكلم موسى عليه السلام
وهذه كلها زيادة على الإيمان واليقين ، تسعد بها النفس وتتطمئن بها وتأنس بزيادة القرب ..
3 -
من قال أن سؤال كان بسبب بشارته بالخلة قال ليطمئن قلبي بالخلة وهو قول السدي الذي ورد في الأثر الطويل عن زيارة ملك الموت ، و سعيد بن جبير
رواه عنه ابن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات
- روى ابن منصور و ابن جرير و ابن أبي حاتم بسنديهما : عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ: بِالْخُلَّةِ.
- وروى البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن المبارك قوله بذلك :
“عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] قَالَ: بِالْخِلَّةِ، يَقُولُ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ اتَّخَذْتَنِي خَلِيلًا”
وهو قول لا يسلم به .. ذلك لعدم وجود الدليل عليه ؛ ولكن يمكن حمل ذلك على أنه طلب آية كما طلب زكريا عليه السلام آية عندما جاءته البشارة بالولد فقال ( قال رب اجعل لي آية ) فيزداد بالعلامة اطمئنانا وأنسا
4 -
ومن قال أن ذلك كان ليعلم إن كان يستجاب لدعائه كان قوله ليطمئن قلبي أي ليعلم أنه مجاب الدعوة قال ليطمئن قلبي أنك تجيب دعوتي وتعطيني سؤلي إذا سألت
وهو مروي عن ابن عباس والكلبي
وورد عن ابن جبير كما مر إذ جعل إجابة الدعاء من علامات الخلة
🔺
أما ابن عباس فرواه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات :
- روى ابن جرير وابن أبي حاتم كلاهما من طريق علي بن أبي طلحة عنه قال : ليطمئن قلبي : أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك ..
- وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي زرعة عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي يَقُولُ: لأَرَى مِنْ آيَاتِكَ وَأَعْلَمَ أَنَّكَ قَدْ أَجَبْتَنِي- فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ) فَصَنَعَ مَا صَنَعَ.”
وروى مثله من طريق علي ابن أبي طلحة
🔺
وأما الكلبي :
فرواه عنه عبد الرزاق عن معمر عنه قال : ليطمئن قلبي أن قد استجبت لي .
5-
ومن قال أنه طلب ذلك لقومه ليحاججهم :
قال ليطمئن قلبي برؤيتهم إحياء الموتى وهو مروي عن عكرمة وابن المبارك
🔺
أما عكرمة
فقد قال ابن أبي حاتم عَنْ عِكْرَمَةَ، فِي : قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قلبي قال: لكي يعلموا انك تحي الْمَوْتَى.”
🔺
وأما ابن المبارك
فقد روى البيهقي عن الخطابي عنه فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] قَالَ: أَيْ لِيُرَى مَنْ أَدْعُوهُ إِلَيْكَ مَنْزِلَتِي وَمَكَانِي مِنْكَ فَيُجِيبُونِي إِلَى طَاعَتِكَ ”
وهو كما قلنا يخالف ظاهر أن طلبه كان لنفسه ليطمئن قلبه ، وتقرير الله له ( أولم تؤمن ) دليل ان طلبه كان لنفسه لا ليقيم الحجة على أحد
♦
الإسرائيليات الواردة في الآية والتعامل معها
▪قال عبد الحكيم أبو صندل في تحفة المفسر أو نظم المقدمة في أصول التفسير لابن تيمية :
أخبارهم تروى للاستشهاد ... لا تروها أخي للاعتقاد
أقســـامها ثـلاثــة فـالأول ... جلت لنـا صـحته الدلائل
والثانِ خالف الذي نعرفُهُ ... فكان كــذْبةً ؛ وبـان زيــفه
والثالث المسكوت عنه فأتى بينهما فلا تصدق يا فتى
ولا تكـذبْ صاحب الرواية ... وغــالبا تأتـي بلا فـــائدة
لذا ترى أهل الكتاب اختلفوا... فيــه ؛ وقـَلّ أن يتـــفقوا
فكان للمفسرين سببا ....في الخلْف ثم لم يُقَـضّ أرَبــا
كذكرهم أسماء أهل الكهف ...ولون كلبهم وليس يشفي
كذا عصا موسى من أي شجر وغير ذا من مبهمٍ في الخبر
وجاز نقل خلفهم لا مأثما ... ذا أدب من الكتــاب فاعلــما
1-
سبب سؤال إبراهيم عليه السلام رؤية الإحياء
سبق ذكر ما ورد من آثار في سبب سؤال إبراهيم عليه السلام ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ، والمتأمل في الآثار التي وردت والتي صرح محمد بن إسحق فيما رواه منها أنها عن أهل الكتاب يرى أنها من الإسرائيليات
وكما نعلم فالإسرائيليات ثلاثة أصناف :
- إما أثر يصدقه دليل من كتاب أو سنة فهذا نصدقه
- أو اثر يعارض نصا من كتاب أو سنة فهذا نكذبه ونرفضه
- او أثر لا يعارض نصا ولا نص يصدقه ، فهذا يتوقف فيه ، ولا يحكم عليه بصدق أو كذب ، وقد يستأنس به
وقد يكون أحد هذه الأقوال هو الحق ، وقد يكون الخليل سأل بلا سبب
وغالب هذه الآثار هي مما لا فائدة من معرفته ولا منقصة ولا مذمة في جهله فسواء علمنا أن الخليل سأل رؤية إحياء الموتى شوقا أو علامة للخلة او محاجة لنمرود فليس في معرفة ذلك زيادة في فهم الآية ..
وإنما نرفض من الآثار ما أقر عليه بالشك الذي هو شك في القدرة على الإحياء ، إذ هو منتف عنه عليه السلام بدلالة العصمة وبلالة ما ورد من آيات كما مر ...
وأما أثر ابن زيد الذي يثبت وسوسة إبليس للخليل فكما مر فإنه إن فهم على الخواطر التي تعرض للنفس وتزول ولا تستقر في القلب ولا تزلزل إيمانا ... وإنما هو عارض من الشيطان ... فأراد عليه السلام ألا يعاوده الخاطر فطلب ما طلب ... فإنه قد يقبل
ومع ذلك فقد رد البعض هذا الأثر لرفضه القول بالوسوسة للأنبياء لقوله تعالى (
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) .. وإن كان هذا للعباد المؤمنين عامة فكيف بالنبي المعصوم فهو أولى ألا يكون له عليه سلطان في كبير ولا صغير .. وإن كان ما ورد من قول ابن عباس وعطاء ، وكذلك ما فسر به ابن تيمية في ذلك يؤكد أن الوسواس والخاطر ليس مما يقدح من النبوة أو الإيمان وإنما هو ضعف بشري ... ومع ذلك فالنفس أميل لغير هذا القول
والقول بأنه أراد ذلك لمحاجة النمرود أو لقومه كذلك لا دليل عليه والله أخبرنا سبب سؤاله (
ولكن ليطمئن قلبي ) أي يسكن ويأنس باجتماع مشاهدة العيان إلى الاستدلال وهذا المعنى إلى مقام النبوة أليق وأكمل من غيره
▪
وجمع الثعلبي بينها فقال : ليسكن قلبي بزيادة اليقين والحجة وحقيقة الخلة وإجابة الدعوة
وهو جمع حسن والله أعلم
2-
الطير التي أمر بتفريقها على الجبال (
فخذ أربعة من الطير )
وردت أقوال في نوع الطير التي أمر بتفريقها على الجبال فقيل :
أ. هي حمامة وديك وطاووس وغراب
وهذه الأربعة لما فيها من طبائع الطير المختلفة
روي ذلك عن مجاهد وعكرمة وابن جريج وابن زيد وابن إسحق
🔺
أما مجاهد :
فرواه عنه الطبري وابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عنه قال: الأربعة من الطير: الديك، والطاووس، والغراب، والـحمام. واللفظ للطبري
وذكر ابن أبي حاتم انه روي عن عكرمة مثله
🔺
وأما ابن جريج :
فروى عنه الطبري : عن الـحسين، قال: ثنـي حجاج: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } قال ابن جريج: زعموا أنه ديك، وغراب، وطاووس، وحمامة.
🔺
وأما ابن زيد :
فروى عنه الطبري عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ } قال: فأخذ طاوساً، وحماماً، وغرابـاً، وديكاً؛ مخالفة أجناسها وألوانها.
🔺
وأما ابن إسحق
فرواه عنه ابن جرير قال : عن مـحمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلـم: أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاوساً، وديكاً، وغرابـاً، وحماماً.
ولم يذكر الطبري في تسميتها غير هذا القول
وجعل بعضهم مكان الحمام البط .. ذكره ابن الجوزي عن مجاهد
وجعل مقاتل البط مكان الطاووس كما ذكر ابن الجوزي
ولم أجد نص قولهما فيما بحثت فيه
ب. وقيل هي : وز ورال ( فرخ النعام ) وديك وطاووس
وهو مروي عن ابن عباس
- قال ابن أبي حاتم : عن الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قَالَ: وَالطَّيْرُ الَّذِي أَخَذَ:
وَزٌّ وَرَالٌ وَدِيكٌ وطاوس. قَالَ: أَخَذَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، مِنَ الطَّيْرِ وَاحِدًا.”
ج. وقيل : الغرنوق والطاووس والديك والحمامة
وقد روي عن ابن عباس
- قال ابن أبي حاتم :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ قال: الغرنوق والطاوس، وَالِدِّيكُ، وَالْحَمَامَةُ.
وَالْغُرْنَوقُ: الْكَرْكِي .
د. فقيل الشعانين : ذكره الماوردي وابن الجوزي عن ابن عباس
وقيل غير ذلك
3-
عدد الجبال التي أمر بتفريق الطير عليها
أمر الله نبيه إبراهيم بتقطيع الطير وتفريقها على الجبال وقال له (
ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا )
فاختلفوا في دلالة كل جبل على أقوال :
أ. قالوا هي أربعة جبال أمر بتفريق الطير الأربعة عليها
وهو قول مروي عن ابن عباس وقتادة والربيع ومحمد بن إسحق وابن زيد
🔺
أما ابن عباس :
فروى ابن أبي حاتم : عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا قَالَ: فَأَخَذَ نِصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، ثُمَّ أَتَى أَرْبَعَةَ أَجْبُلٍ، فَجَعَلَ على كل جبل نصفين مُخْتَلِفَيْنِ، فَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا يَعْنِي هَذَا: ثُمَّ تَنَحَّى ورؤسها تَحْتَ قَدَمِهِ.”
🔺
وأما قتادة :
فروى الطبري عن سعيد عن قتادة: قال: أمر نبـيّ الله أن يأخذ أربعة من الطير فـيذبحهن، ثم يخـلط بـين لـحومهن وريشهن ودمائهن، ثم يجزئهن علـى أربعة أجبل، فذكر لنا أنه شكل علـى أجنـحتهن، وأمسك برؤوسهن بـيده، فجعل العظم يذهب إلـى العظم، والريشة إلـى الريشة، والبَضعة إلـى البضعة، وذلك بعين خـلـيـل الله إبراهيـم صلى الله عليه وسلم. ثم دعاهن فأتـينه سعياً علـى أرجلهن، ويـلقـي كل طير برأسه. وهذا مثل آتاه الله إبراهيـم. يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القـيامة من أربـاع الأرض ونواحيها.
🔺
وأما الربيع :
فروى عنه الطبري قال: ذبحهن، ثم قطعهن، ثم خـلط بـين لـحومهن وريشهن، ثم قسمهن علـى أربعة أجزاء، فجعل علـى كل جبل منهن جزءاً، فجعل العظم يذهب إلـى العظم، والريشة إلـى الريشة، والبضعة إلـى البضعة، وذلك بعين خـلـيـل الله إبراهيـم، ثم دعاهن فأتـينه سعياً، يقول: شدّاً علـى أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيـم، يقول: كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القـيامة من أربـاع الأرض ونواحيها.
🔺
وأما ابن إسحق :
فروى عنه الطبري قال : قال ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة، ثم قطع كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلـى أربعة أجبـال، فجعل علـى كل جبل ربعا من كل طائر، فكان علـى كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الـحمام. ثم دعاهن فقال: تعالـين بإذن الله كما كنتـم! فوثب كل ربع منها إلـى صاحبه حتـى اجتـمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه، ثم أقبلن إلـيه سعياً، كما قال الله. وقـيـل: يا إبراهيـم هكذا يجمع الله العبـاد، ويحيـي الـموتـى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها، وشامها ويـمنها. فأراه الله إحياء الـموتـى بقدرته، حتـى عرف ذلك بغير ما قال نـمروذ من الكذب والبـاطل.
🔺
وأما ابن زيد :
فروى الطبري عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً } قال: فأخذ طاووساً، وحمامة، وغرابـاً، وديكاً، ثم قال: فرّقهن، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلـي الآخر معهٰ فقطعهن وفرّقهن أربـاعاً علـى الـجبـال، ثم دعاهن فجئنه جميعاً، فقال الله: كما ناديتهن فجئنك، فكما أحيـيت هؤلاء وجمعتهن بعد هذا، فكذلك أجمع هؤلاء أيضاً؛ يعنـي الـموتـى.
ب. وقيل المعنى علـى كل ربع من أربـاع الدنـيا جزءاً منهن. روي ذلك عن ابن عباس
🔺روى ابن منصور و الطبري : عن أبـي حمزة ، عن ابن عبـاس: {ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } قال: اجعلهن فـي أربـاع الدنـيا: ربعاً ههنا، وربعاً ههنا، وربعاً ههنا، وربعاً ههنا، ثم ادعهن يأتـينك سعيا.
ج - وقيل بل المراد كل جبل من الأجبـال التـي كانت الأطيار والسبـاع التـي كانت تأكل من لـحم الدابة التـي رآها إبراهيـم ميتة، فسأل إبراهيـم عند رؤيته إياها أن يريه كيف يحيـيها وسائر الأموات غيرها.
وقالوا: كانت سبعة أجبـال.
روي عن ابن جريج والسدي ؛ وهو مروي عن بن عباس كذلك
🔺
أما ابن عباس :
فقد روى ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا قَالَ:
وَضَعَهُنَّ عَلَى سَبْعَةِ أَجْبُلٍ، وَأَخَذَ الرُّءُوسَ بِيَدِهِ.
🔺وأما ابن جريج :
روى الطبري عنه قال: لـما قال إبراهيـم ما قال عند رؤيته الدابة التـي تفرّقت الطير والسبـاع عنها حين دنا منها، وسأل ربه ما سأل، قال: فخذ أربعة من الطير ـ قال ابن جريج: فذبحها ـ ثم اخـلط بـين دمائهن وريشهن ولـحومهن، ثم اجعل علـى كل جبل منهن جزءاً حيث رأيت الطير ذهبت والسبـاع! قال: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رءوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله، فنظر إلـى كل قطرة من دم تطير إلـى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلـى الريشة الأخرى، وكل بَضعة وكل عظم يطير بعضه إلـى بعض من رءوس الـجبـال، حتـى لقـيت كل جثة بعضها بعضا فـي السماء، ثم أقبلن يسعين حتـى وصلت رأسها.
🔺
وأما السدي :
فروى الطبري عن أسبـاط، عن السدي، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إلـيك، ثم اجعل علـى سبعة أجبـال، فـاجعل علـى كل جبل منهن جزءا، ثم ادعهن يأتـينك سعياً! فأخذ إبراهيـم أربعة من الطير، فقطعهن أعضاء، لـم يجعل عضوا من طير مع صاحبه، ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسمهن علـى سبعة أجبـال، ثم دعاهن فطار كل عضو إلـى صاحبه، ثم أقبلن إلـيه جميعا.
4- وقيل بل أمره الله أن يجعل ذلك علـى كل جبل.
روي ذلك عن مجاهد والضحاك
🔺
أما مجاهد :
فروى الطبري عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {
ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } قال: ثم بدِّدهن علـى كل جبل يأتـينك سعياً، وكذلك يحيـي الله الـموتـى.
وكذلك قوله : ثم اجعلهن أجزاء علـى كل جبل، ثم ادعهن يأتـينك سعياً، كذلك يحيـي الله الـموتـى؛ هو مثل ضربه الله لإبراهيـم.
🔺
وأما الضحاك :
فروى الطبري عن جويبر، عن الضحاك، قال: أمره أن يخالف بـين قوائمهن ورءوسهن وأجنـحتهن، ثم يجعل علـى كل جبل منهن جزءاً
وفي رواية قال : فخالف إبراهيـم بـين قوائمهن وأجنـحتهن.
🔸ورجح الطبري أن الأمر بتفريق الطير على كل جبل كان يصل إليه إبراهيم عليه السلام وقت أمره الله بذلك
قال :
لأن الله تعالـى ذكره قال له: {
ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً } والكل حرف يدل علـى الإحاطة بـما أضيف إلـيه لفظه واحد ومعناه الـجمع. فإذا كان ذلك كذلك فلن يجوز أن تكون الـجبـال التـي أمر الله إبراهيـم بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة علـيها خارجة من أحد معنيين:
- إما أن تكون بعضاً أو جمعاً؛
فإن كانت بعضاً فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم السبيل إلـى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه.
أو يكون جمعا، فيكون أيضاً كذلك.
🔸وأيا كان المذكور فليس في معرفة نوع الطير واسمه مزيد فائدة .. وما نكره القرآن إلا لعدم أهميته فقال ( فخذ أربعة من الطير ) أي طير ... فذكر الله عدد الطير ولم يذكر نوعها أو اسمها لعدم أهميته
وأما الجبال فذكر عمومها ولم يحددها بعدد ، وليس من دليل على تخصيصها بعدد ...
وعلى ذلك فكل ما ورد في تحديد نوع الطير أو عدد الجبال هو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ولا تقدم شيئا ولا تؤخر ولا فائدة في الوقوف عندها
فهي مما يتوقف عنده ولا طائل من البحث فيها إذ ليس في الجهل بها نقص في فهم الآية ، ولا في معرفتها مزيد فهم ...
ولكننا نعلم أن الله أمره بأخذ هذه الطيور الأربعة وذبحها وتقطيعها وتفريقها على الجبال ثم يناديها فأتى كل جزء من الطير الواحد لأخيه ، وقيل بل كانت الرؤوس بيده فانضم كل طائر إلى رأسه وعادت الطيور بعد تمزقها وتفرقها طيرا صحيحا كاملا كما مر في الروايات عن السلف ...
▪قال الشعراوي رحمه الله : وكذلك يبسط الحق قصة الحياة وقصة الموت في تجربة مادية ليطمئن قلب سيدنا إبراهيم عليه السلام ...
▪وجمهور السلف على أن إبراهيم عليه السلام فعل ما أمره الله به ... فكان ذلك مثلا
أن كما أحيا الله لك هذه الطيور بعد تفرقها وتمزقها فجاءتك تسعى بين يديك فكذلك يحيي الله الموتى بعد بلاهم وتفرق أجسادهم
- وخالف أبو مسلم الأصفهاني ورجح قوله صاحب المنار من أن هذه كانت صورة مثلت لإبراهيم عليه السلام أن لو فعلت كذا سيحدث كذا ،... ولم يفعل ذلك إبراهيم لأنه اكتفى بما بينه الله له من الكيفية ... وانتصر لذلك بقوله أن الكيفية سر من أسرار الله لا يدرك كنهها البشر ، ولا يعين لفظ الآية ولا دليل أنه فعل ذلك إنما مثلت له صورة لتقريب الإحياء إليه ...
وقول ابي مسلم لا دليل عليه وهو مخالف لكل ما مر من أقوال السلف .. والله أعلم
♦
وخلاصة القول :
يبقى إبراهيم عليه السلام معلما لهذه الأمة في التامل والنظر في ملكوت الله ، والبحث عن الطمأنينة والسكينة ... أمرنا باتباع ملته على الحنيفية السمحاء .. وشهد الله له بأنه أتم ووفى (
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) ( وإبراهيم الذي وفى )
وهو لم يشك - حاشاه - يوما ... وإنما كانت له نفس تواقة ؛ كلما رقت في مراقي النبوة والكمال طمحت للأعلى ؛ وكلما غمرها اليقين اشتاقت للقرب أكثر المعاينة بالمعاينة ... وإذا اضطرب القلب تاقت للسكينة والأنس فأنس بمولاه ...
صلوات الله عليه وعلى نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم
▪
وأختم بقول سيد قطب في الظلال عن هذه التجربة الإبراهيمية وذلك الشوق النبوي حيث قال :
[
إنه التشوف إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية. وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل.. حين يجيء هذا التشوف من إبراهيم فإنه يكشف عما يختلج أحياناً من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين!
إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره؛ وليس طلباً للبرهان أو تقوية للإيمان.. إنما هو أمر آخر.. له مذاق آخر إنه أمر الشوق الروحي، إلى ملابسة السر الإلهي، في أثناء وقوعه العملي.
ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل، الذي يقول لربه، ويقول له ربه. وليس وراء هذا إيمان، ولا برهان للإيمان. ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل؛ ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها.. وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان.
ولقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع في قلب إبراهيم ومنحه التجربة الذاتية المباشرة
ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه ، وهو السر الذي يقع في كل لحظة ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه ؛ إنه سر هبة الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد . ]
📚
المصادر والمراجع :
- العين للخليل بن أحمد الفراهيدي 170 هـ / دار الهلال - مصر
- معاني القرآن يحيى الفراء 207 هـ / دار المصرية للتأليف والترجمة ط1
- مجاز للقرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى 210 هـ : تحقيق محمد فؤاد سزكين / مكتبة الخانجي - القاهرة
- تفسير عبد الرزاق الصنعاني 211 هـ
- الإيمان للقاسم بن سلام الهروي 224هـ/ مكتبة المعارف
- غريب القرآن وتفسيره لليزيدي 237 هـ
- صحيح أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري 256 هـ
- صحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري 261 هـ
- تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 276 هـ
- تفسير غريب القرآن لابن قتيبة 276 هـ دار الكتب العلمية
- جامع البيان لابن جرير الطبري 310 هـ
- معاني القرآن وإعرابه للزجاج 311 هـ ، تحقيق عبد الجليل عبده / عالم الكتب - بيروت ط1
- تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم الرازي 327 هـ تحقيق أسعد محمد الطيب / مكتبة نزار - المملكة العربية السعودية ط3 : 1419 هـ
- الأضداد لابن الأنباري 328 هـ
- تفسير مجاهد للهمذاني 352 هـ
- معاني القرآن لأبي جعفر النحاس 338 هـ / جامعة أم القرى - مكة ط1
- الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري 395 هـ / دار الكتب العلمية
- تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين المالكي 399 هـ
- الكشف والبيان للثعلبي 427 هـ
- الهداية لمكي بن أبي طالب 437 هـ مجموعة بحوث الكتاب والسنة - الشارقة ط1
- النكت والعيون للماوردي 450 هـ
- الأسماء والصفات للبيهقي 458 هـ / مكتبة السوادي جدة
- شعب الإيمان للبيهقي 458 هـ / مكتبة السوادي جدة
- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني 502 هـ
- تفسير الكشاف للزمخشري 538 هـ مذيلا بالانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام أحمد بن منير الإسكندري ( 683 هـ ) / دار الكتاب العربي - بيروت ط1 :1427
- المحرر الوجيز لابن عطية 546 هـ
- زاد المسير لابن الجوزي 597 هـ
- جامع الأصول لابن الأثير 606 هـ
- فوائد في مشكل القرآن لسلطان العلماء العز بن عبد السلام 660 هـ/ دار الشروق جدة
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ
- المنهاج شرح صحيح مسلم ابن الحجاج ليحيى ابن شرف النووي 676 هـ
- مجموع الفتاوى لابن تيمية الحراني 728 هـ/ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
- التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الغرناطي 741هـ / الأرقم بن أبي الأرقم - بيروت ط1 1416هـ
- بدائع التفسير لابن قيم الجوزية 751 هـ/ دار ابن الجوزي
- تهذيب مدارج السالكين لابن قيم الجوزية 751 هـ: تهذيب عبد المنعم صالح العلي / مؤسسة الرسالة ط7 : 1426هـ
- الدر المصون للسمين الحلبي 756 هـ
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ
- البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي 774 هـ
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 852 هـ
- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي 885 هـ
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 911 هـ
- فتح الرحمن بما يلتبس على قارئ القرآن للإمام أبي يحيي زكريا الأنصاري 926 هـ / المكتبة العصرية بيروت
- كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجة أو حاشية السندي على سنن ابن ماجة 1138 هـ
- فتح القدير للشوكاني 1250 هـ
- روح المعاني في تفسير القرآن لشهاب الدين الآلوسي 1270 هـ / دار الكتب العلمية - بيروت ط1
- المنار ( تفسير القرآن الحكيم ) محمد رشيد رضا 1282 هـ / الهيئة المصرية العامة للكتاب 1990
- محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ
- تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن للسعدي
- تفسير السعدي 1376 هـ / المكتبة العصرية - بيروت
- التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ
في ظلال القرآن لسيد قطب 1393 هـ / دار الشروق
- خواطر محمد متولي الشعراوي / 1419 هـ
- الجامع الوجيز في تفسير آي الكتاب العزيز للدكتور أيمن فاتح العامر ط1
- إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم / كتاب الإيمان لعبد الله بن حمود الفريح
- تحفة المفسر أو نظم المقدمة في أصول التفسير لابن تيمية / عبد الحكيم أبو صندل / مكتبة نظام اليعقوبي الخاصة البحرين .