قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: ألم تر إلى الّذين قيل لهم اختلف المتأولون فيمن المراد بقوله الّذين قيل لهم؟ فقال ابن عباس وغيره: كان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن عمرو الكندي وجماعة سواهم قد أنفوا من الذل بمكة قبل الهجرة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين، فأمرهم الله تعالى بكف الأيدي، وأن لا يفعلوا، فلما كان بالمدينة وفرض القتال، شق ذلك على بعضهم وصعب موقعه، ولحقهم ما يلحق البشر من الخور والكع عن مقارعة العدو فنزلت الآية فيهم، وقال قوم:
كان كثير من العرب قد استحسنوا الدخول في دين محمد عليه السلام على فرائضه التي كانت قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها والموادعة وكف الأيدي، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له، فنزلت الآية فيهم، وقال مجاهد وابن عباس أيضا: إنما الآية حكاية عن اليهود أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم، ونهي المؤمنين عن فعل مثله، وقالت فرقة: المراد بالآية المنافقون من أهل المدينة عبد الله بن أبيّ وأمثاله، وذلك أنهم كانوا قد سكنوا على الكره إلى فرائض الإسلام مع الدعة وعدم القتال، فلما نزل القتال شق عليهم وصعب عليهم صعوبة شديدة، إذ كانوا مكذبين بالثواب، ذكره المهدوي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحسن هذا القول أن ذكر المنافقين يطرد فيما بعدها من الآيات، ومعنى كفّوا أيديكم أمسكوا عن القتال، والفريق: الطائفة من الناس، كأنه فارق غيره. وقوله: يخشون النّاس كخشية اللّه يعني أنهم كانوا يخافون الله في جهة الموت، لأنهم لا يخشون الموت إلا منه، فلما كتب عليهم قتال الناس رأوا أنهم يموتون بأيديهم، فخشوهم في جهة الموت كما كانوا يخشون الله، وقال الحسن: قوله: كخشية اللّه يدل على أنها في المؤمنين، وهي خشية خوف لا خشية مخالفة، ويحتمل أن يكون المعنى يخشون الناس على حد خشية المؤمنين الله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ترجيح لا قطع، وقوله: أو أشدّ خشيةً قالت فرقة: أو بمعنى الواو، وفرقة: هي بمعنى «بل»، وفرقة: هي للتخيير، وفرقة: على بابها في الشك في حق المخاطب، وفرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد شرحت هذه الأقوال كلها في سورة البقرة في قوله: أو أشدّ قسوةً [الآية: 74] أن الموضعين سواء، وقولهم، لم كتبت علينا القتال؟ رد في صدر أوامر الله تعالى وقلة استسلام، «والأجل القريب» يعنون به موتهم على فرشهم، هكذا قال المفسرون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يحسن إذا كانت الآية في اليهود أو المنافقين، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام وكثرة عددهم.
قوله تعالى: قل متاع الدّنيا قليلٌ والآخرة خيرٌ لمن اتّقى ولا تظلمون فتيلاً (77)
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء: متاع الدّنيا، أي الاستمتاع بالحياة فيها الذي حرصتم عليه وأشفقتم من فقده قليلٌ، لأنه فان زائل والآخرة التي هي نعيم مؤبد خيرٌ لمن أطاع الله واتقاه في الامتثال لأوامره، على المحاب والمكاره، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «تظلمون» بالتاء على الخطاب، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يظلمون» بالياء على ترك المخاطبة وذكر الغائب، والفتيل الخيط في شق نواة التمرة، وقد تقدم القول فيه). [المحرر الوجيز: 2/604-606]