تحرير القول في المراد بلهو الحديث في قوله تعالى{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}
أولاً:
اختلف المفسرون في المراد في المراد بالشراء في الآية هل هو بمعنى الاختيار والتفضيل والاستحسان، أم هو الشراء بالمعنى المعروف في المعاملة والمعاطاة على قولين:
القول الأول: معنى الشراء في الآية الاختيار والاستجباب وهو قول قتادة ومطر .
التخريج:
أما قول قتادة فقد رواه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة ، وابن جرير الطبري عن سعيد عن قتادة قال: قوله: {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللّه بغير علمٍ} واللّه لعلّه أن لا ينفق فيه مالاً، ولكن اشتراؤه استحبابه، بحسب المرء من الضّلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ، وما يضرّ على ما ينفع.
وأما قول مطر فقد رواه ابن جرير قال: حدّثني محمّد بن خلفٍ العسقلانيّ، قال: حدّثنا أيّوب بن سويدٍ، قال: حدّثنا ابن شوذبٍ، عن مطرٍ، في قول اللّه {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث} قال: اشتراؤه: استحبابه.
القول الثاني: المقصود الشراء الحقيقي المعروف بالثمن ذكره الطبري ورجحه واستدل على ذلك بخبر للنبي صلى الله عليه وسلم .
تخريج الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم:
رواه الترمذي في سننه قال: (حدّثنا قتيبة، قال: حدّثنا بكر بن مضر، عن عبيد الله بن زحرٍ، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرّحمن، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ ولا تعلّموهنّ، ولا خير في تجارةٍ فيهنّ وثمنهنّ حرامٌ، وفي مثل ذلك أنزلت عليه هذه الآية {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللّه} إلى آخر الآية.
هذا حديثٌ غريبٌ إنّما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة والقاسم ثقةٌ، وعليّ بن يزيد يضعّف في الحديث، سمعت محمّدًا يقول: القاسم ثقةٌ، وعليّ بن يزيد يضعّف)
وهذا القول في المقصود بالشراء ترتب عليه أن كثيراً من السلف فسر المراد بشراء لهو الحديث هو شراء المغنية بالمال وهو قول ابن عباس ومجاهد.
التخريج:
أما قول ابن عباس فقد رواه الطبري قال:- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، أو مقسمٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: شراء المغنّية.
أما قول مجاهد فقد رواه الهمذاني في جزء تفسير مجاهد وابن جرير عن طريق ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث} قال: المغنّي والمغنّية بالمال الكثير، أو استماعٌ إليه، أو إلى مثله من الباطل.
بقية أقوال المفسرين في المراد بلهو الحديث:
أما المراد بلهو الحديث فقد اختلف فيه المفسرون على أقوال:
القول الأول: الغناءوالاستماع إليه وإلى كل لهو.
وهو قول ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وعكرمة .
التخريج:
أما قول ابن مسعود:
فقدرواه ابن وهب المصري ،وابن أبي شيبة في مسنده والطبريفي تفسيره ، والحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنّه سمع عبد اللّه بن مسعودٍ وهو يسأل عن هذه الآية: {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله}، فقال عبد اللّه: الغناء، والّذي لا إله إلا هو، يردّدها ثلاث مراتٍ.
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وأما قول ابن عباس:
فقد رواه الطبري عن طريق عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس.
وعن طريق ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسمٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: هو الغناء والاستماع له، يعني قوله: {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث}.
وأما قول جابر بن عبد الله :
فقد رواه الطبري في تفسيره قال:حدّثنا الحسن بن عبد الرّحيم، قال: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، قال: حدّثنا سفيان، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن جابرٍ، في قوله: {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث} قال: هو الغناء والاستماع له.
وأما قول مجاهد:
فقد رواه ابن وهب والرملي في جزء تفسير مسلم بن خالد والطبري في تفسيره عن طريق أبي نجيح عن مجاهد.
ورواه عبد الرزاق في تفسيره والنهدي وابن جرير الطبري في تفسيره عن طريق سفيان الثوري عن عبد الكريم عن مجاهد قال : الغناء وكل لعب لهو.
ورواه النهدي والطبري في تفسيره عن طريق حبيب بن أبي ثابت عن مجاهد قال : الغناء .
ورواه الطبري في تفسيره عن طريق شعبة عن الحكم عن مجاهد قال: الغناء.
وأما قول عكرمة :
فقد رواه الطبري عن طريق عثّام بن عليٍّ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن شعيب بن يسارٍ، عن عكرمة، قال: {لهو الحديث} الغناء.
ورواه أيضا عن طريق أسامة بن زيد عن عكرمة في قوله {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث} قال: الغناء.
-----
القول الثاني: الطبل وهو قول آخر لمجاهد.
التخريج :
رواه ابن جرير في تفسيره قال:- حدّثني عبّاس بن محمّدٍ، قال: حدّثنا حجّاجٌ الأعور، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: اللّهو: الطّبل.
القول الثالث: حديث الباطل ، وهو قول ابن زيد وقتادة وعطاء الخرساني.
التخريج:
اما قول ابن زيد:
فقد رواه الطبري في تفسيره قال:حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللّه بغير علمٍ ويتّخذها هزوًا} قال: هؤلاء أهل الكفر، ألا ترى إلى قوله: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبرًا كأن لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقرًا} فليس هكذا أهل الإسلام، قال: وناسٌ يقولون: هي فيكم، وليس كذلك، قال: وهو الحديث الباطل الّذي كانوا يلغون فيه.
وأما قول قتادة :
فقد رواه عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره قال: أنا معمر عن قتادة في قوله ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال أما والله لعله ألا يكون أنفق فيه مالا وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق.
وأما قول عطاء فقد رواه الرملي في جزء تفسير عطاء الخرساني قال:حدثنا يوسف بن عديٍّ، قال: ثنا رشدين بن سعدٍ، عن يونس بن يزيد، عن عطاءٍ الخراساني في قوله عزّ وجلّ: {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث} قال: الغناء والباطل ونحو ذلك.
القول الرابع الشرك قاله الضحاك.
التخريج :
رواه ابن جرير الطبري قال: حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك، يقول، في قوله: {ومن النّاس من يشتري لهو الحديث} يعني الشّرك.
الدراسة:
أما القول الأول : الغناء والاستماع له :
فهو قول عامة المفسرين من السلف من الصحابة والتابعين، فقد صح عن ابن مسعود أنه لما سئل عن الآية أقسم أنه الغناء، وصح عن جابر وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم ، وورد عن ابن عمر رضي الله عنهما تفسير لهو الحديث بالغناء ، واعتبر أهل العلم تفسير الصحابي في المنزلة الثالثة بعد تفسير القرآن بالقرآن وبعد تفسير القرآن بالسنة ، لأنهم أعلم الأمة بالتنزيل ، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، كما أنهم أهل الخشية والورع ،
كما قال بهذا القول جماعة من التابعين منهم مجاهد وعكرمة وعطاء الخرساني ، وقال ابراهيم النخعي : الغناء ينبت النفاق في القلب ، وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك ويخرقون الدفوف، وقيل: الغناء رقية الزنا.
قال ابن كثير :لما ذكر تعالى حال السعداء، وهم الذين يهتدون بكتاب الله، وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ} "الزمر 23 الآية"، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب كما قال ابن مسعود في قوله تعالى { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال هو والله الغناء.
وورد في السنة تسمية الغناء باللهو : فقد جاء في البخاري : حدثنا الفضل بن يعقوب حدثنا محمد بن سابق حدثنا إسرائيل عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصارفقال نبي الله : يا عائشة ما كان معكم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو.
وأما القول الثاني الطبل:
فمبناه على أنه صنف من آلات الغناء ، وكأن القائل به يريد المزامير التي منها الطبل ، ولكن اُعترض على هذا القول لأن الطبل على قسمين طبل حرب وطبل لهو، وطبل الحرب لا حرج فيه لأنه يرهب العدو ، وأما طبل الدف فيجوز استعماله لأنه من آلات اللهو المشهرة للنكاح ويجوز استعماله فيه (ابن العربي في أحكام القرآن ).
وأما القول الثالث:
فمبناه على ما ورد من أسباب النزول للآية ومعظمها لا يصح منه شيء، فقد جاء في أسباب النزول روايات كثيرة فيها تسمية بعض الأفراد كالنضر بن الحارث وذُكر في ذلك أشياء متنوعة من كونه ذهب إلى بلاد فارس والروم وأنه يشتري كتبهم ويأتي بأخبار وقصص اسفنديار وكسرى ويقول للناس إن محمداً صلى الله عليه وسلم يذكر خبر عاد وثمود وأنا أحدثكم بأخبار كسرى وإسفنديار، وجاء أنه أيضاً كانت له قينة وأنه إذا سمع بأن أحداً استمع للقرآن أو تأثر به بعث إليه هذه القينة تسقيه وتغنيه ليصده عن الإيمان ، ولكن كل هذه روايات ضعيفة لا تصح .
أما القول الرابع الشرك:
فمبناه على سياق الآيات وأنها في الكفار ،فهي كقول الله تعالى عن الكفار أنهم : (اشتروا الضلالة بالهدى)، وقال ابن زيد في قوله {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا } قال هؤلاء أهل الكفر ، ألا ترى إلى قوله: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبرًا كأن لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقرًا} فليس هكذا أهل الإسلام، قال ابن عطية: والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث منضاف إلى كفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية ،بقوله :{ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا} والتوعد بالعذاب المهين ، ولكنه رد القول بأنها في الكفار فقط فقال: والآية باقية المعنى في أمة محمد ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر ولا يتخذوا الآيات هزوا ولا عليهم الوعيد ، بل ليعطل عباده ويقطع زماناً بمكروه وليكون من جملة العصاة.
الراجح:
هذه الأقوال كلها تدخل في معنى الآية ولا تضاد بينها ، فهذا من خلاف التنوع فالغناء داخل فيه لأنه أعظم ما يشغل عن ذكر الله وأنه يزاحم ذكر الله في قلب العبد مزاحمة لا خفاء فيها ، ولكن ذلك لا يختص بالغناء وآلات اللهو من الطبل والمزامير وحدها فإن لهو الحديث يصدق على هذا وعلى الاشتغال بقصص الباطل من الأعاجم التي تأتينا على صورة أفلام ومسلسلات ،وغير ذلك من كلام أصحاب أحاديث الباطل ، واختار الطبري أنه كل كلام يصد عن سبيل الله فقال: (والصّواب من القول في ذلك أن يقال: عنى به كلّ ما كان من الحديث ملهيًا عن سبيل اللّه، ممّا نهى اللّه عن استماعه أو رسوله، لأنّ اللّه تعالى عمّ بقوله {لهو الحديث} ولم يخصّص بعضًا دون بعضٍ، فذلك على عمومه، حتّى يأتي ما يدلّ على خصوصه، والغناء والشّرك من ذلك).
وقال السعدي: { لَهْوَ الْحَدِيثِ } أي: الأحاديث الملهية للقلوب، الصادَّة لها عن أجلِّ مطلوب. فدخل في هذا كل كلام محرم، وكل لغو، وباطل، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر، والفسوق، والعصيان، ومن أقوال الرادين على الحق، المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، ومن غيبة، ونميمة، وكذب، وشتم، وسب، ومن غناء ومزامير شيطان، ومن الماجريات الملهية، التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا.
والله أعلى وأعلم.
-------------