الحديثُ الخامسُ والسبعونَ بعدَ المائةِ
عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رَضِي اللهُ عَنْهُما قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فأفْطِرُوا، فإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ)) .
(175) الغَريبُ:
" غُمَّ عَلَيْكُمْ ": بالبناءِ للمجهولِ: استترَ عليكم بحاجبٍ، من غَيْمٍ وغيرِه. [غُمَّ] بضمِّ الغينِ المعجمةِ، وتشديدِ الميمِ.
" فَاقْدُرُوا لَهُ " : يعني قَدِّرُوا له فى الحسابِ، فأكْمِلوا عِدَّةَ شعبانَ ثلاثينَ يوماً.
وقيلَ: معناه [اقْدُرُوا] ضيِّقوا، بأن يُضَيَّقَ على شعبانَ، فيُجْعَلَ تسعاً وعشرينَ يوماً.
وعلى هذين التّفسيرينِ، حصلَ الخلافُ الآتي:
ويجوزُ الضمُّ والكسرُ في [دَالِ]: اقْدُرُوا لَهُ.
قولُه: [فَصُومُوا] يريدُ أن يُنْوَى الصِّيامُ وتُبَيَّتَ تلك النِّيَّةُ إلى الغدِ. وكذلك في قولِه: [فَأَفْطِرُوا].
المعنَى الإجماليُّ:
أحكامُ الشَّرعِ الشّريفِ تُبنَى على الأصلِ، فلا يُعدَلُ عنه إلا بيقينٍ.
ومن ذلك أن الأصلَ بقاءُ شعبانَ، وأن الذِّمَّةَ بريئةٌ من وُجوبِ الصِّيامِ، ما دامَ أنَّ شعبانَ لم تَكْمُلْ عِدَّتُه ثلاثينَ يوماً، فيُعْلَمَ أنه انتهى، أو يُرى هلالُ رمضانَ، فيُعلمَ أنه دَخَلَ.
ولذا فإن النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أناطَ صيامَ شهرِ رمضانَ، وفِطْرَهُ برؤيةِ الهلالِ.
فإن كان هناكَ مانعٌ من غيْمٍ، أو قَتَرٍ، أو نحوِهما، أَمَرَهُم أن يَقْدُرُوا حسابَه.
وذلك بأن يُتِمُّوا شعبانَ ثلاثينَ، ثم يصوموا؛ لأن هذا بِناءً على أصلِ [بقاءِ ما كانَ على ما كانَ].
اختلافُ العلماءِ :
اختلفَ العُلماءُ في حُكمِ صيامِ يومِ الثَّلاثينَ من شعبانَ إذا كان في مَغِيبِ الهلالِ غيْمٌ، أو قَتَرٌ، أو نحوُهما من الأشياءِ المانعةِ لرؤيتِه.
فالمشهورُ في مذْهبِ الإمامِ أحمدَ - الذي قال كثيرٌ من أصحابِه: إنَّه مذهبُه - هو وُجوبُ صومِه من بابِ الظَّنِّ والاحتياطِ، واستدلُّوا على ذلك بقولِه: ((فَاقْدُرُوا لَهُ)). وفسَّروها بمعنى: ضَيِّقُوا على شعبانَ، فقدِّروه تسعةً وعشرينَ يوماً.
وهذه الرّوايةُ عن الإمامِ أحمدَ من المُفْرداتِ، وهي مروِيَّةٌ عن جُمْلَةٍ من الصَّحابةِ، منهم أبُو هُريرةَ، وابنُ عمرَ، وعائشةُ، وأسماءُ.
وذهبَ جُمهورُ العُلماءِ ، ومنهم الأئمَّةُ الثّلاثةُ ؛ أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشَّافعيُّ إلى أنه لا يجبُ صومُه، ولو صامه عن رمضانَ لم يُجْزِئْه.
واختارَ هذا القولَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ، وقال: المنقولاتُ الكثيرةُ المستفيضةُ عن أحمدَ على هذا.
وقال صاحبُ [الفُرُوعِ]: لم أجدْ عن أحمدَ صريحَ الوُجوبِ ، ولا أمَرَ به ، ولا يَتَوَجَّهُ إضافتُه إليه.
واختار هذه الرِّوايةَ من كبارِ أئمَّةِ المذْهبِ: أبو الخطابِ وابنُ عَقِيلٍ.
ودليلُ هذا القولِ: ما رواه الشَّيخانِ، عن أبِي هُريرةَ مرفوعاً: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْماً)).
وهذا الحديثُ وأمثالُه يبيِّنُ أن معنى [فَاقْدُرُوا لَهُ] يعني: قَدِّرُوا حسابَه بجعْلِ شعبانَ ثلاثينَ يوماً.
وقد حقَّقَ ابنُ القَيِّمِ هذا الموضوعَ في كتابِه " الهَدْيِ " ونَصَرَ قولَ الجمهورِ، وردَّ غيرَه، وبيَّنَ أنه لم يَثْبُتْ عن أحدٍ من الصَّحابةِ قولٌ صريحٌ، إلا عن ابنِ عمرَ الذي مذهَبُه الاحتياطُ والتّشديدُ. وذكرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ أنَّ إيجابَ صوْمِ يومِ الشَّكِّ لا أصلَ له في كلامِ أحمدَ، ولا كلامِ أحدٍ من أصحابهِ , وإن كان بعضُهم قد اعتقدَ أَنَّ من مذهبِه إيجابَ صومِه. ومذهبُه الصَّريحُ المنصوصُ عليه هو جَوازُ فطرِه وجوازُ صومِه , وهو مذْهبُ أبي حنيفةَ , ومذْهبُ كثيرٍ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ ، وأصولُ الشَّريعةِ كلُّها مستقرَّةٌ على أن الاحتياطَ ليس بواجبٍ , ولا مُحَرَّمٍ.
واختلفوا فيما إذا رُئِيَ الهلالُ ببلدٍ، فهل يَلْزَمُ النَّاسَ جميعاً الصِّيامُ أم لا ؟
فالمشهورُ عن الإمامِ أحمدَ وأتباعِه وُجوبُ الصَّومِ على عمومِ المسلمينَ في أقطارِ الأرضِ؛ لأن رمضانَ ثبَت دخولُه، وثبتَ أحكامُه، فوجبَ صيامُه، وهو من مفرداتِ مذْهبِ أحمدَ، وهو مذْهبُ أبي حنيفةَ أيضاً.
وذهَب بعضُهم إلى عدمِ وُجُوبِه، وأنَّ لكلِّ أهلِ بلدٍ رؤْيَتَهم، وهو مذْهبُ القاسمِ بْنِ محمدٍ، وسالمِ بْنِ عبدِ اللهِ ، وإسحاقَ،
لِمَا روى كُرَيْبٌ قال:" قَدِمْتُ الشَّامَ، واسْتَهَلَّ رَمَضَانُ ، وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْنَا الْهِلاَلَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ،
ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلاَلَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ.
فَقَالَ : لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلاَ نَزَالُ نَصُومُ حتَّى نُكْمِلَ ثَلاَثِينَ أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ: أَلاَ تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟
فَقَالَ: لاَ ، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه مسلمٌ.
وذهب الشَّافعيُّ في المشهورِ عنه إلى التَّفصيلِ.
وهو أنَّه: إن اختلفت المطالعُ، فلكُلِّ قومٍ حُكْمُ مطْلَعِهم. [وإن اتفقت المطالعُ، فحُكْمُهم واحدٌ في الصِّيام والإفطارِ، وهذا اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ. وذكر الشّيخُ محمدُ بْنُ عبدِ الواهِبِ بْنِ المُرَاكِشِيِّ في كتابِه : [العذبُ الزُّلالُ في مباحثِ رؤيةِ الهلالِ] أنه إذا كان البُعدُ بينَ البلدينِ أقلَّ من 2226 من الكيلومترات فهلالُهُما واحدٌ، وإن كان أكثرَ فلا.
ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1ـ أن صيامَ شهرِ رمضانَ معلَّقٌ برؤيةِ النَّاسِ أو بعضِهم للهلالِ، وردَّ ابنُ دَقِيقِ الْعِيدِ تعليقَ الحُكمِ به على حسابِ المُنجِّمينَ، وبيَّن الصّنعانيُّ أنه لو توقَّف الأمرُ على حسابِهم لم يعرفْه إلا قليلٌ من النَّاسِ. والشرعُ مبنيٌّ على ما يعرفُه الجماهيرُ.
2ـ وكذلك الفطرُ معلَّقٌ بذلك.
3ـ أنه إن لم يُرَ الهلالُ لم يصوموا إلا بتكميلِ شعبانَ ثلاثينَ يوماً، وكذلك لم يُفْطِروا إلا بتكميلِ رمضانَ ثلاثينَ يوماً.
4ـ أنه إن حصلَ غَيْمٌ أو قتَرٌ، قَدَرُوا عدَّةَ شعبانَ تمامَ ثلاثينَ يوماً. وقال الصّنعانيُّ : جمهورُ الفقهاءِ وأهلُ الحديثِ على أن المرادَ من ((فَاقْدُرُوا لَهُ)) إكمالُ عدَّةِ شعبانَ ثلاثينَ يوماً ،كما فسَّره في حديثٍ آخرَ.
5ـ أنه لا يُصامُ يومُ الثّلاثينَ من شعبانَ، مع الغيْمِ ونحوِه.