المجموعة الرابعة:
حرّر القول في سبب نزول قوله تعالى: {وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذّبنا الله بما نقول}.
ذكر ابن كثير قولين :
- أن اليهود , وهم يعتبروا أناس من أهل الكتاب كانوا يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام عند تحيتهم له : السام عليك ( الموت ). قاله ابن أبي حاتم , و ابن جرير ,والإمام أحمد , و ذكره السعدي والأشقر .
واستدل ابن كثير ما جاء عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يهود فقالوا: السّام عليك يا أبا القاسم. فقالت عائشة: وعليكم السام و (اللعنة) قالت: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا عائشة، إنّ اللّه لا يحبّ الفحش ولا التّفحّش". قلت: ألا تسمعهم يقولون: السام عليك؟ فقال رسول الله: "أو ما سمعت أقول وعليكم؟ ".
- أن أناس من المنافقين , يظهرون الإيمان , كانوا إذا حيوا النبي عليه الصلاة والسلام قالوا له : السام عليك. قاله ابن عباس , وذكره السعدي.
[COLOR="Navy"]2. فسّر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }:
بعد أن بيّن تعالى في الآية السابقة {إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فاسحوا يفسح الله لكم } آداب المجالس فيما بين المؤمنين واحترام أهل الفضل والعلم لمكانتهم وعلو شأنهم , جاء هنا بهذه الآية تعليم من الله تبارك وتعالى للمؤمنين عما بينهم وبين خير البشر عليه الصلاة والسلام وهو أعلى رفعة وأعظم شأنا , وهو أدب من الآداب التي أدبهم بها بين يدي نجواهم للنبي صلى الله عليه وسلم , فلقد أحفوه بالمسائل وشق ذلك على النبي , ومن أجل تخفيف ذلك على النبي , أمر تعالى القادرين أن يقدموا صدقة بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام , فهي تطهرهم وتزكيهم ,و كان هذا تعظيما لمقام النبي عليه الصلاة والسلام , فبذلك يظهر صدق المؤمنين , و يظهر إيمانهم و حرصهم على لقائهم بالنبي عليه الصلاة والسلام واحترامهم له , عمن كان قصده كثرة الكلام , ولأن المال عزيز على النفوس , ترك أهل الباطل مناجاة النبي عليه الصلاة والسلام . بينما امتنع أهل الإيمان من مناجاة النبي عليه الصلاة والسلام بسبب ضعف كثير منهم عن الصدقة , فكانت رحمة الله الواسعة , ولطفه بعباده أن خفف عليهم وأذن لهم بمناجاته عليه الصلاة والسلام دون تقديم الصدقة لمن شقت عليهم .
وقد قيل أنه لم يعمل بهذه الآية سوى علي رضي الله عنه .
ولقد قال قتادة أنها آية منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار, وقال مقاتل : إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ .
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}:
يقول تعالى : أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول؟ لكنه تعالى رؤوف رحيم بعباده فقد وسع عليهم ولم يضيق , فنسخ وجوب ذلك عنهم , وبقي تعظيم النبي واحترامه والتأدب معه لم ينسخ .فتاب الله عليهم و أمرهم تعالى بالثبات والمداومة على أم العبادات التي أوجبها عليهم ,فريضة الصلاة المتضمنة الإخلاص للمعبود , والزكاة المتضمنة الإحسان على عبيده , وأمرهم بطاعته وطاعة ورسوله استسلاما وانقيادا لأوامرهما , واجتباب نواهيهما . فهو تعالى وحده من يجازيهم على أعمالهم حسب ما وقر وصدّقته قلوبهم.
3. بيّن معنى الظهار.
أصل الظهار مشتق من الظهر , والظهار معناه : قول الرجل لزوجته أنت علي كظهر أمي , أو غيرها من المحارم ,أو أنت علي حرام .
وحكمه.
هو حرام , وقد ذم تعالى المظاهرين بقوله : {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
ووجه الدلالة من الآية أن من قصد ظهار زوجته فإنها تحرم عليه , وكان قوله شنيعا وكذبا ينكره الشرع . وكما أنها لا تحل له حتى يكفر كفارة الظهار, فقد قال تعالى : {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وأما من لم يكن قاصدا الظهار , وما خرج منه من قول الظهار إنما هو سبق لسان فلا تحرم زوجته , فقد روى أبو داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لامرأته: يا أختي. فقال: أختك هي؟ "، فكان هذا إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم , لكنه لم يحرم زوجنه عليه بسبب عدم القصد وسبق اللسان.
4. استدلّ على فضل المهاجرين والأنصار.
قال تعالى :{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم }.
وجه الدلالة , الإشارة لتعظيم شأن المهاجرين في الآية الأولى ,وعلى استحقاقهم وصف الصادقين { أولئك هم الصادقون } لأجل أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، وابتغاؤهم فضلا من الله ورضوانا ونصرهم الله ورسوله , وهذا كله من إخلاصهم في أعمالهم لله تعالى , وفي الآية الثانية دلالة على أن الأنصار كان فضلهم بما اتصفوا به من الإيثار لإخوانهم المهاجرين , وبما كانوا يضمرون في قلوبهم المؤمنة ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضون أنفسهم عليه .