انتفاء المساواة بين المسلمين والمشركين
كان المشركين من أهل مكة يرون ما هم فيه من وفرة الأموال والأولاد وانفتاح الدنيا عليهم فاغتروا بذلك، وكانوا إذا سمعوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيمان بالبعث والنشور، استهزءوا بذلك وقالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا.
فأبطل سبحانه وتعالى زعمهم هذا بإنزال قوله تعالى:
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۙ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ(41) ).
فحصرت هذه الآيات احتمالات مصدر زعمهم الباطل، ليتبين خطأ زعمهم عقلياً ونقلياً، وهي أربع احتمالات ، وقد ورد في هذه الآيات كذلك من الأساليب والحروف الدالة على خطأ قولهم، سنأتي على بيان ذلك كله عند تفصيلنا في كل آية على حدة:
قال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)، وهذ استفهام إنكاري قرعهم به سبحانه وتعالى على قولهم المناقض للعقل، فكيف يستوي من يؤمن بالله ولا يشرك به شيئاً ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويؤمن القدر، ويعمل الصالحات ويجتنب السيئات ويطيع الله ورسوله، بمن يشرك بالله وكذب رسله وكتبه واليوم الآخر، وافترى على الله ابشع الأقوال وقال على الله بغير علم، لا والله يستوون، وقد قال سبحانه وتعالى (المجرمين) ولم يقل المشركين ولا الكافرين، لينبه على سبب عدم المساواة بينهم.
(وفي الآية كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الآخرة، وحرمان المشركين منه، لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد بين الخير والشر في القرآن ، قال تعالى: (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار)، وإذا انتفى أن يكون للمشركين حظ في جزاء الخير انتفى ما قالوه من أنهم أفضل حظاً في الآخرة من المسلمين كما هو حالهم في الدّنيا بطريق فحوى الخطاب.) منقول عن ابن عاشور بتصرف.
وكذلك هذه الآية بما فيها من استفهام انكاري فيها رد على كل من زعم أن دين الإسلام دين المساواة ورد على من نادى بوحدة الأديان، وهذا مخالف للشريعة؛ لأنه يقتضي المساواة بين أحكام المسلم وأحكام الكافر سواء في الدنيا أو الآخرة، وهو ما جاءت الشريعة بالتفريق بينهما أشد التفريق، بل هو أساس الدعوة إلى الله، فمن غير التفريق بين المسلم والكافر، لا حاجة بنا إلى الدعوة إلى الله وإلى توحيده، ولا إلى الجهاد في سبيل الله، فدين الإسلام دين العدل وليس دين المساواة.
قال تعالى: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، في الآية استفهامين انكاريين، الأول (ما لكم) أي: أي شيء حصل لكم حتى ادعيتم هذه الدعوى؟، الثاني (كيف تحكمون) أي: كيف تحكمون بهذا الحكم ما حجتكم فيه ودليلكم عليه؟، فلا تحكموا بأفضليتكم على المسلمين ولا مساواتهم لكم في جزاء الآخرة وكأنه مفوض إليكم الجزاء.
ثم بين سبحانه أن
حكمهم وزعمهم هذا له أربع احتمالات واحتجاجات لا يخرج عنها: فإما أن يكون سنده كتاباً سماوياً نزل من عنده سبحانه، وإما أن يكون سنده عَهْداً من عنده بأنه يعطيهم ما يقترحون ، وإما أن يكون لهم كفيل على الله ، وأما أن يكون اغتراراً بنصر شركائهم لهم، ذكرهم سبحانه فيما يأتي من الآيات:
قال تعالى: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ)، انتقل سبحانه وتعالى من التوبيخ إلى الاحتجاج على كذبهم ، فهذا هو
الاحتجاج الأول على كذبهم، فقد نفى سبحانه وتعالى بالاستفهام الانكاري أن يكون قد نزل عليهم من قبل كتاباً سماوياً يدرسونه، وقد خص لفظ الدراسة وليس القراءة، ليدل على الدراسة العميقة التي تبصر بما يحويه الكتاب، وليس القراءة السريعة التي قد لا تفيد غالباً، وهذا فيه إشارة إلى أنهم كانوا أمييون ليسوا أهل كتاب، ولما جاءهم كتاب ليهديهم ويبصرهم ويلحقهم بأهل الكتاب كفروا نعمة هذا الكتاب وكذبوه.
قال تعالى: (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ)، أي: أنه يذكر في ذلك الكتاب أن لكم ما تختارون من خير الجزاء، فتختارون كل ما تهواه نفوسكم بلا ممانع ومعارض من النعيم الدائم ودخول الجنات وغيرها.
قال تعالى: (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۙ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)، وهذا هو
الاحتجاج الثاني على كذبهم، فقد انكر سبحانه وتعالى زعمهم بالاستفهام الانكاري على أن يكون لهم أيمان أي: عهود ومواثيق مؤكدة مؤبدة أخذوها على الله بأن لهم ما يشتهون في الآخرة وما يحكمون ويأمرون به بدون مراجعة ونظر فيه.
قال تعالى: (سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ)، وهذه الآية كذلك قد بدأت بالاستفهام الانكاري وفيها ذكر
الاحتجاج الثالث على كذبهم، وهي آية مستأنفه تبين الآية السابقة ، فالعهود والمواثيق يحتاج فيها إلى كفلاء عادةً، فلما أنكر أن يكون لهم عهود ومواثيق طلب منهم بل تحداهم بأن يظهروا من هم الكفلاء والزعماء الذين هم منهم لتلك العهود والمواثيق، وقد حدد بأنه منهم تهكماً بهم وزيادة في الانكار عليهم، فكيف يكون الكفيل بذلك واحد منهم وهم الضعفاء الأذلاء المحتاجين لغيرهم في جميع أمورهم، الذين لا يملكون النفع ولا الضر لأنفسهم ولا لغيرهم،
فالمتعاهدَين لهم حالتين:
1.
إما أن يكونا متكافئين، فيلتزم كل منهما بالعهد والميثاق مقابل مصلحة أو فائدة يأخذها كل واحد منهما من الآخر، فما هي المصلحة التي ستلزمه سبحانه وتعالى القوي العزيز الذي بيده ملك كل شيء القادر على كل شيء على التعاهد مع هذا الضعيف المحتاج الذي لا يملك أي شيء بيده.
2.
وإما أن يكون أحد الطرفين قوي والآخر ضعيف، فيلتزم الضعيف بما يشترطه القوي مقابل الحصول على العفو والمغفرة، ولا يخفى على أحد بأن الله سبحانه وتعالى يستحيل بأن يكون هو الطرف الضعيف المحتاج إلى العفو والمغفرة فكيف يكون الخالق المالك محتاج إليهم وهو الذي خلقهم من العدم وهم مقرون بربوبيته له، ففي هذا خطأ منطقي لا يقبله العقل السليم، فلم يبقى إلا احتمال أن يكونوا هم الطرف الضعيف المحتاج إلى العفو والمغفرة والصفح ليتمكنوا من الحصول على جزيل المثوبات والعطيات، فيتحول الأمر من حجه لهم إلى حجة ودليل على زيغهم وضلالهم.
قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ)، وهنا كذلك انكر عليهم زعمهم بالاستفهام الانكاري وعرض
الاحتجاج الرابع على كذبهم، وللآية معنيان:
الأول: أن يكون لهم شركاء مع الله يشفعون لهم ويكشفون عنهم الضر يوم القيامة ويحفظونهم في الدنيا كذلك، فعجزهم بأمرهم بالإتيان بهم واحضارهم، وبعضهم ربط بين هذه الآية والتي بعدها
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) فيكون التعجيز بأن يأتوا بهم يوم القيامة يوم يكشف عن ساق يوم يفر المرء من أهله وأحبائه، ويتبرأ كل واحد من الآخر، ويجوز بأن تكون هذه الآية تذكير وزجر بذكر يوم القيامة بتقدير كلمة اذكر قبل هذه الآية.
و المعنى الآخر: أن لهم شهداء يشهدون لهم بصدق ما ادّعوه ويوافقونهم على أقوالهم، فليأتوا بهؤلاء الشهداء ليشهدوا لهم على صدقهم في دعواهم، ويستحيل هذا لأن قولهم هذا مليء بالمناقضات العقلية التي لا يوافق عليها حتى الطفل، فالطفل عندما يأمره مربيه ويأمر غيره بإحسان السلوك والأخلاق ووعده بالمكافئة على ذلك، ثم التزم بذلك فكافئه ولكنه كافئ معه غيره ممن لم يلزم بما امر به، فإنه يشعر بعدم العدل وبأن ذلك الطفل لا يستحق المكافئة بل الذم والتوبيخ، فإذا كان الطفل يفرق بين المحسن والمسيء فكيف لكم أن لا تفرقوا أنتم بينهم وتريدون كذلك من يشهد لكم على صحة ادعائكم؟ كلا لن يقبل صاحب عقل سليم بهذا، فما سبب مقولتهم هذه إلا الكبر والغرور، أعاذنا الله منهما.
ومما يلاحظ في أسلوب هذه الآيات الإنكار والتقريع الشديد على قولهم هذا، فقد احتوى المقطع سبعة استفهامات انكارية على وجازة المقطع وقصره، فدل هذا على شدة بعد هذه الدعوى عن العقل السليم من الشهوات والشبهات المضلة، والله أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصادر:
1. جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري.
2. الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان للقرطبي.
3. التحرير والتنوير لابن عاشور.
4. القرآن العظيم لابن كثير.
5. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي.
6. تفسير زبدة التفسير لمحمد سليمان الأشقر.
7. التسهيل لتأويل التنزيل (تفسير جزء تبارك) في سؤال وجواب لمصطفى العدوي.
8. التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم إعداد نخبة من العلماء بإشراف أ.د. مصطفى مسلم.