قال تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4(
هذه الآيات للاستدلال على بطلان عبادتهم لأوثانهم وعدم استحقاقها لصفة الإلهية ،
وجاء هذه الاستدل على عدة أوجة:
أولا : جاء هذا الاستدلال بأسلوب المناظرة والمحاجة فقال تعالى :( قل أرأيتم) وهذا أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بإلقاء الدليل على إبطال شركهم في عبادة الله ، مواجهة لهم ليكون أشد وقعا عليهم مما يلجؤهم إلى الاعتراف بالعجز عن معارضة هذه الحجج وتبكيتهم .فقال:{ أرأيتم } وهذا استفهام تقريري وهو كناية عن معنى : أخبروني ،أي :أخبرونى عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله- تعالى
ثانيا : حاجهم وناظرهم بطريقة التعجيز بقوله { أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أيتوني بكتاب } الآية
ثالثاً:بدأ المحاجة والتعجيز أولاً بالدليل العقلي القاطع على أن كل من سوى الله فعبادته باطلة فقال:(أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات)
(أَرُونِي )للتعجيز والتبكيت.{ ماذا } بمعنى ما الذي خلقوه ، ف ( ما ( استفهامية ، و ( ذا) بمعنى الذي . وأصله اسم إشارة ناب عن الموصول . وأصل التركيب : ماذا الذي خلقوا ،والاستفهامُ في { ماذا خلقوا } إنكاري.أى شيء في الأرض أوجدته وخلقته هذه الآلهة؟ وقطعاً لم تخلق شيئاً، وإذا لم يكن شيء من الأرض مخلوقاً لهم بطل أن يكونوا آلهة لِخروج المخلوقات عن خَلقهم ، وإذا بطل أن يكون لها خلق بطل أن يكون لها تصرف في المخلوقات كما قال تعالى : { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسَهم ينصرون } في سورة الأعراف ( 191 ، 192 ( .
قال ابن عاشور :والأمر في { أروني ماذا خلقوا من الأرض } مستعمل في التسخير والتعجيز كناية عن النفي إن لم يخلقوا من الأرض شيئاً فلا تستطيعوا أن تُروني شيئاً خلقوه في الأرض ، وهذا من رؤوس مسائل المناظرة ، وهو مطالبة المدّعي بالدليل على إثبات دعواه .
(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ) أم للاضراب بعد أن اضرب أن يكونوا خلقوا شيئاً في الأرض انتقل إلى نفي أن يكون لهم شرك في السموات أي مشاركين لله في خلق السموات. أي ؛ ليس لهم شرك مع الله في السموات والاستفهام للتوبيخ والتقريع .
قال ابن عاشور :وإنما أوثر انتفاء الشِركة بالنسبة للشركة في السماوات دون انتفاء الخلق كما أوثر انتفاء الخلق بالنسبة إلى الأرض لأن مخلوقات الأرض مشاهدة للناس ظاهر تطورها وحدوثها وأن ليس لما يدعونهم دون الله أدنى عمل في إيجادها ، وأما الموجودات السماوية فهي محجوبة عن العيون لا عهد للناس بظهور وجودها ولا تطورها فلا يحسن الاستدلال بعدم تأثير الأصنام في إيجاد شيء منها ولكن لمّا لم يدّع المشركون تصرفاً للأصنام إلا في أحوال الناس في الأرض من جلب نفع أو دفع ضر اقتصر في نفي تصرفهم في السماوات على الاستدلال بنفي أن يكون للأصنام شركة في أمور السماوات لأن انتفاء ذلك لا ينازعون فيه .
رابعاً : بعد أن فنّد زعمهم بألوهية أصنامهم بالادلة العقلية انتقل إلى تفنيدها ودمغها بالادلة النقلية .فقال :(ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)
قال ابن عاشور: ومناط الاستدلال أنه استدلال على إبطال دعوى المدعي بانعدام الحجة على دعواه ويسمى الإفحام . والمعنى : نفي أن يكون لهم حجة على إلهية الأصنام لا بتأثيرها في المخلوقات ، ولا بأقوال الكتب ، فهذا قريب من قوله في سورة فاطر ( 40 ( { أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه }
(ائتوني بكتاب من قبل هذا ) أي : هاتوا كتابا من كتب الله المنزلة على الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، يأمركم بعبادة هذه الأصنام.
والإشارة في قوله : {من قبل هذا } إلى القرآن لأنه حاضر في أذهان أصحاب المحاجة فإنه يُقرأ عليهم معاودة .
قال ابن عاشور :
ووجه تخصيص الكتاب بوصف أن يكون من قبل القرآن ليسد عليهم باب المعارضة بأن يأتوا بكتاب يُصنع لهم ، كمَا قالوا : { لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين } [ الأنفال : 31 ] .
ثم وسع عليهم أنواع الحجة ليكون عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك أقطع لدعواهم فقال :(أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك,
- فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق ( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) بالألف, بمعنى: أو ائتوني ببقية من علم.
- ورُوي عن أبي عبد الرحمن السلميّ أنه كان يقرؤه " أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ"، بمعنى: أو خاصة من علم أوتيتموه, وأوثرتم به على غيركم, والقراءة التي رجحها ابن جرير ( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) بالألف, لإجماع قرّاء الأمصار عليه.
والمعنى : أو بقية بقيت عندكم تروونها عن أهل العلم السابقين غير مسطورة في الكتب.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تزعمونه من أنكم على الحق.إلهاب وإفحام لهم بأنهم غير آتين بحجة لا من جانب العقل ولا من جانب النقل المسطور أو المأثور ، وقد قال تعالى في سورة القصص ( 50 ( { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم . }
وهكذا أبطل القرآن حججهم في إتخاذ الاصنام آله من دون الله وذلك بالادلة العقلية والادلة النقلية ، فبان زيفهم وكذب دعواهم باستحقاق آلتهم العبادة من دون الله .