القول في ترجيح الأخبار
قال أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيبُ البغدادي (ت: 463هـ): (ما أوجب العلم من الاخبار لا يصح دخول التقوية والترجيح فيه، لان المعلومين إذا تعارضا استحال تقوية أحدهما على الآخر إذ العلوم كلها تتعلق بسائر المعلومات على طريقة واحدة لا يصح التزايد والإختلاف فيها؛ واما ما لا يوجب من الإخبار دخول التقوية والترجيح فيها إذا لم يمكن الجمع بينها في الإستعمال لتعارضها في الظاهر؛ وإنما يصبح دخول الترجيح فيما لأنها تقتضي غلبة الظن دون العمل والقطع، ومعلوم ان الظن يقوي بعضه على بعض عند كثرة الأحوال والأمور المقوية لغلبته، فصح بذلك تقوية أحد الخبرين على الآخر بوجه من الوجوه، فتارة بكثرة الرواة وتارة بعدالتهم وشدة ضبطهم وتارة بما يعضد أحد الخبرين من الترجيحات التي نذكرها بعد إن شاء الله.
و كل خبر واحد دل العقل أو نص الكتاب أو الثابت من الأخبار أو الإجماع أو الأدلة الثابتة المعلومة على صحته وجد خبر آخر يعارضه؛ فإنه يجب اطراح ذلك المعارض والعمل بالثابت الصحيح اللازم، لأن العمل بالمعلوم واجب على كل حال.
- أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب قال: أنا محمد بن نعيم الضبي قال: ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفقيه البخاري قال: ثنا عبد العزيز بن حاتم قال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: إجماع الناس على شيء أوثق في نفسي من سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، فمما يوجب تقوية أحد الخبرين المتعارضين وترجيحه على الآخر سلامته في متنه من الاضطراب وحصول ذلك في الآخر؛ لان الظن بصحة ما سلم متنه من الاضطراب يقوي ويضعف في النفس سلامة ما اختلف لفظ متنه، وان كان اختلافا يؤدي الى اختلاف معنى الخبر، فو آكد واظهر في اضطرابه وأجدر أن يكون راويه ضعيفا قليل الضبط لما سمعه، أو كثير التساهل في تغيير لفظ الحديث، وان كان اختلاف اللفظ لا يوجب اختلاف معناه، فهو أقرب من الوجه الأول غير أن ما لم يختلف لفظه أولى بالتقديم عليه، فان قيل يجب ان تكون رواية الزيادة في المتن اضطرابا قلنا لا يجب ذلك؛ لأنه في معنى خبرين منفصلين على ما بيناه، وإن عرف محدث بكثرة الزيادات في الأحاديث التي يرويها الجماعة الحفاظ بغير زيادة، وسبق الى الظن قلة ضبطه وتساهله بالتغيير، والزيادة قدم خبر غيره عليه، ومما يوجب ذلك أيضا ان يكون سنده عاريا من الاضطراب وسند الآخر مضطربا، واضطراب السند أن يذكر راويه رجالا، فيلبس اسماءهم وانسابهم ونعوتهم تدليسا للرواية عنهم؛ وانما يفعل ذلك غالبا في الرواية عن الضعفاء، وقد يرجح أحد الخبرين بان يكون مرويا في تضاعيف قصة مشهورة متداولة معروفة عند أهل النقل، لأن ما يرويه الواحد مع غيره أقرب في النفس الى الصحة مما يرويه الواحد عاريا عن قصة مشهورة، وقد يرجح أيضا بضبط راويه وحفظه وقلة غلطه لأن الظن يقوى بذلك.
- أخبرنا محمد بن جعفر بن علان الوراق قال: أنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي قال: ثنا أبو يعلى أحمد بن علي قال: ثنا الحارث بن سريج قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: انما يستدل على حفظ المحدث إذا لم يختلف عليه الحفاظ ويرجح أيضا بأن يقول راويه سمعت فلانا ويقول راوي الآخر كتب الى فلان؛ لأن المخبر عن السماع والتلقي إذا كان ضابطا أبعد عن الغلط فيما سمعه، والآخر يخبر عن كتاب يجوز دخول التحريف والغلط فيه، ويرجع أيضا بأن يكون أحدهما منسوبا الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومرفوعا اليه، والآخر مختلفا فيه فيروي تارة مرفوعا وأخرى موقوفا، لان ما كان مختلفا فيه أمكن ان لا يكون مرفوعا، ولا يمكن مثل ذلك فيما اجمع انه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويرجع بان يكون أحدهما قد اختلف النقلة على راويه، فمنهم من يروي عنه الحديث في اثبات حكم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من يرويه عنه في نفى ذلك الحكم، والآخر لم يختلف نقلته في انه روى أحدهما، ويرجح بأن يكون راوي الخبر من هو صاحب القصة، والآخر ليس كذلك وهذا نحو رواية ميمونة بنت الحارث قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن حلالان، فوجب تقديم خبرها على خبر بن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوجها وهو محرم لأنها اعرف بالقصة، ويرجح بان يوافق مسند المحدث مرسل غيره من الثقات، فيجب ترجيح ما اجتمع فيه الإتصال والإرسال على ما انفرد عن ذلك، ويرجح بان يطابق أحد المتعارضين عمل الأمة بموجبه لجواز أن تكون عملت بذلك لأجله، ولم تعمل بموجب الآخر لعلة فيه، ويرجح بكثرة الرواة لأحد الخبرين لان الغلط عنهم والسهو ابعد، وهو الى الأقل أقرب ويرجح بان يكون رواته فقهاء لان عناية الفقيه بما يتعلق من الاحكام أشد من عناية غيره بذلك.
- أخبرني أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الواحد المروروذي قال: ثنا محمد بن عبد الله بن محمد الحافظ بنيسابور قال: ثنا أبو الطيب محمد بن أحمد المذكر قال: ثنا إبراهيم بن محمد المروزي، عن علي بن خشرم قال: قال لنا وكيع أي الإسنادين احب اليكم؟ الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله، أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله.
فقلنا: الأعمش عن أبي وائل.
فقال: يا سبحان الله الأعمش شيخ، وأبو وائل شيخ، وسفيان فقيه، ومنصور فقيه إبراهيم فقيه، وعلقمة فقيه، وحديث تداوله الفقهاء خير من ان يتداوله الشيوخ.
- أخبرني علي بن أبي علي البصري قال: ثنا محمد بن خلف بن محمد الخلال قال: ثنا محمد بن هارون بن حميد قال: ثنا إبراهيم بن سعيد قال: سمعت وكيعا يقول: حديث الفقهاء احب الي من حديث المشايخ، ويرجح بأن يكون أحد الخبرين خارجا على وجه البيان للحكم، والآخر ليس كذلك، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أيما إهاب دبغ فقد طهر ولم يفصل بين جلد ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل فهو مقدم على ما روى عنه من نهيه عن جلود السباع ان تفترش؛ لأنه لم يقصد بذلك النهي بيان نجاستها بل يجوز ان يكون نهى عن ذلك، لأن في افتراشها خيلاء وتشبها بملوك الأعاجم، وليس في الخبر تصريح بنجاستها فوجب تقديم خبر الدباغ.
- أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال: ثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن حيان قال: ثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب قال: ثنا أبو حاتم يعني الرازي قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: (الأصل قرآن وسنة فان لم يكن فقياس عليهما وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصح الاخذ منه فهو سنة، والإجماع أكبر من الخبر المفرد والحديث على ظاهره، فإذا احتمل المعاني فما اشبه منها ظاهره أولاها به، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع بن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل ولا يقال لاصل نم وكيف، وانما يقال للفرع لم فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة).
في آخر نسخة صف نقلا عن خاتمة الأصل الذي نقلت عنه ما لفظه هذا آخر كتاب الكفاية في علم الرواية والحمد لله رب العالمين والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين). [الكفاية في علوم الرواية: ؟؟]