مسألة : المسؤول من صدقاتكم فسح الله في أجلكم بيان معنى قول الإمام البيضاوي في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى (( بيدك الخير إنك على كل شيء قدير )) ذكر الخير وحده لأنه المقضى بالذات والشر مقضى بالعرض إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيرا كليا بيانا شافيا ؟ .
الجواب : لا شك أن الشرائع كلها متفقة على النظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد وكذا أحكام القضاء والقدر جارية على سنن ذلك وإن خفي وجه ذلك على الناس في كثير منها ولهذا ورد في الحديث لا تتهم الله على نفسك فإذا علم ذلك ومن المعلوم أن الله قدر الخير والشر كان مظنة أن يقول قائل كيف قدر الشر وهو خلاف ما علم نظره إليه شرعا وقدرا وهذه هي الشبهة التي تمسك بها المعتزلة .
والجواب أن الشر اليسير إذا كان وسيلة إلي خير كثير كان ارتكابه مصلحة لا مفسدة ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة حسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيرا لا شرا وصحة لا مرضا لاستلزامه ذلك فكذلك كلما قضاه الله من الشر فإنما قضاه بحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعا ولهذا ورد (( لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين )) وورد (( لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب )) فتقدير الذنوب وإن كان شرا فليست لكونها مقصودة في نفسها بل لغيرها وهو السلامة من داء العجب التي هي خير عظيم .
قال بعض المحققين ولهذا قيل يا من إفساده إصلاح يعني أن ما قدره من المفاسد فلتضمنه مصالح عظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها .
وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله لكونه لم يقصد بالذات بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله (( بيدك الخير )) فلذا اقتصر عليه في وجه أنه شامل لما قصد أصلا ولما وقع استلزاما وهذه من مسألة ليس في الإمكان أبدع مما كان التي قررها الغزالي وألفنا في شرحها كتاب تشييد الأركان فلينظره من أراد البسط والله أعلم.
مسألة : في قوله تعالى (( ولله على الناس حج البيت )) كيف أضاف الحج إلى البيت والمضاف غير المضاف إليه ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : (( الحج عرفة )) ؟.
الجواب : كيف تسأل عن هذا ومن شأن المضاف أبدا أن يكون غير المضاف إليه إلا إضافة البيان وهذه الإضافة في الآية من باب إضافة المصدر إلى مفعوله .
وأما حديث الحج عرفة فعلى حذف مضاف والتقدير معظم أفعال الحج وقوف عرفة .
فأعاد السائل السؤال: يحيط علم سيدنا ومولانا أنه إذا كان معظم أفعال الحج يكون بعرفة فما الحكمة في إضافة الحج إلى البيت دون غيره ؟ .
فأجبت: البيت هو المقصود بالذات فأضيف الحج إليه قال تعالى : (( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس )) .
وقال سبحانه (( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ))
وقال (( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ))
فالآيات والأحاديث دلت على أن البيت هو المقصود الأعظم وهو أشرف من عرفة وسائر البقاع إلا القبر الشريف النبوي فأضيف الحج إليه لأنه المعظم فوق عرفة
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (( الحج عرفة )) فاعتبار آخر وذلك لأنه سيق لبيان ما يعتنى الحاج بحصوله خوف فوات الحج فإن وقوف عرفة مقدر بزمان مخصوص وهو من زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم العيد فمن لم يدرك الوقوف في لحظة من هذا الزمان فاته الحج بخلاف الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق التي هي بقية أركان الحج فإنها لا تفوت أصلا ولا تتقيد بوقت بل هي مطلقة متى فعلت أجزأت فلهذا قال الحج عرفة أي الأمر الذي يحصل به إدراك الحج أو فواته وقوف عرفة فمن أدركه أدرك الحج ومن فاته الحج فهذه إضافة اعتبارية وقوله : ( حج البيت ) إضافة حقيقية فافهم الفرق بين الإضافتين.
مسألة : في قوله تعالى : (( يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين )) ما السمة التي كانت عليهم ؟ وهل كان للنبي صلى الله عليه وسلم عذبة ؟
فإن الشيخ مجد الدين الشيرازي نقل في شرح البخاري أنه كان له عذبة طويلة نازلة بين كتفيه وتارة على كتفه وانه ما فارق العذبة قط وأنه قال : (( خالفوا اليهود ولا تصمموا فإن تصميم العمامة من زي أهل الكتاب ))
وأنه قال : (( أعوذ بالله من عمامة صماء )) فهل هذه الأحاديث صحيحة وما على من علم أن العذبة سنة وتركها مستنكفا عنها وهل إذا اقتدى الشخص برسول الله صلى الله عليه وسلم في العذبة وحصل له الخيلاء يحرم عليه أم لا وهل يجوز أن يقال إن الأحاديث كلام الله ؟.
الجواب : أما السمة التي كانت عليهم فروى ابن أبي حاتم في تفسيره بأسانيد عن علي وابن عباس ومجاهد أنها الصوف الأبيض في نواصي خيولهم وأذنابها .
وروي عن أبي هريرة بالعهن الأحمر وروي عن مكحول وغيره أنها العمائم وروي من طريق وكيع عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر .
ورواه ابن المنذر من طريق هشام عن عباد بن حمزة وزاد في آخره مثل سيما الزبير .
وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم . وفي إسناده عمار بن أبي مالك ضعفه الأزدي .
وروي أيضا عن عروة قال نزل جبريل عليه السلام يوم بدر على سيما الزبير وهو معتجر بعمامة صفراء وهو مرسل صحيح الإسناد .
وروي أيضا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ( مسومين ) قال : معلمين ؛ وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود .
وفي إسناده عبد القدوس بن حبيب وهو متروك .
وروى ابن جرير بإسناد حسن عن أبي أسيد الساعدي وهو بدري قال خرجت الملائكة يوم بدر في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم.
فالذي صح من هذه الروايات في العمائم أنها صفر مرخاة بين الأكتاف .
ورواية البيض والسود ضعيفة. والاعتجار لف العمامة على الرأس قاله في الصحاح.
وأما العذبة فوقفت فيها على عدة أحاديث من لبس النبي صلى الله عليه وسلم وإلباسه وليس فيها
(( طويلة )) .
الأول : عن عمرو بن حريث قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه رواه مسلم وأبو داود .
الثاني : عن ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه قال نافع وكان ابن عمر يفعل ذلك رواه الترمذي في الشمائل .
الثالث : عن عبد الرحمن بن عوف قال عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يدي ومن خلفي رواه أبو داود .
الرابع : عن عائشة قالت عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وأرخى له أربع أصابع رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه مقدام بن داود وهو ضعيف .
الخامس : عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه رواه في الأوسط وفيه الحجاج بن رشد ضعيف .
السادس : عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف فأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها ثم قال هكذا فاعتم فإنه أعرب وأحسن رواه في الأوسط وإسناده حسن .
السابع : عن أبي عبد السلام قال قلت لابن عمر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتم قال كان يدير كور العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه ويرسلها بين كتفيه رواه الطبراني في الكبير وإسناده على شرط الصحيح إلا أبا عبد السلام وهو ثقة .
الثامن : عن أبي موسى أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى ذؤابتها من ورائه رواه في الكبير وفيه عبد الله بن تمام وهو ضعيف .
التاسع : عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالعمائم فإنها سيما الملائكة وأرخوها خلف ظهوركم رواه في الكبير وفيه علي بن يونس وهو مجهول .
العاشر : عن أبي إمامة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يولي واليا حتى يعممه ويرخي لها من جانبه الأيمن نحو الأذن رواه في الكبير وفيه جميع بن ثوب متروك .
الحادي عشر : عن عبد الله بن بسر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء ثم أرسلها من ورائه أو قال على كتفه رواه في الكبير وإسناده حسن .
الثاني عشر : عن عائشة قالت: عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف بفناء بيتي هذا وترك من عمامته مثل ورق العشر ثم قال رأيت أكثر الملائكة معتمين أخرجه ابن عساكر.
هذا ما حضرني الآن من الأحاديث فيها فقول الشيخ مجد الدين كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عذبة صحيح وقوله طويلة لم أره لكن يمكن أن يؤخذ من أحاديث إرخائها بين الكتفين .
وقوله بين كتفيه صحيح كما تقدم .
وقوله وتارة على كتفه لم أقف عليه من لبسه لكن من إلباسه كما تقدم في تعميمه عبد الرحمن بن عوف وعليا .
وقوله ما فارق العذبة قط لم أقف عليه في حديث بل ذكر صاحب الهدي أنه كان يعتم تارة بعذبة وتارة بلا عذبة.
وأما حديث خالفوا اليهود إلى آخره وحديث أعوذ بالله من عمامة صماء فلا أصل لهما ومن علم أنها سنة وتركها استنكافا عنها أثم أو غير مستنكف فلا .
قال النووي في شرح المذهب يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبغير إرساله ولا كراهة في واحد منهما ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها شيء وإرسالها إرسالا فاحشا كإرسال الثوب فيحرم للخيلاء ويكره لغير الخيلاء لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الإسبال في الازار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح .
وأما إذا اقتدى الشخص به صلى الله عليه وسلم في عمل العذبة وحصل له ضمن ذلك خيلاء فدواؤه أن يعرض عنه ويعالج نفسه على تركه ولا يوجب ذلك ترك العذبة فإن لم يزل إلا بتركها فليتركها مدة حتى يزول لأن تركها ليس بمكروه وإزالة الخيلاء واجبة .
وأما هل يجوز أن يقال الأحاديث كلام الله فنعم بمعنى أنها من عند الله قال تعالى: (( وما ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى )) وروى أبو داود وابن حيان في صحيحه من حديث المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ألا إني أوتيت الكتاب وما يعدله فرب شبعان على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما كان فيه من حلال استحللناه وما فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله )) .
وروى أبو داود من حديث العرباض بن سارية نحوه وفيه : (( ألا إني أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها بمثل القرآن أو أكثر )) .
وأصرح من ذلك في المطلوب ما رواه أحمد عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي مثل الحيين ربيعة ومضر فقال رجل : يا رسول الله وما ربيعة ومضر ؟ فقال : إنما أقول ما أقول )) وإسناده حسن .
وقال حسان بن عطية : (( كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن )) أخرجه الدارمي بإسناد صحيح عنه وهو شامي ثقة من صغار التابعين ولذلك شواهد كثيرة استوعبتها في القطعة التي كتبتها على سنن ابن ماجة وفيما ذكرناه كفاية.
مسألة : ما وجه عطف قوله تعالى : (( وكفر عنا سيئاتنا )) على قوله (( فاغفر لنا ذنوبنا )) مع أن الذنوب بمعنى السيئات ؟.
الجواب : فيه أوجه
أحدها أن المراد بالذنوب الكبائر وبالسيئات الصغائر ويؤيد هذا أن التكفير إنما يكون في الصغائر كما في الأحاديث الصحيحة .
الثاني : أن المراد بالذنوب ما قدموه قبل الإسلام وبالسيئات ما يحدث بعد الإسلام .
الثالث : أن المراد بالذنوب ترك الطاعات وبالسيئات فعل المعاصي .
الرابع : أن المراد بهما شيء واحد وأنه من باب عطف المترادفين كقوله:
* والفى قولها كذبا ومينا *