الدرس الثالث والعشرون: باب قول الله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]
وقوله - جل ذكره-: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10]
وقال أبو جمرة، عن ابن عباس: بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لأخيه: اعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء.
وقال مجاهد: {العمل الصالح}[فاطر: 10]: يرفع الكلم الطيب. يقال: {ذي المعارج}[المعارج: 3]: الملائكة تعرج إلى الله.
57: عن أبي هريرة- رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون". (7429)
58: عن أبي هريرة قال:قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبَّلها بيمينه، ثم يربِّيها لصاحبها كما يربِّي أحدكم فَلُوَّهُ، حتى تكون مثل الجبل)). ورواه ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:((ولا يصعد إلى الله إلا الطيب)). (7430)
59: عن ابن عباس: أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو بهن عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات، ورب العرش الكريم)). (7431)
60: عن أبي سعيد الخدري قال: بُعث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بذهبية فقسمها بين أربعة.
عن أبي سعيد الخدري قال: بعث عليٌّ، وهو في اليمن، إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بذهبية في تربتها، فقسمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم أحد بني مجاشع، وبين عيينة بن بدر الفزاري، وبين علقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وبين زيد الخيل الطائي، ثم أحد بني نبهان، فتغيَّظت قريش والأنصار، فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا، قال: ((إنما أتألَّفهم)). فأقبل رجل غائر العينين، ناتئ الجبين، كثُّ اللحية، مشرف الوجنتين، محلوق الرأس، فقال: يا محمد اتق الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فمن يطيع الله إذا عصيته، فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني)). فسأل رجل من القوم قتله - أراه خالد بن الوليد - فمنعه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما ولَّى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرميَّة، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنَّهم قتل عاد)). (7432)
61: عن أبي ذر قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله: {والشمس تجري لمستقرٍّ لها}. قال: ((مستقرُّها تحت العرش)). (7433)
الشرح:
مقصود البخاري بهذه الترجمة
قصد البخاري رحمه الله بهذا الباب ذكر بعض الأدلة على علو الله -تعالى-، وبيان أن ذلك ثابت بكتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبالعقل، والفطرة، فالإيمان بعلو الله -تعالى- وفوقيته، فطري عقلي شرعي، ومن خالف ذلك فقد انحرف عن طريق الرسل، وسلك في ذلك غير سبيل المؤمنين.
مناسبة الباب للباب قبله
قصد البخاري رحمه الله في هذا الباب والذي قبله إثبات علو الله، واستواءه على العرش، كما هو ثابت في نفس الأمر، وتضافرت عليه أدلة الوحي، والعقول والفطر، وكما هو مذهب السلف من الصحابة، وأتباعهم إلى اليوم.
علوّ الله تعالى على جميع خلقه، وثبوت ذلك بالشرع والعقل والفطرة
أولا: الأدلة من الشرع.
تنوعت النصوص الواردة في الدلالة على علو الله -تعالى- على خلقه، وكونه فوق عباده، إلى ما يقرب من عشرين نوعًا:
أحدها: التصريح بالفوقية، مقروناً بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات، كقوله -تعالى-: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} .
الثاني: ذكر الفوقية، مجردة عن الأداة، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}.
الثالث: التصريح بالعروج إليه، كقوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم" كما تقدم.
الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله -تعالى-: {إليه يصعد الكلم الطيب} .
الخامس: التصريح برفعه -تعالى- بعض خلقه إليه، كقوله -تعالى-: {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} ، وقوله: {إني متوفيك ورافعك} .
السادس: التصريح بالعلو المطلق، الدال على جميع مراتب العلوم، ذاتاً وقدراً، وشرفاً، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}، وقوله -تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله -تعالى-: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات، بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله -تعالى-: {إن الذين عند ربك} ، وقوله -تعالى-: {وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته}، ففرق تعالى بين من عنده عموماً، وبين من عنده من الملائكة.
التاسع: التصريح بأنه -تعالى- في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}، وتقدم أن ذلك، على وجهين، إما أن تكون "في" بمعنى "على"، أو يراد بالسماء العلو، لا يجوز غير ذلك.
العاشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله -تعالى-: كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يستحي من عبده، إذا رفع إليه يديه، أن يردهما صفراً" .
الحادي عشر: التصريح بالاستواء، مقروناً بأداة "على" مخصوصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات.
الثاني عشر: التصريح بنزوله -تعالى- كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل.
الثالث عشر: الإشارة الحسية إليه في العلو، كما فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: " إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فرفع إصبعه إلى السماء، وقال: "اللهم اشهد" .
الرابع عشر: سؤال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلفظ "أين الله؟ " وإخباره عمن قال: " الله في السماء" بأنه مؤمن .
الخامس عشر: اتفاق الكتب المنزلة من الله والرسل على أن الله فوق عباده عال عليهم، كما قال -تعالى- عن فرعون: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً} ؛ لأن موسى عليه السلام أخبر فرعون أن الله في السماء.
السادس عشر: عروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه -تعالى- وإخباره أنه تردد بينه -تعالى- وبين موسى، يطلب التخفيف من عدد الصلوات .
ذكر هذه الأنواع ابن أبي العز في شرح الطحاوية، واختار البخاري بعضًا منها في هذا الباب، ونوّع بينها للإيضاح.
ثانيًا: الإجماع.
قال المصنف: أشار البخاري إلى الإجماع بقصة زينب: أنها كانت تفتخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: " زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات"، قال: فهذا يدل على الإجماع.
ووجه الاستدلال بقصة زينب على الإجماع: أن ذلك كان متقرر عندهم، فلم ينكر ذلك أحد، بل يذكر في كل مناسبة.
ومما جاء في كلام السلف مما يدلّ على الإجماع:
قال أبو نصر السجزي في "الإبانة": "وأئتمنا، كسفيان، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، والفضيل، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، متفقون على أن الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما يشاء." .
وقال ابن عبد البر في شرحه لحديث النزول: "وفيه دليل على أن الله - عز وجل - في السماء على العرش، من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية، في قولهم: إن الله - عز وجل - في كل مكان، وليس على العرش، والدليل على صحة ما قال أهل الحق: قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ... ." إلى آخر كلامه رحمه الله.
ثالثًا: أقوال السلف.
الآثار عن الصحابة والتابعين في علوّ الله تعالى مما لا يُحصى.
- يقول شيخ الإسلام: " تبين وجوب إثبات العلو لله -تعالى- من وجوه:
أحدها: أن القرآن، والسنن المستفيضة، المتواترة، وغير المتواترة، وكلام السابقين والتابعين وأهل القرون الثلاثة، مملوء بما فيه إثبات العلو لله، وأنه مستوٍ على عرشه، بأنواع من الدلالات،... .".
- وقال ابن أبي العز: " ومن سمع أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر.".
رابعًا: دليل العقل.
أولًا: أنه لا يجوز أن يكون المخلوق فوق الخالق –تعالى وتقدّس-، بل لابد أن يكون الخالق عاليًا فوق خلقه.
- وصفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص، ولا تستلزم نقصاً، ولا محذور فيها، ولا تخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقتها يكون عين الباطل والمحال، الذي لا تأتي به شريعة أصلاً، فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده -تعالى-، وتصديق رسله، والإيمان بكتابه، وما جاء به رسوله، إلا بذلك؟
ثانيًا: يُقال: قد علم العقلاء كلهم بالضرورة، أن ما كان وجوده خارج الأذهان، فهو إما أن يكون داخلاً في الخلق، أو بائنا منهم خارجاً عنهم.
- ولا ريب أن الله - سبحانه - لما خلق الخلق، لم يخلقهم في ذاته المقدسة، فإنه الأحد الصمد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته.
- ولو لم يتصف - سبحانه - بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه، غير مخالط للخلق؛ لكان متصفاً بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق.
ذكر ذلك ابن أبي العز في شرح الطحاوية.
خامسًا: دليل الفطرة.
من الحجج القاطعة أنه تعالى فوق السماوات على عرشه: أن كلّ داعٍ يدعو الله تعالى يجد في نفسه دافعًا إلى الاتجاه إلى الله فوقه، وهو أمر ضروري وقطعي، فلا يمكن لأي سائل يسأل الله ويطلب منه إلا رفع يديه، واتجه بقلبه إلى من يستغيث به، الذي هو عال فوق جميع مخلوقاته، مستو على عرشه، فالعلم بذلك فطري ضروري عقلي، ونصوص الشرع جاءت مؤيدة ذلك مقررة له.
وأشار البخاري إليه بما ذكره عن أبي ذر أنه قال لأخيه، قبل أن يسلم: " أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يأتيه الخبر من السماء" أي: يأتيه الخبر من الله الذي في السماء؛ لأنه يقول للناس: أنا رسول الله إليكم.
قال شيخ الإسلام: " معرفة القلوب، وإقرارها بفطرة الله التي فطرها عليها، أن ربها فوق العالم، ..."، وقال في موضع آخر: " ولا ريب أن الله موجود، قائم بنفسه، وترفع إليه الأيدي عند الدعاء، كما فطر على ذلك جميع عباده، ..." .
معنى العروج
اختار البخاري بعض النصوص في هذا الباب، التي فيها ذكر الصعود والعروج ونحوهما؛ لوضوح الدلالة في ذلك على علو الله –تعالى-.
الأول: - قول الله - جل وعز -: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}
تعرج أي: تصعد، ذكره الأزهري والراغب وابن جرير وغيرهم.
فيُقال: عرج، يعرُج، عروجًا، ومعرجًا.
والعروج: ذهاب في صعود، ذكره الراغب.
والمعرج: المصعد، ذكره الليث والراغب.
قال ابن جرير في تفسيره للآية: يقول –تعالى ذكره- تصعد الملائكة، والروح – وهو جبريل – عليه السلام {إليه} يعني: إلى الله – جل وعز- والهاء في قوله: {إليه} عائدة على اسم الله.
الثاني: قول الله – جل وعز -: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}
و(ذي المعارج) فيه قولان:
الأول: ذا العلو، والدرجات، والفواضل والنعم، وهو مروي عن ابن عباس وقتادة، ذكره ابن جرير وأبو إسحاق.
قال الفراء: ذي المعارج، من نعت الله؛ لأن الملائكة تعرج إلى الله، فوصف نفسه بذلك.
الثاني: قيل: معارج الملائكة، وهي مصاعدها التي تصعد وتعرج فيها، وهذا القول مروي عن مجاهد، ذكره ابن جرير والبخاري، وأبو إسحاق دون نسبة.
قال الليث: والمعرج: الطريق الذي تصعد فيه الملائكة.
وقال ابن جرير في قوله -تعالى-: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون} ،فقوله: {يعرجون} معناه: يرقون فيه، ويصعدون.
الثالث: قول الله – جل وعز -: {إليه يصعد الكلم الطيب}
أورد البخاري في معنى هذه الآية أثرًا لمجاهد، رواه ابن جرير في تفسيره ولفظه: " الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه، فمن ذكر الله في أداء فرائضه، حمل عليه ذكر الله، فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه، رد كلامه على عمله، فكان أولى به ".
وقال ابن جرير في تفسير الآية: يقول -تعالى ذكره -: إلى الله يصعد ذكر العبد إياه وثناؤه، وأداء فرائضه، والانتهاء إلى ما أمر به .
قوله: " وقال أبو جمرة: عن ابن عباس، لما بلغ أبا ذر مبعث النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال لأخيه: أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء ".
وهذا فيه الإشارة إلى دليل الفطرة - كما سبق-، ونوع البخاري في الأدلة التي أوردها في هذا الباب للإيضاح، ومقصوده: بيان أن علو الله -تعالى- على خلقه، أمر مفطور عليه الخلق، ومعلوم بالعقل، والوحي جاء مؤيداً لذلك، وموضحاً له.
حديث أبي هريرة مرفوعًا: (... ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ ... ).
شرح مفردات الحديث
قوله: (يتعاقبون): التعاقب: إتيان فريق، عقب فريق، ثم يعود الأول، بعد إتيان الثاني.
والضمير في قوله (فيكم) يعود إلى المخاطبين، وهم الأمة المستجيبة للرسول –صلى الله عليه وسلم.
والأظهر أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة، قاله القرطبي، وأيده الحافظ.
وحجتهم: أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل، غير حفظة النهار، وبغير ذلك.
قوله: (ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر) أي: يجتمع في صلاة العصر الهابطون ليبيتوا مع العباد، والذين كانوا معهم في النهار، فالفريقان يحضران صلاة العصر، وصلاة الفجر، فيصعد الذين صحبوا العباد بالنهار، عقب صلاة العصر، ويبقى الذين يبيتون معهم ليلاً، ثم بعد اجتماع الفريقين أيضاً في صلاة الفجر يصعد الذين باتوا مع العباد، ويبقى الذين نزلوا في صلاة الفجر من السماء، والله -تعالى- يسأل كل فريق عن العباد، فيقول: (كيف تركتم عبادي) أي: على أي حال تركتموهم؟ وهو جل وعلا يسأل الملائكة عنهم –وهو أعلم بهم- ؛ لإظهار كرامتهم، فضلاً منه، وإحساناً إليهم، وبهذا يعلم أهمية المحافظة على هاتين الصلاتين في الجماعة.
قوله: (ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم – وهو أعلم – كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم، وهم يصلون.): وتقدم معنى العروج، وأنه: الصعود، والارتفاع، والذهاب إلى العلو، وهذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لأن السؤال حصل بعد صعودهم، حيث يصلون إلى المكان المحدد لهم، والله –تعالى- فوقهم، وهو – تعالى- يخاطبهم بذلك، بدون واسطة، كما هو ظاهر النص.
وهذا الحديث يتفق في المعنى مع قوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وكأن البخاري يشير بذلك إلى تفسيرها، وأن عروج الملائكة المذكور في هذا الحديث، داخل في مدلولها.
فوائد الحديث:
- يستفاد منه أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عنها وقع السؤال والجواب.
- وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين؛ لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين.
- وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره.
- وفيه الإخبار بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان.
- وفيه الإخبار بما نحن فيه، من ضبط أحوالنا، حتى نتيقظ، ونتحفظ في الأوامر والنواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا، وسؤال ربنا عنا.
- وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا، لنزداد فيهم حباً، ونتقرب إلى الله -تعالى- بذلك.
- وفيه كلام الله -تعالى- مع الملائكة، وغير ذلك من الفوائد التي ذكرها الحافظ.
- وفيه دليل على أن من جلس في مصلاه، يذكر الله ويدعوه، أنه في صلاة، لأن الملائكة يحضرون الصلاة معهم، وبعد الفراغ منها يصعدون.
حديث أبي هريرة مرفوعًا: (من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، ... ).
شرح مفردات الحديث
(الصدقة): ما يخرجه الإنسان من ماله، على وجه القربة، كالزكاة، لكن الصدقة –في الأصل – تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب.
وسميت صدقة: من الصدق؛ لأنها تدل على صدق إيمان المتصدق غالباً.
قوله: (بعدل تمرة) قيل: العدل بالفتح: المثل وما عادل الشيء، وكافأه، من غير جنسه، وبالكسر: ما عادله من جنسه وكان نظيره، وهذا قول القاضي عياض.
وقيل: الفتح والكسر لغتان فيها، وهو قول البصريين.
والمعنى: من تصدق بقدر تمرة، أو بقيمتها.
قوله: ( من كسب طيب) أي: تصدق بمال حلال، جيد، وإن كان قليلاً.
قوله: (ولا يصعد إلى الله إلا الطيب) تقدم هذا الحديث في الزكاة بسند متصل غير هذا.
وهذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد منه، حيث دل على علو الله -تعالى- وأنه فوق، وما قبله الله من الأعمال، فإنه يصعد إليه، فيبارك به لصاحبه، وينميه.
وقد اختار البخاري بعض النصوص في هذا الباب، التي فيها ذكر الصعود والعروج ونحوهما؛ لوضوح الدلالة في ذلك على علو الله –تعالى-.
قوله: (فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه) أي: أن الله -تعالى- يقبلها من صاحبها، فيأخذها بيده اليمنى، وكلتا يديه يمين، فينميها لصاحبها، ويبارك فيها، ويعتني بها عناية بالغة، كما يعتني أحدنا بأغلى ما لديه من المال، وأنفسه، وهو ولد الفرس، الذي يعد لمدافعة الأعداء وقتالهم، وحماية الأعراض، والنفوس، والأموال، حتى يصير ما هو بقدر التمرة – لشدة عناية الله تعالى به – مثل الجبل.
حديث ابن عباس: في دعاء الكرب.
وقد تقدم في الباب قبل هذا، وفيه اختلاف في سنده ومتنه، كما هي عادة البخاري.
والمقصود منه هنا قول: (رب العرش العظيم) وقوله: (رب العرش الكريم)، وقد تقدم أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، وليس فوقه مخلوق، وقد وصفه -تعالى- بأنه عظيم، وبأنه كريم، وأضافه -تعالى- إليه مما يدل على أن له خصوصية دون غيره من السماوات والأرض، وقد أخبرنا -تعالى- بأنه استوى عليه فهو من دلائل علوه -تعالى- فوق خلقه.
حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: (فمن يطيع الله إذا عصيته؟ فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني؟ )
شرح الحديث
قصة الحديث: أرسل النبي –صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب إلى اليمن، يدعو إلى الله -تعالى- ويقبض الزكاة من أصحابها، ويقضي في المنازعات، وكان ذلك قبل حجة الوداع، كما ذكره البخاري في آخر المغازي، ثم إن علياً وافى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بمكة، في حجة الوداع راجعاً من اليمن، وكان قد أرسل بذهيبة، تصغيرذهبة، أي قطعة من الذهب، فقسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين هؤلاء الأربعة المذكورين رجاء إسلامهم، وكانوا رؤساء قبائلهم، فإذا أسلموا، أسلم تبعاً لهم خلق كثير.
وقوله: (في تربتها) أي: أنها لم تخلص من ترابها، فليست ذهباً خالصاً؛ لأنها مختلطة بالتراب.
قوله: (فتغيظت قريش، والأنصار ) من الغيظ، أي غاظها ذلك، حيث لم يعطهم منها، وفي رواية: ( فغضبت).
(فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا) الصناديد: جمع صنديد، وهو: الرئيس.
قوله: ( إنما أتألفهم) أي: أعطيهم ليألفوا الدين، ويجتمعوا على حبه، والرغبة فيه، فأرغبهم فيه على طريق الإحسان إليهم بالدنيا حتى يصل إلى قلوبهم، فيحبوه ويرغبوا فيه، أو لأجل ما يتحصلون عليه من الدنيا، ثم بعد ذلك لما يرجونه من جزاء الله وثوابه في الآخرة.
والتأليف من الإلف، وهو الإجتماع والالتئام مع الحب.
والمعنى: إني أعطيهم؛ ليكون ذلك داعياً لهم إلى حب الإسلام، والرغبة فيه والإجتماع عليه، حتى يكونوا من أنصاره، ويتبعهم على ذلك أقوامهم وعشائرهم، فيحصل بذلك عز الإسلام، ونصره، فهذا العطاء مما يحبه الله ويثيب عليه، وهو من الإنفاق في سبيل الله -تعالى-.
- ووصفه الرجل المعترض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي أمور اتفقت فيه، وليست هذه الأوصاف الظاهرة في هذا الهالك مذمومة لذاتها.
وقوله: ( فمن يطيع الله إذا عصيته؟ ) يعني: أنه -صلى الله عليه وسلم- هو أحق الناس وأولاهم بطاعة الله -تعالى- وتقواه.
وهذا هو الضلال؛ أن يتصور الإنسان الطاعة معصية، فهذا الرجل المعترض تصور أن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصية، فقال: " اتق الله"، مع أن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو تقوى، ومن أعظم الطاعات، فهو يعطي لله، ولنصر دينه، وهداية عباده.
قوله: (فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني) أي يأمنني الله -تعالى- على الرسالة التي أرسلني بها إلى الأرض، ولا تأمنني أنت أيها المعترض، ومن على شاكلتك، لا تأمنوني على حطام الدنيا أن أضعه حيث يجب أن يوضع، على وفق أمر الله -تعالى-.
وفي رواية أخرى بلفظ: (فقال: ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً).
وهذا اللفظ أظهر، وأوضح في المقصود، من الرواية المذكورة هنا.
قال الحافظ: " وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة، لكنه جرى على عادته في إدخال الحديث في الباب، للفظة تكون في بعض طرقه هي المناسبة لذلك الباب، يشير إليها، ويريد بذلك شحذ الأذهان، والبعث على كثرة الاستحضار" .
قال الشيخ الغنيمان: ولا يخلو اللفظ المذكور من الدليل على المقصود، الذي هو علو الله -تعالى-؛ لأن قوله: ( فيأمنني على أهل الأرض) يدل على أن الآمن الذي هو الله -تعالى- في السماء.
ومعنى قوله: ( من في السماء) أي: الله الذي في السماء، و"في" هنا بمعنى "على"، فالعرب قد تضع "في" بموضع "على"، كما في قول الله -تعالى-: {فسيحوا في الأرض} أي: على الأرض.
أو يقصد بالسماء: العلو، أي: من في العلو، وكلاهما صحيح سائغ في اللغة والمعنى.
قوله: ( فسأله رجل من القوم قتله، أراه خالد بن الوليد، فمنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ) أي: استأذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وقد تقدم في المناقب أن السائل هو عمر بن الخطاب.
وقد جاء أن سبب منعه من قتله، خوف أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، فيصير بذلك تنفيراً عن الدخول في الإسلام.
قوله:( إن من ضئضئ هذا، قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم) والضئضئ: الأصل، يريد أن يخرج من نسله وعقبه .
والمقصود: الإخبار بأنه يأتي من جنس هذا الرجل الضال، قوم يسلكون مسلكه، يقرأون القرآن، ولكن لا يصل إلى قلوبهم، فهم لا يفهمونه على ما أريد، بل يضعونه في غير موضعه؛ لأنهم ضالون، وجاهلون، ولهذا يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، أي: يخرجون من الإسلام بسرعة وسهولة، غير متأثرين به، كأنهم لم يدخلوه، وهذا يدل على أنهم دخلوا في الإسلام، ولكن لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، ولم يفهموه على وجهه، ولهذا صار من أوصافهم: أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون الكفار عباد الأوثان، ومن أجل ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: (لئن أدركتهم، لأقتلنهم قتل عاد) أي: لا أبقي منهم أحداً، ويحتمل أن يراد به: القتل الشديد القوي.
حديث أبي ذر في سجود الشمس تحت العرش، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((مستقرها تحت العرش.)).
- قد تقدم شرحه في الباب قبل هذا، والشاهد منه هنا: أن الشمس في ارتفاعها، وأبعد ما تكون عن الأرض التي عليها المخاطبين آنذاك، تكون تحت العرش، فالمخلوقات كلها تحته، والله -تعالى- فوق العرش، فهو عالٍ على خلقه كلهم وفوقهم.
ومن الأحاديث الدالّة كذلك على علوّ الله تعالى صراحة، ولم يذكرها البخاري هنا:
- قصة معراج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه فوق السماوات كلها، وهي ثابتة ثبوتاً قطعياً بدون ريب.
- وحديث الرقية، وفيه: " ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك" . رواه أبو داود وأحمد.
- وحديث الأوعال، وفيه: " والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه". رواه أبو داود وأحمد وابن ماجد والترمذي وقال: حسن غريب.
- وحديث جبير بن مطعم في قصة الأعرابي الذي جاء يشكو قلة المطر والجوع، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: " ... إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته وأرضه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة" . رواه أبو داود والدارمي.
- وفي خطبته -صلى الله عليه وسلم- في عرفة، بعدما أمر، ونهى، جعل يقول: " ألا هل بلغت؟ " فيقولون: نعم، عند ذلك يرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول: " اللهم اشهد" - غير مرة - . رواه مسلم.
الرد على من خالف هذه الأدلة، وكشف الشبهات التي تعلّقوا بها
- يُقال لهم: لا يخلو أن يكون ما اتفقت عليه هذه النصوص، من إثبات العلو هو الحق، أو الحق نقيضه، إذ الحق لا يخلو عن النقيضين.
- فإذا كان نفي العلو هو الحق، فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا، لا نصاً، ولا مفهوماً، وكذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من الصحابة وأتباعهم، ولا أحد من أئمة المسلمين، ولا يمكن أحد أن ينقل عن واحد منهم شيئاً من ذلك، بل نقيضه هو المستفيض عنهم، كما هو الموافق للكتاب والسنة.
- ولازم ذلك: أن يكون الله ورسوله والمؤمنون، لم ينطقوا بالحق في هذا الباب، بل تكلموا بما يدل على الضلال، إما نصاً، أو ظاهراً.
شبهات والرد عليها
الشبهة الأولى: ادعائهم أن المشار إليه في الأدلة هو علوّ المكانة لا علوّ الذات.
- فإن قال قائل: هذه النصوص ما أريد بها إثبات علو الله على خلقه، وإنما أريد بها علو المكانة والقدر.
- فالجواب: فكان يجب على المتكلم بها أن يبين للناس الحق، الذي يجب أن يؤمن به ويعتقد، ظاهراً وباطناً، وأنه لم يرد بهذا الكلام مفهومه، ومقتضاه.
الشبهة الثانية: ادعاء المجاز.
- فإن قال قائل: إنه تكلم بالمجاز، المخالف للحقيقة.
- فالجواب: من المعلوم باتفاق العقلاء: أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي.
- ثمّ ادّعى نفاة العلو والصفات، أن القرينة الصارفة عن ذلك هي دلالة العقل، فاكتفى المتكلم بهذه القرينة؛ لأنها عقلية، عند كل عاقل.
وجواب هذا من وجوه:
الأول: إذا كان الهُدى إنما يستفاد من العقول، فلِم ينزل الله الكتاب، ويرسل الرسول؟
فيُقال لهم: إذا كان ما تكلم به الله ورسوله، إنما يفيد مجرد الضلال، والهدى إنما يستفاد من العقول، فلماذا ينزل الله الكتاب، ويرسل الرسول؟ أللعناء والشقاء؟ فإن تركهم على جاهليتهم خير لهم من أن ينزل عليهم الكتاب، ويرسل إليهم الرسول، هذا هو لازم هذا القول الباطل.
الثاني: لا تناقض بين العقل الصريح والنقل الصحيح.
- ويقال كذلك في الرد عليهم: أنّ الرسول جاء بإثبات العلو، والصفات، وذلك أظهر في العقل من قولكم.
- ثم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إما أن يتكلم بالهدى، أو بالضلال، أو يسكت عنهما، ومعلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بالضلال.
- ومعلوم بالعقل أنه لم يسكت عن بيان الحق، والهدى، والتحذير من اعتقاده الباطل، وبذلك يتفق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع العقل الصحيح، الذي لم تفسده الشياطين، والهوى المضل.
-فالعقل يوافق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا ما يقوله نفاة الصفات، فقولهم: أن القرينة الصارفة عن الظاهر، هي العقل، خطأ محض، إذ العقل يوافقها لا يخالفها كما توهموه.
وهذه الوجوه في الرد على من خالف في صفة العلو أوردها المصنف من كلام شيخ الإسلام.
إبطال القاعدة التي بنى عليها النفاة عقيدتهم في نفي الصفات، وصرف النصوص عن ظواهرها.
- من حججهم الباطلة التي حملتهم على صرف النصوص عن ظاهرها، ورأوا وجوب تأويلها لذلك، هي قاعدتهم: في أن جميع الأجسام حادثة لملازمتها للأعراض التي هي الصفات، فوجب تنزيه الرب -تعالى- عن كل صفة؛ لأنها تستلزم التركيب، أو الجسمية - كما زعموا-.
- فهم يزعمون أن الأعراض لا تكون إلا في جسم، والجسم لا بد أن يكون مركباً من الجوهر - كما زعموا-، ولهذا فهم ينفون صفة الاستواء والعلو، وغيرها من الصفات.
فيقال لهم: الحياة، والعلم، والسمع، والبصر - مما جوزتم لأنفسكم أن تصفوه به- لا يعقل أن تقوم إلا بجسم، مع أنكم تسمون الصفات: أعراضاً، ولا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه في المعنى.
ليس إثبات الصفات المراد به التمثيل أو التشبيه.
-كما يُقال: ليس المراد من إثبات ظاهر النصوص التمثيل أو التشبيه، فالسلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها.
- قال شيخ الإسلام: " ولا ريب أن الله موجود، قائم بنفسه، وترفع إليه الأيدي عند الدعاء، كما فطر على ذلك جميع عباده، ولا ريب أنه تجوز رؤيته في الآخرة، كما أخبر بذلك في كتابه، فإذا سموا هذه المعاني تجسيماً، فلا ينبغي لنا أن نترك ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، ونذهب إلى تأويلها، لمجرد هذه التسميات الحادثة المبتدعة" .
- فإثبات الصفات ليس فيه تشبيه كما زعموا، ولكن الأوهام وسوء الظن بالله ورسوله أرداهم.
-ومن جعل إثبات ظاهر النصوص المراد به التمثيل والتشبيه؛ فهؤلاء يغلطون من وجهين:
أحدهما: أنهم جعلوا المعنى الفاسد، هو ظاهر نص كلام الله وكلام رسوله، ولذلك أوجبوا تأويله، ليخالف الظاهر الذي زعموا، وليس الأمر كذلك.
الثاني: أنهم ردوا المعنى الصحيح الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل.
الشبهة الثالثة: زعمهم أنه تعالى لو كان في مكان، لأشبه المخلوقات.
تعلق نفاة العلو أيضاً: بأن الله -تعالى- لو كان في مكان، لأشبه المخلوقات؛ لأن ما أحاطت به الأمكنة فهو مخلوق.
فيقال: هذا نشأ عن القياس الفاسد، والتشبيه المستكن في نفوس هؤلاء، إذ لو آمنوا بأن الله على كل شيء قدير، وأنه ليس كمثله شيء، ما انطلت هذه الشبه وهذا الهراء على نفوسهم.
ويقال أيضاً: ألستم تقرون بأن الله -تعالى- موجود قبل خلق الكون، فهو -تعالى- كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " كان الله، ولم يكن شيء معه".
ونحن وأنتم وكل العقلاء، لا نعقل وجود أحد منا، إلا في مكان، وما ليس في مكان، فهو عدم، والله بخلاف ذلك، فلا يجوز أن يقاس بخلافه كما فعلتم، قلتم: لو كان في مكان لأشبه خلقه.
الشبهة الرابعة: زعمهم أنه يلزم من كونه تعالى في العلو التغير والانتقال.
هم يزعمون بهذه الشبهة أنه يلزم من كونه -تعالى- في العلو، التغير، والانتقال؛ لأنه، كان ولا مكان، فلما خلق المكان صار في العلو، فزال عن صفته في الأزل وصار في مكان.
فيُقال لهم: وأنتم يلزمكم أقبح من ذلك، وهو زعمكم أنه -تعالى- كان، لا في مكان، ثم صار في كل مكان، فقد تغير عندكم معبودكم، وانتقل من لا مكان، إلى كل مكان، وهذا لازم لكم، لا انفكاك لكم منه.
فالحق أن الله -تعالى- ليس كمثله شيء، لا في نفسه، ولا في فعله، ولا في صفاته، ولا في مفعولاته، وعلو الله العلي العظيم، واستواؤه على عرشه، كل ذلك ثابت له، حق على ظاهره، كما أخبر به -تعالى- عن نفسه، وأخبرت به رسله.
بطلان قول الجهميّة أن الله تعالى في كلّ مكان
وننقل هنا كلام الباقلاني - وهو من أئمة الأشاعرة - قال: " فإن قال قائل: أتقولون: إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبرنا في كتابه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، وقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} ، ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان، وفمه، وفي الحشوش، والمواضع التي نرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا، وشمائلنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه، وتخطئة قائله"، وقد سبق ذكره في الباب قبل هذا.
ذكر ما احتجّ به الجهمية لتقرير هذا المعنى الفاسد .
أولًا: احتجاجهم ببعض الآيات بحملها على غير ما فسّره بها السلف.
تعلّق الجهمية بقوله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}، وقوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية ، وزعموا أن الله - تبارك وتعالى - في كل مكان بنفسه وذاته.
فيقال لهم: يجب حمل هذه النصوص على المعنى الصحيح المجمع عليه، وهو أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، فهو المألوه المعبود في السموات والأرض.وهو الذي قاله أهل العلم بالتفسير.
وأما قوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية، ليس فيها حجة لهم؛ لأن علماء الصحابة والتابعين، الذين روي عنهم التفسير، قالوا في هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان. ولم يخالفهم في ذلك من يعتد به.
فعن ابن مسعود قال: " الله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" وذكرمثل ذلك عن الضحاك، وسفيان الثوري مثله.
فتبين أن هذه الآيات التي تعلق بها نفاة العلو، تدل على عكس قولهم، فهي متفقة مع النصوص الصريحة في الدلالة على علو الله -تعالى-.
ثانيًا: احتجاجهم بأثر ضعيف مروي عن ابن عباس.
فاحتجوا بما روي عن ابن عباس في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، أنه قال على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان.
وقال ابن عبد البر عن هذا الأثر: "أنه منكر، ونقلته مجهولون، وضعفاء، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يحتجون بمثل هذا الأثر الساقط؟".
ظهور صفة العلو، وكونها من الأصول العظيمة المتيقنة من الدين بالضرورة عند العامة والخاصة، وذكر من ضلّ فيها
صفة العلوّ من الأصول العظيمة الظاهرة عند عامة الأمة وخاصّتها، لما فطرت القلوب على الإقرار بأن الربّ سبحانه فوق العالم، ولدلالة الكتاب والسنة على ذلك، ولظهور ذلك في كلام السلف.
ويشهد لهذا: أن الجهمية أول ما ظهروا في الإسلام، وكان حقيقة قولهم في الباطن: تعطيل الرب -تعالى- من الصفات كلها، فكانوا في الباطن ينكرون أن يرى، أو يتكلم، أو أنه فوق العرش، أو أن يكون موصوفاً بالصفات التي جاءت بها كتب الله، أو دلت عليها الدلائل العقلية، لكنهم ما كانوا يظهرون من قولهم للناس، ما هو ظاهر البطلان؛ مثل نفي العلو المعروف، المتيقن من الدين بالضرورة عند العامة والخاصة، وإنما أظهروا من قولهم ما فيه شبهة، ولهم عليه حجة، فيكونون فيه أقل مخالفة لما يعلمه الناس من الحجج الفطرية، الشرعية، وهذا شأن كل من أراد أن يظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق، فإنهم لا ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة ابتداء، ذكره ابن تيمية.
ضلال الأشعرية في هذه المسألة
وقد ورث ضلال الجهمية في هذه المسألة وغيرها من مسائل الصفات كثير من علماء المسلمين، منهم الأشعرية والماتريدية الذين يزعمون أنهم أعداء للجهمية والمعتزلة وخصوم لهم، مع أنهم يتفقون معهم على إنكار علو الله تعالى، واستوائه على عرشه، ومجيئه لفصل القضاء بين عباده، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، كما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كما أنهم يؤولون الصفات إلا قليلاً، تأويلاً يؤول إلى الإنكار، مثل اليدين، والرجلين، والوجه، والرحمة، والمحبة، والضحك، والرضا، والغضب، والسخط، والمقت، وغير ذلك.
ويوافقون الجهمية في كون القرآن مخلوقاً، فإنهم يجعلون الكلام قسمين: نفسي، وهو المعنى القائم بالنفس، وهذا هو الذي يصفون الله به، ولفظي حرفي وهو المكتوب في المصاحف، وهو ليس كلاماً لله عندهم، بل هو عبارة عن كلام الله، وهو مخلوق، وهذا قول الجهمية الذين كفرهم السلف من أجله.
وهذا المذهب مازال يتبنّاه خلق ممن يتبنى مذهب الأشعرية، والماتريدية، معتقدين أن ذلك الضلال –أي إنكار الصفات وتأويلها- هو الحق وأنه مذهب أهل السنة، وأن أدلة كتب الله ووحيه إلى رسله ظواهر تدل على التشبيه بظاهرها، فلهذا يجب صرفها عن ذلك الظاهر.
ويرى هؤلاء من اعتقد ما دل عليه القرآن والسنة بظاهرهما، أنه مشبه ومجسم، ولهذا ترمي الأشعرية كل من اعتقد علو الله واستواءه على عرشه على الحقيقة، بالتشبيه، والتجسيم، وأحياناً يصرحون بكفرهم كما هو عقيدتهم في قرار نفوسهم.
مع أن العقل والفطر المستقيمة، السالمة من الانحراف، يتفقان على ما دل عليه وحي الله -تعالى-، مما دلت عليه النصوص الصريحة، الواضحة الكثيرة، من علو الله تعالى وفوقيته على خلقه.
والمقصود: أن علو الله -تعالى- ثابت بنصوص الكتب المنزلة على رسل الله، وبالفطر التي عليها عباده، وبالعقول التي لم تنتكس بفعل الشياطين، وبإجماع أهل العلم والإيمان من جميع الأمم، ولم يعرف خلاف في هذه المسألة، ونحوها إلا بعدما دخل كثير من الزنادقة في الإسلام نفاقاً، وقصداً لإفساد الدين، بعد المائة الأولى للهجرة.
ذكر افتراق الناس في مسألة العلو والاستواء
افترق الناس، في علو الله واستوائه، أربع فرق:
الأولى: الجهمية، النفاة، يقولون: ليس داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق، ولا تحت، وجميع الطوائف، من أهل البدع يتمسكون بنصوص، إلا الجهمية.
الثانية: قسم ثان من الجهمية يقولون: إنه بذاته في كل مكان، ويدخل في هؤلاء الأشاعرة.
الثالثة: من يقول: إنه فوق العرش، وهو في كل مكان، ويزعم أنه بذلك يجمع بين النصوص.
الرابعة: المتبعون للكتاب، والسنة، الذين أثبتوا ما أثبته الله ورسوله، من غير تحريف، فآمنوا بالله فوق سماواته، مستوٍ على عرشه.
ذكره شيخ الإسلام.
وبهذا التقسيم يظهر أن النفاة للاستواء والعلو، وغيرهما، على قسمين:
قسم يقول: إن الله لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا أمام، ولا خلف، ولا داخل العالم، ولا خارجه، وهذا لا يفهم منه إلا العدم المحض.
وقسم يقول: إنه في كل مكان، فيلزم أنه كان في كل مكان، قبل خلق المكان، فهو إذا في هذا الكون كله، قبل خلقه له، وهذا قول ظاهر الفساد، إذ معناه: كان في الأمكنة، قبل خلقها.
مسألة: ليس بين علوّ الله تعالى وبين معيّته لخلقه منافاة(1)
- علو الله -تعالى- واستواؤه على عرشه، ثابت ثبوتاً قطعياً، بدلالة الكتاب والسنة.
- وكذلك معيته -تعالى- لخلقه، وضحها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم.
فيجب الإيمان بأنه تعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه، حقيقة، وأنه كذلك موصوف بالقرب والمعية على الحقيقة.
وقد جمع الله تعالى بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، فأخبر -تعالى- أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا.
هل تخالف المعية الثابتة في قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ما ثبت من علوّ الله تعالى، وأنه فوق العرش؟
قال شيخ الإسلام: " لا يخالف ما ثبت من علو الله، وأنه فوق العرش، معيته لخلقه، الثابت بمثل قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}".
فكلمة "مع" في اللغة، إذا أطلقت، لم يكن ظاهرها، في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة، أو محاذاة، عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني، دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ويقال: هذا المتاع معي.
فالمعية لا تدل على المخالطة، والممازجة، وإنما تدل على المصاحبة والمقارنة ، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل".
فهو - سبحانه - مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، وهو فوق عرشه، وكل ذلك على ظاهره، غير محتاج إلى تأويل؛ وذلك لأن المفهوم من المعية في اللغة العربية: المصاحبة والمقارنة، ويختلف حكمها حسب مورد الخطاب.
بيان اختلاف حكم المعية حسب مورد الخطاب
المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد:
- فقوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} دل أن حكم هذه المعية، ومقتضاها: أنه مطلع عليكم شهيد عليكم، ومهيمن، عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
- وقوله تعالى: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، حق على ظاهره، ويدل على أن حكم هذه المعية: الاطلاع، والنصر، والتأييد.
- وقوله -تعالى-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: على الإيمان، لا أن ذواتهم حالة في ذاته، بل هم مصاحبون له ومتبعون له على الإيمان.
- وقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يدل على موافقتهم في الإيمان، وموالاتهم.
أنواع المعية
والمعية نوعان: عامة وخاصة.
فالأولى: هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}، ومن مقتضاها: المراقبة، والتخويف، والاطلاع على جميع التصرفات، وما تكنه الصدور.
والثانية: هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، ومن مقتضاها: النصر، والتأييد، والحفظ.
[فصل] المعية ليست هي العلم
الله -تعالى- مع عباده، يراهم، ويسمع كلامهم، وهو محيط بهم، وعلمه بهم من لوازم معيته لهم، وليست المعية هي العلم كما يتوهمه بعض الناس، فعلمه -تعالى - محيط بكل شيء ولا يختلف أو يتغير، ولذلك صارت المعية إلى خاصة، وعامة، وكل واحدة لها مقتضاها وحكمها، فمن مقتضى العامة: المراقبة، والتخويف، والاطلاع على جميع التصرفات، وما تكنه الصدور.
ومن مقتضى الخاصة: النصر، والتأييد، والحفظ.
وتفسير من فسرها بالعلم من السلف، يقصد بيان أن الله ليس مختلطاً بخلقه أو حالاً فيهم، أو أن شيئاً من مخلوقاته تحويه، أو تظله، أو تقله - تعالى وتقدس-.
قربه تعالى إلى بعض خلقه لا ينافي علوّه على عرشه
القرب جاء على صيغتين:
الإفراد، نحو قوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} ، وكما في حديث أبي موسى: " إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
وهو -تعالى- فوق عرشه، ويقرب ممن يشاء من خلقه، كيف يشاء، كما قرب من موسى - عليه السلام - حين كلمه، وهو فوق عرشه، فوق السماوات كلها، فلا تنافي بين علوه، وقربه ومعيته؛ لأنه تعالى أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، تعالى الله عن ظنون السوء الكاذبة.
فعلو الله العلي العظيم، واستواؤه على عرشه، ومعيته وقربه، كل ذلك ثابت له، حق على ظاهره، كما أخبر به -تعالى- عن نفسه، وأخبرت به رسله.
صيغة الجمع، كقوله -تعالى-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، وهذا يقصد به في لغة العرب: الواحد العظيم، الذي له عبيد يطيعونه، ويسارعون في أمره، وإذا وقع الفعل منهم عن أمره قال: نحن فعلنا.
والله -تعالى- رب الملائكة، وخالقهم، وخالق أفعالهم، وهم ممتثلون لأمره، وهو الغني عن ملائكته، وجميع خلقه، فإذا قال -تعالى-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ}، إذا كان المراد الملائكة، كان من هذا الباب.
الخلاصة:
فنخلص أن النصوص في تقرير علوّ الله تعالى وفوقيته كثيرة جداً، والحق فيها واضح جلي، بل وفي كل ما يجب لله -تعالى- وما يمتنع عليه، والله -تعالى- قد أكمل لهذه الأمة دينها على لسان رسولها، وأتم عليها النعمة بذلك، وأنزل كتابه فيه تبيان كل شيء، ومعرفته -تعالى- بما له من الأوصاف، ومعرفة ما يمتنع عليه، هي أجل أمور الدين وأعظم أصوله، فلا بد أن يكون هذا قد بين غاية البيان.
فنؤمن بعلو الله -تعالى-، وأن ذلك ثابت له بالفعل، وبأدلة الكتاب، وما بلغه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته، وثابت بالضرورة الفطرية، والأدلة عليه لا تحصى، ومنكره منكر للمعلوم بالضرورة من الدين، والمعلوم بالضرورة العقلية الفطرية، وليس بين علو الله واستوائه على عرشه، وبين معيته لخلقه، ولأوليائه وأنبيائه وقربه منهم تعارض.
____________________________________________________
(1) سبق الكلام في معية الله تعالى لعباده وقربه منهم في الباب الخامس عشر، عند حديث أبي هريرة مرفوعا: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، ...)