دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج الإعداد العلمي العام > خطة التأسيس العلمي > صفحات الدراسة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #26  
قديم 1 شعبان 1436هـ/19-05-2015م, 08:50 AM
ليلى باقيس ليلى باقيس غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 2,071
افتراضي

الدرس الثاني والعشرون: باب : {وكان عرشه على الماء} [هود: 7]
(2-2)


شرح الأحاديث التي أوردها البخاري في هذا الباب ، وذكر مناسبتها.

حديث عمران بن حصين مرفوعًا قال: ((كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثمّ خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء))

ترجمة راوي الحديث
عمران، هو أبو نجيد، بضم النون وفتح الجيم، ابن حصين، الخزاعي، البصري.
إسلامه، وما شهده من الغزوات: أسلم عام خيبر، سنة سبع، وشهد ما بعدها من غزوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
من فضائله: كان من فضلاء الصحابة، وكانت الملائكة تسلم عليه مواجهة، وكان مجاب الدعوة، بعثه عمر إلى أهل البصرة يفقههم، وكان الحسن البصرى يحلف بالله ما قدمها مثله، اعتزل الناس في الفتنة، فلم يشهد شيئاً من حروبها.
وفاته: مات في البصرة سنة اثنتين وخمسين.

مناسبة الحديث للباب
قوله: (وكان عرشه على الماء)
شرح مفردات الحديث
يظهر أن هذه الواقعة في المدينة، في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا ذكرها البخاري في آخر المغازي، في ذكر الوفود على النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (اقبلوا البشرى يا بني تميم): المراد بهذه البشرى: الخير العظيم الذي يترتب على الإسلام، والنجاة من العذاب العظيم الذي يترتب على عدم الدخول في الإسلام، وذلك في الدنيا والآخرة.
و(تميم): اسم رجل، وهو تميم بن مر بن إد بن طابخة، والتميم في اللغة: الشريد.
قوله: ( قالوا: بشرتنا فأعطنا): يظهر أنهم ما فهموا مقصد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما أراده بالبشرى، أو أن رغبتهم في العاجلة، فعلقوا بها آمالهم، فقدموا ذلك على التفقه في الدين، والإقبال على تفهم ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولهم، كما في الرواية الأخرى.
قوله: (فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم): البشرى: اسم من البشير، وهي الإخبار بما يسر ويفرح غالباً، وسميت بذلك لأنه يظهر أثرها على بشرة الوجه.
والمراد: أي: اقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا بالجنة، إذا أخذتم به، قاله الحافظ.
قوله: (جئناك لنتفقه في الدين): الفقه لغة هو الفهم، أي: فهم المراد.
والمعنى: أننا قد آمنا بك، وبما جئت به، وأتينا إليك لتفهمنا ديننا الذي جئت به، وتعلمنا ما نعتقده، ونعمل به، وهذا من توفيق الله لعبده؛ أن يهتم بالتفقه في دينه، حتى يعبد ربه على علم وبصيرة.
قوله: (ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان ؟): الأمر يطلق ويراد به المأمور، ويراد به المصدر، والمراد به هنا الأول.
والإشارة في قوله: (هذا) تعود إلى شيء مشاهد، حاضر، موجود، وهو هذا الخلق المرئي، من السماوات والأرض، وما بينهما، وما فيهما، والمعنى: جئنا نسأل عن مبدأ خلق هذه المخلوقات المشاهدة، وهذا هو الظاهر.
وفيه قول آخر: يحتمل أن يكونوا سألوا عن أول جنس المخلوقات، ذكره الحافظ، وردّ المصنف هذا القول وقال فيه أنه بعيد وباطل، وأن شيخ الإسلام قد ردّه وبيّن بطلانه من وجوه كثيرة، بيّنها المصنف في الكتاب.
قوله: ( كان الله، ولم يكن شيء قبله ): معناه: أنه تعالى هو الأول قبل كل شيء، فهو الأول بلا بداية، كما أنه الآخر بلا نهاية.
وكلمة (كان) هنا تفيد الأزلية، والأزلية هي: ما لا بداية له، قال ابن عباس: "كان ولا يزال"
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولم يقيد كونه بوقت دون وقت، ويمتنع أن يحدث له غيره صفة، بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره - سبحانه- فهو المستحق لغاية الكمال، وذاته هي المستوجبة لذلك الكمال المطلق، وهو المحمود على ذلك، أزلاً وأبداً، ولا يحصي الخلق ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه.
قوله: ( وكان عرشه على الماء) أي: وقت خلق السموات والأرض كان عرشه على الماء، والمراد هنا: الإخبار بكون العرش على الماء، عند ابتداء خلق السموات والأرض.
وهذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد، وهو دليل على عظم العرش، وأن له شأناً غير شأن السماوات والأرض، وأن وجوده قبل وجودهما.
قال ابن خزيمة: "معنى قوله: "وكان عرشه على الماء" كقوله: {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً}"؛ يعني: أن (كان) هنا لا تدل على أن ذلك أمر قد مضى، وانقضى، بل تدل على ثبوته، فهو كان، ولا يزال على ما كان.
وليس معنى ذلك أن شيئاً من مفعولاته قديم معه، بل هو خالق كل شيء، وكل شيء سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، مع أنه -تعالى- لم يزل بصفاته خالقاً فعالاً لما يريد.
وسيأتي بيان ذلك بإذن الله في مسألة: إن الله تعالى لم يزل بصفاته، فعّالًا لما يريد.
قوله: ( ثم خلق السماوات والأرض ): نص في ذلك؛ لأن (ثم) تفيد الترتيب مع التراخي، أي: ترتيب خلق السماوات والأرض على وجود العرش والماء.
وقوله: ( وكتب في الذكر كل شيء): المقصود بالذكر هنا: محل الكتابة، وهو اللوح المحفوظ.
والمراد: أنه -تعالى- كتب كل ما أراد إيجاده من تلك الساعة التي جرت فيها الكتابة إلى قيام الساعة.
والمراد بقوله (كل شيء): هذه اللفظة تعمّ في كل موضع بحسب ما سيقت له، كما في قوله -تعالى-: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} .
قوله: (فإذا السراب ينقطع دونها): أي يشاهدها من خلق السراب، فهو ينقطع بينه وبينها لبعدها، فيراها مرة، وأخرى يكاد يخفيها السراب.
قوله: (وايم الله): قيل معناه: يمين الله.
قوله: (لوددت أنها ذهبت، ولم أقم): يقول إن رغبتي والأحب إليَّ أني بقيت في مجلسي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتعلم منه الإيمان والعلم، ولم أقم في طلب راحلتي، بل أتركها مؤثراً ما أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غذاء القلب والروح، على راحلتي، وهذا شأن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم - في حرصهم على التعلم منه، والبحث عن الهدى والخير.
مسائل أوردها أهل العلم في شرحهم للحديث
المسألة الأولى: الأيام التي خلقت فيها السماوات والأرض.
فيه أقوال:
الأول: أن تلك الأيام غير هذه الأيام، وغير هذا الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك، فتلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السماوات والأرض، وهذا ما رجحه المصنف.
وقيل: تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المعروفة بطلوع الشمس وغروبها.
وقيل: أكبر منها، فكل يوم منها قدره ألف سنة.
المسألة الثانية: مادة خلق السماوات والأرض.
الدخان، فقد أخبر - سبحانه وتعالى - أنه {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} .
وقيل: أنها خلقت من بخار الماء، وهو الماء الذي كان العرش عليه، قبل وجود هذا الخلق، وقد جاءت الآثار عن السلف بذلك.
فأخبر -تعالى- أنه خلق السماوات والأرض في مدة، ومن مادة.
المسألة الثالثة: هل تفيد الكتابة المضافة أنه تعالى باشر الكتابة بنفسه؟
لا يتعيّن من الإضافة ذلك، بل يجوز أن يأمر بذلك ما يشاء، يوضّح هذا ما جاء في حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا: ((إنّ أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة )) الحديث رواه أبو داود
المسألة الرابعة: إن الله تعالى لم يزل بصفاته، فعّالًا لما يريد.
- الخلق صفة كمال، لا تنفك عن الله تعالى.
- وكل مخلوق فهو محدث، مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم، ومن جعل المفعول المعين مقارناً له -تعالى- أزلاً وأبداً، فقوله باطل عقلاً وشرعاً، ولا يقول ذلك إلا جاهل أو معطل.
- فالعرش والماء مخلوقان، ولم يذكر الله - جل وعلا- لنا وقت خلق العرش والماء، كما لم يذكر لنا أن له مخلوقات قبلهما، ولكن النصوص من الوحي، والفطرة والعقل السليم، تدل على أن الله -تعالى- لم يزل يفعل ما يشاء، ويتكلم بما يشاء، وهذا من الكمال الواجب له، والذي يليق به -تعالى-.
- وأما ما يقوله المتكلمون من المعتزلة، والأشاعرة، ومن تبعهم، من أن هذا الكون المشاهد لنا، وما يتصل به من السموات والأرض، وكذلك العرش والماء، هو مبدأ فعله وخلقه، وليس قبله شيء من مفعولاته، يخالف كماله الواجب له -تعالى-.
- ومذهب السلف، مثل الإمام أحمد والدارمي والبخاري وغيرهم: أن الله لم يزل فعالاً لما يريد.
وهم يريدون بذلك الرد على من يقول: كان الله ولا شيء معه، أي: لا مخلوق، ولا فعل، ولا مفعول، ثم صار يخلق ويفعل بعد أن لم يكن يفعل ويخلق، وهذا هو قول الجهمية، والمعتزلة.
- فوصفه -تعالى- بأنه لم يكن قادراً على الفعل والكلام ونحوهما من صفات الكمال، ثم صار قادراً على ذلك، فيه نقص يجب أن ينزه عنه، وقدرته التامة الكاملة التي هي من لوازم ذاته -تعالى- تفيد خلاف هذا القول، وهي من أظهر صفات الكمال، ولا يجوز أن تقيد صفاته -تعالى- وأفعاله بوقت دون وقت.
- فيمتنع أن يكون قادراً بعد أن لم يكن كذلك، كما يمتنع أن يكون عالماً بعد أن لم يكن كذلك، وأن يكون سميعاً بصيراً، بعد أن لم يكن، أما المخلوق المفعول، مثل الإنسان، فإنه كان غير عالم، ولا قادر، فجعله الله عالماً قادراً.
قال الإمام أحمد في رده على الجهمية: "بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان، ولا يتكلم حتى خلق الكلام، ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم، حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه القدرة، ولا نقول: إنه كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول: إنه كان ولا عظمة له، حتى خلق لنفسه عظمة.
إلى أن قال: ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره، لا متى قدر، ولا كيف."
- فنخلص من ذلك، أنّ مذهب السلف:
أنّ مفعولات الله تعالى باعتبار أعيانها لها مبدأ، فهي كائنة بعد العدم.
أما باعتبار كون الفعل صفة من صفات الله تعالى –وإن لم يكن متعلقه موجودًا- فهو لا أول له.
من فوائد الحديث
- أنه يتعين قبول ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بدون توقف أو استفسار، أو طلب للعلة والسبب.
- حرص صحابة النبي صلى الله عليه وسلم على التعلم منه، والبحث عن الهدى والخير، ولهذا حفظوا كل ما قاله صلى الله عليه وسلم وفعله، ونقلوه للأمة، فجزاهم الله خيرًا، وقاتل من يبغضهم وينتقصهم.


حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، ...)).
مناسبة الحديث للباب
قوله: (وعرشه على الماء)
شرح الحديث
- تقدّم هذا الحديث في باب قول الله تعالى: (لما خلقت بيديّ)
والذي هنا يختلف عنه في السند وفي بعض ألفاظه على عادة المؤلف، أنه إذا كرّر الحديث فلابد أن يأتي بما يغاير السابق، إمّا في السند والمتن، وإمّا في أحدهما، إلّا إذا لم يتيسّر له ذلك، وهو نادر.
- والمقصود من الحديث: قوله: (وعرشه على الماء): أي أنه تعالى لما خلق السماوات والأرض، كان عرشه على الماء، فوجود العرش والماء سابق وجود السماوات والأرض بزمن طويل جداً، الله أعلم بمقداره.

أثر زينب رضي الله عنها: "زوّجكنّ أهاليكنّ، وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سماوات".

ترجمة راوي الحديث
هو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.
ومن قصته: أنه سباه قوم وهو غلام، فباعوه في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بن خويلد، ثم إن خديجة رضي الله عنها لما تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهبته له، وتبنّاه النبي صلى الله عليه وسلم، وزوّجه زينب بنت جحش، وهي ابنة عمته، ثم لم يتلاءما، فطلقها زيد، فزوجها الله -تعالى- نبيه؛ لحكمة ذكرها الله -تعالى- في القرآن.
وكان زيد هو الأمير في غزوة مؤتة، واستشهد فيها رضي الله عنه.

مناسبة الحديث للباب
قول زينب رضي الله عنها: "زوّجكنّ أهاليكنّ، وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سماوات".
شرح مفردات الحديث
قوله: (جاء زيد بن حارثة يشكو): أي: جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو زوجه زينب ويستشيره في طلاقها؛ لأنها كانت تترفع عليه، وتقابله ببعض الكلام غير المناسب؛ لحدة كانت فيها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله يا زيد، وأمسك عليك زوجك)
وذلك أنّ الله تعالى قد أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سوف يتزوج زينب، أوحى الله بذلك إليه قبل أن يطلقها زيد، فلما جاء يشكوها إليه، ويستشيره في طلاقها، قال له: (اتق الله يا زيد، وأمسك عليك زوجك) فعاتبه الله -تعالى- على ذلك، وعلى ما كان يخشاه من أقوال الناس في ذلك، فقال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية.
والمعنى: لما فرغ زيد منها وطابت نفسه عنها، وطلقها، أمرناك بتزوجها؛ لئلا يبقى في قلوب المؤمنين حرج في تزوج زوجات أدعيائهم، الذين تبنوهم.
والذي كان -صلى الله عليه وسلم- يخفيه، هو كراهيته لزواجها؛ خوفاً من قالة الناس أنه تزوج زوجة ابنه.
قال ابن حجر: " والحاصل: أن الذي كان يخفيه هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان الجاهلية عليه، من أحكام التبني، بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابناً {له} ، ووقوع ذلك من إمام المسلمين؛ ليكون أدعى لقبولهم".
قوله: (قال أنس: لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتماً شيئاً لكتم هذه): أي: لو قدر على سبيل الفرض الممتنع شرعاً كتم شيء من الوحي، لكان في هذه الآية، ولكنه غير واقع بل ممتنع شرعاً.
وهذه الآية من أعظم الأدلة لمن تأملها على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإنه بلّغها كما قال الله -تعالى- مع ما تضمنه من لومه.
قوله: ( فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم): الفخر: هو ذكر المحاسن، وعدها، مباهاة بها غيره.
فزينب - رضي الله عنها - تعتد بأن زواجها برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بأمر الله له بذلك، وأنه من أعظم فضائلها، وأنه لا يساويها في ذلك من أزواجه أحد.
قوله:(تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سماوات): هذا القدر من الحديث هو محل الشاهد، وهو ثبوت علو الله -تعالى- وتقرره لدى المؤمنين.
فعلّوه تعالى من الصفات المعلومة بالسمع، والعقل، والفطرة، عند كل من لم تنحرف فطرته.
ومعنى قولها: (وزوجني الله) أي: أمر رسوله بأن يتزوجها بقوله -تعالى-: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا} وتولى -تعالى- عقد زواجها عليه.
وقوله في الرواية الأخرى: (نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش).
آية الحجاب هي قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} إلى آخر الآية

حديث أبي هريرة مرفوعًا: (إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي)

مناسبة الحديث للباب
قوله: (كتب عنده فوق عرشه)
شرح مفردات الحديث
- هذا الحديث تقدم في باب قول الله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} وقد غاير بين سنده هنا وهناك، وفي متنه بعض الاختلاف.
قوله: (قضى الله الخلق): قضى: يأتي بمعنى حكم، وأمر، وقدر، وفرغ، وأمضى، وأتقن.
ومعناها هنا: فرغ من خلق المخلوقات، نحو قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}
أو فرغ من تقدير الخلق، يدل لذلك الرواية الأخرى: (قبل أن يخلق الخلق).
قوله: (عنده فوق عرشه): هذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد من الحديث، فعند، وفوق، ظرفان مختصان بالمكان، وقد أضيفا إلى الله -تعالى-، وهذه الإضافة تقتضي تخصيصاً للعرش على غيره من السماوات والأرض، وهو ما علمه المسلمون أنه تعالى استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، كما أخبرهم ربهم بذلك، ونبيهم صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (عنده فوق عرشه): على ظاهره، فهو كتاب خاص، وضعه عنده فوق عرشه، مثبتاً فيه ما ذكر؛ لزيادة الاهتمام به، ولا ينافي ذلك أن يكون مكتوباً أيضاً في اللوح المحفوظ، فهو كتاب حقيقة، كتبه -تعالى- كما ذكر لنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حقيقة، وهو عند الله حقيقة، فوق عرشه حقيقة.


حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((... فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)).
مناسبة الحديث للباب
قوله: (وفوقه عرش الرحمن)
شرح مفردات الحديث
قوله: (من آمن بالله ورسوله ): فيه بيان للأساس الذي يبنى عليه العمل، وهو الإيمان بالله ورسوله، فكل عمل مشروط لصحته أن يكون العامل مؤمناً، قال الله -تعالى-: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة} .
وأول دعوة الرسل جميعًا هي الإيمان بالله، وعبادته وحده لا شريك له، كما تقدّم في الباب الأوّل.
وأركان الإيمان بالله تعالى؛ الإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه صفاته.
قوله: (وأقام الصلاة): إقامة الصلاة: الإتيان بها على وفق أمر الله -تعالى- وأمر رسوله، كاملة في أفضل أوقاتها.
قوله: (وصام رمضان): الصيام في اللغة: هو الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص، عن أشياء مخصوصة، من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، تعبداً لله تعالى.
سبب عدم ذكر الحجّ والزكاة وهما من أركان الإسلام:
الأول: أنّ الحديث لم يذكر لبيان الأركان، فيجوز أنه اقتصر على ذكر البعض المتكرر غالباً، لأن الزكاة لا تجب إلا على من له مال، بشرطه، والحج لا يجب إلا مرة على التراخي.
الثاني: سقط ذكر الحج، على أحد الرواة؛ لأنه قد جاء ذكره في الترمذي.
ذكره الحافظ.
والمقصود من الحديث: أن من حصل له الإيمان بالله، وما يلزم له، من إيمان برسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، وبقضاء الله وقدره، مع التزام ما شرعه الله لعباده من الأمر، والنهي، وجاهد في سبيل الله، مع ما ذكر، استحق دخول الجنة على الله، ولا بد أن يوفي الله -تعالى- بذلك.
قوله: (كان حقاً على الله أن يدخله الجنة): هو حق أحقه الله -تعالى- على نفسه كما قال تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة}، فهو تعالى الذي أوجبه على نفسه، فلابد من وقوعه كما أخبر تعالى.
قال الحافظ: " ...وإنما معناه إنجاز ما وعد به من الثواب، وهو لا يخلف الميعاد"
قوله: ( هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها): الهجرة في اللغة هي: الترك، والمفارقة. والمقصود بها هنا: الانتقال من بلد الشرك والكفر إلى بلد الإسلام، وهي واجبة على المسلم إذا خاف الفتنة في دينه، أو منع من ممارسة شعائر دينه، وإعلانه ظاهراً.
ويدخل في ذلك هجران المعاصي، والشهوات، والأخلاق الذميمة، وجميع المعاصي ورفضها واجتنابها.
قوله: (أو جلس في أرضه التي ولد فيها) وفي رواية: " في بيته".
والمعنى: أنه بقي في بلده يعبد ربه، ولا يشرك به شيئاً، ولم يهاجر إلى المدينة النبوية، وذلك أن الهجرة كانت فرضاً على كل قادر، فلما فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأصبحت جزيرة العرب كلها دار إسلام، إلا القليل، نسخت الهجرة لأجل ذلك، ولكن حكمها باق إلى يوم القيامة.
قال الحافظ: " فيه تأنيس لمن حرم الجهاد، وأنه ليس محروماً من الأجر، بل له من الإيمان والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة، وإن قصر عن درجة المجاهدين"
قوله: (فقالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك؟ ): رأوا أن هذا فيه بشارة للمسلمين، وتسهيل عظيم عليهم، في عدم لزوم الهجرة، فإن ترك الوطن، والأهل والأقارب، والمألوفات، كل ذلك يشق على النفس، ولا يقوى عليه كل أحد.
وقيل: الذي خاطبه بذلك هو معاذ بن جبل ، وقيل: أبو الدرداء، ذكره الحافظ.
قوله: (إن في الجنة مائة درجة): جاء في رواية الترمذي، عن معاذ: قلت: يا رسول الله، ألا أخبر الناس؟ قال: (ذر الناس يعملون، فإن في الجنة مائة درجة)
فظهر أن المراد: لا تبشر الناس بما ذكر من دخول الجنة، لمن آمن وعمل الأعمال المفروضة عليه، فيقفوا عند ذلك، ولا يتجاوزوه إلى ما هو أفضل منه من الدرجات التي تحصل بالجهاد، ولهذا قال: (أعدها الله للمجاهدين).
وفي هذا ردّ على من زعم: أنه صلّى الله عليه وسلم سوى بين الجهاد في سبيل الله، وبين عدمه، وهو الجلوس في الأرض التي ولد فيها.
فيُقال: التسوية ليست على عمومها، وإنما هي في أصل دخول الجنة، لا في تفاوت الدرجات .
- مسألة: هل درجات الجنة هي إلى مائة درجة؟
في ذلك قولان:
الأول: أن تكون هذه المائة من جملة الدرج.
الثاني: أن تكون نهايتها هذه المائة.
ذكره ابن القيّم، ورجّح القول الأول.
ومعنى الجهاد: هو استفراغ الوسع في مدافعة العدو.
وأنواعه: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، يشملها قوله -تعالى-: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم}، ونحوها من الآيات.
قوله: (كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض): المقصود بالدرجة: المنزلة المعدة لمن يستحقها من أهل الإيمان، والعمل، ودرجات الجنة كثيرة، وكل درجة تختلف عن التي دونها بما فيها من أنواع النعيم والحسن.
وهذا التفاوت العظيم في الدرجات لتفاوت أعمال العاملين في الإيمان، والمقاصد، والخشية، والإخلاص، والمحبة، والإنابة، والجد، وكثرة العمل، وغير ذلك.
قوله: (فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس): الفردوس: اسم يطلق على جميع الجنة، ويطلق على أفضلها وأعلاها، كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات.
قال -تعالى-: {أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}
وذكر المصنف أقوال أهل اللغة في معنى الفردوس، فيُرجع إليه.
قوله: (فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة) : المراد بالأوسط هنا: الأعدل والأفضل، ذكره الحافظ، واستدلّ له بقوله -تعالى-: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً}.
وفي فائدة عطف (الأعلى) عليه، فيه أقوال:
قيل: للتأكيد، ذكره الحافظ.
وقيل: المراد بأحدهما: العلو الحسي، وبالآخر: العلو المعنوي، ذكره الطيبي.
وقيل: المراد بالأوسط: السعة، وبالأعلى: الفوقية ، ذكره ابن حبّان.
ورجّح المصنف لزوم ظاهر النص، وهو أن المراد بالفردوس وسط الجنة، وهو أعلاها، يعني: أن الجنان الأخرى عن جوانبه، ومن تحته، وهو أعلاها، واستدلّ لذلك أنّ فوقه عرش الرحمن، فليس فوقه إلا عرش الرحمن، ولأنه تفجر منه أنهار الجنّة، والأنهار عادة تنبع من أعلى، والله أعلم.
قوله: (وفوقه عرش الرحمن ): هذه الجملة هي المقصود من سياق الحديث؛ لأنه يدل على أن أعلى مخلوق هو العرش، وليس فوق العرش مخلوق، ولكن الرحمن - جل وعلا- فوقه.
قال ابن خزيمة: " فالخبر يصرح أن عرش ربنا - جل وعلا - فوق جنته، وقد أعلمنا - عز وجل - أنه مستوٍ على عرشه، فخالقنا عالٍ فوق عرشه، الذي هو فوق جنته"


حديث أبي ذر مرفوعًا في سجود الشمس تحت العرش
مناسبة الحديث للباب
ذكر البخاري - رحمه الله - هذا الحديث في بدء الخلق، وفيه (فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش).
وفي آخر الباب بعد هذا، بلفظ: (قال: مستقرها تحت العرش)
وبذلك تظهر مناسبة الحديث للباب، فذكره لأجل ما فيه من قوله: (تذهب حتى تسجد تحت العرش)، وقوله: (مستقرها تحت العرش) في غير هذه الرواية هنا.
قال الحافظ: " وأخرجه النسائي بلفظ: (تذهب حتى تنتهي تحت العرش، عند ربها) "
فمراد البخاري - رحمه الله - من الحديث، الاستدلال على العرش، وارتفاعه العظيم، ومعلوم أن الله -تعالى- فوق العرش كما سبق.
شرح مفردات الحديث
قوله: (أتدري أين تذهب هذه؟): هذا الأسلوب من التعليم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعمله مع أصحابه، وفائدته:
أنه يرسّخ المعلومات في الذهن؛ لأن المسئول يبقى بعده يتطلع إلى الجواب بإقبال ولهف، فإذا ورد عليه الجواب وهو بهذه الحال، ثبت في قلبه، ورسخ لديه.
قوله: (ذلك مستقر لها): هذا تفسير لقوله -تعالى-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا}
وفي المراد بمستقرّها، أقوال:
أحدهما: أن المراد: مستقرها المكاني، وهو تحت العرش مما يلي الأرض، من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش، هي وجميع المخلوقات؛ لأنه سقفها، ذكره ابن كثير.
الثاني: أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها، عند انتهاء الدنيا، وذلك يوم القيامة، يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتكور، وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا مستقرها الزماني، ذكره ابن كثير.
الثالث: وقيل: هو غاية ما تنتهي إليه في الارتفاع، وذلك أطول يوم في السنة، وردّ هذا القول الحافظ لما جاء في ألفاظ الحديث: (تسجد تحت العرش)
الرابع: أن المقصود بالمستقرّ، الموضع الذي تسجد فيه لربها، وتستأذن بمواصلة سيرها، وهذا تفسيره بما جاء في السنة، كما في حديث أبي ذر قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قول الله -تعالى-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قال: ((مستقرها تحت العرش)) . رواه مسلم
وهذا القول هو الظاهر في اختيار الحافظ قال: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار: وقوعه في كل ليلة ويوم عند سجودها، ومقابل الاستقرار: المسير المعبر عنه بالجري .
واختاره المصنف، قال: فسجودها في أرفع ما تكون، وأقرب ما تكون إلى العرش، وهي دائماً تحت العرش كما هو معلوم، ولكن سجودها في مكان معين من مسيرها.
وكونها تسجد تحت العرش لا يقتضي مفارقتها لفلكها وانتظامها في مسيرها بالنسبة للأرض، فهي دائمة الطلوع على جزء من الأرض، والأوقات بالنسبة إلى أهل الأرض تختلف بمقدار سيرها.
قوله: (تستأذن في السجود، فيؤذن لها) أي: تطلب من الله الإذن في مواصلة سيرها في حالة سجودها، فيأذن الله -تعالى- لها إلى الوقت الذي تستأذن، ثم لا يؤذن لها، فتبقي في مكانها، ثم يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فينعكس سيرها، حيث تطلع على الناس من المغرب، وعند ذلك يؤمنون، ولكن لا ينفعهم إيمانهم، كما أخبر الله -تعالى- بذلك، وهذا إيذان بانقضاء هذه الدار.

إشكال وجوابه
ربما يقول قائل: أين سجودها تحت العرش؟ ومتى يكون؟ وسيرها مستمر، وبعدها عن الأرض لا يختلف في وقت من الأوقات كما أن سيرها لا يتغير، كما هو مشاهد.
والجواب: أنها تسجد كل ليلة تحت العرش، كما أخبر به الصادق المصدوق، وهي طالعة على جانب من الأرض، مع سيرها في فلكها، وهي دائماً تحت العرش، في الليل والنهار، بل وكل شيء من المخلوقات تحت العرش، لكنها في وقت من سيرها، وفي مكان معين، يصلح سجودها، الذي لا يدركه الخلق، ولكن علم بالوحي، وهو سجود يناسبها على ظاهر النص.
وأما التسخير: فهي لا تنفك عنه أبدًا، والله أعلم.
وقد ذكر الله -تعالى- في كتابه أن الشمس والقمر يسجدان له تعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}




حديث زيد بن ثابت موقوفًا: (أرسل إلىَّ أبو بكر، فتتبعت القرآن، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} حتى خاتمة براءة ".
ترجمة راوي الحديث
هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان، النجاري، الأنصاري، أبو سعيد، ويقال: أبو خارجة، قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهو ابن إحدى عشرة سنة.
من فضائله:
كان يكتب الوحي.
قال الشعبي: غلب زيد الناس على اثنتين، الفرائض، والقرآن، وكان أحد أصحاب الفتوى من الصحابة.
وقال مسروق: " قدمت المدينة، فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم"، وفضائله كثيرة.
وفاته: توفي سنة 48، وقيل: 51، وقيل: 55، وقيل غير ذلك.

مناسبة الحديث للباب
هو ذكر العرش في الآية الكريمة، حيث قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
شرح مفردات الحديث
قوله: (حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره) يعني: أنه ما وجدها مكتوبة، مثبتة بالكتابة، إلا عند أبي خزيمة.
وليس معنى ذلك أنه لم يحفظها إلا أبو خزيمة، فإن زيداً وأُبياً، وأبا بكر، وغيرهم من الصحابة، كانوا يحفظون القرآن كله، وهو يريد من كتبها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدون واسطة.
قال الحافظ: " الحق أن المراد بالنفي: نفي وجودها مكتوبة، لا نفي كونها محفوظة"
وأبو خزيمة، قيل: هو ابن أوس بن يزيد بن أحرم، مشهور بكنيته، دون اسمه، وقيل: هو الحارث بن خزيمة.
وأما خزيمة، فهو ابن ثابت ذو الشهادتين.
وموضع الشاهد من الحديث: قوله تعالى: {وهو ربّ العرش العظيم} أي: مالكه والمتصرّف فيه.
والآية تدلّ على أنه تعالى هو مالك كل شيء، وخالقه؛ لأن العرش العظيم، هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السماوات والأرضيين وما فيهما وما بينهما، تحت العرش، مقهورون بقدرة الله -تعالى-، يُفهم ذلك مما ذكره ابن كثير

حديث ابن عباس مرفوعًا: " لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم ".
مناسبة الحديث للباب
قوله: ((رب العرش العظيم))، وقوله: ((رب العرش الكريم))، وكلاهما وصف للعرش.
شرح مفردات الحديث
قوله: (يقول عند الكرب) الكرب -بفتح الكاف، وسكون الراء- هو: الغم الذي يأخذ النفس، ذكره الأزهري.
ولفظة (كان): تدل على كثرة وقوع ذلك منه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن لفظة (كان) تدل على الاستمرار غالباً.
قوله: (لا إله إلا الله) الإله هو: المعبود الذي تأله القلوب، وتذل له، وتحبه، وتعظمه، وتخافه، وترجوه، فالإله هو الذي يقصد بالخوف والرجاء، مع الذل والتعظيم.
فقوله: ( لا إله إلا الله) أي: لا أتوجه بقلبي عابداً وخاضعاً، متذللاً، خائفاً، راجياً، إلا إلى الله وحده، فهو إلهي، ومعبودي، الذي يملك نفعي وضري.
وأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله تعالى.
قوله: (العليم الحليم) أي: هو تعالى العظيم بكل شيء، فيعلم حالي، وما نزل به، ويعلم أسبابه، وما يترتب عليه، لا يخفى عليه خافية، فعلمه محيط بكل شيء.
وهو -تعالى- حليم لا يعجل بالعقوبة لمن يستحقها، بل يعفو ويتجاوز، وحلمه عن علم وحكمة، فله -تعالى- الكمال المطلق.
قال الكرماني: " [وذكر] لفظ "الحليم"؛ لأن كرب المؤمن غالباً إنما هو على نوع تقصير أو غفلة في الطاعات"
قوله: ( لا إله إلا الله رب العرش العظيم )
وقوله: (لا إله إلا الله رب السماوات والأرض، ورب العرش الكريم) ، والرب هو: المالك المتصرف، القائم على كل مربوب بما يحتاجه من تربية في شئون حياته كلها.
والربوبية نوعان: عامة، وخاصة.
وقد جمع النوعين في هذا الحديث، فتوسل بأنه رب العرش العظيم الكريم، وبأنه رب السماوات والأرض.
قال الكرماني: " وذكر لفظ " الرب" من بين سائر الأسماء الحسنى؛ ليناسب كشف الكروب، الذي هو مقتضى التربية"
فضل هذا الدعاء
- اشتمل هذا الدعاء العظيم على التوجه إلى الله -تعالى- بأنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
- وفيه تكرار التوسّل بإلـهيته تعالى، الذي هو إخلاص العبادة والتوجه إلى الله بصدق، ورغبة، ورهبة، وهذا من أعظم الوسائل إلى الله -تعالى-، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ}، فإخلاص التأله والدعاء لله وحده، هو مفزع جميع العقلاء من المؤمنين والكفار.
والمقصود من الحديث: قوله: (رب العرش العظيم) وقوله: (رب العرش الكريم) وكلاهما وصف للعرش، وصف بأنه عظيم، وبأنه كريم، والعظمة تدل على الكبر، والسعة، والكرم يدل على الحسن، والجمال، والسعة أيضاً.

حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: ((يصعقون يوم القيامة فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش))، وفي رواية أبي هريرة: ((فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش.))

مناسبة الحديث للباب
قوله: ((فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش))، وفي رواية أبي هريرة: ((آخذ بالعرش))، والمراد بالعرش: عرش رب العالمين.
شرح مفردات الحديث
الصعق: غشي يلحق من سمع صوتاً شديداً أو يرى شيئاً هائلاً مفزعاً.
وقد اختلف في هذا الصعق المذكور في هذا الحديث:
فقيل: أنها نفخة البعث، وهي النفخة الثانية في الصور.
وقيل: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع، بعد النشر، حين تنشق السماوات والأرض، وهذا قول القاضي عياض.
وقرر ابن القيم أن هذا الصعق إنما هو في الموقف، إذا جاء رب العالمين – جل وعلا – لفصل القضاء بين عباده.
والصواب: أن الصعق المذكور هو النفخة الثانية في الصور، وهي نفخة البعث، ففي رواية أبي هريرة: (فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بالعرش)، وفي رواية أخرى: (إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش) ، وفي أخرى: (إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الثانية)، وفي رواية مسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث)
قوله: (فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش)، وفي رواية أبي هريرة: (آخذ بالعرش) أي: أنه –صلى الله عليه وسلم- يجد موسى عليه السلام بعد ما بعث، ممسكاً بأحد قوائم العرش، والمراد بالعرش: عرش رب العالمين.
وفي هذا فضل لموسى عليه السلام، حيث بعث قبل نبينا –صلى الله عليه وسلم- وهذه القبلية في البعث:
1) إما مجرد فضيلة خصه الله بها كما خص بالتكليم.
2) وإما جزاء بالصعقة التي أصابته، يوم سأل ربه الرؤية عندما تجلى الله -تعالى- للجبل، والله أعلم.

خلاصة هذا الباب:
مما تقدم من النصوص التي ذكرها البخاري – رحمه الله – هنا وغيرها، يظهر ما اختصّ الله تعالى به العرش من الشرف، والفضل:
- فإنه تعالى خص العرش من بين مخلوقاته، بأنه استوى عليه.
- وأنه فوق جميع المخلوقات.
- وأنه له حملة اليوم، ويوم القيامة.
- وأنه -تعالى- تعبد من شاء من ملائكته بأن يحفوا به، ويطوفوا به، وأن حملته ومن حوله من الملائكة يسبحون الله -تعالى- ويستغفرون للمؤمنين.
- وأنه أول المخلوقات المعلومة لنا، فقد أخبر تعالى أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض، كما قال -تعالى-: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء}
- وأنه سقف أعلى الجنان، وهي الفردوس.
- ووصف الله تعالى العرش بأنه عظيم، وأنه كريم، وأنه مجيد.

- وكثيراً ما يمدح الله -تعالى- نفسه بأنه ذو العرش، كما قال -تعالى-: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً (42) سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً (43) تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده لكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً}، وقال -تعالى-: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ}.
- وجاء في الحديث الصحيح ما يدل على أنه أثقل الأوزان، كما في قوله –صلى الله عليه وسلم- لجويرية: ((لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)).
وكل ذلك يدل على أن الله فوق العرش مستوٍ عليه، وقد اتفق على هذا الأنبياء كلهم، وذكر في كل كتاب أنزل على كل نبي، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من جميع الطوائف، إلا من ضل الحق واتبع غير سبيل المؤمنين من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 22 شوال 1436هـ/7-08-2015م, 09:39 AM
ليلى باقيس ليلى باقيس غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 2,071
افتراضي

الدرس الثالث والعشرون: باب قول الله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]

وقوله - جل ذكره-: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10]
وقال أبو جمرة، عن ابن عباس: بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لأخيه: اعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء.
وقال مجاهد: {العمل الصالح}[فاطر: 10]: يرفع الكلم الطيب. يقال: {ذي المعارج}[المعارج: 3]: الملائكة تعرج إلى الله.
57: عن أبي هريرة- رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون". (7429)
58: عن أبي هريرة قال:قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبَّلها بيمينه، ثم يربِّيها لصاحبها كما يربِّي أحدكم فَلُوَّهُ، حتى تكون مثل الجبل)). ورواه ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:((ولا يصعد إلى الله إلا الطيب)). (7430)
59: عن ابن عباس: أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو بهن عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات، ورب العرش الكريم)). (7431)
60: عن أبي سعيد الخدري قال: بُعث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بذهبية فقسمها بين أربعة.
عن أبي سعيد الخدري قال: بعث عليٌّ، وهو في اليمن، إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بذهبية في تربتها، فقسمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم أحد بني مجاشع، وبين عيينة بن بدر الفزاري، وبين علقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وبين زيد الخيل الطائي، ثم أحد بني نبهان، فتغيَّظت قريش والأنصار، فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا، قال: ((إنما أتألَّفهم)). فأقبل رجل غائر العينين، ناتئ الجبين، كثُّ اللحية، مشرف الوجنتين، محلوق الرأس، فقال: يا محمد اتق الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فمن يطيع الله إذا عصيته، فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني)). فسأل رجل من القوم قتله - أراه خالد بن الوليد - فمنعه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما ولَّى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرميَّة، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنَّهم قتل عاد)). (7432)
61: عن أبي ذر قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله: {والشمس تجري لمستقرٍّ لها}. قال: ((مستقرُّها تحت العرش)). (7433)

الشرح:

مقصود البخاري بهذه الترجمة
قصد البخاري رحمه الله بهذا الباب ذكر بعض الأدلة على علو الله -تعالى-، وبيان أن ذلك ثابت بكتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبالعقل، والفطرة، فالإيمان بعلو الله -تعالى- وفوقيته، فطري عقلي شرعي، ومن خالف ذلك فقد انحرف عن طريق الرسل، وسلك في ذلك غير سبيل المؤمنين.

مناسبة الباب للباب قبله
قصد البخاري رحمه الله في هذا الباب والذي قبله إثبات علو الله، واستواءه على العرش، كما هو ثابت في نفس الأمر، وتضافرت عليه أدلة الوحي، والعقول والفطر، وكما هو مذهب السلف من الصحابة، وأتباعهم إلى اليوم.

علوّ الله تعالى على جميع خلقه، وثبوت ذلك بالشرع والعقل والفطرة
أولا: الأدلة من الشرع.
تنوعت النصوص الواردة في الدلالة على علو الله -تعالى- على خلقه، وكونه فوق عباده، إلى ما يقرب من عشرين نوعًا:
أحدها: التصريح بالفوقية، مقروناً بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات، كقوله -تعالى-: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} .
الثاني: ذكر الفوقية، مجردة عن الأداة، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}.
الثالث: التصريح بالعروج إليه، كقوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم" كما تقدم.
الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله -تعالى-: {إليه يصعد الكلم الطيب} .
الخامس: التصريح برفعه -تعالى- بعض خلقه إليه، كقوله -تعالى-: {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} ، وقوله: {إني متوفيك ورافعك} .
السادس: التصريح بالعلو المطلق، الدال على جميع مراتب العلوم، ذاتاً وقدراً، وشرفاً، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}، وقوله -تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله -تعالى-: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات، بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله -تعالى-: {إن الذين عند ربك} ، وقوله -تعالى-: {وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته}، ففرق تعالى بين من عنده عموماً، وبين من عنده من الملائكة.
التاسع: التصريح بأنه -تعالى- في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}، وتقدم أن ذلك، على وجهين، إما أن تكون "في" بمعنى "على"، أو يراد بالسماء العلو، لا يجوز غير ذلك.
العاشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله -تعالى-: كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يستحي من عبده، إذا رفع إليه يديه، أن يردهما صفراً" .
الحادي عشر: التصريح بالاستواء، مقروناً بأداة "على" مخصوصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات.
الثاني عشر: التصريح بنزوله -تعالى- كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل.
الثالث عشر: الإشارة الحسية إليه في العلو، كما فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: " إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فرفع إصبعه إلى السماء، وقال: "اللهم اشهد" .
الرابع عشر: سؤال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلفظ "أين الله؟ " وإخباره عمن قال: " الله في السماء" بأنه مؤمن .
الخامس عشر: اتفاق الكتب المنزلة من الله والرسل على أن الله فوق عباده عال عليهم، كما قال -تعالى- عن فرعون: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً} ؛ لأن موسى عليه السلام أخبر فرعون أن الله في السماء.
السادس عشر: عروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه -تعالى- وإخباره أنه تردد بينه -تعالى- وبين موسى، يطلب التخفيف من عدد الصلوات .
ذكر هذه الأنواع ابن أبي العز في شرح الطحاوية، واختار البخاري بعضًا منها في هذا الباب، ونوّع بينها للإيضاح.
ثانيًا: الإجماع.
قال المصنف: أشار البخاري إلى الإجماع بقصة زينب: أنها كانت تفتخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: " زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات"، قال: فهذا يدل على الإجماع.
ووجه الاستدلال بقصة زينب على الإجماع: أن ذلك كان متقرر عندهم، فلم ينكر ذلك أحد، بل يذكر في كل مناسبة.
ومما جاء في كلام السلف مما يدلّ على الإجماع:
قال أبو نصر السجزي في "الإبانة": "وأئتمنا، كسفيان، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، والفضيل، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، متفقون على أن الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما يشاء." .
وقال ابن عبد البر في شرحه لحديث النزول: "وفيه دليل على أن الله - عز وجل - في السماء على العرش، من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية، في قولهم: إن الله - عز وجل - في كل مكان، وليس على العرش، والدليل على صحة ما قال أهل الحق: قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ... ." إلى آخر كلامه رحمه الله.
ثالثًا: أقوال السلف.
الآثار عن الصحابة والتابعين في علوّ الله تعالى مما لا يُحصى.
- يقول شيخ الإسلام: " تبين وجوب إثبات العلو لله -تعالى- من وجوه:
أحدها: أن القرآن، والسنن المستفيضة، المتواترة، وغير المتواترة، وكلام السابقين والتابعين وأهل القرون الثلاثة، مملوء بما فيه إثبات العلو لله، وأنه مستوٍ على عرشه، بأنواع من الدلالات،... .".
- وقال ابن أبي العز: " ومن سمع أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر.".
رابعًا: دليل العقل.
أولًا: أنه لا يجوز أن يكون المخلوق فوق الخالق –تعالى وتقدّس-، بل لابد أن يكون الخالق عاليًا فوق خلقه.
- وصفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص، ولا تستلزم نقصاً، ولا محذور فيها، ولا تخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقتها يكون عين الباطل والمحال، الذي لا تأتي به شريعة أصلاً، فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده -تعالى-، وتصديق رسله، والإيمان بكتابه، وما جاء به رسوله، إلا بذلك؟
ثانيًا: يُقال: قد علم العقلاء كلهم بالضرورة، أن ما كان وجوده خارج الأذهان، فهو إما أن يكون داخلاً في الخلق، أو بائنا منهم خارجاً عنهم.
- ولا ريب أن الله - سبحانه - لما خلق الخلق، لم يخلقهم في ذاته المقدسة، فإنه الأحد الصمد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته.
- ولو لم يتصف - سبحانه - بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه، غير مخالط للخلق؛ لكان متصفاً بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق.
ذكر ذلك ابن أبي العز في شرح الطحاوية.
خامسًا: دليل الفطرة.
من الحجج القاطعة أنه تعالى فوق السماوات على عرشه: أن كلّ داعٍ يدعو الله تعالى يجد في نفسه دافعًا إلى الاتجاه إلى الله فوقه، وهو أمر ضروري وقطعي، فلا يمكن لأي سائل يسأل الله ويطلب منه إلا رفع يديه، واتجه بقلبه إلى من يستغيث به، الذي هو عال فوق جميع مخلوقاته، مستو على عرشه، فالعلم بذلك فطري ضروري عقلي، ونصوص الشرع جاءت مؤيدة ذلك مقررة له.
وأشار البخاري إليه بما ذكره عن أبي ذر أنه قال لأخيه، قبل أن يسلم: " أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يأتيه الخبر من السماء" أي: يأتيه الخبر من الله الذي في السماء؛ لأنه يقول للناس: أنا رسول الله إليكم.
قال شيخ الإسلام: " معرفة القلوب، وإقرارها بفطرة الله التي فطرها عليها، أن ربها فوق العالم، ..."، وقال في موضع آخر: " ولا ريب أن الله موجود، قائم بنفسه، وترفع إليه الأيدي عند الدعاء، كما فطر على ذلك جميع عباده، ..." .


معنى العروج

اختار البخاري بعض النصوص في هذا الباب، التي فيها ذكر الصعود والعروج ونحوهما؛ لوضوح الدلالة في ذلك على علو الله –تعالى-.
الأول: - قول الله - جل وعز -: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}
تعرج أي: تصعد، ذكره الأزهري والراغب وابن جرير وغيرهم.
فيُقال: عرج، يعرُج، عروجًا، ومعرجًا.
والعروج: ذهاب في صعود، ذكره الراغب.
والمعرج: المصعد، ذكره الليث والراغب.
قال ابن جرير في تفسيره للآية: يقول –تعالى ذكره- تصعد الملائكة، والروح – وهو جبريل – عليه السلام {إليه} يعني: إلى الله – جل وعز- والهاء في قوله: {إليه} عائدة على اسم الله.
الثاني: قول الله – جل وعز -: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}
و(ذي المعارج) فيه قولان:
الأول: ذا العلو، والدرجات، والفواضل والنعم، وهو مروي عن ابن عباس وقتادة، ذكره ابن جرير وأبو إسحاق.
قال الفراء: ذي المعارج، من نعت الله؛ لأن الملائكة تعرج إلى الله، فوصف نفسه بذلك.
الثاني: قيل: معارج الملائكة، وهي مصاعدها التي تصعد وتعرج فيها، وهذا القول مروي عن مجاهد، ذكره ابن جرير والبخاري، وأبو إسحاق دون نسبة.
قال الليث: والمعرج: الطريق الذي تصعد فيه الملائكة.
وقال ابن جرير في قوله -تعالى-: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون} ،فقوله: {يعرجون} معناه: يرقون فيه، ويصعدون.
الثالث: قول الله – جل وعز -: {إليه يصعد الكلم الطيب}
أورد البخاري في معنى هذه الآية أثرًا لمجاهد، رواه ابن جرير في تفسيره ولفظه: " الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه، فمن ذكر الله في أداء فرائضه، حمل عليه ذكر الله، فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه، رد كلامه على عمله، فكان أولى به ".
وقال ابن جرير في تفسير الآية: يقول -تعالى ذكره -: إلى الله يصعد ذكر العبد إياه وثناؤه، وأداء فرائضه، والانتهاء إلى ما أمر به .


قوله: " وقال أبو جمرة: عن ابن عباس، لما بلغ أبا ذر مبعث النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال لأخيه: أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء ".



وهذا فيه الإشارة إلى دليل الفطرة - كما سبق-، ونوع البخاري في الأدلة التي أوردها في هذا الباب للإيضاح، ومقصوده: بيان أن علو الله -تعالى- على خلقه، أمر مفطور عليه الخلق، ومعلوم بالعقل، والوحي جاء مؤيداً لذلك، وموضحاً له.


حديث أبي هريرة مرفوعًا: (... ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ ... ).


شرح مفردات الحديث
قوله: (يتعاقبون): التعاقب: إتيان فريق، عقب فريق، ثم يعود الأول، بعد إتيان الثاني.
والضمير في قوله (فيكم) يعود إلى المخاطبين، وهم الأمة المستجيبة للرسول –صلى الله عليه وسلم.
والأظهر أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة، قاله القرطبي، وأيده الحافظ.
وحجتهم: أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل، غير حفظة النهار، وبغير ذلك.
قوله: (ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر) أي: يجتمع في صلاة العصر الهابطون ليبيتوا مع العباد، والذين كانوا معهم في النهار، فالفريقان يحضران صلاة العصر، وصلاة الفجر، فيصعد الذين صحبوا العباد بالنهار، عقب صلاة العصر، ويبقى الذين يبيتون معهم ليلاً، ثم بعد اجتماع الفريقين أيضاً في صلاة الفجر يصعد الذين باتوا مع العباد، ويبقى الذين نزلوا في صلاة الفجر من السماء، والله -تعالى- يسأل كل فريق عن العباد، فيقول: (كيف تركتم عبادي) أي: على أي حال تركتموهم؟ وهو جل وعلا يسأل الملائكة عنهم –وهو أعلم بهم- ؛ لإظهار كرامتهم، فضلاً منه، وإحساناً إليهم، وبهذا يعلم أهمية المحافظة على هاتين الصلاتين في الجماعة.
قوله: (ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم – وهو أعلم – كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم، وهم يصلون.): وتقدم معنى العروج، وأنه: الصعود، والارتفاع، والذهاب إلى العلو، وهذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لأن السؤال حصل بعد صعودهم، حيث يصلون إلى المكان المحدد لهم، والله –تعالى- فوقهم، وهو – تعالى- يخاطبهم بذلك، بدون واسطة، كما هو ظاهر النص.
وهذا الحديث يتفق في المعنى مع قوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وكأن البخاري يشير بذلك إلى تفسيرها، وأن عروج الملائكة المذكور في هذا الحديث، داخل في مدلولها.
فوائد الحديث:
- يستفاد منه أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عنها وقع السؤال والجواب.
- وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين؛ لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين.
- وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره.
- وفيه الإخبار بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان.
- وفيه الإخبار بما نحن فيه، من ضبط أحوالنا، حتى نتيقظ، ونتحفظ في الأوامر والنواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا، وسؤال ربنا عنا.
- وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا، لنزداد فيهم حباً، ونتقرب إلى الله -تعالى- بذلك.
- وفيه كلام الله -تعالى- مع الملائكة، وغير ذلك من الفوائد التي ذكرها الحافظ.


- وفيه دليل على أن من جلس في مصلاه، يذكر الله ويدعوه، أنه في صلاة، لأن الملائكة يحضرون الصلاة معهم، وبعد الفراغ منها يصعدون.


حديث أبي هريرة مرفوعًا: (من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، ... ).

شرح مفردات الحديث
(الصدقة): ما يخرجه الإنسان من ماله، على وجه القربة، كالزكاة، لكن الصدقة –في الأصل – تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب.
وسميت صدقة: من الصدق؛ لأنها تدل على صدق إيمان المتصدق غالباً.
قوله: (بعدل تمرة) قيل: العدل بالفتح: المثل وما عادل الشيء، وكافأه، من غير جنسه، وبالكسر: ما عادله من جنسه وكان نظيره، وهذا قول القاضي عياض.
وقيل: الفتح والكسر لغتان فيها، وهو قول البصريين.
والمعنى: من تصدق بقدر تمرة، أو بقيمتها.
قوله: ( من كسب طيب) أي: تصدق بمال حلال، جيد، وإن كان قليلاً.
قوله: (ولا يصعد إلى الله إلا الطيب) تقدم هذا الحديث في الزكاة بسند متصل غير هذا.
وهذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد منه، حيث دل على علو الله -تعالى- وأنه فوق، وما قبله الله من الأعمال، فإنه يصعد إليه، فيبارك به لصاحبه، وينميه.
وقد اختار البخاري بعض النصوص في هذا الباب، التي فيها ذكر الصعود والعروج ونحوهما؛ لوضوح الدلالة في ذلك على علو الله –تعالى-.
قوله: (فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه) أي: أن الله -تعالى- يقبلها من صاحبها، فيأخذها بيده اليمنى، وكلتا يديه يمين، فينميها لصاحبها، ويبارك فيها، ويعتني بها عناية بالغة، كما يعتني أحدنا بأغلى ما لديه من المال، وأنفسه، وهو ولد الفرس، الذي يعد لمدافعة الأعداء وقتالهم، وحماية الأعراض، والنفوس، والأموال، حتى يصير ما هو بقدر التمرة – لشدة عناية الله تعالى به – مثل الجبل.



حديث ابن عباس: في دعاء الكرب.

وقد تقدم في الباب قبل هذا، وفيه اختلاف في سنده ومتنه، كما هي عادة البخاري.
والمقصود منه هنا قول: (رب العرش العظيم) وقوله: (رب العرش الكريم)، وقد تقدم أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، وليس فوقه مخلوق، وقد وصفه -تعالى- بأنه عظيم، وبأنه كريم، وأضافه -تعالى- إليه مما يدل على أن له خصوصية دون غيره من السماوات والأرض، وقد أخبرنا -تعالى- بأنه استوى عليه فهو من دلائل علوه -تعالى- فوق خلقه.


حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: (فمن يطيع الله إذا عصيته؟ فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني؟ )



شرح الحديث
قصة الحديث: أرسل النبي –صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب إلى اليمن، يدعو إلى الله -تعالى- ويقبض الزكاة من أصحابها، ويقضي في المنازعات، وكان ذلك قبل حجة الوداع، كما ذكره البخاري في آخر المغازي، ثم إن علياً وافى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بمكة، في حجة الوداع راجعاً من اليمن، وكان قد أرسل بذهيبة، تصغيرذهبة، أي قطعة من الذهب، فقسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين هؤلاء الأربعة المذكورين رجاء إسلامهم، وكانوا رؤساء قبائلهم، فإذا أسلموا، أسلم تبعاً لهم خلق كثير.
وقوله: (في تربتها) أي: أنها لم تخلص من ترابها، فليست ذهباً خالصاً؛ لأنها مختلطة بالتراب.
قوله: (فتغيظت قريش، والأنصار ) من الغيظ، أي غاظها ذلك، حيث لم يعطهم منها، وفي رواية: ( فغضبت).
(فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا) الصناديد: جمع صنديد، وهو: الرئيس.
قوله: ( إنما أتألفهم) أي: أعطيهم ليألفوا الدين، ويجتمعوا على حبه، والرغبة فيه، فأرغبهم فيه على طريق الإحسان إليهم بالدنيا حتى يصل إلى قلوبهم، فيحبوه ويرغبوا فيه، أو لأجل ما يتحصلون عليه من الدنيا، ثم بعد ذلك لما يرجونه من جزاء الله وثوابه في الآخرة.
والتأليف من الإلف، وهو الإجتماع والالتئام مع الحب.
والمعنى: إني أعطيهم؛ ليكون ذلك داعياً لهم إلى حب الإسلام، والرغبة فيه والإجتماع عليه، حتى يكونوا من أنصاره، ويتبعهم على ذلك أقوامهم وعشائرهم، فيحصل بذلك عز الإسلام، ونصره، فهذا العطاء مما يحبه الله ويثيب عليه، وهو من الإنفاق في سبيل الله -تعالى-.
- ووصفه الرجل المعترض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي أمور اتفقت فيه، وليست هذه الأوصاف الظاهرة في هذا الهالك مذمومة لذاتها.
وقوله: ( فمن يطيع الله إذا عصيته؟ ) يعني: أنه -صلى الله عليه وسلم- هو أحق الناس وأولاهم بطاعة الله -تعالى- وتقواه.
وهذا هو الضلال؛ أن يتصور الإنسان الطاعة معصية، فهذا الرجل المعترض تصور أن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصية، فقال: " اتق الله"، مع أن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو تقوى، ومن أعظم الطاعات، فهو يعطي لله، ولنصر دينه، وهداية عباده.
قوله: (فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني) أي يأمنني الله -تعالى- على الرسالة التي أرسلني بها إلى الأرض، ولا تأمنني أنت أيها المعترض، ومن على شاكلتك، لا تأمنوني على حطام الدنيا أن أضعه حيث يجب أن يوضع، على وفق أمر الله -تعالى-.
وفي رواية أخرى بلفظ: (فقال: ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً).
وهذا اللفظ أظهر، وأوضح في المقصود، من الرواية المذكورة هنا.
قال الحافظ: " وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة، لكنه جرى على عادته في إدخال الحديث في الباب، للفظة تكون في بعض طرقه هي المناسبة لذلك الباب، يشير إليها، ويريد بذلك شحذ الأذهان، والبعث على كثرة الاستحضار" .
قال الشيخ الغنيمان: ولا يخلو اللفظ المذكور من الدليل على المقصود، الذي هو علو الله -تعالى-؛ لأن قوله: ( فيأمنني على أهل الأرض) يدل على أن الآمن الذي هو الله -تعالى- في السماء.
ومعنى قوله: ( من في السماء) أي: الله الذي في السماء، و"في" هنا بمعنى "على"، فالعرب قد تضع "في" بموضع "على"، كما في قول الله -تعالى-: {فسيحوا في الأرض} أي: على الأرض.
أو يقصد بالسماء: العلو، أي: من في العلو، وكلاهما صحيح سائغ في اللغة والمعنى.
قوله: ( فسأله رجل من القوم قتله، أراه خالد بن الوليد، فمنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ) أي: استأذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وقد تقدم في المناقب أن السائل هو عمر بن الخطاب.
وقد جاء أن سبب منعه من قتله، خوف أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، فيصير بذلك تنفيراً عن الدخول في الإسلام.
قوله:( إن من ضئضئ هذا، قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم) والضئضئ: الأصل، يريد أن يخرج من نسله وعقبه .
والمقصود: الإخبار بأنه يأتي من جنس هذا الرجل الضال، قوم يسلكون مسلكه، يقرأون القرآن، ولكن لا يصل إلى قلوبهم، فهم لا يفهمونه على ما أريد، بل يضعونه في غير موضعه؛ لأنهم ضالون، وجاهلون، ولهذا يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، أي: يخرجون من الإسلام بسرعة وسهولة، غير متأثرين به، كأنهم لم يدخلوه، وهذا يدل على أنهم دخلوا في الإسلام، ولكن لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، ولم يفهموه على وجهه، ولهذا صار من أوصافهم: أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون الكفار عباد الأوثان، ومن أجل ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: (لئن أدركتهم، لأقتلنهم قتل عاد) أي: لا أبقي منهم أحداً، ويحتمل أن يراد به: القتل الشديد القوي.



حديث أبي ذر في سجود الشمس تحت العرش، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((مستقرها تحت العرش.)).

- قد تقدم شرحه في الباب قبل هذا، والشاهد منه هنا: أن الشمس في ارتفاعها، وأبعد ما تكون عن الأرض التي عليها المخاطبين آنذاك، تكون تحت العرش، فالمخلوقات كلها تحته، والله -تعالى- فوق العرش، فهو عالٍ على خلقه كلهم وفوقهم.



ومن الأحاديث الدالّة كذلك على علوّ الله تعالى صراحة، ولم يذكرها البخاري هنا:
- قصة معراج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه فوق السماوات كلها، وهي ثابتة ثبوتاً قطعياً بدون ريب.
- وحديث الرقية، وفيه: " ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك" . رواه أبو داود وأحمد.
- وحديث الأوعال، وفيه: " والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه". رواه أبو داود وأحمد وابن ماجد والترمذي وقال: حسن غريب.
- وحديث جبير بن مطعم في قصة الأعرابي الذي جاء يشكو قلة المطر والجوع، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: " ... إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته وأرضه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة" . رواه أبو داود والدارمي.
- وفي خطبته -صلى الله عليه وسلم- في عرفة، بعدما أمر، ونهى، جعل يقول: " ألا هل بلغت؟ " فيقولون: نعم، عند ذلك يرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول: " اللهم اشهد" - غير مرة - . رواه مسلم.



الرد على من خالف هذه الأدلة، وكشف الشبهات التي تعلّقوا بها

- يُقال لهم: لا يخلو أن يكون ما اتفقت عليه هذه النصوص، من إثبات العلو هو الحق، أو الحق نقيضه، إذ الحق لا يخلو عن النقيضين.

- فإذا كان نفي العلو هو الحق، فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا، لا نصاً، ولا مفهوماً، وكذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من الصحابة وأتباعهم، ولا أحد من أئمة المسلمين، ولا يمكن أحد أن ينقل عن واحد منهم شيئاً من ذلك، بل نقيضه هو المستفيض عنهم، كما هو الموافق للكتاب والسنة.
- ولازم ذلك: أن يكون الله ورسوله والمؤمنون، لم ينطقوا بالحق في هذا الباب، بل تكلموا بما يدل على الضلال، إما نصاً، أو ظاهراً.
شبهات والرد عليها
الشبهة الأولى: ادعائهم أن المشار إليه في الأدلة هو علوّ المكانة لا علوّ الذات.
- فإن قال قائل: هذه النصوص ما أريد بها إثبات علو الله على خلقه، وإنما أريد بها علو المكانة والقدر.
- فالجواب: فكان يجب على المتكلم بها أن يبين للناس الحق، الذي يجب أن يؤمن به ويعتقد، ظاهراً وباطناً، وأنه لم يرد بهذا الكلام مفهومه، ومقتضاه.
الشبهة الثانية: ادعاء المجاز.
- فإن قال قائل: إنه تكلم بالمجاز، المخالف للحقيقة.
- فالجواب: من المعلوم باتفاق العقلاء: أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي.
- ثمّ ادّعى نفاة العلو والصفات، أن القرينة الصارفة عن ذلك هي دلالة العقل، فاكتفى المتكلم بهذه القرينة؛ لأنها عقلية، عند كل عاقل.
وجواب هذا من وجوه:
الأول: إذا كان الهُدى إنما يستفاد من العقول، فلِم ينزل الله الكتاب، ويرسل الرسول؟
فيُقال لهم: إذا كان ما تكلم به الله ورسوله، إنما يفيد مجرد الضلال، والهدى إنما يستفاد من العقول، فلماذا ينزل الله الكتاب، ويرسل الرسول؟ أللعناء والشقاء؟ فإن تركهم على جاهليتهم خير لهم من أن ينزل عليهم الكتاب، ويرسل إليهم الرسول، هذا هو لازم هذا القول الباطل.
الثاني: لا تناقض بين العقل الصريح والنقل الصحيح.
- ويقال كذلك في الرد عليهم: أنّ الرسول جاء بإثبات العلو، والصفات، وذلك أظهر في العقل من قولكم.
- ثم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إما أن يتكلم بالهدى، أو بالضلال، أو يسكت عنهما، ومعلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بالضلال.
- ومعلوم بالعقل أنه لم يسكت عن بيان الحق، والهدى، والتحذير من اعتقاده الباطل، وبذلك يتفق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع العقل الصحيح، الذي لم تفسده الشياطين، والهوى المضل.
-فالعقل يوافق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا ما يقوله نفاة الصفات، فقولهم: أن القرينة الصارفة عن الظاهر، هي العقل، خطأ محض، إذ العقل يوافقها لا يخالفها كما توهموه.
وهذه الوجوه في الرد على من خالف في صفة العلو أوردها المصنف من كلام شيخ الإسلام.

إبطال القاعدة التي بنى عليها النفاة عقيدتهم في نفي الصفات، وصرف النصوص عن ظواهرها.
- من حججهم الباطلة التي حملتهم على صرف النصوص عن ظاهرها، ورأوا وجوب تأويلها لذلك، هي قاعدتهم: في أن جميع الأجسام حادثة لملازمتها للأعراض التي هي الصفات، فوجب تنزيه الرب -تعالى- عن كل صفة؛ لأنها تستلزم التركيب، أو الجسمية - كما زعموا-.
- فهم يزعمون أن الأعراض لا تكون إلا في جسم، والجسم لا بد أن يكون مركباً من الجوهر - كما زعموا-، ولهذا فهم ينفون صفة الاستواء والعلو، وغيرها من الصفات.
فيقال لهم: الحياة، والعلم، والسمع، والبصر - مما جوزتم لأنفسكم أن تصفوه به- لا يعقل أن تقوم إلا بجسم، مع أنكم تسمون الصفات: أعراضاً، ولا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه في المعنى.

ليس إثبات الصفات المراد به التمثيل أو التشبيه.
-كما يُقال: ليس المراد من إثبات ظاهر النصوص التمثيل أو التشبيه، فالسلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها.
- قال شيخ الإسلام: " ولا ريب أن الله موجود، قائم بنفسه، وترفع إليه الأيدي عند الدعاء، كما فطر على ذلك جميع عباده، ولا ريب أنه تجوز رؤيته في الآخرة، كما أخبر بذلك في كتابه، فإذا سموا هذه المعاني تجسيماً، فلا ينبغي لنا أن نترك ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، ونذهب إلى تأويلها، لمجرد هذه التسميات الحادثة المبتدعة" .
- فإثبات الصفات ليس فيه تشبيه كما زعموا، ولكن الأوهام وسوء الظن بالله ورسوله أرداهم.
-ومن جعل إثبات ظاهر النصوص المراد به التمثيل والتشبيه؛ فهؤلاء يغلطون من وجهين:
أحدهما: أنهم جعلوا المعنى الفاسد، هو ظاهر نص كلام الله وكلام رسوله، ولذلك أوجبوا تأويله، ليخالف الظاهر الذي زعموا، وليس الأمر كذلك.
الثاني: أنهم ردوا المعنى الصحيح الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل.

الشبهة الثالثة: زعمهم أنه تعالى لو كان في مكان، لأشبه المخلوقات.
تعلق نفاة العلو أيضاً: بأن الله -تعالى- لو كان في مكان، لأشبه المخلوقات؛ لأن ما أحاطت به الأمكنة فهو مخلوق.
فيقال: هذا نشأ عن القياس الفاسد، والتشبيه المستكن في نفوس هؤلاء، إذ لو آمنوا بأن الله على كل شيء قدير، وأنه ليس كمثله شيء، ما انطلت هذه الشبه وهذا الهراء على نفوسهم.
ويقال أيضاً: ألستم تقرون بأن الله -تعالى- موجود قبل خلق الكون، فهو -تعالى- كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " كان الله، ولم يكن شيء معه".
ونحن وأنتم وكل العقلاء، لا نعقل وجود أحد منا، إلا في مكان، وما ليس في مكان، فهو عدم، والله بخلاف ذلك، فلا يجوز أن يقاس بخلافه كما فعلتم، قلتم: لو كان في مكان لأشبه خلقه.
الشبهة الرابعة: زعمهم أنه يلزم من كونه تعالى في العلو التغير والانتقال.
هم يزعمون بهذه الشبهة أنه يلزم من كونه -تعالى- في العلو، التغير، والانتقال؛ لأنه، كان ولا مكان، فلما خلق المكان صار في العلو، فزال عن صفته في الأزل وصار في مكان.
فيُقال لهم: وأنتم يلزمكم أقبح من ذلك، وهو زعمكم أنه -تعالى- كان، لا في مكان، ثم صار في كل مكان، فقد تغير عندكم معبودكم، وانتقل من لا مكان، إلى كل مكان، وهذا لازم لكم، لا انفكاك لكم منه.
فالحق أن الله -تعالى- ليس كمثله شيء، لا في نفسه، ولا في فعله، ولا في صفاته، ولا في مفعولاته، وعلو الله العلي العظيم، واستواؤه على عرشه، كل ذلك ثابت له، حق على ظاهره، كما أخبر به -تعالى- عن نفسه، وأخبرت به رسله.



بطلان قول الجهميّة أن الله تعالى في كلّ مكان

وننقل هنا كلام الباقلاني - وهو من أئمة الأشاعرة - قال: " فإن قال قائل: أتقولون: إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبرنا في كتابه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، وقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} ، ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان، وفمه، وفي الحشوش، والمواضع التي نرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا، وشمائلنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه، وتخطئة قائله"، وقد سبق ذكره في الباب قبل هذا.

ذكر ما احتجّ به الجهمية لتقرير هذا المعنى الفاسد .
أولًا: احتجاجهم ببعض الآيات بحملها على غير ما فسّره بها السلف.
تعلّق الجهمية بقوله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}، وقوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية ، وزعموا أن الله - تبارك وتعالى - في كل مكان بنفسه وذاته.
فيقال لهم: يجب حمل هذه النصوص على المعنى الصحيح المجمع عليه، وهو أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، فهو المألوه المعبود في السموات والأرض.وهو الذي قاله أهل العلم بالتفسير.
وأما قوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية، ليس فيها حجة لهم؛ لأن علماء الصحابة والتابعين، الذين روي عنهم التفسير، قالوا في هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان. ولم يخالفهم في ذلك من يعتد به.
فعن ابن مسعود قال: " الله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" وذكرمثل ذلك عن الضحاك، وسفيان الثوري مثله.
فتبين أن هذه الآيات التي تعلق بها نفاة العلو، تدل على عكس قولهم، فهي متفقة مع النصوص الصريحة في الدلالة على علو الله -تعالى-.
ثانيًا: احتجاجهم بأثر ضعيف مروي عن ابن عباس.
فاحتجوا بما روي عن ابن عباس في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، أنه قال على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان.
وقال ابن عبد البر عن هذا الأثر: "أنه منكر، ونقلته مجهولون، وضعفاء، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يحتجون بمثل هذا الأثر الساقط؟".



ظهور صفة العلو، وكونها من الأصول العظيمة المتيقنة من الدين بالضرورة عند العامة والخاصة، وذكر من ضلّ فيها


صفة العلوّ من الأصول العظيمة الظاهرة عند عامة الأمة وخاصّتها، لما فطرت القلوب على الإقرار بأن الربّ سبحانه فوق العالم، ولدلالة الكتاب والسنة على ذلك، ولظهور ذلك في كلام السلف.
ويشهد لهذا: أن الجهمية أول ما ظهروا في الإسلام، وكان حقيقة قولهم في الباطن: تعطيل الرب -تعالى- من الصفات كلها، فكانوا في الباطن ينكرون أن يرى، أو يتكلم، أو أنه فوق العرش، أو أن يكون موصوفاً بالصفات التي جاءت بها كتب الله، أو دلت عليها الدلائل العقلية، لكنهم ما كانوا يظهرون من قولهم للناس، ما هو ظاهر البطلان؛ مثل نفي العلو المعروف، المتيقن من الدين بالضرورة عند العامة والخاصة، وإنما أظهروا من قولهم ما فيه شبهة، ولهم عليه حجة، فيكونون فيه أقل مخالفة لما يعلمه الناس من الحجج الفطرية، الشرعية، وهذا شأن كل من أراد أن يظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق، فإنهم لا ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة ابتداء، ذكره ابن تيمية.
ضلال الأشعرية في هذه المسألة
وقد ورث ضلال الجهمية في هذه المسألة وغيرها من مسائل الصفات كثير من علماء المسلمين، منهم الأشعرية والماتريدية الذين يزعمون أنهم أعداء للجهمية والمعتزلة وخصوم لهم، مع أنهم يتفقون معهم على إنكار علو الله تعالى، واستوائه على عرشه، ومجيئه لفصل القضاء بين عباده، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، كما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كما أنهم يؤولون الصفات إلا قليلاً، تأويلاً يؤول إلى الإنكار، مثل اليدين، والرجلين، والوجه، والرحمة، والمحبة، والضحك، والرضا، والغضب، والسخط، والمقت، وغير ذلك.
ويوافقون الجهمية في كون القرآن مخلوقاً، فإنهم يجعلون الكلام قسمين: نفسي، وهو المعنى القائم بالنفس، وهذا هو الذي يصفون الله به، ولفظي حرفي وهو المكتوب في المصاحف، وهو ليس كلاماً لله عندهم، بل هو عبارة عن كلام الله، وهو مخلوق، وهذا قول الجهمية الذين كفرهم السلف من أجله.


وهذا المذهب مازال يتبنّاه خلق ممن يتبنى مذهب الأشعرية، والماتريدية، معتقدين أن ذلك الضلال –أي إنكار الصفات وتأويلها- هو الحق وأنه مذهب أهل السنة، وأن أدلة كتب الله ووحيه إلى رسله ظواهر تدل على التشبيه بظاهرها، فلهذا يجب صرفها عن ذلك الظاهر.

ويرى هؤلاء من اعتقد ما دل عليه القرآن والسنة بظاهرهما، أنه مشبه ومجسم، ولهذا ترمي الأشعرية كل من اعتقد علو الله واستواءه على عرشه على الحقيقة، بالتشبيه، والتجسيم، وأحياناً يصرحون بكفرهم كما هو عقيدتهم في قرار نفوسهم.
مع أن العقل والفطر المستقيمة، السالمة من الانحراف، يتفقان على ما دل عليه وحي الله -تعالى-، مما دلت عليه النصوص الصريحة، الواضحة الكثيرة، من علو الله تعالى وفوقيته على خلقه.
والمقصود: أن علو الله -تعالى- ثابت بنصوص الكتب المنزلة على رسل الله، وبالفطر التي عليها عباده، وبالعقول التي لم تنتكس بفعل الشياطين، وبإجماع أهل العلم والإيمان من جميع الأمم، ولم يعرف خلاف في هذه المسألة، ونحوها إلا بعدما دخل كثير من الزنادقة في الإسلام نفاقاً، وقصداً لإفساد الدين، بعد المائة الأولى للهجرة.



ذكر افتراق الناس في مسألة العلو والاستواء

افترق الناس، في علو الله واستوائه، أربع فرق:

الأولى: الجهمية، النفاة، يقولون: ليس داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق، ولا تحت، وجميع الطوائف، من أهل البدع يتمسكون بنصوص، إلا الجهمية.
الثانية: قسم ثان من الجهمية يقولون: إنه بذاته في كل مكان، ويدخل في هؤلاء الأشاعرة.
الثالثة: من يقول: إنه فوق العرش، وهو في كل مكان، ويزعم أنه بذلك يجمع بين النصوص.
الرابعة: المتبعون للكتاب، والسنة، الذين أثبتوا ما أثبته الله ورسوله، من غير تحريف، فآمنوا بالله فوق سماواته، مستوٍ على عرشه.
ذكره شيخ الإسلام.
وبهذا التقسيم يظهر أن النفاة للاستواء والعلو، وغيرهما، على قسمين:
قسم يقول: إن الله لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا أمام، ولا خلف، ولا داخل العالم، ولا خارجه، وهذا لا يفهم منه إلا العدم المحض.
وقسم يقول: إنه في كل مكان، فيلزم أنه كان في كل مكان، قبل خلق المكان، فهو إذا في هذا الكون كله، قبل خلقه له، وهذا قول ظاهر الفساد، إذ معناه: كان في الأمكنة، قبل خلقها.



مسألة: ليس بين علوّ الله تعالى وبين معيّته لخلقه منافاة(1)

- علو الله -تعالى- واستواؤه على عرشه، ثابت ثبوتاً قطعياً، بدلالة الكتاب والسنة.

- وكذلك معيته -تعالى- لخلقه، وضحها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم.
فيجب الإيمان بأنه تعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه، حقيقة، وأنه كذلك موصوف بالقرب والمعية على الحقيقة.
وقد جمع الله تعالى بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، فأخبر -تعالى- أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا.
هل تخالف المعية الثابتة في قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ما ثبت من علوّ الله تعالى، وأنه فوق العرش؟
قال شيخ الإسلام: " لا يخالف ما ثبت من علو الله، وأنه فوق العرش، معيته لخلقه، الثابت بمثل قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}".
فكلمة "مع" في اللغة، إذا أطلقت، لم يكن ظاهرها، في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة، أو محاذاة، عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني، دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ويقال: هذا المتاع معي.


فالمعية لا تدل على المخالطة، والممازجة، وإنما تدل على المصاحبة والمقارنة ، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل".
فهو - سبحانه - مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، وهو فوق عرشه، وكل ذلك على ظاهره، غير محتاج إلى تأويل؛ وذلك لأن المفهوم من المعية في اللغة العربية: المصاحبة والمقارنة، ويختلف حكمها حسب مورد الخطاب.
بيان اختلاف حكم المعية حسب مورد الخطاب

المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد:
- فقوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} دل أن حكم هذه المعية، ومقتضاها: أنه مطلع عليكم شهيد عليكم، ومهيمن، عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
- وقوله تعالى: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، حق على ظاهره، ويدل على أن حكم هذه المعية: الاطلاع، والنصر، والتأييد.
- وقوله -تعالى-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: على الإيمان، لا أن ذواتهم حالة في ذاته، بل هم مصاحبون له ومتبعون له على الإيمان.
- وقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يدل على موافقتهم في الإيمان، وموالاتهم.
أنواع المعية
والمعية نوعان: عامة وخاصة.
فالأولى: هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}، ومن مقتضاها: المراقبة، والتخويف، والاطلاع على جميع التصرفات، وما تكنه الصدور.
والثانية: هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، ومن مقتضاها: النصر، والتأييد، والحفظ.
[فصل] المعية ليست هي العلم
الله -تعالى- مع عباده، يراهم، ويسمع كلامهم، وهو محيط بهم، وعلمه بهم من لوازم معيته لهم، وليست المعية هي العلم كما يتوهمه بعض الناس، فعلمه -تعالى - محيط بكل شيء ولا يختلف أو يتغير، ولذلك صارت المعية إلى خاصة، وعامة، وكل واحدة لها مقتضاها وحكمها، فمن مقتضى العامة: المراقبة، والتخويف، والاطلاع على جميع التصرفات، وما تكنه الصدور.
ومن مقتضى الخاصة: النصر، والتأييد، والحفظ.
وتفسير من فسرها بالعلم من السلف، يقصد بيان أن الله ليس مختلطاً بخلقه أو حالاً فيهم، أو أن شيئاً من مخلوقاته تحويه، أو تظله، أو تقله - تعالى وتقدس-.


قربه تعالى إلى بعض خلقه لا ينافي علوّه على عرشه


القرب جاء على صيغتين:
الإفراد، نحو قوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} ، وكما في حديث أبي موسى: " إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
وهو -تعالى- فوق عرشه، ويقرب ممن يشاء من خلقه، كيف يشاء، كما قرب من موسى - عليه السلام - حين كلمه، وهو فوق عرشه، فوق السماوات كلها، فلا تنافي بين علوه، وقربه ومعيته؛ لأنه تعالى أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، تعالى الله عن ظنون السوء الكاذبة.
فعلو الله العلي العظيم، واستواؤه على عرشه، ومعيته وقربه، كل ذلك ثابت له، حق على ظاهره، كما أخبر به -تعالى- عن نفسه، وأخبرت به رسله.
صيغة الجمع، كقوله -تعالى-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، وهذا يقصد به في لغة العرب: الواحد العظيم، الذي له عبيد يطيعونه، ويسارعون في أمره، وإذا وقع الفعل منهم عن أمره قال: نحن فعلنا.
والله -تعالى- رب الملائكة، وخالقهم، وخالق أفعالهم، وهم ممتثلون لأمره، وهو الغني عن ملائكته، وجميع خلقه، فإذا قال -تعالى-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ}، إذا كان المراد الملائكة، كان من هذا الباب.


الخلاصة:

فنخلص أن النصوص في تقرير علوّ الله تعالى وفوقيته كثيرة جداً، والحق فيها واضح جلي، بل وفي كل ما يجب لله -تعالى- وما يمتنع عليه، والله -تعالى- قد أكمل لهذه الأمة دينها على لسان رسولها، وأتم عليها النعمة بذلك، وأنزل كتابه فيه تبيان كل شيء، ومعرفته -تعالى- بما له من الأوصاف، ومعرفة ما يمتنع عليه، هي أجل أمور الدين وأعظم أصوله، فلا بد أن يكون هذا قد بين غاية البيان.
فنؤمن بعلو الله -تعالى-، وأن ذلك ثابت له بالفعل، وبأدلة الكتاب، وما بلغه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته، وثابت بالضرورة الفطرية، والأدلة عليه لا تحصى، ومنكره منكر للمعلوم بالضرورة من الدين، والمعلوم بالضرورة العقلية الفطرية، وليس بين علو الله واستوائه على عرشه، وبين معيته لخلقه، ولأوليائه وأنبيائه وقربه منهم تعارض.


____________________________________________________
(1) سبق الكلام في معية الله تعالى لعباده وقربه منهم في الباب الخامس عشر، عند حديث أبي هريرة مرفوعا: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، ...)

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ملخص, شرح


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:20 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir