رسالة تفسيرية لسورة العصر :
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ(3) وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(4) }
سورة العصر سورة عظيمة تبين منهج الحياة ومما يدل على عمق فهم هذه السورة وما احتوت قول الشافعي رحمه الله: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"؛وفهم الصحابة رضوان الله عليهم لسورة العصر جعلهم يطبقوها في حياتهم ففي حديث ثابت عن عبد الله بن حصن [ أبي مدينة ] ، قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا ، لم يتفرقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر " سورة العصر " إلى آخرها ، ثم يسلم أحدهما على الآخر .فانتقاءهم لزمن اللقاء بينهم ليتواصوا بهذه السورة وتذكير بعضهم البعض فيها هو خير دليل على فهمها وتطبيقها في حياتهم كما هو تعاملهم مع القرآن بأكمله .
أقسمَ الله تعالى بالعصرِ{وَالْعَصْرِ} اسمٌ للدهرِ، وهو العشيُّ والليلُ والنهارُ، ولم يُخصِّصْ ممَّا شمِلَهُ هذا الاسمُ معنًى دونَ معنًى، فكلُّ ما لزِمَهُ هذا الاسمُ فداخلٌ فيما أقْسَمَ بهِ جلَّ ثناؤُه. لأن سبب الاختلاف هو الاشتراك اللغوي في لفظ العصر وأقسم الله به لعظيم أهميته واشْتِمَالِهِ على الأعاجيبِ والْعِبَرِ، فالزمن هو رأس مال الإنسان .
كل يوم يمضي على غير هدى فهو خسران؛ ففي حديث أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك"يبين مدى قصر زمن الإنسان وفي حديث آخر لأبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ مِنْ أُمَّتِي سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ ". لذلك لا بد من استثمار هذا الزمن بحكمة وذكاء بحيث يحمل الانسان هم الدار الآخرة فهي الزمن الحقيقي الأبدي
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقولُهُ: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} يقولُ: إنَّ ابنَ آدمَ لفي هلكةٍ ونقصانٍ وضلال وكانَ عليٌّ رضيَ اللَّهُ عنهُ يقرأُ ذلك: إنَّ الإنسانَ لفي خسرٍ، وإنهُ فيهِ إلى آخرِ الدهرِ. , {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} قالَ: الناسُ كلُّهم).
واستثنى الله من جنس الإنسان الخاسر-لأن الإنسانَ بمعنى الجمعِ، لا بمعنى الواحدِ-.من تنطبق عليهم شروط وهي أن يؤمنوا بقلوبهم ويعملوا الصالحات بجوارحهم ويتواصىوا بالحق والصبر على كل ذلك .
فالإيمان هو التصديق لله وتوحيده والإقرار بالطاعة واجتناب النواهي فحتى يؤمن الانسان على بصيرة لا بد من تعلم العلم .
والعمل الصالح هو أن يؤدوا ما لزِمَهم من فرائضِهِ، ويجتنبوا ما نهاهُم عنهُ من معاصيهِ، والعمل الصالح لابد أن يلازمه شرطين حتى يقبله الله وهما الإخلاص والمتابعة ففي الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) يتبين مدى أهمية الإخلاص كما يتبين في قوله تعالى :(وَمَاآتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)معنى المتابعة .
وقوله تعالى {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} أن يوصي بعضُهم بعضاً بلزومِ العملِ بما أنزلَ اللَّهُ فِي كتابِهِ، من أمرِهِ، واجتنابِ ما نهَى عنهُ فيهِ.
فسَّر الحسن الحقَّ: بأنه كتابُ الله، وهذا تفسيرٌ صحيح؛ لأنَّ القرآنَ حق، فهما كالشيءِ الواحد، فعبَّر الحسن عن المسمَّى بأحدِ معانيه التي يحتمِلُها، ولو قيل: وتواصوا بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو وتواصوا على طاعة الله، لصحَّ ذلك.
وقوله تعالى {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ، والصبرِ عَلَى فَرَائِضِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِهِ المُؤْلِمَةِ.قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : «وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ». فالعصر خلاصة الزمان، والعصر يكون لاستخراج خلاصات الأشياء وبالصبر يستخرج معدن الانسان ومدى نقاءه فلابد من ترويض للنفس وعصر ها للإيمان وعمل الصالحات والتواصي بالحق حتى تعتاد الصبر الذي يقود إلى سائر الأخلاق ومن ثم يقودها للجنان قالَ تعالَى:﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
وبذلك نتعلم من سورة العصر أنها منهاج حياة لابد أن تتعلم أولاً، ثم تعمل بما تعلمت، ثمَّ تدعو إلى ما وفقك الله له ولا بد للصبر في جميع هذه المراحل قال العلامة ابن سعدي رحمة الله تعالى عن وصايا سورة العصر : "فبالأمرين الأولين يكمل الإنسان نفسه - أي: بالإيمان والعمل الصالح -، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره - وهما التواصي بالحق وبالتواصي بالصبر -، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم".
المراجع:
تفسير جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) :(. [الدر المنثور])
تفسير جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ)
الطريقة في عمل الرسالة :أسلوب التقرير العلمي والوعظي
من جهاز الـ iPhone الخاص بي