831- وعن سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ ـ قالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: ((لاَ)). قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بشَطْرِهِ؟ قالَ: ((لاَ)). قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ؟ قَالَ: ((الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحَديثِ:
- الشَّطْرُ: بفتحِ الشِّينِ، وسُكونِ الطاءِ المُهْمَلَةِ، آخِرَه رَاءٌ، الشَّطْرُ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ، والمُرادُ بهِ النِّصْفُ.
- الثُّلُثُ والثُّلُثُ: الأَوَّلُ يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ علَى أَنَّه مُبْتَدَأٌ، والتقديرُ: الثُّلُثُ يَكْفِيكَ، أو على أنَّه فَاعِلُ يَكْفِيكَ، ويَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ علَى الإِغْرَاءِ، أو على تَقْدِيرِ: أَعْطِ الثُّلُثَ، وأمَّا الثُّلُثُ الثاني فهو مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُه كَثِيرٌ.
- كَثِيرٌ: أَكْثَرُ الرواياتِ بالثاءِ المُثَلَّثَةِ، وهو المَحفوظُ، وفي روايةٍ للبخاريِّ: كَثِيرٌ أو كَبِيرٌ، قالَ: إنَّه شَكٌّ مِن الراوِي.
- إِنَّكَ: "إِنَّ" مُشَدَّدَةً من نَواصِبِ الاسْمِ، والكَافُ اسْمُها.
- أنْ تَذَرَ: بفَتْحِ الهَمْزَةِ و"أَنْ" وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَحَلُّه الرَّفْعُ, مُبْتَدَأٌ، أي: تَرْكُكَ أَوْلادَكَ أَغْنياءَ، وخَبَرُه خَيْرٌ، والجُمْلَةُ بأسْرِها خَبَرُ "إِنَّ"، ورُوِيَ بكَسْرِ الهَمْزةِ على أنها شَرْطِيَّةٌ جَوَابُها مَحذوفٌ، وتقديرُه: إنْ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِياءَ فَهُوَ خَيْرٌ.
- قالَ النَّووِيُّ: الروايتانِ صَحِيحَتانِ، وأَيَّدَ هذا الإعرابَ الإِمَامُ النَّحْوِيُّ ابنُ مَالِكٍ، وهو شَيْخُ الإمامِ النَّوَوِيِّ.
- تَذَرَ: قَالَ في (المِصْباحِ) وغَيْرِه: هذا فِعْلٌ أَمَاتَتِ العَرَبُ مَاضِيَهُ ومَصْدَرَهُ، فإِذَا أُرِيدَ المَاضِي قِيلَ: تَرَكَ، فيَكُونُ تَأْوِيلُ مَصْدَرِه هُنَا معَ"أَنْ": تَرْكُكَ ورَثَتَكَ.
- عَالَةً: بفَتْحِ العَيْنِ، جَمْعُ عَائِلٍ: فُقَرَاءَ, مِن عَالَ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ، والعَيْلَةُ الفَقْرُ، قالَ تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28].
- يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ: مَأْخُوذٌ مِن الكَفِّ، وهي اليَدُ، أي: يَسْأَلُونَ النَّاسَ بأَكُفِّهِم، أو يَسْأَلُونَ مَا فِي أَكُفِّ النَّاسِ.
* ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1- مَرِضَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ بمَكَّةَ عَامَ حِجَّةِ الوَداعِ، فعَادَه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ، فذَكَرَ له سَعْدٌ بأنه صَاحِبُ مَالٍ كَثِيرٍ، وليسَ له مِن الوَرَثَةِ إلاَّ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ، فهَلْ يَتَصَدَّقُ بمالِه كُلِّه؟ كما في روايةِ أحْمَدَ والنَّسائِيِّ، فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ: ((لا)). فقالَ: بالثُّلُثَيْنِ؟ فقالَ: ((لا)). فقالَ: بالنِّصْفِ؟ فقالَ: ((لا)). قالَ: بالثُّلُثِ؟ فقالَ: ((الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ)).
ثُمَّ بَيَّنَ له أنَّ تَرْكَه وَرَثَتَه أغنياءَ, لهم ما يَكْفِيهِم ويُغْنِيهِم عن الناسِ، خَيْرٌ مِن أنْ يَدَعَهم فُقَرَاءَ، يَسْأَلُونَ النَّاسَ، ويَعِيشُونَ علَى إِحْسانِهِم إليهم.
2- سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ القُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ مِن السابقِينَ إلى الإسلامِ، ومن المُهاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، شَهِدَ المَشاهِدَ كُلَّها معَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ، ومنها بَدْرٌ، وكانَ لَهُ بَلاءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ أُحُدٍ، حتى قالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ: ((فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي)). وهو مِن العَشَرَةِ المُبَشَّرِينَ بالجَنَّةِ، ومِن السِّتَّةِ أصحابِ الشُّورَى، وهو قَائِدُ جُيوشِ المُسلمِينَ التي هَزَمَتِ الفُرْسَ، وفَتَحَتِ القَادِسِيَّةَ والمَدَائِنَ وغَيْرَها، وهو مِمَّن اعْتَزَلَ فِتْنَةَ الصحابَةِ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ ـ وعاشَ إلى عَامِ 54 من الهِجْرَةِ، ولمْ يَمُتْ حَتَّى صَارَ له مِن الأبناءِ خَمْسَةٌ، والسَّادِسَةُ بِنْتٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ ورَضِيَ عنه.
3- اسْتِحْبَابُ عِيادَةِ المريضِ، وتَتَأَكَّدُ فيمَن له حَقٌّ مِن قَرِيبٍ، وصَدِيقٍ، وجَارٍ، ونحوِهم.
4- جَوازُ إخبارِ المَريضِ بمَرضِه، وبيانِ شِدَّتِه، إذا لم يَقْصِدِ التَّشَكِّيَ والتَّسَخُّطَ، ويَنْبَغِي ذِكْرُه للفَائِدَةِ؛ كطَبِيبٍ يُعِينُه على تَشْخِيصِ مَرَضِه، أو مُسْعِفٍ يَتَسَبَّبُ له في العِلاجِ.
5- اسْتِشَارَةُ العُلماءِ، واسْتِفْتَاؤُهُمْ في أُمُورِه.
6- إباحةُ جَمْعِ المَالِ إذا كانَ مِن طُرُقِه المُباحَةِ.
7- اسْتِحْبَابُ الوَصِيَّةِ، وأنْ تَكُونَ بالثُّلُثِ مِن المالِ فأقَلَّ، ولو مِمَّن هو صَاحِبُ مَالٍ كَثِيرٍ.
8- الأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ بأقَلَّ مِن الثُّلثِ، وذلك لحقِّ الوَرَثَةِ.
9- أنَّ إبقاءَ المَالِ للوَرَثَةِ معَ حَاجَتِهم إليه، أَفْضَلُ مِن التصَدُّقِ به على البَعِيدِينَ؛ لكونِ الوَارِثِ أَوْلَى ببِرِّهِ مِن غَيْرِه.
10- أنَّ النَّفَقَةَ على الأولادِ والزَّوْجَةِ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ معَ النِّيَّةِ الحَسَنَةِ.
وذَكَرَ ابنُ دَقِيقِ العيدِ: أنَّ الثَّوابَ في الإنفاقِ مَشْرُوطٌ في حُصولِ النِّيَّةِ بابتغاءِ وَجْهِ اللَّهِ، وهذا دَقِيقٌ عَسِرٌ؛ لأنه بمُقْتَضَى الطَّبْعِ والشَّهْوَةِ، فلا بُدَّ مِن أَنْ يُمازِجَه ذلك عندَ مُعْظَمِ الناسِ، ثُمَّ بَيَّنَ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ أنَّ الوَاجِبَاتِ المَالِيَّةَ إذا أُدِّيَتْ عَلَى وَجْهِ أَدَاءِ الوَاجِبِ وابتغاءَ وَجْهِ اللَّهِ؛ أُثِيبَ فَاعِلُها، وإنْ أُشْرِبَتْ نِيَّتُه ـ معَ إِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ ـ الرَّغْبَةَ في أَدَاءِ الوَاجِبِ، فإنَّ أَدَاءَ الوَاجِبِ امْتِثالٌ، وبَرَاءَةٌ، وعِبَادَةٌ.
11- وفيهِ مَذَمَّةُ مَسْأَلَةِ الناسِ أموالَهم، وإظهارِ الحَاجَةِ إليهم، وأنَّه على الإنسانِ أَنْ يَسْعَى بأيِّ عَمَلٍ يُغْنِيهِ عنهم، وعمَّا في أَيْدِيهم.
12- وفيهِ حُسْنُ جَمْعِ المالِ مِن حِلِّه، للاستغناءِ به عن الحَاجَةِ إلى الناسِ، ومِن حُسْنِ تَوْفِيرِ المَالِ الاقْتِصَادُ في النَّفَقاتِ.
13- وفيهِ أَنَّ حَقَّ الوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بمَالِ قَرِيبِهم، الذي يَرِثُونَه حتى في حالِ حَياتِه، فلا يَحِلُّ له أنْيَحْتالَ على إِنْفَاقِه أو التصَرُّفُ فيه تَصَرُّفاتٍ يَقْصِدُ بها حِرمانَهم من المِيراثِ.
14- في الحديثِ حَثٌّ علَى صِلَةِ الرَّحِمِ، والإحسانِ إلى الأَقَارِبِ، والشَّفَقَةِ على الوَرَثَةِ، فإنَّ صِلَةَ القَرِيبِ الأَقْرَبِ والإحسانَ إليهِ، أَفْضَلُ مِن الأَبْعَدِ.
15- وفيهِ فَضْلُ الإنفاقِ في وُجوهِ الخَيْرِ، وإنما يُثابُ على عَمَلِه بنِيَّتِه، وأَنَّ الإنفاقَ على العِيالِ يُثابُ عليهِ إذا قُصِدَ بهِ وَجْهُ اللَّهِ تعالى، وأنَّ المُباحَ إذا قُصِدَ بهِ وَجْهُ اللَّهِ تعالى صَارَ طَاعَةً.