829- وعن أَبِي قِلابَةَ عن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ ـ قالَ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ: ((أَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ)). أخْرَجَهَ أحمدُ والأربعةُ، سِوَى أبي دَاوُدَ، وصَحَّحَه التِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ والحَاكِمُ وأُعِلَّ بالإرسالِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرَجَةُ الحديثِ:
الحديثُ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابنُ حِبَّانَ، والحاكِمُ.
قالَ في (التلخيصِ): رواهُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابنُ مَاجَهْ، وابنُ حِبَّانَ، والحاكِمُ، من حديثِ أبي قِلابَةَ عن أَنَسٍ, فذَكَرَ الحَدِيثَ، وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ والحاكِمُ وابنُ حِبَّانَ، وقدْ أُعِلَّ بالإرسالِ، وسَمَاعُ أبي قِلابَةَ مِن أَنَسٍ صَحِيحٌ، إلاَّ أَنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ منه هذا الحَدِيثَ، ورَجَّحَ الدَّرَاقُطْنِيُّ والبَيْهَقِيُّ والخَطِيبُ أنَّ المَوْصُولَ منه: ((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ)) وأمَّا الباقي فمُرْسَلٌ، وله طُرُقٌ أُخَرُ، لا تَخْلُو مِن مَقالٍ، إلا أنَّه يَشُدُّ بَعْضُها بَعْضاً.
* مُفْرداتُ الحَديثِ:
- أبي قِلابَةَ: بكَسْرِ القَافِ، هو ابنُ زَيْدٍ الجرميُّ البَصْرِيُّ، تَابِعِيٌّ، ثِقَةٌ، هو أَكْثَرُ مَن أَخَذَ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
- أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ: أَفْرَضُ أَفْعَلُ تَفْضيلٍ، ومعناهُ أنَّ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ الأنصاريَّ أَعْلَمُ الصحابةِ بعِلْمِ الفَرَائِضِ.
* ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1- زَيْدُ بنُ ثَابِتِ بنِ الضَّحَّاكِ الأنصاريُّ الخَزْرَجِيُّ، ثُمَّ النَّجَّارِيُّ، كانَ عُمُرُه حِينَ قَدِمَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ المدينةَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، فكَانَتْ أُولَى مَشاهِدِه مِن الغَزَواتِ على الراجِحِ الخَنْدَقَ، ووَفَاتُه سَنَةَ خَمْسٍ وأربعِينَ، وكانَ مِن كُتَّابِ الوَحْيِ، ومِن حَفَظَةِ القُرْآنِ، ومِن أَوْعِيَةِ العِلْمِ.
أعطاهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ رَايَةَ بَنِي النَّجَّارِ يَوْمَ تَبُوكَ، وقالَ: ((إِنَّهُ أَكْثَرُ أَخْذاً لِلْقُرْآنِ)). واسْتَخْلَفَهُ عُمَرُ علَى المَدِينَةِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وكَانَ عُثْمَانُ يَسْتَخْلِفُهُ، ورَوَى عنه جَمْعٌ كَبِيرٌ مِن الصحابةِ والتابعِينَ.
وهو الذي كَتَبَ المُصْحَفَ في عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، وفي عَهْدِ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عنهُما ـ ولَمَّا مَاتَ، قالَ أبو هُرَيْرَةَ: ماتَ حَبْرُ هذهِ الأُمَّةِ، وعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ في ابنِ عَبَّاسٍ خَلَفاً عنه.
قالَ ابنُ عُمَرَ: اليومَ مَاتَ عَالِمُ المَدِينَةِ.
2- وجاءَ في المُسْنَدِ، والتِّرْمِذِيِّ، وابنِ مَاجَهْ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ قالَ: ((وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ)). ومن أَجْلِ هذه الشَّهادَةِ النبوِيَّةِ، وهذهِ المَيْزَةِ العِلْمِيَّةِ، فإنَّ الإمامَ الشافِعِيَّ نَحَا نَحْوَه، ومالَ إلى أَقْوَالِه مُوافَقَةً لَهُ بعدَ التَّحَرِّي والاجتهادِ، وإمعانِ النَّظَرِ، وظُهورِ الصَّوابِ.
3- هذا الحديثُ قِطْعَةٌ مِن حَدِيثٍ طَوِيلٍ، رَواهُ التِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابنُ مَاجَهْ، بلفظِ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ: ((أَرْحَمُ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَياءً عُثْمَانُ، وأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ)).
والمُؤَلِّفُ لم يأتِ منه إلاَّ بما تَعَلَّقَ بالبابِ، وهو: ((أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ))؛ لأنه شَهَادَةٌ لزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ بأنه أعْلَمُ المُخَاطَبِينَ بالمَوارِيثِ، فيُؤْخَذُ عنه ويُرْجَعُ إليه عندَ الاختلافِ؛ ولذا اعْتَمَدَ أقوالَه الإمامُ الشافِعِيُّ، ورَجَّحَها على غَيْرِها.
4- هذا الحديثُ أُعِلَّ بالإرسالِ، وذلك أنَّ أبا قِلابَةَ ـ وإنْ كَانَ سَمِعَ مِن أَنَسٍ عِدَّةَ أحادِيثَ، إلا أنَّه لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هذا الحديثَ، فيَكُونُ مُرْسَلاً أي مُنْقَطِعاً.
لكنْ قَالَ المُؤَلِّفُ في (التلخيصِ): صَحَّحَه التِّرْمِذِيُّ، والحاكِمُ، وابنُ حِبَّانَ، وله طَرِيقٌ أُخْرَى عن أنَسٍ، أخْرَجَها التِّرْمِذِيُّ، ورَجَّحَ ابنُ الموَّاقِ وغَيْرُه أَنَّه مَوْصُولٌ، أَمَّا الدَّارَقُطْنِيُّ، والبَيْهَقِيُّ، والخَطِيبُ فرَجَّحُوا أنَّ المَوْصُولَ منه ذِكْرُ أبي عُبَيْدَةَ، والباقِيَ مُرْسَلٌ.
5- الخلافُ بينَ العلماءِ في مَسائِلِ الفَرَائِضِ قَلِيلٌ، وقَلِيلُه مَوْجودٌ في مَسائِلِه التي لم تُذْكَرْ في القُرْآنِ الكريمِ، وأمَّا أُصولُ مَسَائِلِه، والهامُّ منها، فمُجْمَعٌ عليها بينَ العلماءِ؛ ذلك أنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى تَوَلَّى قِسْمَتَها بنَفْسِه في كِتابِه العزيزِ؛ لأنها أُمورٌ تَرْجِعُ إلى تَقْسِيمِ الأموالِ، والنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ على حُبِّ المالِ والاستئثارِ به، كما أنَّ التَّرِكَةَ غالباً تكونُ بينَ أَقْوياءَ وضُعَفاءَ، ومِن هنا يأتي الخَوْفُ أيضاً من عَدَمِ العَدْلِ في قِسْمَتِها.