القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم . قال المولف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما , قال: أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل من الحيفاء إلى ثنية الوداع ، وأجرى ما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق . قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى . قال سفيان: من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة ، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل .
قال: وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني في المقاتلة ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني .
الشيخ: الحديث الأول يتعلق بالمسابقة ، السباق على الخيل سنة لهذا الحديث ؛ وذلك لأن فيه:
أولا: تجرئة على ركوب الخيل ، واعتياد الثبات عليها ، والمجاراة عليها.
وثانيا: تجربة الخيل ، ومعرفة السابق منها ، وما ليس بسابق .
وسبب ذلك أن القتال كان على هذه الخيل , غالبا القتال الذي كانوا يقاتلون به أعداء الإسلام يغلب أنهم يركبون فيه الخيل ، وقد يركبون الإبل ، قال تعالى:{فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} , فالركاب هي الإبل ، فدل على أنهم يوجفون دائما أو كثيرا على الخيل ، أو على الركاب ، التي هي الإبل ، ثم لا شك أن الخيل تحتاج إلى تعويد وتمرين على السباق ، وأنها تختلف باختلاف أحوالها: فمنها المضمر ، ومنها غير المضمر ، لذلك فرق بينهما في هذه المسابقة ، فأمر بأن تجري الخيل المضمرة مسافة طويلة , والخيل غير المضمرة مسافة قصيرة .
والمضمرة هي خيول تعلف مدة ستة أشهر أو سنة ، ويزاد في علفها ، وتعطى أنواع العلف الذي تقوى به حتى تسمن ، وتقوى وتكثر ويكثر لحمها ، ويقوى عظمها . ثم إذا أرادوا السباق عليها جوعوها ثلاثة أيام ، لا يعطونها شيئا , أو يومين ؛ حتى تضمر ويخف ما في بطنها ، فيكون عظمها صلب وقوي وجسمها قوي ، وبطنها خفيف ، فإذا أرادوا السباق في ذلك اليوم ، وإذا هي قد ضمرت بطونها وقد خفت ، أطعموها طعاما قليلا بقدر ما تتمسك وتمسك به قوتها ، ثم بعد ذلك يجرونها ، فيجتمع فيها قوة البدن ، والسمن ، وخفة البطون ، وخفة الجسم ، فيكون سيرها أسرع . ونكمل بعد الأذان.
وحيث أن الله تعالى ذكر الخيل بقوله تعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فأمر بإعداد الخيول ، وبتهيئتها ؛ لتكون إرهابا للأعداء ، وتخويفا لهم ، حتى إذا علموا أن عند المسلمين قوة ومنعة كان ذلك سببا في هيبتهم ، وفي خوفهم ، حتى لا يطمعوا في شيء من بلاد المسلمين ، أو من أموالهم ، أو ردهم عن دينهم أو نحو ذلك , بل ليخافونهم مجرد خوف ، وإذا عزموا على قتالهم كان المسلمون قد استعدوا ، وقد تهيأوا ، وقد أعدوا لهم العدة ، فيكون مع المسلمين قوة ، ونجدة ، واستعداد ؛ لرد كيد الأعداء ولإذلالهم وإهانتهم . فهذا هو السبب في الأمر بإعداد الخيل: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} .
ولا شك أن من جملة ذلك .. من جملة إعدادها تهيئتها لدخول الميادين ، وذلك بمعرفة الأسبق منها ، بمعرفة السابق، وبمعرفة القوي ونحو ذلك , وهذا هو السبب في هذا الإجراء ، أنه صلى الله عليه وسلم أجرى هذه الخيل ، أجراها يعني أمر أصحابه بأن يجروا ، فيركب كل فارس على فرس ، ويدخلون المسابقة ، ويطلقونها فتسير سيرا قويا ، وتسعى سعيا شديدا ، إلى أن تصل إلى الميدان , إلى نهاية المدى الذي حدد لها .
فجعل للخيل التي أضمرت ، جعل لها من الحيفاء إلى ثنية الوداع ، أمكنة معروفة بالمدينة ، حددها الراوي بأنها اثني عشر ميلا ، يدل على أنها مسافة طويلة ، والميل نحو ألف وستمائة متر أو أكثر ، يعني قريبا من ألف وسبعمائة كما هو معروف , هذا الميل يعني قريبا من .. إذا كان سبعة عشر , أو نحو ذلك ، يقرب من ثلاثين كيلو بالكيلو المعروف ، وهذه المسافة مسافة طويلة , ولكن الخيول المضمرة خفيفة الجري ، وسريعة العدو ، وشديدة الأبدان ، ولا تألم ، ولا تتعب ، فلذلك لو سارت خمس ساعات سعيا شديدا لم تتعب ، هذا هو الغالب .
أما الخيل التي لم تضمر فإنها تتعب بسرعة ، فلذلك جعل لها ميلا واحدا ، جعل من الثنية إلى مسجد بني زريق نحو ميل , أو قريبا من الميل ، أي ألف وسبعمائة متر . لا شك أنه رفق بها ؛ لكونها تتعب بسرعة ؛ لكونها ممتلئة البطون وثقيلة الجري ، ولكونها لم تتعود ، فهذا هو السبب.
السباق على الخيل من السنَّةِ ، بل ويستحق السابق جائزة ، ويشجع على ذلك ؛ فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر)) .والسبق هو الجعل الذي يبذل لمن سبق , الجائزة التي تبذل للسابقِ ، يسمى سبقا ، يعني أجرة له وجائزة ؛ تشجيعا له على سبقه ، فجعل السبق يختص بهذه الثلاثة: السباقُ على الإبل ، والسباقُ على الخيل ، والسباق بالسهامِ ، التي هي الرمي .
فالسباق بالرمي هي كونهم مثلا ينصبون هدفا ، ثم يرمونه بسهامهم ، فمن أصابه فله الجائزة ، والذى يخطئ ليس له شيء ، يعودون أنفسهم على الرمي . وقد وردت الأحاديث في الأمر به ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} , قال: ((ألا إن القوة الرمي)).
ويدخل في ذلك الرمي بالأسلحةِ الجديدةِ: الرصاصُ المعروف الآن ، وكل ما يلحق به ، مما فيه تعلم للقتالِ على هذه الأسلحةِ ، فإنه داخل في هذا الأمرِ ، الذي فيه قوله: ((ألا أن القوة الرمي)) . فالرمي بالرصاص المعروف ، والرمي بالمدافع ونحوها ، والرمي بالقاذفات وما أشبهها ، لا شك أن ذلك كله يعتبر من الرمي في قوله: ((ألا إن القوة الرمي)) . فيصح السباق عليه ، يصح أن ينصب هدف ، وأن يرميه الذين يريدون التعلم ، ومن أصابه أخذ الجائزة ، الذي يصيبه لأول مرة .
كذلك أيضا السباق على الإبلِ ؛ وذلك لأن الإبل من جملة ما يطلب ، ما يطلب عليه العدو ، فيصح أن يسابقوا عليه ، أن يتسابقوا على الإبل لينظر أيها أشد جريا ، وأشد عدوا ، تدرك من هرب ، وتنجو بمن هرب ، تدرك المطلوب ، وتفوت الطالب . كذلك أيضا الخيل . فالحاصل أن هذه الثلاثة هي التي تصح فيها الجوائز .
وأما المسابقة على الاقدام فهي جائزة أيضا ، قد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: سابقت النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته ، فلما غشيني اللحم سابقته فسبقني ، وقال: ((هذه بتلك)) .المسابقة على الأقدام جائزة ؛ وما ذاك إلا أن فيها تمرين على شدة العدو والجري . والإنسان إذا عود نفسه سرعة السير ، وسرعة المشي ، وسرعة العدو , كان ذلك مما يسبب قوته إذا هرب من عدو , فقد تعوزه الأمور إلى أن يهرب ، إذا كان مطلوبا ، أو يطلب من هرب , فينجو ممن يطلبه ، ويدرك من طلبه . يصح السباق على الأقدام ، ولكن لا يصح بعوض .
كذلك أيضا صححوا أنه يصح على السفن ، وعلى المزاريق ، ولكن إذا كان في بعض الأمور التي يسابق عليها شيء من المخاطرة ، والمهاترة ، والإلقاء باليد إلى التهلكة ، والتعرض للأخطار ، فلا يجوز ذلك , كالمسابقة على السيارات ، والمسابقة على الدبابات ، وما أشبهها ؛ لما فيه من تعرض للأخطار ؛ لأنه قد يكون من آثار السرعة حوادث الانقلاب ، وحوادث الاصطلام ، الاصطدام ، وما أشبه ذلك .
وبكل حال هذا دليل , يعني هذا الحديث دليل على جوازالمسابقة على هذه الأشياء . وإذا جازت المسابقة جاز جنسها ، وجاز كل شيء فيه تشجيع على القتال ، وفيه حثٌّ على القوة ، وإعداد القوة للمشركين بكل ما يستطاع . وعلى هذا نقول: إن على الإنسان أن يهيء نفسه . إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حث أصحابه على أن يتهيؤوا بتعلم الرمي ، وأن يتهيؤوا بركوب الخيل ، يتعلموا ركوب الخيل ، والجري عليها . ولما شكا إليه بعض أصحابه أنه لا يثبت على الخيل دعاله , وقال: ((اللهم ثبته ، واجعله هاديا مهديًّا)) . ثبت ذلك عن جرير بن عبد الله البجلي وغيره ، دعا لهم بالثبات عليها ، وحثهم على أن يتعلموا ركوبها ، ويتعلموا الثبات عليها ، والجري عليها ؛ لأن في ذلك تقوية لهم ، وتمرين لهم على القتال ونحوه .
نقول: كذلك أيضا علينا أن نتعلم الأسلحة الجديدة ، التي يقاتل بها العدو في هذه الأزمنة ؛ وما ذاك إلا أن فيها استعداد للعدو ، الذي قد يفجأ ، قد يأتي فجأة وبغتة ، فإذا كان المواطن لا يستطيع أن يقاتل ، لم يتعلم القتال ، ولم يتعلم الرمي ، ولم يتعلم الجري ، ولم يتعلم الأسلحة الثقيلة أو الخفيفة ، ولم يتدرب على شيء من ذلك- أصبح كلا على المجتمع ، ولم يستفد منه ، بخلاف ما إذا كان قد درب نفسه ، وقد عودها على الثبات ، وكذلك على الإصابة ، وعلى الكروالفرِّ ، ونحو ذلك ، وعلى الأسلحة الجديدة ، ونحوها , عرف كيف تستعمل ، وعرف كيف إصلاحها ، وعرف كيف يستعملها ، ويصيب بها أولا يصيب .
كل ذلك بلا شك أنه من جملة ما أمرنا به في قوله:{وأعدوا لهم ما استطعتم} , كل شيء تستطيعه في القضاء على هذه الأشياء فإنك تفعله ، تفعل ما تستطيعه , وبذلك نستطيع أن نذل كل عدو ، وإن كان الله تعالى هو الذي ينصر من استنصره ، وهو الذي ينزل النصر على من ثبته ، ولكن مع ذلك لا بد من فعل سبب ؛ ليكون هذا السبب مقويا أو مثبتا للإنسان على الخير .