كتاب الأطعمة
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول , وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه: ((إن الحلال بين , والحرام بين , وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس , فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام , كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه , ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه , ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله , وإذا فسدت فسد الجسد كله , ألا وهي القلب))
الشيخ: بسم الله , والحمد لله , والصلاة والسلام على محمد .
الأطعمة هي ما يحل أكله , سواء من اللحوم ، أو من النباتات ، أو من المبايعات والمعاملات , وقد تقدم حكم المعاملات: البيع والشراء والتجارة ، وتنمية الأموال ، وبعض المكاسب والإيجارات وما أشبهها , كيف تكون حلالا , ومتى يكون فيها غش يحرم أو ربا ، أو غرر أو خداع ، أو نحو ذلك .
وأما هنا فأرادوا بذلك بيان الأطعمة التي أحلها الله ، والتي حرمها , فيذكرون في هذا الكتاب ما يباح من المأكولات ومن الأشربة وما أشبهها ، وغالبا أن الله تعالى أحل الأطعمة التي لا ضرر فيها ، وحرم ما فيه ضرر ؛ لأن الله خلق هذه الأرض ، وخلق ما فيها للإنسان, خلق ما فيها مسخرا لمنفعة البشر في قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} , {لكم} أي: مسخرا لكم ، لكن إذا كان فيه ضرر فإنه ينتفع به في غير الأكل ، أو غير ذلك ، فجميع ما على وجه الأرض كله خُلِقَ لأجل الإنسان ، أو خلق لأجل الاعتبار , إلا أن كثيرا من هذه المخلوقات خلَقَهُ الله تعالى لكونه..أو لكون خلقه آية ودلالة وعبرة على قدرة الخالق تعالى , يعتبر بها العقل , يعتبر بها الإنسان . ولا نتوسع في هذا ؛ لكون الباب طويلا.
ولكن نعود فنقول: المأكولات التي أحلها الله تعالى هي الطيبات , قال تعالى: {كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} , وقال: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} , وقال تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} , هذا النبات الذي ينبت في الأرض منه ما هو غذاء للإنسان كالحبوب والثمار التي لا ضرر فيها ، ومنها ما هو غذاء للدواب , يقول تعالى: {كلوا وارعوا أنعامكم} , ويقول تعالى: {ومنه شجر فيه تسيمون} , أي: ترعون دوابكم السائمة التي هي راعية بأفواهها , تسيمونها: أي ترعونها .
كذلك لا شك أن الطيبات معلومة بالطبع , بفكر الإنسان وبعقله , فيرجع فيها إلى أهل الخبرة وأهل المعرفة , معلوم أن أكل السموم والأشياء الضارة محرم ؛ لكونه ليس طيبا , ولكنه ضار وخبيث ، ومعلوم أن أكل السباع وأكل الحشرات: الدواب الصغيرة كبعوض ويعني الحشرات الصغيرة , أنها أيضا من المستخبثات , فلا تدخل في الطيبات , فإذن يبقى ما هو من الطيبات , ويكون باقيا على أصله .
... وهذا ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ((الحلال بين , والحرام بين)) . فإن الطيبات بينة واضحة ، والخبائث بينة واضحة ، فالنفس تسخبث الجيف ، وتستخبث النجاسات والقاذورات , وتنفر منها ، ولو لم تكن عندها معرفة بتفاصيل الشريعة ، وكذلك تستخبث الحشرات, يستقبح أن الإنسان يأكل الذباب ، أو يأكل الذر , أو يأكل النمل ، أو يأكل السوس ,الدود ، أو يأكل الحشرات الأخرى كالبعوض ، كالنحل ، كالزنابير ، وكذلك العضايا ، وسام أبرص ، والوزغ , والسحلبة , وما أشبهها . لا شك أن نفسه تتقذذ أن يأكل مثل هذه الأشياء , فعرف بذلك أنها خبيثة ، فهي من الحرام البين , ((الحرام بين)).
وكذلك يعرف أن الخبوز وما يصنع من البر ، أو من الأرز ونحوه أنه من الطيبات , أنه طعام طيب ، وكذلك اللحوم الطيبة , كالمزكاة , يعرف أنها طيبة , وكذلك الصيد الذي يقتنص ويصاد من الظباء وما أشبهها يعرف أنه من الطيبات ، فلذلك قال: ((الحلال بين)) . وهو هذه الطيبات التي أحلها الله , ((والحرام بين)) .
الحرام الذي هو الخبائث , الخبائث: هي كل شيء ضار بالبدن ، أو ضار بالعقل ، فالضار بالبدن أكل الجيف ، وأكل لحم الخنزير ؛ لأنه يتغذى بالنجاسات ، وأكل النجاسات والأقذار ونحوها . هذه لا شك أنها ضارة بالبدن , تسبب ضررا في الغذاء , في تغذية البدن ونحوه ، لا تأكل إلا عند الضرورة وخوف الموت , أباحها الله بقوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فلا إثم عليه فإن الله غفور رحيم} .
وأما الطيبات فإنه يعرفها بفكره ، ويعرفها بعقله ، ويميز بين ما هو ضار وما هو نافع ، وكذلك أيضا يعرف من الطيبات الأشربة , الأشربة المباحة: الألبان والمياه وما حلي بعسل أو نحوه , يعرف أنها من الأشربة الطيبة , وإذا كانت تضر بالعقل كالخمور ونحوها فإنها من الخبائث ؛ لأنها ضارة بالعقلِ ، ولأجل ذلك تسمى الخمر أم الخبائثِ. ومثلها ماهو ضار بالبدن كهذا الدخان الذي هو التمباك , لا شك أنه من الخبائث ؛ لأنه لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولأنه يضر بالبدن , يعرف ذلك الذين حللوه فهو من الحرام البين , ((الحرام بين)) .
وهكذا كل المباحات بينة لمن وفقه الله ورزقه معرفة وعقلا ، أما من .. أما الذين زين لهم الشيطان في الحرام فاستحسنوا القبيح ، واستقبحوا الحسن , فهؤلاء ليسوا عبرة , فالذين يستحسنون أكل لحم الخنازير , ويقولون: إنها دواب من جملة الدواب التي على الأرض , فهي داخلة في قوله:{لكم}. فالجواب: أنها لما كانت خبيثة , تتغذى بالنجاسات ونحوها , دخلت في الخبائث . والذين يستحسنون شرب الخمور ، ويسمونها أشربة روحية , نسوا أنها تزيل العقول ، وأنها تلحق أهلها بالمجانين ، لا شك أنها محرمة لأجل هذه العلة . والذين يستحسنون شرب الدخان ويقولون: لا ضرر فيه , نسوا أنه لا نفع فيه , لا نفع فيه ألبتة , وفيه ضرر , أضرار كثيرة يعرفها من قرأ في تحاليله , وإذا كان فيه ضرر وليس فيه نفع فإن مضرته أنه خسران مبين , خسارة لنوع أو بعض من المال , إحراق له في غير منفعة ، بل في مضرة .
إذن يعرف بذلك أن هناك من تنعكس فطرته ، وتنقلب معرفته , فيرى الحلال حراما ، ويرى الحرام حلالا , ويخيل إليه ما هو قبيح حسنا , فمثل هذا ليس ذا عبرة , بل العبرة بأهل العقول الذكية، ثم يرجع في ذلك إلى شرع الله تعالى , إلى ما شرعه الله ، وإلى ما وضحه , فيقال: إن الله تعالى قد بين ماهو حلال ، وماهو حرام ، بيانا واضحا , بيانا كافيا , فيرجع إلى بيانه , فحرم الخمر ، وحرم كل ماهو ضار , ضار بالبدن ، وحرم الخبائث بقوله:{ويحرم عليكم الخبائث} ، وحرم الأضرار التي تضر بالدين أو تقدح فيه , الأشياء التي تضره ، حرم المعاملات التي فيها ضرر كالمعاملات الربوية , المعاملات الربوية والغش في المعاملات ، والغصب والسرقة ، وأخذ المال بغير حق ، والنهب ، والظلم وما أشبه ذلك ؛ لأن في ذلك أخذ لما لا يستحقه المسلم , فدل ذلك كله على أن الحلال بين وأن الحرام بين ببيان الله تعالى ، وببيان رسله عليهم الصلاة والسلام .
وأما المشتبهات في قوله: ((وبينهما أمور مشتبهات لا يلعمهن كثير من الناس)) . وفي رواية: ((وبينهما مشبهات)). فهذه المشبهات قد تشتبه على بعض الناس , إما في وجه الكسب ، وإما في وجه المدخل ، وإما من حيثُ الأصل , تشتبه على الناس فيتورع ، أو تتعارض فيها الأدلة ، أو الأقيسة ، أو لا يوجد فيها دليل ، ولها شبه بهذا ، و لها شبه بهذا , فتلحق بما هو أقرب لها , فمن الدواب ما اختلف في حله ، وفي حرمته ، فاختلفوا في حل الخيل هل هي حلال أو حرام ، ذهب الحنفية إلى أنها حرام ، وألحقوها بالحمر ، وذهب الجمهور إلى أنها حلال , واستدلوا بما ورد فيها من الأحاديث أنه عليه السلام حرم لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل .
اختلفوا في أكل الفيل هل هو من الدواب المباحة أم لا , والجمهور على أنه حرام ؛ لأنه ذو ناب . اختلفوا في أكل الزرافة وأكثرهم على أنها حلال ؛ لأنها أشبه ببهيمة الأنعام .
اختلفوا في أكل الضب , والجمهور على أنه حلال ، وإن ورد فيه بعض الأدلة التي تؤدي إلى كراهته . اختلفوا في أكل الجراد ،و الجمهور على أنه حلال ؛ لأن العرب تستطيبه , ولما ورد فيه من الأحاديث التي في أكله .
اختلفوا في أكل الدلدل ، ويسمى النيص , وأكثرهم على أنه ملحق بما تستخبثه العرب ، ولكن إذا غلب على الظن أن هذا الشيء مختلف فيه ، وأن النفس تميل إلى النفرة منه , فإن الإنسان يترك الشيء المشتبه .
أما مثلا الضبع فهي محلقة بما يأكل الجيف , ولها ناب وتفترس , فلأجل ذلك قال الجمهور بأنها حرام ، واستثناها بعضهم وجعلها من المستثنى ، وأنها مباحة لأجل ما ورد فيها من الأحاديث ، ولكن الورع ترك المشتبهات