647- وعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أنَّ العَبَّاسَ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيتَ بمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فأَذِنَ لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مُفْرَداتُ الحديثِ:
-سِقَايَتِهِ: بكَسْرِ المُهمَلَةِ وفتحِ القَافِ ثُمَّ ألَفٍ بعدَها يَاءٌ ثُمَّ تَاءٌ، مِهْنَةُ السِّقَاءِ، وسِقَايَةُ الحَاجِّ: سِقَايَتُهم المَاءَ، يُنْبَذُ فيه الزَّبِيبُ، وكانَتْ مِن مَآثِرِ قُرَيْشٍ، يَتَوَلاَّهَا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ، وكانَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ هو القَائِمَ بها زَمَنَ النُّبُوَّةِ، وكانَ يَنْبُذُ للحَاجِّ مِن مَاءِ زَمْزَمَ، وذكَرَ المُؤَرِّخُونَ أنَّه مَا كانَ بينَ مكانِ السِّقَايَةِ والحَجَرِ الأسْوَدِ إلاَّ ثَمَانِيَةُ أَذْرُعٍ بذِرَاعِ الحَديدِ.
648- وعَنْ عَاصِمِ بنِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لرِعَاءِ الإِبِلِ فِي البَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الغَدَ لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. رَوَاهُ الخمسةُ وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ.
درجةُ الحديثِ:
الحديثُ حَسَنٌ، وقالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قالَ في التَّلْخِيصِ: رَوَاهُ مَالِكٌ، والشَّافِعِيُّ، وأَحْمَدُ، وأصْحَابُ السُّنَنِ، وابنُ حِبَّانَ، والحَاكِمُ وصَحَّحَهُ، ووَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ من حديثِ أبي البَدَّاحِ, عن عَدِيٍّ, عن أبيهِ، ورَوَاهُ مَالِكٌ عن أبي البداحِ, عن عَاصِمِ بنِ عَدِيٍّ، وحديثُ مَالِكٍ أصَحُّ، قالَ الحاكِمُ: مَن قالَ: عن أبي البداحِ بنِ عَدِيٍّ. فقَدْ نَسَبَهُ إلى جَدِّهِ.
ويُقَالُ: إِنَّ لأبي بدَاحٍ صُحْبَةً، وقَدْ صَحَّحَ ذلك ابنُ عَبْدِ البَرِّ في الاسْتِذْكَارِ.
مُفْرَداتُ الحديثِ:
-رَخَّصَ: بفَتْحِ الرَّاءِ المُهْمَلَةِ وتَشْدِيدِ الخَاءِ المُعْجَمَةِ، والرُّخْصَةُ لا تَكُونُ إِلاَّ مِن عَزِيمَةٍ، ومعناها شَرْعاً: مَا ثَبَتَ علَى خِلافِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لمُعَارِضٍ رَاجِحٍ، والتَّرْخِيصُ: الإِذْنُ له بجَوازِ تَرْكِ المَبِيتِ بمُزْدَلِفَةَ ومِنًى، من أَجْلِ سِقَايَتِهِ.
-لرِعَاءِ الإِبِلِ: جَمْعُ رَاعٍ، وهو مَن يَحْفَظُ المَاشِيَةَ ويَرْعَاها، والإِبِلُ: الجِمَالُ والنُّوقُ، لا وَاحِدَ له من لَفْظِه، مُؤَنَّثٌ جَمْعُه آبَالٌ.
-البَيْتُوتَةُ: بَاتَ يَبِيتُ بَيَاتاً وبَيْتُوتَةً، مَعْناهُ: أمْضَى اللَّيْلَ، نَامَ أو لَمْ يَنَمْ، فيُقالُ: بَاتَ يَفْعَلُ كذا؛ إِذَا فَعَلَه لَيْلاً.
-يَوْمَ النَّفْرِ: يُقالُ: نَفَرَ القَوْمُ يَنْفِرُونَ نَفْراً تَفَرَّقُوا.
قالَ في المُحيطِ: نَفَرَ الحُجَّاجُ مِن مِنًى: انْدَفَعُوا إلى مَكَّةَ.
قُلْتُ: مَن نَفَرَ في اليومِ الثاني مِن أيَّامِ التشريقِ فَقَدْ نَفَرَ النَّفْرَ الأَوَّلَ، ومَن نَفَرَ في اليومِ الثالثِ فقَدْ نَفَرَ النَّفْرَ الأخِيرَ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثَيْنِ:
1-وُجوبُ المَبِيتِ بمِنًى لياليَها، ومَناطُ الدَّليلِ من هذَيْنِ الحديثَيْنِ طَلَبُ العَبَّاسِ الإِذْنَ له، ولَفْظُ: (الترخيصِ) لا يَكُونُ إِلاَّ من عَزِيمَةٍ.
2-الرُّخْصَةُ في عَدَمِ المَبِيتِ فِي مِنًى لصاحِبِ سِقَايَةِ الحَاجِّ، ولرُعَاةِ الإِبِلِ، لعُذْرِهم في ذلك.
3-المَبِيتُ الوَاجِبُ أكْثَرُ اللَّيْلِ لا كُلُّه، سَواءٌ ابْتَدَأَ مِن أَوَّلِه أو مِن آخِرِه، قَالَ في (شَرْحِ الغَايَةِ): ويَتَّجِهُ المُرادُ من البَيْتُوتَةِ بمِنًى مُعْظَمَ اللَّيْلِ، وهو مُتَّجِهٌ.
قالَ النَّوَوِيُّ: وفي قَدْرِ الواجِبِ قولانِ؛ أصَحُّهما: مُعْظَمُ اللَّيْلِ.
قالَ في فتحِ البَارِي: ولا يَحْصُلُ المَبِيتُ إلاَّ بمُعْظَمِ اللَّيْلِ.
4-المُشهورُ مِن مَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الرُّخْصَةَ خَاصَّةٌ لسُقَاةِ زَمْزَمَ والرُّعَاةِ؛ اقتصاراً على النصِّ، لكنْ قالَ في المُغْنِي: وأهْلُ الأَعْذَارِ كالمَرْضَى، ومَن له مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَه، ونَحْوُهم؛ كالرُّعاةِ في تَرْكِ البَيْتُوتَةِ.
وقالَ ابْنُ القَيِّمِ: وإذا كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَخَّصَ لأهْلِ السِّقايَةِ وللرُّعاةِ في تَرْكِ البَيْتُوتَةِ، فَمَنْ لَهُ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَه، أو مَرِيضٌ يَخَافُ من تَخَلُّفِه عنه، أو كانَ مَرِيضاً، سَقَطَتْ عنه بتَنْبِيهِ النصِّ على هؤلاءِ، واللهُ أعْلَمُ.
5- أمَّا الرَّمْيُ فالسُّقَاةُ يَرْمُونَ كغَيْرِهم، وأمَّا الرُّعَاةُ فيَرْمُونَ جَمْرَةَ العَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثمَّ يَذْهَبُونَ بالإِبِلِ، فإِذَا عَادُوا يَوْمَ النَّفْرِ الأَوَّلِ رَمَوْا عن اليَوْمَيْنِ، ثمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ الثالثِ إِنْ لَمْ يَتَعَجَّلُوا.
خِلافُ العُلماءِ:
لَمْ يَخْتَلِفِ العُلماءُ أَنَّ أَفْضَلَ الرَّمْيِ بعَدَ يَوْمِ النَّحْرِ هُو بَعْدَ زوالِ الشمسِ، كما فعَلَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالَ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)). وأنَّ الوَقْتَ المُخْتارَ يَنْتَهِي بالغُروبِ، وقالَ ابْنُ رُشْدٍ: وأَجْمَعُوا على أنَّ السُّنَّةَ في الجِمارِ الثلاثِ في أيَّامِ التشريقِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الزوالِ، أمَّا الرَّمْيُ باللَّيْلِ فمَذْهَبُ الإمامِ أَحْمَدَ أنَّ ابْتِدَاءَهُ مِن زَوالِ الشمسِ ونِهَايتَه بغُروبِها، إِلاَّ أَنَّه يُجْزِئُ رَمْيُ يَوْمٍ في اليَوْمِ الذي بَعْدَه، أو رَمْيُ الكُلِّ آخِرَ أيَّامِ التَّشْرِيقِ, كُلُّها وَقْتٌ للرَّمْيِ، ولا يُجْزِئُ الرَّمْيُ عندَه لَيْلاً.
وأمَّا مَذَاهِبُ الأَئِمَّةِ الثلاثةِ فيُجِيزُونَ الرمْيَ بالليلِ، فقَدْ قالَ في بدَائِعِ الصَّنَائِعِ للحَنَفِيَّةِ: فإنَّ آخِرَ الرَّمْيِ فِيهِمَا إِلَى اللَّيْلِ، فمَن رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ جَازَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وقالَ النَّوَوِيُّ في المَجْمُوعِ: ويَبْقَى وَقْتُها إلى غُرُوبِها، وفيه وَجْهٌ مَشْهورٌ، أنَّه يَبْقَى إلى الفَجْرِ الثاني في تلكَ الليلةِ، والصحيحُ هذا فيما سِوَى اليومِ الآخِرِ، وأمَّا اليومُ الآخِرُ فيَفُوتُ رَمْيُه بغُروبِ شَمْسِه، بلا خِلافٍ.
قالَ الشيخُ مُحَمَّدٌ الشِّنْقيطِيُّ: واخْتَلَفُوا في أيَّامِ التَّشْرِيقِ الثلاثةِ: هل هي كاليومِ الوَاحِدِ بالنِّسْبَةِ إلى الرمْيِ؟ والتحقيقُ: أنَّ أيَّامَ التَّشْرِيقِ كاليومِ الواحِدِ، فمَن رَمَى عَنْ يَوْمٍ مِنْها في آخِرِ يَوْمٍ أَجْزَأَهُ، ولا شَيْءَ عليه، هذا هو مَذْهَبُ أحْمَدَ ومُشْهُورُ الشافِعِيِّ ومَن وَافَقَهُما.
وقَدْ أَصْدَرَ المَجْلِسُ التأسيسِيُّ لرَابِطَةِ العَالَمِ الإِسْلامِيِّ برِئَاسَةِ الشيخِ عبدِ العزيزِ بنِ بَازٍ في أيَّامِ الحَجِّ عامَ (1394هـ) فَتْوَى جوازِ الرَّمْيِ لَيْلاً، وجَرَى العَمَلُ بها وتَنْفِيذُها من قِبَلِ حُكومةِ المَمْلكةِ العَربيَّةِ السُّعوديَّةِ، وذلك حِينَما اشْتَدَّ الزِّحامُ على الجَمَرَاتِ.