(11) قولُهُ: (مِن الشِّرْكِ) (منْ) للتَّبْعِيضِ؛ أيْ: بعضُ الشركِ.
قولُهُ: (الدُّنيا) مفعولٌ بـ(إرادةُ)؛ لأنَّ (إرادةُ) مصدرٌ مُضَافٌ إلى فاعلٍ، وإذا أردْتَ أنْ تعرفَ المصدرَ إنْ كانَ مضافًا إلى فاعلِهِ أوْ مفعولِهِ، فحَوِّلْهُ إلى فعلٍ مُضَارعٍ مَقْرُونٍ بأنْ،
فإذا قُلْنَا: بابُ من الشِّركِ أنْ يُرِيدَ الإنسانُ بعملِهِ الدُّنْيَا، فالإنسانُ فاعلٌ، وعلى هذا؛ فـ(إرادةُ) مصدرٌ مضافٌ إلى فاعلِهِ، والدُّنيا مفعولٌ بِهِ.
وعنوانُ البابِ لهُ ثلاثةُ احتمالاتٍ:
الأوَّلُ:
أنْ يكونَ مُكَرَّرًا معَ ما قَبْلَهُ، وهذا بَعِيدٌ أنْ يَكْتُبَ المُؤَلِّفُ ترجمتَيْنِ مُتَتابعتَيْنِ لمعنًى واحدٍ.
الثاني: أنْ يكونَ البابُ الذي قَبْلَهُ أخَصَّ منْ هذا البابِ؛ لأنَّهُ خاصٌّ في الرياءِ، وهذا أعمّ، وهذا مُحْتَمَلٌ.
الثالثُ:
أنْ يكونَ هذا البابُ نوعًا مُسْتَقِلاَّ عن البابِ الذي قَبْلَهُ
، وهذا هوَ الظاهرُ؛ لأنَّ الإنسانَ في البابِ السابقِ يعملُ رياءً يُرِيدُ أنْ يُمْدَحَ في العبادةِ فَيُقَالُ: هوَ عابدٌ. ولا يُرِيدُ النفعَ المادِّيَّ.
وفي هذا البابِ لا يُرِيدُ أنْ يُمْدَحَ بعبادتِهِ ولا يُرِيدُ المُرَاءَاةَ، بلْ يَعْبُدُ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ ولكنَّهُ يُرِيدُ شيئًا من الدنيا؛ كالمالِ والمَرْتَبَةِ والصحَّةِ في نفسِهِ وأهلِهِ وولدِهِ، وما أشبهَ ذلكَ.
فهوَ يُرِيدُ بعملِهِ نفعًا في الدنيا غافلاً عنْ ثوابِ الآخرةِ، كَمَنْ أذَّنَ لِيَأْخُذَ راتبَ المؤذِّنِ، أوْ حجَّ ليَأْخُذَ المالَ، أو تعلَّمَ في كُلِّيَّةٍ ليأخذَ الشهادةَ فتَرْتَفِعُ مَرْتَبتُهُ، أو تعبَّدَ للهِ كيْ يُجْزِيَهُ اللهُ بهذا في الدُّنيا بمحَبَّةِ الخلقِ لَهُ، ودفعِ السوءِ عنهُ، وما أشبهَ ذلكَ.
تنبيهٌ:
فإنْ قيلَ: هلْ يَدْخُلُ فيهِ مَنْ يتَعَلَّمُونَ في الكُلِّيَّاتِ أوْ غيرِها يُرِيدُونَ شهادةً أوْ مَرْتَبَةً بتعَلُّمِهِم؟
فالجوابُ:
أنَّهم يدْخُلُونَ في ذلكَ إذا لمْ يُرِيدُوا غَرَضًا شرعيًّا، فنقولُ لَهُمْ:
أوَّلاً: لا تقْصِدُوا بذلكَ المرتبةَ الدُّنْيَوِيَّةَ، بل اتَّخِذُوا هذهِ الشهاداتِ وسيلةً للعملِ في الحقولِ النافعةِ للخلقِ؛ لأنَّ الأعمالَ في الوقتِ الحاضرِ مَبْنِيَّةٌ على الشهاداتِ، والناسُ لا يستطيعونَ الوصولَ إلى منفعةِ الخلقِ إلاَّ بهذهِ الوسيلةِ، وبذلكَ تكونُ النِّيَّةُ سليمةً.
ثانيًا: أنَّ مَنْ أرادَ العِلْمَ لذاتِهِ قدْ لا يَجِدُهُ إلاَّ في الكُلِّيَّاتِ، فيدخلُ الكُلِّيَّةَ أوْ نحْوَها لهذا الغرضِ، وأمَّا بالنسبةِ للمرتبةِ فإنَّها لا تَهُمُّهُ.
ثالثًا: أنَّ الإنسانَ إذا أرادَ بعملِهِ الحُسْنَيَيْنِ؛ حُسْنَى الدُّنْيَا وحُسْنَى الآخرةِ، فلا شيءَ عليهِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} فَرَغَّبَهُ في التَّقْوَى بذكرِ المَخْرَجِ منْ كُلِّ ضيقٍ، والرزقِ منْ حيثُ لا يحْتَسِبُ.
(12)
قَوْلُهُ تَعالى:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: البقاءَ في الدُّنيا.
قولُهُ: {وَزِينَتَهَا} أي: المالَ والبنينَ والنساءَ والحرثَ والأنعامَ والخيلَ المُسَوَّمَةَ، كما قالَ اللهُ تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
قولُهُ: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} فعلٌ مضارعٌ مُعْتَلُّ الآخِرِ مجزومٌ بحذفِ حرفِ العلَّةِ الياءِ؛ لأنَّهُ جوابُ الشرطِ.
والمعنى: أنَّهم يُعْطَوْنَ ما يُرِيدونَ في الدُّنْيَا، ومِنْ ذلكَ الكُفَّارُ لا يَسْعَوْنَ إلاَّ للدُّنيا وزينتِهَا؛ ولذلكَ عُجِّلَتْ لهمْ طيِّبَاتُهُمْ في حياتِهم الدنيا، كمَا قالَ تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}.
ولهذا لمَّا بَكَى عُمَرُ حينَ رأى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قدْ أثَّرَ في جَنْبِهِ الفراشُ، فقالَ: ((مَا يُبْكِيكَ؟))
قالَ: (يا رسولَ اللهِ، كِسْرَى وَقَيْصَرُ يعِيشانِ فيما يعِيشانِ فيهِ مِنْ نعيمٍ، وأنتَ على هذهِ الحالِ)
فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
((أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ)).
وفي الحقيقةِ هيَ ضَرَرٌ عليهِمْ؛ لأنَّهم إذا انْتَقَلُوا مِنْ دارِ النعيمِ إلى الجحيمِ صارَ عليْهِم أشدَّ وأعظمَ في فَقْدِ ما مُتِّعُوا بهِ في الدُّنْيا.
قولُهُ:
{وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}البَخْسُ: النقصُ؛ أيْ: لا يُنْقَصُونَ مِمَّا يُجَازَوْنَ فيهِ؛ لأنَّ اللهَ عَدْلٌ لا يَظْلِمُ، فيُعْطَوْنَ ما أَرَادُوهُ.
- قولُهُ: {أُولَئِكَ} المشارُ إليهِ الذينَ يُرِيدُونَ الحياةَ الدُّنيا وزينتَهَا.
-
قولُهُ: {لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} فيهِ حَصْرٌ، وطريقُهُ النفيُ والإثباتُ، وهذا يعني أنَّهم لنْ يدْخُلُوا الجَنَّةَ؛ لأنَّ الذي ليسَ لَهُ إلاَّ النَّارُ مَحْرُومٌ من الجنَّةِ، والعياذُ باللهِ.
-
قولُهُ: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا}الْحُبُوطُ: الزَّوَالُ والتَّرْكُ؛ أيْ: زالَ عنهمْ ما صنَعُوا في الدنيا.
- قولُهُ: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، {باطلٌ} خبرٌ مُقَدَّمٌ لأَجْلِ مُرَاعاةِ الفواصلِ في الآياتِ، والمبتدأُ {ما} في قولِهِ: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فأَثْبَتَ اللهُ أنَّهُ ليسَ لهؤلاءِ إلاَّ النَّارُ، وأنَّ ما صَنَعُوا في الدُّنْيَا قَدْ حَبِطَ، وأنَّ أعمالَهُمْ باطلةٌ.
- وقولُهُ تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} مَخْصُوصَةٌ بقولِهِ تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}.
فإنْ قيلَ: لماذا لا نجعلُ آيَةَ هُودٍ حاكمةً على آيَةِ الإسراءِ، ويكونُ اللهُ تَوَعَّدَ مَنْ يُرِيدُ العاجلةَ في الدنيا أنْ يجعلَ لهُ ما يشاءُ لِمَنْ يُرِيدُ، ثمَّ وعدَ أنْ يُعْطِيَهُ ما يشاءُ؟
أُجِيبُ: أنَّ هذا المعنى لا يستقيمُ لأمرَيْنِ:
أوَّلاً: أنَّ القاعدةَ الشرعيَّةَ في النصوصِ أنَّ الأخصَّ مُقَدَّمٌ على الأعمِّ. وآيَةُ هودٍ عامَّةٌ؛ لأنَّ كلَّ مَنْ أرادَ الحياةَ الدنيا وزينتَهَا وُفِّيَ إليهِ العملُ، وأُعْطِيَ ما أرادَ أنْ يُعْطَى.
أمَّا آيَةُ الإسراءِ فهيَ خاصَّةٌ، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} ولا يُمْكِنُ أنْ يُحْكَمَ بالأعمِّ على الأخصِّ.
الثاني: أنَّ الواقعَ يَشْهَدُ على ما تَدُلُّ عليهِ آيَةُ الإسراءِ؛ لأنَّ في فُقَرَاءِ الكُفَّارِ مَنْ هوَ أَفْقَرُ منْ فُقَرَاءِ المسلمينَ؛ فيكونُ عمومُ آيَةِ هودٍ مخصوصًا بآيَةِ الإسراءِ، فالأمرُ مَوْكُولٌ إلى مشيئةِ اللهِ، وفيمَنْ يُرِيدُهُ.
واخْتُلِفَ فيمَنْ نَزَلَتْ فيهِ آيَةُ هودٍ:
فقيلَ:
نَزَلَتْ في الكُفَّارِ؛
لأنَّ الكافِرَ لا يُرِيدُ إلاَّ الحياةَ الدُّنيا، ويدلُّ على هذا سياقُها والجزاءُ المُرَتَّبُ على هذا. وعليهِ يكونُ وجْهُ مُنَاسَبَتِها للترجمةِ أنَّهُ إذا كانَ عملُ الكافرينَ يُرَادُ بهِ الدُّنيا، فكلُّ مَنْ شاركَهُمْ في شيءٍ منْ ذلكَ ففيهِ شيءٌ منْ شِرْكِهِم وكُفْرِهِمْ.
وقيلَ: نَزَلَتْ في المُرَائِينَ؛ لأنَّهمْ لا يعْمَلُونَ إلاَّ للدُّنيا، فلا ينفعُهُم يومَ القيامةِ.
وقيلَ:
نَزَلَتْ فيمَنْ يُرِيدُ مالاً بعملِهِ الصالحِ.
والسياقُ يَدُلُّ للقولِ الأوَّلِ؛ لقولِهِ تعالى:
{أُولَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. [هود:16].
(13)
قولُهُ:
((تَعِسَ)) بفتحِ العينِ أوْ كسْرِهَا؛ أيْ: خابَ وهَلَكَ.
قولُهُ: ((عَبْدُ الدِّينَارِ)) الدِّينارُ هوَ: النَّقْدُ من الذهبِ، والدينارُ الإسلاميُّ زِنَتُهُ مِثْقَالٌ.
وسمَّاهُ عبدَ الدينارِ؛ لأنَّهُ تعلَّقَ بهِ تعلُّقَ العبدِ بالرَّبِّ، فكانَ أكبرَ هَمِّهِ، وقدَّمَهُ على طاعةِ ربِّهِ.
ويُقالُ في عَبْدِ الدِّرْهَمِ ما قيلَ في عبدِ الدينار،
والدِّرْهَمُ هوَ: النقدُ مِن الفضَّةِ، وزِنَةُ الدرهمِ الإسلاميِّ سبعةُ أعشارِ المِثْقَالِ، فكلُّ عَشَرَةِ دراهمَ سبعةُ مثاقيلَ.
وقدْ أرادَ المُؤَلِّفُ بهذا الحديثِ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ مِن الناسِ مَنْ يَعْبُدُ الدنيا؛ أيْ: يتَذَلَّلُ لها ويخضَعُ لها، وتكونُ مُنَاهُ وغايتَهُ، فيَغْضَبُ إذا فُقِدَتْ، ويَرضَى إذا وُجِدَتْ. ولهذا سَمَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مَنْ هذا شأنُهُ عبدًا لهَا، وهذا مَنْ يُعْنَى بجمعِ المالِ مِن الذهبِ والفضَّةِ؛ فيكونُ مُرِيدًا بعمَلِهِ الدُّنيا.
قولُهُ: ((تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ)) وهذا مَنْ يُعْنَى بمظهرِهِ وأثاثِهِ؛ لأنَّ الخميصةَ كساءٌ جميلٌ، والخميلةَ فِرَاشٌ وَثِيرٌ، ليسَ لهُ هَمٌّ إلاَّ هذا الأمر، فإذا كانَ عابدًا لهذهِ الأمورِ؛ لأنَّهُ صرَفَ لها جُهُودَهُ وهِمَّتَهُ، فكيفَ بمَنْ أرادَ بالعملِ الصالحِ شيئًا من الدُّنيا فجعلَ الدينَ وسيلةً للدُّنيا؟! فهذا أعظمُ.
قولُهُ: ((إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ)) يُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المُعْطِي هُوَ اللهَ، فيكونُ الإعطاءُ قَدَرِيًّا؛ أيْ: إنْ قَدَّرَ اللهُ لَهُ الرزقَ والعطاءَ رَضِيَ وانْشَرَحَ صَدْرُهُ، وإنْ مُنِعَ وحُرِمَ المالَ سَخِطَ بقلبِهِ وقولِهِ، كأنْ يقولَ: لماذا كُنْتُ فقيرًا وهذا غنيًّا؟ وما أشبهَ ذلكَ، فيكونُ ساخطًا على قضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ؛ لأنَّ اللهَ مَنَعَهُ، واللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى يُعطِي ويمنعُ لحكمةٍ، ويُعْطِي الدُّنيا لمَنْ يُحِبُّ ومَنْ لا يُحِبُّ، ولا يُعْطِي الدِّينَ إلاَّ لمَنْ يُحِبُّ.
والواجبُ على المؤمنِ أنْ يَرْضَى بقضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ؛ إنْ أُعْطِيَ شَكَرَ، وإنْ مُنِعَ صَبَر،
ويُحْتَمَلُ أنْ يُرَادَ بالإعطاءِ هنا الإعطاءُ الشرعيُّ؛ أيْ: إنْ أُعْطِيَ مِنْ مالٍ يستَحِقُّهُ من الأموالِ الشرعيَّةِ رَضِيَ، وإنْ لمْ يُعْطَ سَخِطَ، وكِلا المعنييْنِ حقٌّ، وهما يدُلاَّنِ على أنَّ هذا الرجلَ لا يَرْضَى إلاَّ للمالِ، ولا يَسْخَطُ إلاَّ لَهُ؛ ولهذا سمَّاهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عبدًا لهُ.
قولُهُ: ((تَعِسَ وَانْتَكَسَ)) تَعِسَ: أيْ خابَ وهلَكَ، وانْتَكَسَ: أي انْتَكَسَتْ عليهِ الأمورُ بحيثُ لا تَتَيَسَّرُ لهُ.
فكُلَّمَا أرادَ شيئًا انقَلَبَتْ عليهِ الأمورُ خلافَ ما يُرِيدُ، ولهذا قالَ:((وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ)) أيْ: إذا أصابَتْهُ شوكةٌ فلا يستطيعُ أنْ يُزِيلَ ما يُؤْذِيهِ عنْ نفسِهِ.
وهذهِ الجملُ الثلاثُ يُحْتَمَلُ أنْ تكونَ خَبرًا منهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عنْ حالِ هذا الرجلِ، وأنَّهُ في تعاسةٍ وانتكاسٍ وعدمِ خلاصٍ من الأذى، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ مِنْ بابِ الدعاءِ على مَنْ هذهِ حالُهُ؛ لأنَّهُ لا يَهْتَمُّ إلاَّ للدُّنيا، فَدَعا عليهِ أنْ يَهْلِكَ، وأنْ لا يُصِيبَ من الدُّنيا شيئًا، وأنْ لا يتمَكَّنَ مِنْ إزالةِ ما يُؤْذِيهِ، وقدْ يَصِلُ إلى الشِّرْكِ عندَما يصُدُّهُ ذلكَ عنْ طاعةِ اللهِ، حتَّى أصبحَ لا يرضَى إلاَّ للمالِ، ولا يسخَطُ إلاَّ لَهُ.
قولُهُ: ((طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعَنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)) هذا عكسُ الأوَّلِ، فهوَ لا يهْتَمُّ للدُّنيا، وإنَّما يهتمُّ للآخرةِ، فهوَ في استعدادٍ دائمٍ للجهادِ في سبيلِ اللهِ.
و((طُوبَى)) (فُعْلَى) من الطِّيبِ، وهيَ: اسمُ تفضيلٍ؛ فَـ(أَطْيَبُ) للمُذَكَّرِ، و(طُوبَى) للمُؤَنَّثِ، والمعنى: أَطْيَبُ حالٍ تكونُ لهذا الرجلِ.
وقيلَ:
إنَّ طُوبَى شجرةٌ في الجنَّةِ
، والأوَّلُ أعمُّ، كما قالُوا في (وَيْلٍ): كلمةُ وعيدٍ.
وقيلَ: وادٍ في جهنَّمَ، والأوَّلُ أعمُّ.
وقولُهُ: ((آخِذٍ بِعَنَانِ فَرَسِهِ)) أيْ: مُمْسِكٍ بمِقْوَدِ فرسِهِ الذي يُقَاتِلُ عليهِ.
قولُهُ:((فِي سَبِيلِ اللهِ)) ضابطُهُ: أنْ يُقَاتِلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هيَ العُلْيَا، لا للْحَمِيَّةِ أو الوطنيَّةِ أوْ ما أشْبَهَ ذلكَ.
لكنْ إنْ قاتلَ وطنِيَّةً وقَصَدَ حمايَةَ وطنِهِ لكونِهِ بلدًا إسلاميًّا يَجِبُ الذَّوْدُ عنهُ؛ فهوَ في سبيلِ اللهِ. وكذلكَ مَنْ قاتلَ دفاعًا عنْ نفسِهِ أوْ مالِهِ أوْ أهلِهِ؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((مَنْ قَاتَلَ دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ)).
فأمَّا مَنْ قاتلَ للوطنيَّةِ المَحْضَةِ فليسَ في سبيلِ اللهِ، لأنَّ هذا قتالُ عصبيَّةٍ يستوي فيهِ المؤمنُ والكافرُ، فإنَّ الكافِرَ يُقَاتِلُ منْ أجلِ وطنِهِ.
قولُهُ: ((أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ)) أيْ: رَأْسُهُ أَشْعَثُ مِن الغُبَارِ في سبيلِ اللهِ، فهوَ لا يَهْتَمُّ بحالِهِ ولا بَدَنِهِ ما دامَ هذا الأمرُ ناتجًا عنْ طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وقدَمَاهُ مُغْبَرَّةٌ من السيرِ في سبيلِ اللهِ، وهذا دليلٌ على أنَّ أهمَّ شيءٍ عندَهُ هوَ الجهادُ في سبيلِ اللهِ، أمَّا أنْ يكونَ شعرُهُ أوْ ثوبُهُ أوْ فِرَاشُهُ نظيفًا فليسَ لهُ هَمٌّ فيهِ.
قولُهُ: ((إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ فَهُوَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ فَهُوَ فِي السَّاقَةِ)) الحراسةُ والساقةُ ليْسَتْ مِنْ مُقَدَّمِ الجيشِ، فالحراسةُ أنْ يحْرُسَ الإنسانُ الجيشَ، والساقةُ أنْ يكونَ في مُؤَخِّرَتِهِ.
وللجُمْلَتَيْنِ مَعْنَيَانِ:
الأول: أنَّهُ لا يُبَالِي أينَ وُضِعَ، إنْ قيلَ لهُ: احْرُسْ، حرَسَ. وإنْ قيلَ لهُ: كُنْ في الساقَةِ، كانَ فيها. فلا يطْلُبُ مرتبةً أعلى مِنْ هذا المحلِّ، كمُقَدَّمِ الجيشِ مثلاً.
الثاني: إنْ كانَ في الحراسةِ أدَّى حقَّها، وكذا إنْ كانَ في السَّاقَةِ. والحديثُ صالحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَيُحْمَلُ عليهما جميعًا إذا لمْ يكُنْ بينَهُما تعارضٌ، ولا تعارُضَ هُنَا.
قولُهُ: ((إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ)) أيْ: هوَ عندَ الناسِ ليسَ لهُ جاهٌ ولا شرفٌ، حتَّى إنَّهُ إن استأذنَ لمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وهكذا عندَ أهلِ السُّلْطَةِ ليسَ لَهُ مرتبةٌ، فإنْ شَفَعَ لمْ يُشَفَّعْ، ولكنَّهُ شفيعٌ عندَ اللهِ، ولهُ المنزلةُ العاليَةُ؛ لأنَّهُ يُقَاتِلُ في سبيلِهِ.
والشفاعةُ: هيَ التوسُّطُ للغيرِ بجَلْبِ منفعةٍ أوْ دَفْعِ مضرَّةٍ، والاستئذانُ طلبُ الإذنِ بالشيءِ.
وقد قسَّم الحديث الناسَ إلى قسميْنِ:
الأوَّلُ:
من ليسَ لهُ هَمٌّ إلاَّ الدُّنْيَا؛
إمَّا لتحصيلِ المالِ، أوْ لتجميلِ الحالِ، فقد استَعْبَدَتْ قَلْبَهُ حتَّى أشْغَلَتْهُ عنْ ذِكْرِ اللهِ وعبادتِهِ.
الثاني: أكبرُ هَمِّهِ الآخرةُ، فهوَ يسعى لها في أعلى ما يكونُ مشقَّةً، وهوَ الجهادُ في سبيلِ اللهِ، ومعَ ذلكَ أدَّى ما يجبُ عليهِ مِنْ جميعِ الوُجُوهِ.
(14)
فيهِ مَسائِلُ:
الأولى: (إِرادةُ الإنسانِ الدُّنيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ) وهذا مِن الشركِ؛ لأنَّهُ جعلَ عملَ الآخرةِ وسيلةً لعملِ الدُّنيا، فيطغَى على قلبِهِ حُبُّ الدُّنيا حتَّى يُقَدِّمَها على الآخرةِ. والحَزْمُ والإخلاصُ أنْ يجعلَ عملَ الدُّنيا للآخرةِ.
(15)
الثانيَةُ: (تَفْسيرُ آيَةِ هودٍ)
وقدْ سبقَ ذلكَ.
(16)
الثالثةُ: (تَسمِيَةُ الإنسانِ الْمُسلِمِ عَبْدَ الدِّينارِ والدِّرْهَمِ وَالْخَمِيصَةِ)
وهذهِ العُبُودِيَّةُ لا تَدْخُلُ في الشِّركِ ما لمْ يَصِلْ بها إلى حدِّ الشركِ، ولكنَّها نَوْعٌ آخَرُ يُخِلُّ بالإخلاصِ؛ لأنَّهُ جَعَلَ في قلبِهِ مَحَبَّةً زاحَمَتْ مَحَبَّةَ اللهِ عزَّ وجلَّ ومَحَبَّةَ أعمالِ الآخرةِ.
(17)
الرابعةُ: (تَفْسيرُ ذلِكَ بأَنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ) هذا تفسيرٌ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
((عَبْدُ الدِّينَارِ))،((عَبْدُ الدِّرْهَمِ))، ((عَبْدُ الْخَمِيصَةِ))، ((عَبْدُ الْخَمِيلَةِ))، ((إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ)) وهذهِ علامةُ عُبُودِيَّتِهِ لهذهِ الأشياءِ أنْ يكونَ رِضَاهُ وسَخَطُهُ تابعًا لهذهِ الأشياءِ.
(18)
الخامسةُ:
قولُهُ: ((تَعِسَ وَانْتَكَسَ)).
(19)
السادِسةُ:
قولُهُ: ((وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ)) يُحتَمَلُ أنْ تكونَ الجُمَلُ الثلاثُ خبرًا أوْ دُعاءً. وسبقَ شرْحُ ذلكَ.
(20)
السابعةُ: (الثَّناءُ علَى الْمُجاهِدِ الْمَوصوفِ بِتِلْكَ الصِّفاتِ)
فقولُهُ في الحديثِ: ((طُوبَى لِعَبْدٍ...)) يدُلُّ على الثناءِ عليهِ، وأنَّهُ هوَ الذي يسْتَحِقُّ أنْ يُمْدَحَ، لا أصحابُ الدراهمِ والدنانيرِ وأصحابُ الفُرُشِ والمراتبِ.