أقسامُ الخبرِ باعتبارِ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ
الخبرُ المقبولُ وما يَتَعَلَّقُ بهِ مِن مباحثَ
1- الصحيحُ لِذَاتِهِ:
(1)تعريفُ الصحيحِ لِذَاتِهِ:
بَدَأَ المُؤَلِّفُ في تقسيمِ خبرِ الآحادِ باعتبارِ القَبُولِ والردِّ، وابْتَدَأَ بالقسمِ المقبولِ منهُ، وشرحَ في بضعةِ أَسْطُرٍ كيفَ أنَّ هذا المقبولَ بِحَسَبِ تَوَافُرِ شُرُوطِ القَبُولِ يَنْقَسِمُ إلى أربعةِ أقسامٍ:
فقال: إنْ وُجِدَ في الخبرِ الشروطُ العُلْيَا فهو الصحيحُ لذاتِهِ.
-وإنْ قَصَرَ قليلاً فهو الحسَنُ لذاتِهِ.
-فإنْ وُجِدَ ما يَجْبُرُ هذا القصورَ ارْتَفَعَ إلى الصحيحِ وأُطْلِقَ عليه: الصحيحُ لغيرِهِ.
-ثم ما كان يُتَوَقَّفُ فيهِ مِن أقسامِ المردودِ وهو ما لا يُجْزَمُ بِكَذِبِهِ -إنْ وُجِدَ ما يَجْبُرُه
-ارْتَفَعَ إلى المقبولِ فَسُمِّيَ: الحَسَنَ لغيرِهِ.
وهذا كلامٌ مُجْمَلٌ سيأخذُ في تفصيلِهِ.
ابْتَدَأَ بالصحيحِ لذاتِهِ لكونِهِ أعلاهَا رُتْبَةً، وعَرَّفَهُ بتعريفٍ يُعْتَبَرُ أحدَ التعريفاتِ المُتَدَاوَلَةِ في كُتُبِ المُصْطَلَحِ، وهو مأخوذٌ مِن كلامِ الأَئِمَّةِ السابقِينَ ومِن تَطْبِيقَاتِهِمْ، وتعريفُهُ كما ذَكَرَهُ الحافظُ يُسَمَّى: التعريفَ بِذِكْرِ الشروطِ.
فقال: (هو ما نَقَلَهُ عَدْلٌ تامُّ الضَّبْطِ بسندٍ مُتَّصِلٍ مِن غيرِ شذوذٍ ولا عِلَّةٍ) وهناك عباراتٌ أُخْرَى بنفسِ الشروطِ لتعريفِ الصحيحِ لذاتِهِ مثلَ: (ما اتَّصَلَ سندُهُ بِنَقْلِ العدلِ الضابطِ عن مثلِهِ، ولمْ يَكُنْ شَاذًّا ولا مُعَلَّلاً)، وقد عَرَّفَ الحافظُ كُلاّ مِن الشروطِ الخمسةِ، لكنَّ هذا التعريفَ للشروطِ الخمسةِ عبارةٌ عن إشاراتٍ تحتاجُ إلى توضيحٍ، فتعريفُ الحديثِ الصحيحِ يَسْتَمِرُّ حتى نهايةِ علومِ الحديثِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنْذُ تَعْرِيفِكَ للحديثِ الصحيحِ وحتى نهايَةِ الكتابِ عبارةٌ عن تعريفٍ للحديثِ الصحيحِ.
كما أنَّ دراسةَ الأسانيدِ عبارةٌ عن تَطْبِيقِ شروطِ الحديثِ الصحيحِ، أو عبارةٌ عن التَّحَقُّقِ مِن تَوَافُرِ شروطِ الحديثِ الصحيحِ أو عَدَمِ تَوَافُرِهَا.
وهناك نُقْطَتَانِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بشروطِ الحديثِ الصحيحِ:
1-هذه الشروطُ الخمسةُ المذكورةُ في تعريفِ الحديثِ الصحيحِ هي بإجماعِ المُحَدِّثِينَ أنَّهَا إذا اجْتَمَعَتْ في حديثٍ فهو حديثٌ صحيحٌ، وَمَعْنَى هذا أنَّ كُلَّ مَا يُنْقَلُ عن المُحَدِّثِينَ مِمَّا يَزِيدُ عن هذه الشروطِ فإنَّ في هذا النقلِ شيئًا، ومِن ذلك ما فُهِمَ مِن كَلاَمِ الحاكمِ أنَّ الحديثَ الصحيحَ يُشْتَرَطُ فيهِ العِزَّةُ.
وكذلكَ:
مِن أنَّ البخاريَّ ومُسْلِمًا يَشْتَرِطَانِ كذا وكذا زِيَادَةً على هذه الشروطِ، وقد نَقَلَ ابنُ الصلاحِ اتِّفَاقَ المُحَدِّثِينَ على أنَّ ما تَوَافَرَتْ فيه الشروطُ الخمسةُ فهو حديثٌ صحيحٌ.
وهناك شروطٌ تُتَدَاوَلُ في علومِ المصطلحِ مِمَّا دَخَلَ في كُتُبِ علومِ الحديثِ، مِثْلَ
اتِّصَالِ الإسنادِ فَبَعْضُهُمْ يقولُ: (إنَّهُ لا يَكْفِي اتصالُ الإسنادِ، وإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طُولُ المُصَاحَبَةِ بينَ الراوي وَشَيْخِهِ، لكنَّ هذا القائلَ في القرنِ السادسِ، وشروطُ الصحيحِ طُبِّقَتْ في عصورِ الرِّوَايَةِ وعصورِ نَقْدِ السُّنَّةِ، فيكونُ من حقِّ هذا القولِ أنْ لا يُذْكَرَ.
وكذلكَ: ما نُقِلَ عن المُعْتَزِلَةِ وغيرِهِم، أنَّ الحديثَ لا يُقْبَلُ إلا إذا رَوَاهُ اثنانِ أو أربعةٌ ….. إلخ، كُلُّ هذا خارجٌ عن كلامِ المُحَدِّثِينَ.
هذهِ الشروطُ الخمسةُ إذا تَوَافَرَتْ في خبرٍ فهوَ صحيحٌ، لكنْ نحنُ نرى اختلافًا كثيرًا بينَ أئمَّةِ الحديثِ في الحُكْمِ على بعضِ الأسانيدِ، فبعضُهُم يقولُ: هذا إسنادٌ صحيحٌ، وبعضُهم يقولُ: ضعيفٌ … وغيرَ ذلكَ، نقولُ: إنَّ عِلْمَ الحديثِ لا يخرجُ عن بقيَّةِ العلومِ التي يَحْكُمُ بها أُنَاسٌ مثلَ غيرِهِم، ومعروفٌ أنَّ النَّقْصَ من صفاتِ البشرِ، ويُقالُ: إنَّ المُحَدِّثينَ من أكثرِ أصحابِ العلومِ انضباطًا في المنهجِ، واتِّفاقًا على ما يُرِيدُونَهُ في عِلْمِهِمْ، لا سِيَّمَا كبارُ المُحَدِّثينَ في عُصُورِ الروايَةِ.
إذًا لِمَ يَخْتَلِف المُحَدِّثونَ في تصحيحِ بعضِ الأحاديثِ مع اتِّفاقِهم على شروطِ الحديثِ الصحيحِ؟
نقولُ:السببُ الأوَّلُ:يعودُ إلى اختلافِ المُحَدِّثِينَ فيما بينَهم في الشرطِ نفسِهِ قبلَ دراستِهِ في الإسنادِ، فمثلاً نحنُ نقولُ: يُشْتَرَطُ أنْ يكونَ الراوي عَدْلاً، لكنْ قد يَخْتَلِفُونَ: ما الذي يُخِلُّ بالعدالةِ.
فالمُبْتَدِعُ مثلاً:
يقولُ بعضُهُم:
إنَّ العبرةَ بصدقِ الراوي بِغَضِّ النظرِ عن بدعتِهِ.
وبعضُهُم يقولُ: إنَّ المُبْتَدِعَ إذا كان دَاعِيَةً لا آخُذُ عنه، فالخلافُ الآنَ صارَ في الشرطِ نفسِهِ.
مثالٌ آخَرُ: الضبْطُ:يَتَشَدَّدُ بعضُ المُحَدِّثِينَ فإذا غَلِطَ الرَّاوِي في غَلْطَتَيْنِ أو ثلاثٍ جَرَّحَهُ، وبعضُهم يَتَوَسَّطُ، وبعضُهم يَتَسَاهَلُ.
إذًا فاختلافُهم هو في الشرطِ نفسِهِ.
ومن أوْضَحِ الأمورِ: اختلافُهم في إثباتِ سماعِ راوٍ من آخَرَ.
وأكثرُهم يقولُ: لاَ بُدَّ أنْ أَقِفَ على رِوَايَةٍ فيها التصريحُ بأنَّ فلانًا قد سمعَ من فلانٍ لكيْ يكونَ الإسنادُ عندي مُتَّصِلاً.
وبعضُهم يقولُ: إذا أمْكَنَ لقاؤُهُمَا وكانا في عصرٍ واحدٍ فَإِنَّنِي أَكْتَفِي بهذا، فهذا الاختلافُ هو في الشرطِ نفسِهِ قبلَ أنْ يكونَ في الإسنادِ.وهكذا بالنسبةِ للعِلَّةِ،
فبعضُ المُحَدِّثِينَ يَمِيلُ إلى التعليلِ، فكُلَّمَا جاءَتْ عِلَّةٌ قَدَحَتْ في نفسِهِ ضَعُفَ الحديثُ، وبعضُهم يَمِيلُ إلى عَدَمِ السيْرِ وَرَاءَ العِلَلِ، وهذه مناهجُ لهم، هذا سببٌ مُهِمٌّ في تعليلِ اختلافِ المُحَدِّثِينَ مع اتفاقِهِم على الشروطِ الخمسةِ.
السببُ الثاني: لو اتَّفَقَ إمامانِ على مَعْنَى شَرْطٍ من الشروطِ كأن يتفق البخاري وأحمد مثلاً، أو البخاري وابن المديني، على أن من شرط الاتصال أن يكون الراوي قد ثبت سماعه أو لقاؤه مع شيخه، ولكن في هذا الإسناد بالذات يقع بينهما اختلاف في تحقق هذا الشرط، وهكذا في العلة أو في الضبط منهجهما واحد: يكونان متوسطين ليسا متشددين ولا متساهلين، ولكن يختلفان في هذا الراوي، بعضهم يقف على أحاديث كثيرة للراوي أخطأ فيها فيحكم عليه بخفة الضبط أو بضعف الضبط، لكن الإمام الآخر لم يقف على هذه الأحاديث، فيكون اختلافهما الآن في راوٍ بعينه، وبعضهم يرى أن هذه الأحاديث رويت عنه لكن الخطأ ليس من قِبَله هو، فلم يكن اختلافهما في نفس الضبط، ومتى يكون الراوي ضابطاً ومتى لا يكون؟ ولكن اختلفا في هذا الراوي بعينه.
السببُ الثالثُ: يَذْكُرُ بعضُ العلماءِ قضيةَ الاصطلاحِ:
بعضُ الأَئِمَّةِ مثلَ: ابنِ خزيمةَ وابنِ حِبَّانَ يُسَمِّيَانِ الحديثَ الحسنَ صحيحًا، وهذا اصطلاحٌ، وليس داخِلاً في تعريفِ الحديثِ الصحيحِ الذي تَقَدَّمَ.
هذا الكلامُ في سببِ الاختلافِ في التصحيحِ مَرِّرْهُ على أنواعِ الحديثِ التي سَتَأْتِي في المقبولِ والمردودِ.
مَسْأَلَةٌ ذَكَرَهَا ابنُ الصلاحِ وغيرُهُ وأَغْفَلَهَا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وهي أنَّ العلماءَ يُقَسِّمُونَ الكلامَ في الأحاديثِ بالنسبةِ إلى هذهِ الشروطِ إلى قِسْمَيْنِ:
القسمُ الأوَّلُ:
ويدخلُ فيه ثلاثةُ شروطٍ:
العدالةُ والضبطُ واتصالُ الإسنادِ.
القسمُ الثاني: الشُّذُوذُ والعِلَّةُ.
بالنسبةِ للشروطِ الثلاثةِ الأُولى فإنَّهَا من أسْهَلِ الأمورِ في علومِ الحديثِ التي يُمْكِنُ للطالبِ أنْ يُطَبِّقَهَا، ومن هذه الشروطِ يَصِلُ إلى حُكْمٍ على الإسنادِ، فإذا تَوَافَرَتْ هذه الشروطُ فإنَّكَ سَتَحْكُمُ على الإسنادِ بأَنَّهُ صحيحٌ، وَيَبْقَى من الشروطِ شرطانِ، يقولُ العلماءُ: إنَّ البحثَ فيهِما أصعبُ من البحثِ في الشروطِ الثلاثةِ الأولى؛ لأنَّ حُكْمَكَ على تَوَافُرِهِمَا معناهُ أنَّكَ تَتَبَّعْتَ طُرُقَ الحديثِ الأُخْرَى وَدَرَسْتَهَا فلم تَجِدْ فيه شذوذًا ولا عِلَّةً، فهو حُكْمٌ على الحديثِ كلِّهِ بأَنَّهُ صحيحٌ، في حينَ أنَّكَ في الشروطِ الثلاثةِ الأُولى حَكَمْتَ على الإسنادِ فقطْ، وإذا ضَمَمْتَ الشرطَيْنِ الآخرَيْنِ تكونُ حَكَمْتَ على الحديثِ كلِّهِ.
فإذا رأيْتَ ابنَ حَجَرٍ يقولُ في (فَتْحِ البَارِيِّ) عن حديثٍ ما بأنَّ إسنادَهُ جَيِّدٌ، فهو قد بَحَثَ لك عن ثلاثةِ شروطٍ، فلا تَأْخُذْ منه أنَّ الحديثَ جيدٌ، وإذا قال الهيثميُّ في (مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ) في حُكْمِهِ على حديثٍ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَمَعْنَاهُ أنَّ إسنادَهُ تَوَافَرَتْ فيه ثلاثةُ شروطٍ فقطْ، وبَقِيَ عليهِ الشُّذُوذُ والعِلَّةُ، فهو لم يَبْحَثْ في الشُّذُوذِ والعِلَّةِ، لأنَّ (مَجْمَعَ الزَّوَائِدِ) عَشْرُ مُجَلَّدَاتٍ، وهو قدْ انْشَغَلَ بِكُتُبٍ أُخْرَى؛ فَحَكَمَ على الأحاديثِ باستعجالٍ، وَأَخَذَ من شروطِ الحديثِ الصحيحِ ثلاثةَ شروطٍ وتركَ الباقيَ، كأَنَّهُ يقولُ: ضَمَنْتُ لكَ تَوَافُرَ ثلاثةِ شُرُوطٍ.
ودونَ ما تَقَدَّمَ أنْ يقولَ العالم: رجالُهُ ثقاتٌ، فلمْ يَتَعَرَّضْ لِشَرْطِ الاتصالِ، هل هوَ موجودٌ أو لا؟
فأيُّهُمَا أسهلُ للباحثِ: رجالُهُ ثقاتٌ، أو إسنادُهُ صحيحٌ، أو حديثٌ صحيحٌ؟
رجالُهُ ثقاتٌ أسهلُ وأسرعُ؛
لأَنَّهُ بحثٌ في الرجالِ في عدالَتِهِم وضبْطِهِم، فمَرَاتِبُ التصحيحِ أنْ يقولَ: رجالُهُ ثقاتٌ، إسنادُهُ صحيحٌ، حديثٌ صحيحٌ، وهو أَصْعَبُهَا.
وهذا الكلامُ مُهِمٌّ جِدًّا؛ لِئَلاَّ يَغْتَرَّ به الطالبُ، فَيَرَى أنَّ الإمامَ قد أَوْرَدَ حديثًا، ثم ذَكَرَ أنَّ إسنادَهُ صحيحٌ، ويكونُ قد سَكَتَ عن عِلَّةٍ، فَيَحْسَبُ الطالبُ أنَّ الحديثَ صحيحٌ، ولذا قال السَّخَاوِيُّ: (يَنْبَغِي إغلاقُ البابِ في الحُكْمِ على الإسنادِ لوحدِهِ)، فهذا الأمرُ فيه خطورةٌ، لا سِيَّمَا للقُرَّاءِ العادِيِّينَ الذين لم يَعْرِفُوا الفرْقَ بينَ الحديثِ الصحيحِ، وما كان إسنادُهُ صحيحًا، وكثيرٌ من المُفْتِينَ الآنَ يعتمدونَ على أحاديثَ قال فيها الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: (إسنادُهُ قَوِيٌّ) أو (إسنادُهُ صحيحٌ) في مسائلَ فِقْهِيَّةٍ ظَنًّا منهم أنَّ الحافظَ صَحَّحَ الحديثَ، مع أنَّ هذا الحديثَ قد يكونُ فيه عِلَّةٌ، أو مُتَكَلَّمٌ في مَتْنِهِ، أو يكونُ شاذًّا.
وَذَكَرَ ابنُ الصلاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَيْدًا لِمَا تَقَدَّمَ فقالَ ما مُلَخَّصُهُ: (الحافظُ المُطَّلِعُ إذا قالَ عن حديثٍ: (إسنادُهُ صحيحٌ) ولم يَذْكُرْ لهُ عِلَّةً، فهو حُكْمٌ منهُ على الحديثِ كلِّهِ)، ولكنَّ الذي أراهُ -واللهُ أعلمُ- أنَّ هذا خاصٌّ بِأَئِمَّةِ الحديثِ المُتَقَدِّمِينَ، وأما المتأخرونَ فَكَثُرَ منهم الحكمُ على الأسانيدِ، وتَرْكُ البحثِ عن عِلَلِ الأحاديثِ، وتوافُرِ الشرطَيْنِ الخامسِ والسادسِ، وهذا كثيرٌ جِدًّا، مِثْلَ:البُوصِيرِيِّ في (زَوَائِدُ ابْنِ مَاجَةَ)، الهَيْثَمِيُّ، ابنُ حَجَرٍ، العراقيُّ، ومن المتأخرينَ مَن يَفْعَلُ ذلك كثيرًا، حتى أَلْبَسَ على الكثيرِ من القُرَّاءِ، مثلَ أحمدَ شاكرٍ في تَعْلِيقِهِ على (مُسْنَدُ الإمامِ أَحْمَدَ)، فَأَحْكَامُهُ كُلُّهَا تقريبًا على أسانيدِ أحمدَ، وقد يكونُ لها عِلَلٌ، وقد تكونُ شاذَّةً.
هل الاكتفاءُ بتصحيحِ الإسنادِ تَحَرُّزٌ؟
قد نُسَمِّيهِ تَحَرُّزًا، لاَ سِيَّمَا الآنَ في الرسائلِ، فكثيرٌ من الباحثينَ يقولُ: لا أُريدُ أنْ أَخوضَ في أمْرٍ لا أَعْرِفُهُ، فَأَكْتَفِي بما هو ظاهرٌ، وهو صِحَّةُ الإسنادِ أو ضَعْفُهُ، ولا أَخُوضُ في عِلَلِ الأحاديثِ وفي غيرِهَا، وأيضًا يكونُ هناكَ
تَوَجُّهٌ من المَشَايِخِ إلى هذا الشيءِ؛ لأَنَّهُ أمْرٌ سهْلٌ، فَأَمَامَهُ كُتُبُ الرجالِ وما يَتَعَلَّقُ بالاتصالِ والانقطاعِ وإنْ كانتْ مسألةُ الاتصالِ والانقطاعِ فيها صعوبةٌ، لكنْ إذا قَارَنْتَهَا بِالعِلَلِ تُعْتَبَرُ سهلةً، وصنيعُ الأَئِمَّةِ مثلَ ابنِ حَجَرٍ والهَيْثَمِيِّ يكونُ أحيانًا من بابِ الاحترازِ، وأيضًا من بابِ الاستعجالِ، لأنَّ كُلَّ حديثٍ يَمُرُّ بهِ سَيَكْشِفُ عِلَلَهُ وأسانيدَهُ وطُرُقَهُ، فهذا فيهِ عُسْرٌ وصعوبَةٌ.
وبالنسبةِ للعِلَلِ:
فإنَّكَ إذا دَرَسْتَ الرجالَ، وتَحَقَّقْتَ من عدالتِهِم وضَبْطِهِم، واتصالِ الإسنادِ، لكنْ عندَما تَدْرُسُ طُرُقًا أُخْرَى للحديثِ تَعْرِفُ أنَّ بعضَ الرُّوَاةِ في إسنادِكَ قد غَلِطَ، مع أنَّكَ قُلْتَ في البدايَةِ: إنَّ إسنادَهُ صحيحٌ، وعَرَفْتَ بوجودِ العِلَّةِ من خلالِ اطِّلاَعِكَ على الرواياتِ الأُخْرَى، فَيُسَمَّى ما اطَّلَعْتَ عليهِ: عِلَّةٍ.
كأنْ يكونَ غَلِطَ مثلاً:
فزَادَ ذِكْرَ الصحابيِّ، أو رَفَعَ الحديثَ إلى النبيِّ وهو من كلامِ الصحابيِّ، وما إلى ذلك؛ فَيُسَمُّونَ هذا عِلَّةً، ولهذا قال ابنُ حَجَرٍ: (العِلَّةُ الخَفِيَّةُ القادِحَةُ)، خَفِيَّةٌ أي: أنَّهَا لا تُكْتَشَفُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ في الإسنادِ، وإِنَّمَا لاَ بُدَّ من البحثِ في بَقِيَّةِ الطُّرُقِ
أَصَحُّ الأَسَانِيدِ:
لم يَتَحَدَّث الحافظُ عن قضيَّةِ أَصَحِّ الأسانيدِ بِتَوَسُّعٍ، وإِنَّمَا جاءَتْ عَرْضًا في مَعْرِضِ كَلامِهِ الآتِي عن مراتبِ الصحيحِ بالنظرِ إلى الإسنادِ، فناسبَ أنْ أَتَحَدَّثَ عنها لأُحِيلَ عليها هناكَ، وقد ذَكَرَ
ابنُ الصلاحِ أنَّ المُعْتَمَدَ أَنَّهُ لا يُطْلَقُ على إسنادٍ بأَنَّهُ أَصَحُّ الأسانيدِ.
وأَوَّلُ مَن تَكَلَّمَ في أنَّ المُعْتَمَدَ أنْ لا يُطْلَقَ على إسنادٍ أَنَّهُ أَصَحُّ الأسانيدِ؛
الحاكمُ
وَتَبِعَهُ ابنُ الصلاحِ وتَبِعَهُ ابنُ حَجَرٍ فقالوا: إنَّ الأَوْلَى ألاَّ يُطْلَقَ على إسنادٍ بأَنَّهُ أصحُّ الأسانيد،ِ وعُلِّلَ ذلك بِأَنَّكَ عندَما تقولُ: أَصَحُّ الأسانيدِ: فلانٌ، عن فلانٍ، عن فلانٍ؛ فإنَّهُ يَلْزَمُكَ أنْ تَدْرُسَ كُلَّ رَاوٍ من رُوَاةِ هذا الإسنادِ وَتُقَارِنَهُ بِجَمِيعِ الرُّوَاةِ الموجودِينَ في عصرِهِ وطَبَقَتِهِ، عدالةً وضبْطًا وإِمَامَةً وَجَلاَلَةً، لِتَحْكُمَ بأَنَّهُ أَصَحُّ الأسانيدِ، وهذا فيه صُعُوبَةٌ وَعُسْرٌ، لكنَّ الحاكمَ هو أوَّلُ مَن قال هذا، وهو مُتَوَفَّىً سنةَ 405، فهذا الكلامُ نَسْتَطِيعُ أنْ نقولَ: إنَّهُ جاءَ مُتَأَخِّرًا، بمعنى أن الواقعَ خلافُهُ، بمعنى أنَّ الأَئِمَّةَ السابقِينَ في عصرِ الرِّوَايَةِ -أَئِمَّةَ نَقْدِ الحديثِ -كانوا قد تَكَلَّمُوا في أَصَحِّ الأسانيدِ، وكلُّ إمامٍ حَكَمَ بما تَرَجَّحَ لَدَيْهِ على إسنادٍ بأَنَّهُ أَصَحُّ الأسانيدِ، وإنْ كانَ بعضُهُمْ قد رُوِيَ عنه ذِكْرُ إسنادَيْنِ أو أكثرَ.
ومِمَّا قيلَ في ذلكَ ما يُعْرَفُ بالسلسلةِ الذهبيَّةِ، وهي: مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، وهذه اشْتُهِرَتْ لأنَّ البخاريَّ رَجَّحَهَا، ومن الأَئِمَّةِ مَن يَسْتَبْدِلُ مَالِكًا فيقولُ: عُبيدُ اللهِ بنُ عُمَرَ -وهو قرينٌ لِمَالِكٍ- عن نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، ومنهم مَن يَسْتَبْدِلُ عبيدَ اللهِ بأيوبَ السِّخْتِيَانِيِّ.
ومِن الأَئِمَّةِ مَن يقولُ:
أَصَحُّ الأسانيدِ: الزُّهْرِيُّ، عن سالمٍ، عن ابنِ عُمَرَ.
ومن الأَئِمَّةِ مَن ذَهَبَ إلى صحابةٍ آخَرِينَ.
فبعضُهم يقولُ: أَصَحُّ الأسانيدِ: محمدُ بنُ سِيرينَ، عن عَبِيدةَ السَّلْمَانِيِّ، عن عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ،
ومنهم مَن يقولُ: عبيدُ اللهِ بنُ عُمَرَ،
عن القاسمِ بنِ محمدِ بنِ أبي بَكْرٍ، عن عائشةَ، قال ابنُ مَعِينٍ عن هذا الإسنادِ: (هذهِ سلسلةٌ مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ)، وعنه رِوَايَةٌ اسْتَبْدَلَ فيها عبيدَ اللهِ بعبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ، عن أبيه، عن عائشةَ
وهناك أقوالٌ أُخْرَى.
فبعضُهم يَخُصُّ ذلك بِصَحَابِيٍّ.
فيقولُ: أَصَحُّ الأسانيدِ إلى فلانٍ من الصحابةِ الإسنادُ الفلانِيُّ.
وحاولَ العراقيُّ أنْ يَسْتَفِيدَ من قضيَّةِ أَصَحِّ الأسانيدِ، فَجَمَعَ ما وَرَدَ عن الأَئِمَّةِ مِمَّا حَكَمُوا له بأَنَّهُ أَصَحُّ الأسانيدِ، وَجَمَعَ أحاديثَ الأحكامِ المَرْوِيَّةَ بهذه الأسانيدِ، وذلك في كتابِهِ: (تقريبُ الأسانيدِ)- وهو شَبِيهٌ (بِعُمْدَةِ الأحكامِ) إلاَّ أَنَّهُ أَكْثَرُ أحاديثَ مِنْهُ-، وشَرَحَهُ بكتابِ: (طَرْحُ التَّثْرِيبِ)، ولم يُكْمِلْهُ، وَأَكْمَلَهُ وَلَدُهُ أبو زُرْعَةَ، وقد جَمَعَ العراقيُّ سِتَّةَ عَشَرَ إسنادًا، ويقولُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في (النُّكَتُ): إنَّهُ وَقَفَ على زيادةِ أربعةِ أسانيدَ مما حَكَمَ له الأَئِمَّةُ بأَنَّهُ أَصَحُّ الأسانيدِ، فَبَلَغَت الأسانيدُ عندَهُ عشرينَ إسنادًا.
وإذا كان الأَئِمَّةُ قد اخْتَلَفُوا في أَصَحِّ الأسانيدِ فماذا نَسْتَفِيدُ نَحْنُ، والفائدةُ إِنَّمَا تَتِمُّ لو كانوا قد اتَّفَقُوا على إسنادٍ واحدٍ؟
ذَكَرَ ابنُ حَجَرٍ أنَّ اخْتِلاَفَهُمْ في أَصَحِّ الأسانيدِ لا يَمْنَعُ من وجودِ فوائدَ، فذكرَ مسألةَ الترجيحِ، فأنتَ تأخذُ الأَئِمَّةَ الذين حَكَمُوا على الأسانيدِ فَتُوَازِنُ بَيْنَهُمْ، فمثلاً اشْتَهَرَ: مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ؛ لأنَّ القائلَ هو البخاريُّ.
إذًا فنحن رَجَّحْنَاهُ بِنَاءً على القائلِ لا لِسَبَبٍ آخَرَ، وكذلك لو أخَذْنَا الكلامَ الذي يقولُهُ أحمدُ نُرَجِّحُهُ على ما يقولُهُ غيرُهُ نَظَرًا لِمَنْزِلَتِهِ في النقدِ، وحينئذٍ فمَن رَجَّحَ إسنادًا يَجْعَلُهُ في حُكْمِ المُتَّفَقِ عليهِ.
وفائدةٌ أُخْرَى
ذَكَرَهَا ابنُ حَجَرٍ وهي أنَّ مجموعَ هذه الأسانيدِ العشرينَ جُمْلَتُهَا راجِحَةٌ على الأسانيدِ التي لم يَنُصَّ واحدٌ من الأَئِمَّةِ على أنَّهَا مِن أَصَحِّ الأسانيدِ، فهذه نَسْتَفِيدُهَا عندَ التَّعَارُضِ، ويُطَبِّقُهَا ابنُ حَجَرٍ أحيانًا فيقولُ: هذا أَرْجَحُ مِن هذا؛ لأنَّ هذا مِن الأسانيدِ التي حَكَمَ عليها الأَئِمَّةُ بِأَنَّهَا أَصَحُّ الأسانيدِ.