{قُلْ} لهم إنْ سأَلُوكَ فقالوا: مَتَى هذا الوعْدُ؟:
{إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً}؛ أي: غايةً طويلةً، فعِلْمُ ذلك عندَ اللَّهِ، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} مِن الْخَلْقِ.
بل انْفَرَدَ بعِلْمِ الضمائرِ والأسرارِ والغَيْبِ، {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}؛ أي: فإنَّه يُخْبِرُه بما اقْتَضَتْ حِكْمَتُه أنْ يُخْبِرَه به.
وذلك لأنَّ الرسُلَ لَيْسُوا كغَيْرِهم؛ فإنَّ اللَّهَ أيَّدَهم بتأييدٍ ما أَيَّدَه أحداً مِن الخَلْقِ، وحَفِظَ ما أَوْحَاهُ إليهم حتَّى يُبَلِّغُوه على حقيقتِه مِن غيرِ أنْ تَتَخَبَّطَهم الشياطينُ، ولا يَزيدُوا فيه أو يَنْقُصُوا.
ولهذا قالَ: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}؛ أي: يَحْفَظُونَه بأمْرِ اللَّهِ {لِيَعْلَمَ} بذلك {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} بما جَعَلَه لهم مِن الأسبابِ، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ}؛ أي: بما عندَهم، وما أَسَرُّوه وأَعْلَنُوه، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}.
وفي هذه السورةِ فَوائدُ كَثيرةٌ: منها وُجودُ الجِنِّ، وأنَّهم مُكَلَّفونَ مَأمُورونَ مكَلَّفونَ مَنْهِيُّونَ، مُجَازُونَ بأعمالِهم كما هو صريحٌ في هذه السورةِ.
ومنها: أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ رسولٌ إلى الْجِنِّ، كما هو رسولٌ إلى الإنسِ؛ فإنَّ اللَّهَ صَرَفَ نَفَرَ الجِنِّ لِيَسْتَمِعُوا ما يُوحَى إليه ويُبَلِّغُوا قومَهم.
ومنها: ذَكاءُ الجِنِّ, ومَعْرِفَتُهم بالحقِّ، وأنَّ الذي سَاقَهم إلى الإيمانِ هو ما تَحَقَّقُوه مِن هدايةِ القرآنِ، وحُسْنُ أدَبِهم في خِطابِهم.
ومِنها: اعتناءُ اللَّهِ برسولِه وحِفْظُه لِمَا جاءَ به، فحِينَ ابْتَدَأَتْ بَشائِرُ نُبُوَّتِه، والسماءُ محروسةٌ بالنجومِ، والشياطينُ قد هَرَبتْ عن أماكِنِها وأُزْعِجَتْ عن مَرَاصِدِها، وأنَّ اللَّهَ رَحِمَ به الأرضَ وأَهْلَها رَحمةً ما يُقْدَرُ لها قَدْرٌ، وأرادَ بهم ربُّهم رَشَداً.
فأَرَادَ أنْ يُظْهِرَ مِن دِينِه وشَرْعِه ومَعْرِفَتِه في الأرضِ، ما تَبتَهِجُ له القلوبُ، وتَفْرَحُ به أُولُو الألبابِ، وتَظهَرُ به شعائرُ الإسلامِ، ويَنْقَمِعُ به أهْلُ الأوثانِ والأصنامِ.
ومنها: شِدَّةُ حِرْصِ الجِنِّ لاستماعِ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وتَرَاكُمُهم عليه.
ومِنها: أنَّ هذه السورةَ قدِ اشْتَمَلَتْ على الأمْرِ بالتوحيدِ والنهيِ عن الشِّرْكِ، وبَيَّنَتْ حالةَ الخلْقِ، وأنَّ كلَّ أحَدٍ منهم لا يَسْتَحِقُّ مِن العبادةِ مِثقالَ ذَرَّةٍ؛ لأنَّ الرسولَ مُحمَّداً صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ إذا كانَ لا يَمْلِكُ لأحَدٍ نفْعاً ولا ضَرًّا، بل ولا يَمْلِكُ لِنَفْسِه ـ عُلِمَ أنَّ الخلْقَ كلَّهم كذلك، فمِن الخطأِ والغَلَطِ اتِّخاذُ مَن هذا وصْفُه إلَهاً آخَرَ معَ اللَّهِ.
ومنها: أنَّ عُلومَ الغَيْبِ قدِ انْفَرَدَ اللَّهُ بعِلْمِها فلا يَعْلَمُها أحَدٌ مِن الخلْقِ إلاَّ مَن ارْتَضَاهُ اللَّهُ وخَصَّهُ بعِلْمِ شيءٍ منها.
تَمَّ تفسيرُ سُورةِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ، وللهِ الحمْدُ.
لعلها حين بدون الفاء ولكنها هكذا بالأصل