بابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِحِ
الصَّيْدُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ أَي: التَّصَيُّدِ، وَعَلَى الْمَصِيدِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ الصَّيْدَ فِي آيَتَيْنِ مِن الْقُرْآنِ:
قَوْلِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}، وَالثَّانِيَةِ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآيَةَ.
وَالآلَةُ الَّتِي يُصَادُ بِهَا ثَلاثَةٌ:
الْحَيَوَانُ الْجَارِحُ، وَالْمُحَدَّدُ، وَالْمِثْقَلُ.
فَفِي الْحَيَوَانِ:
1/1253 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنِ اتَّخَذَ كَلْباً، إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ، انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اتَّخَذَ كَلْباً، إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ، انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِن اتِّخَاذِ الْكِلابِ وَاقْتِنَائِهَا وَإِمْسَاكِهَا، إلاَّ مَا اسْتَثْنَاهُ مِن الثَّلاثَةِ.
وَقَدْ وَرَدَتْ بِهَذِهِ الأَلْفَاظِ رِوَايَاتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَل الْمَنْعُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلْكَرَاهَةِ؟ فَقِيلَ بِالأَوَّلِ، وَيَكُونُ نُقْصَانُ الْقِيرَاطِ عُقُوبَةً فِي اتِّخَاذِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الإِثْمَ الْحَاصِلَ بِاتِّخَاذِهَا يُوَازِنُ قَدْرَ قِيرَاطٍ مِنْ أَجْرِ الْمُتَّخَذِ لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: ((قِيرَاطَانِ)).
وَحِكْمَةُ التَّحْرِيمِ مَا فِي بَقَائِهَا فِي الْبَيْتِ مِن التَّسَبُّبِ إلَى تَرْوِيعِ النَّاسِ، وَامْتِنَاعِ دُخُولِ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ دُخُولُهُمْ خَيْرٌ وبَرَكَةٌ، وتَقَرُّبٌ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَيُبْعِدُ عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَبُعْدُهُمْ سَبَبٌ لِضِدِّ ذَلِكَ، وَلِتَنْجِيسِهَا الأَوَانِيَ. وَقِيلَ بِالثَّانِي؛ بِدَلِيلِ نَقْصِ بَعْضِ الثَّوَابِ عَلَى التَّدْرِيجِ، فَلَوْ كَانَ حَرَاماً لَذَهَبَ بالكُلِّيَّةِ.
وَفِيهِ: أَنَّ فِعْلَ الْمَكْرُوهِ تَنْزِيهاً لا يَقْتَضِي حُبُوطَ شَيْءٍ مِن الثَّوَابِ.
وَذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ الشَّافِعِيَّةُ، إلاَّ الْمُسْتَثْنَى. وَاخْتُلِفَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ رِوَايَةِ: ((قِيرَاطٌ))، وَرِوَايَةِ: ((قِيرَاطَانِ))، فَقِيلَ: إنَّه بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الأَضْرَارِ، كَمَا فِي الْمُدُنِ يَنْقُصُ قِيرَاطَانِ، وَقِلَّتِهِ، كَمَا فِي الْبَوَادِي يَنْقُصُ قِيرَاطٌ، أَوْ أَنَّ الأَوَّلَ إذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالثَّانِي فِي غَيْرِهَا، أَوْ قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ، وَقِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ اللَّيْلِ. فَالْمُقْتَصَرُ فِي الرِّوَايَةِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِن اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْمُثَنَّى بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِهِمَا.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضاً: هَل النُّقْصَانُ مِن الْعَمَلِ الْمَاضِي أَوْ مِن الأَعْمَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ؟
قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَحَكَى غَيْرُهُ الْخِلافَ فيهِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَن اتَّخَذَ الْمَأْذُونَ مِنْهَا فَلا يَنْقُصُ عَلَيْهِ، وَقِيسَ عَلَيْهِ اتِّخَاذُهُ لِحِفْظِ الدُّورِ إذَا احْتِيجَ إليهِ، أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لا يَدْخُلُ الْكَلْبُ الْعَقُورُ فِي الإِذْنِ؛ لأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْذِيرِ مِن الإِتْيَانِ بِمَا يُنْقِصُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ. وَفِيهِ الإِخْبَارُ بِلُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إبَاحَتِهِ؛ لِمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَعَاشِ وَحِفْظِهِ.
وَرَدَ فِي مُسْلِمٍ الأَمْرُ بِقَتْلِ الْكِلابِ، فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِن الْعُلَمَاءِ إلَى الأَخْذِ بِالْحَدِيثِ فِي قَتْلِ الْكِلابِ، إلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ، قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى جَوَازِ اقْتِنَائِهَا جَمِيعاً، وَنَسْخِ قَتْلِهَا، إلاَّ الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ النَّهْيَ أَوَّلاً كَانَ عَامًّا من اقْتِنَائِهَا جَمِيعاً، وَأَمَرَ بِقَتْلِهَا جَمِيعاً، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِ مَا عَدَا الأَسْوَدَ، وَمَنَعَ الاقْتِنَاءَ فِي جَمِيعِهَا، إلاَّ الْمُسْتَثْنَى، ا هـ.
وَالْمُرَادُ بِالأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذُو النُّقْطَتَيْنِ؛ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ. وَالْبَهِيمُ: الْخَالِصُ السَّوَادِ، وَالنُّقْطَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ.