818- وعن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عنهُما ـ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ قالَ: ((لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الكَافِرَ؛ وَلاَ يَرِثُ الكَافِرُ الْمُسْلِمَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
819- وعنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللَّهُ عنهُما ـ قالَ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ: ((لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ)). رواهُ أحمدُ والأربعةُ إلاَّ التِّرْمِذِيَّ, وأخْرَجَه الحاكمُ بلفظِ أُسامَةَ, ورَوَى النَّسائِيُّ حديثَ أُسامَةَ بهذا اللفظِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرَجَةُ الحديثِ.
الحديثُ سَنَدُه جَيِّدٌ.
رَواهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو دَاوُدَ، والنَّسائِيُّ، وابنُ مَاجَهْ، وغَيْرُهم، وأصلُه في الصحيحيْنِ مِن حديثِ أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ مَرْفوعاً: ((لاَ يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلاَ المُسْلِمُ الكَافِرَ)). وله شَوَاهِدُ منها:
1- حديثُ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ, عن أبيهِ, عن جَدِّهِ مَرْفوعاً بلفظِ: ((لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى)). أخْرَجَه أبو دَاوُدَ وابنُ الجَارُودِ والدَّارَقُطْنِيُّ، وأحمدُ مِن طريقِ عَمْرٍو, وإسنادُه حَسَنٌ.
2- حديثُ جَابِرٍ أخْرَجَه الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْقوفاً، وقالَ: وهو المحفوظُ، ورواهُ شَرِيكٌ عن الأَشْعَثِ, عن الحَسَنِ, عن جابِرٍ به مَرْفوعاً.
قالَ الساعاتِيُّ في (الفتحِ الربانيِّ): سَنَدُه جَيِّدٌ.
* مُفْرداتُ الحَديثِ:
- الكَافِرُ: الكُفْرُ لُغَةً السَّتْرُ والجُحُودُ، فمَن جَحَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَها.
وشَرْعاً: قَوْلٌ أو اعتقادٌ أو فِعْلٌ يُعْتَبَرُ بهِ الإنسانُ كَافِراً خارجاً من الإسلامِ.
- مِلَّتَيْنِ: تَثْنِيَةُ مِلَّةٍ، والمِلَّةُ بكسرِ الميمِ، جَمْعُها مِلَلٌ، وهي الدِّيانَةُ؛ كاليَهوديةِ والنَّصرانيةِ.
* ما يُؤْخَذُ من الحديثيْنِ:
1- القولُ الصحيحُ مِن أقوالِ أهلِ العِلْمِ أنه لا تَوارُثَ بينَ المُسْلِمِ والكَافِرِ، ولو بالولاءِ, وهذا هو الذي عليهِ أَكْثَرُ العلماءِ، مُسْتَدِلِّينَ بحديثِ البابِ، وهو مَذْهَبُ الأئمَّةِ الثلاثةِ، والراويةُ الأُخْرَى عن الإمامِ أَحْمَدَ. ذلك أنَّ الإسلامَ أقْوَى رَابِطَةٍ، فإذا اخْتَلَّ هذا الرِّباطُ المُقَدَّسُ بينَ القَرابَةِ في النَّسَبِ؛ فقدْ فُقِدَتِ الصِّلاتُ والعَلاقَاتُ، فاخْتَلَّتْ قُوَّةُ رَابِطَةِ القَرَابَةِ فمُنِعَ التوارثُ.
أمَّا المَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ أحمدَ فإنَّ الكُفْرَ لا يَمْنَعُ التوارثَ بالولاءِ.
2- ظَاهِرُ الحديثِ رَقْمِ (819) أنه لا تَوارُثَ بينَ أَهلِ مِلَّتَيْنِ كافرتيْنِ، فلو كانَ أَحَدُ القَرِيبيْنِ يَهُودِيًّا، والقريبُ الآخَرُ نَصْرَانِيًّا، فلا تَوارُثَ بينَهما لاختلافِ الدينِ بينَهما، وسيأتي تحقيقُ الخلافِ قريباً إنْ شاءَ اللَّهُ.
3- في الحديثينِ إثباتُ أصلِ التوارُثِ بينَ الأقاربِ، ما لم يَمْنَعْ مِن ذلك مانِعٌ مِن مَوَانِعِ الإرثِ.
4- أنَّ الكُفْرَ أحَدُ مَوانِعِ الإرثِ معَ وُجودِ سَبَبِه.
5- اختلافُ المِلَلِ الكافرةِ مانِعٌ من موانعِ الإرثِ فيما بينَهم.
6- أنَّ العقيدةَ الإسلاميةَ أقْوَى مِن رَابِطَةِ النَّسبِ والنِّكاحِ والولاءِ, فإنْ فُقِدَتِ العقيدةُ انْفَصَمَتْ عُرَى رَابِطَةِ القرابةِ، فمُنِعَ التوارُثُ بينَهم.
* خِلافُ العُلماءِ:
اخْتَلَفَ العلماءُ في تَوْريثِ أهلِ المِلَلِ المُختلِفَةِ في الديانَةِ؛ كاليهودِ والنَّصارَى والمَجُوسِ والبُوذِيِّينَ، وغيرِهم.
والخلافُ مَبْنِيٌّ على أنَّ الكُفْرَ: هَلْ هُو مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ أو مِلَلٌ شَتَّى مُتَعَدِّدَةٌ؟ فذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ والشافِعِيَّةُ، وروايةٌ للحنابِلَةِ أنَّ الكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فعلى هذا القولِ يَتوارَثُ الكُفَّارُ فيما بينَهم، ولو اخْتَلَفَتْ أديانُهم؛ لقولِهِ تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
فالآيةُ عَامَّةٌ؛ ولأنَّ تَوْرِيثَ الأَقَارِبِ جَاءَ في كتابِ اللَّهِ وهو عَامٌّ، فَلْيَبْقَ على عُمومِه.
وذَهَبَ المالكيَّةُ إلى أنَّ الكُفْرَ ثلاثُ مِلَلٍ:
فاليَهوديَّةُ مِلَّةٌ، والنَّصرانِيَّةُ مِلَّةٌ، وبَقِيَّةُ الكُفْرِ مِلَّةٌ واحِدَةٌ؛ لأنهم يَجْمَعُهم أنَّهم لا كِتابَ لهم.
وبِناءً على هذا القَوْلِ فلا يَرِثُ اليهوديُّ مِن النصرانيِّ، ولا العَكْسُ، ولا يَرِثُ أحدُهما مِن الوَثَنِيِّ، فصارَ ضَابِطُ المِلَّةِ هو وُجودُ الكتابِ معَ وَحْدَتِه، وعَدَمُ وُجودِه.
وذَهَبَ الإمامُ أَحْمَدُ إلى أنَّ الكُفْرَ مِلَلٌ مُتعدِّدةٌ فلا يَرِثُ أهلُ كلِّ مِلَّةٍ مِن المِلَّةِ الأُخْرَى، وكأنَّ ضَابِطَ المِلَّةِ على هذا القولِ هو النِّحْلَةُ، معَ قَطْعِ النَّظَرِ عن وُجودِ الكتابِ وعَدَمِه.
واستدلوا بقولِه صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ: ((لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى)).
وهذا هو القَوْلُ الراجِحُ لهذا الحديثِ، الذي هو نَصٌّ في التوارثِ بينَ أهلِ مِلَّتَيْنِ؛ ولأنَّ كُلَّ مِلَّةٍ لا مُوالاةَ بينَها وبينَ المِلَّةِ الأُخْرَى، ولا اتِّفاقَ في الدِّينِ، فلم يَرِثْ بعضُهم بعضاً؛ كالمُسْلِمِينَ معَ الكُفَّارِ، وأمَّا عُمُومَاتُ النُّصُوصِ في التوريثِ، فهي مُخَصَّصَةٌ بمُخَصِّصاتٍ أُخَرَ، فلم تَبْقَ على عُمومِها، فيُخَصَّ منها مَحَلُّ النِّزاعِ بهذا الخَبَرِ، والقياسِ.