ثانيا : الكلامُ في الإثباتِ
قولُه : (فصلٌ وأمَّا في طُرُقِ الإثباتِ : فمعلومٌ أيضًا أن الْمُثْبِتَ لا يَكفِي في إثباتِه مُجَرَّدُ نفيِ التشبيهِ؛ إذ لو كَفَى في إثباتِه مُجَرَّدُ نفيِ التشبيهِ لَجَازَ أن يُوصَفَ سبحانَه وتعالى من الأعضاءِ والأفعالِ بما لا يَكادُ يُحْصَى مِمَّا هو مُمْتَنِعٌ عليه مع نَفْيِ التشبيهِ ، وأن يُوصَفَ بالنقائصِ التي لا تَجوزُ عليه مع نَفيِ التشبيهِ وكما لو قالَ الْمُفْتَرِي : يأكُلُ لا كأكْلِ العِبادِ ويَشرَبُ لا كشُرْبِهم ويَبْكِي ويَحْزَنُ لا كبكائِهم ولا حُزْنِهم, كما يقالُ : يَضْحَكُ لا كَضَحِكِهِم, ويَفْرَحُ لا كفَرَحِهِمْ, ويَتَكَلَّمُ لا ككلامِهم. ولَجَازَ أن يُقالَ : له أعضاءٌ كثيرةٌ, لا كأعضائِهم, كما قيلَ : له وجهٌ لا كوجوهِهم, ويَدَانِ لا كأيدِيهم, حتى يَذْكُرَ الْمَعِدَةَ والأمعاءَ والذَّكَرَ وغيرَ ذلك مِمَّا يَتَعَالى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عنه - سبحانَه وتعالى – عَمَّا يقولُ الظالمون عُلُوًّا كبيرًا).
التوضيحُ
كذلك لا يَصِحُّ الاعتمادُ في الإثباتِ على نفيِ التشبيهِ؛ لأنه بإمكانِ كلِّ أحَدٍ أن يَصِفَ اللهَ تعالى بالنقائِصِ مع نفيِه للتشبيهِ فيقولُ: يُوصَفُ اللهُ بالحُزْنِ والجوعِ والعَطَشِ والأكْلِ والشرْبِ بلا تشبيهٍ فيَخْتَلِطُ الحقُّ بالباطِلِ .
فيقولُ الْمُفْتَرُونَ مَثَلاً:
يُوصَفُ اللهُ بالأعضاءِ كالْمَعِدَةِ والأمعاءِ كما يَصِفُه أهلُ السنَّةِ باليدِ والوجْهِ بلا تشبيهٍ ، ويُوصَفُ بالبكاءِ بلا تشبيهٍ, كما يَصِفُهُ أهلُ السنَّةِ بالضَّحِكِ والفَرَحِ والكلامِ بلا تشبيهٍ ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا, كبيرًا وسيأتي الرَّدُّ تَفْصِيلاً .
سؤالٌ وجوابٌ في الاعتمادِ في النفيِ على عَدَمِ وُرودِ السمْعِ
قولُه : ( فإنه يُقالُ : لِمَنْ نَفَى ذلك مع إثباتِ الصِّفاتِ الخبريَّةِ وغيرِها من الصِّفاتِ : ما الفرْقُ بينَ هذا وما أَثْبَتَه إذا نَفَيْتَ التشبيهَ وجَعَلْتَ مُجَرَّدَ نَفْيِ التشبيهِ كافيًا في الإثباتِ ؟ فلا بُدَّ من إثباتِ فَرْقٍ في نفسِ الأمْرِ .
فإن قالَ : العُمدةُ في الفَرْقِ هو السمْعُ فما جاءَ به السمْعُ أُثْبِتُهُ دونَ ما لم يَجِئْ به السمْعُ .
قيلَ له – أوَّلاً – السمْعُ هو خَبَرُ الصادقِ عمَّا هو الأمْرُ عليه في نفسِه ، فما أَخْبَرَ به الصادِقُ فهو حقٌّ من نفيٍ أو إثباتٍ والخبَرُ دليلٌ على الْمُخْبَرِ عنه ، والدليلُ لا يَنْعَكِسُ فلا يَلْزَمُ من عدَمِه عدَمُ المدلولِ عليه فما لم يَرِدْ به السمْعُ يَجُوزُ أن يكونَ ثابتًا في نفسِ الأمْرِ وإن لم يَرِدْ به السمْعُ إذا لم يكنْ نَفَاهُ ، ومعلومٌ أنَّ السمْعَ لم يَنْفِ هذه الأمورَ بأسمائِها الخَاصَّةِ فلا بُدَّ من ذِكْرِه ما يَنْفِيها من السمْعِ و إلا فلا يَجُوزُ حينئذٍ نفيُها كما لا يَجُوزُ إثباتُها .
و أيضًا فلا بُدَّ في نفْسِ الأمْرِ من فَرْقٍ بينَ ما يَثْبُتُ له وبينَ ما يُنْفَى عنه فإنَّ الأمورَ المُتَمَاثِلَةَ في الجوازِ والوجوبِ والامتناعِ يَمتنِعُ اختصاصُ بعضِها دونَ بعضٍ في الجوازِ والوجوبِ والامتناعِ ، فلا بُدَّ من اختصاصِ المَنْفِيِّ عن الْمُثْبَتِ بما يَخُصُّه بالنفيِ, ولا بُدَّ من اختصاصِ الثابتِ عن المَنْفِيِّ بما يَخُصُّه بالثُّبوتِ .
وقد يُعَبَّرُ عن ذلك بأن يقالَ : لا بُدَّ من أمْرٍ يُوجِبُ نفيَ ما يَجِبُ نفيُه عن اللهِ ، كما أنه لا بدَّ من أمْرٍ يُثْبِتُ له ما هو ثابتٌ, وإن كان السمْعُ كافيًا كان مُخْبِرًا عما هو الأمْرُ عليه في نفسِه, فما الفَرْقُ في نفسِ الأمْرِ بينَ هذا وهذا ؟ .
فيقالُ : كلُّ ما نافَى صفاتِ الكمالِ الثابتةَ فهو مُنَزَّهٌ عنه ، فإنَّ ثبوتَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ نفْيَ الآخَرِ ، فإذا عُلِمَ أنه مَوْجودٌ واجبُ الوُجودِ بنفسِه, وأنه قديمٌ واجبُ القِدَمِ عُلِمَ امتناعُ العدَمِ والحدوثِ عليه ، وعُلِمَ أنه غَنِيٌّ عما سواه, فالمفْتَقِرُ إلى ما سواه في بعضِ ما يَحتاجُ إليه لنفسِه ليس هو مَوْجودًا بنفسِه ، بل وُجودُه بنفسِه وبذلك الآخَرِ الذي أَعطاه ما تَحتاجُ إليه نفسُه فلا يُوجَدُ إلا به, وهو سبحانَه غَنِيٌّ عن كلِّ ما سِواه, فكلُّ ما نافَى غِناه فهو مُنَزَّهٌ عنه, وهو سبحانَه قديرٌ قويٌّ ما نافَى قُدْرَتَه وقوَّتَه فهو مُنَزَّهٌ عنه, وهو سبحانَه حيٌّ قيُّومٌ فكلُّ ما نافَى حياتَه وقيُّومِيَّتَه فهو مُنَزَّهٌ عنه ).
التوضيحُ
هنا سؤالٌ لِمَنْ نَفَى النقائصَ عن اللهِ بمُجَرَّدِ نَفْيِ التشبيهِ مع إثباتِه للصفاتِ الخبريَّةِ, وهي التي لا طريقَ إلى معرفتِها إلا بالسمْعِ, وهي قِسمان :
فِعْلِيَّةٌ : كالمجيءِ والنزولِ .
ذاتيَّةٌ : كالوجهِ واليدينِ .
والسؤالُ هو : ما الفَرْقُ بينَ هذه النقائصِ التي نَفَيْتَها وبينَ الصِّفاتِ التي تُثْبِتُها ؟ فإنَّ مَن أَثْبَتَ النقائصَ للهِ بإمكانِه أن يقولَ أُثْبِتُها بلا تشبيهٍ فإن قالَ : العُمدةُ في التفريقِ بينَ النقائصِ والصِّفاتِ هو السمْعُ فما أَثْبَتَه السمْعُ أُثْبِتُه وما لم يُثْبِتْهُ أَنْفِهِ. فيُجابُ عليه بجوابَيْنِ, وخُلاصَتُهما كما يَلِي :-
أوَّلاً : السمْعُ خَبَرُ الصادِقِ عما عليه الأمرُ فما أَخْبَرَ به مِن نَفْيٍ أو إثباتٍ فهو حقٌّ وهو دليلٌ على الْمُخْبَرِ به, والدليلُ لا يَنْعَكِسُ ، أي: إذا انْعَدَمَ الدليلُ لا يَلزَمُ منه انعدامُ المدلولِ ، فإذا لم يَرِد السمْعُ بصفةٍ جازَ أن تكونَ ثابتةً ما لم يكنْ نفاها ، ومعلومٌ أنَّ السمْعَ لم يَنْفِ هذه الصِّفاتِ بأسمائِها الخَاصَّةِ فلم يَقُلْ : إنَّ اللهَ لا يَبْكِي ولا يَأْكُلُ ونحوَ ذلك مِمَّا نَقْطَعُ جميعًا ببُطلانِه, إذن فلا بُدَّ من أمْرٍ يُوجِبُ نفيَ ما يَجِبُ نَفْيُه عن اللهِ, وما يَجِبُ إثباتُه .
ثانيًا: هذه المُقَدِّمَةُ لبيانِ أنَّ تصريحَ السمْعِ لا يَكفِي في النفيِ أو الإثباتِ, بل هناك لوازِمُ عَقْليَّةٌ تَتَوَافَقُ مع الأَدِلَّةِ النقليَّةِ فتُثْبِتُ بمجموعِها كمالَ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ, وقد سَبَقَ بيانُ ذلك ونُبَيِّنُه بما يَلِي :-
الضابِطُ هو كلُّ ما نَافَى صفاتِ الكمالِ الثابتةَ للهِ فهو مُنَزَّهٌ عنه؛ لأنَّ ثبوتَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ نفيَ الآخَرِ كالنقْصِ والعَيْبِ والمُمَاثَلَةِ للخلْقِ فمَثَلا : إذا عُلِمَ أنه قَديمٌ قائمٌ بنفسِه عُلِمَ امتناعُ العدَمِ والحدوثِ والافتقارِ ، فكلُّ ما نافَى غِنَاه فهو مُنَزَّهٌ عنه ، وكذلك كلُّ ما نَافَى قدرتَه وقُوَّتَه فهو مُنَزَّهٌ عنه ، وكلُّ ما نَافَى حياتَه وقَيُّومَتَه فهو مُنَزَّهٌ عنه ، وهكذا فهذه هي القاعدةُ العامَّةُ في التنزيهِ, لا طريقةُ نفيِ التشبيهِ أو التجسيمِ التي تَناقَضَ فيها المتكلِّمونَ كما سَبَقَ .
الخُلاصَةُ
قولُه : ( وبالجملةِ فالسمْعُ قد أَثْبَتَ له من الأسماءِ الْحُسنى وصفاتِ الكمالِ ما قد وَرَدَ ، فكلُّ ما ضادَّ ذلك فالسمْعُ يَنْفِيهِ كما يَنْفِي عنه الْمِثْلَ والكفْؤَ؛ فإنَّ إثباتَ الشيءِ نفيٌ لضِدِّه وَلِمَا يَسْتَلْزِمُ ضِدَّه, والعَقْلُ يَعْرِفُ نفيَ ذلك كما يَعْرِفُ إثباتَ ضِدِّه ، فإثباتُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ نَفْيٌ للآخَرِ وَلِمَا يَسْتَلْزِمُه .فطُرُقُ العلْمِ بنَفْيِ ما يُنَزَّهُ عنه الربُّ متَّسِعَةٌ لا يُحتاجُ فيها إلى الاقتصارِ على مُجَرَّدِ نَفْيِ التشبيهِ والتجسيمِ كما فَعَلَه أهلُ القُصورِ والتقصيرِ الذين تَناقَضُوا في ذلك وفَرَّقُوا بينَ المُتَمَاثِلَينِ حتى إنَّ كلَّ مَن أَثْبَتَ شيئًا احْتَجَّ عليه مَن نَفاهُ بأنه يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ ) .
التوضيحُ
ومُجْمَلُ القولِ أنه وَرَدَ في الكتابِ والسنَّةِ الكثيرُ من أسماءِ اللهِ الْحُسْنَى وصِفاتِه الْعُلَى ، فكُلُّ ما نَافَى ذلك الكمالَ فإنه يُنْفَى عنه؛ لأنَّ إثباتَ أحَدِ الضِّدَّيْنِ نَفْيٌ للآخَرِ ونَفْيٌ للوازِمِه ، فنَفْيُ الظُّلْمِ إثباتٌ لعَدْلٍ, ونَفْيُ المثيلِ إثباتٌ للتَّفَرُّدِ والوَحْدانيَّةِ, وطُرُقُ التنزيهِ كثيرةٌ لا يُقْتَصَرُ فيها على نفيِ التشبيهِ والتجسيمِ مع ما فيها من التَّناقُضِ والقُصورِ ، وكما سَبَقَ بيانُه فهي تَتَلَخَّصُ فيما يَلِي :-
النفيُ الصريحُ في النصوصِ .
نفيُ النقْصِ والعيبِ, وضابِطُ النقصِ : كلُّ ما نَافَى الكمالَ أو ما نَفَى لوازِمَ الْكَمَالِ .
نَفْيُ المُمَاثَلَةِ لِخَلْقِهِ .
استطرادٌ
قولُه : ( وكذلك احتَجَّ القَرامِطَةُ على نَفْيِ جميعِ الأمورِ حتى نَفَوُا النفيَ, فقالوا: لا يُقالُ مَوْجودٌ, ولا ليس بمَوْجودٍ, ولا حَيٌّ, ولا ليس بِحَيٍّ ؛ لأنَّ ذلك تشبيهٌ بالمَوْجودِ أو المعدومِ, فَلَزِمَ نَفْيُ النقيضينِ, وهو أَظْهَرُ الأشياءِ امتناعًا، ثم إنَّ هؤلاءِ يَلْزَمُهُمْ من تَشبيهِهِ بالمعدوماتِ والمُمْتَنِعَاتِ والْجَماداتِ أَعْظَمُ مما فَرُّوا منه من التشبيهِ بالأحياءِ الكاملينَ ، فطُرُقُ تنزيهِهِ وتقديسِه عمَّا هو مُنَزَّهٌ عنه مُتَّسِعَةٌ لا تَحتاجُ إلى هذا) .
التوضيحُ
رَجَعَ شيخُ الإسلامِ إلى طريقةِ القَرامطةِ ليُثْبِتَ فَسادَ الاعتمادِ على نَفْيِ التشبيهِ ؛ فإنَّ القرامطةَ نَفَوْا عن اللهِ تعالى النفيَ بحُجَّةِ التشبيهِ بالمَوْجوداتِ أو المعدوماتِ, فَوَقَعُوا في التشبيهِ بالمُمْتَنِعاتِ، فلَزِمَهُمْ من التشبيهِ أَعْظَمُ مِمَّا فَرُّوا منه ، وجميعُ هذه الإلزاماتِ تَقَدَّمَتْ فيما سَبَقَ.
النفيُ لا يأتي إلا لإثباتِ الكمالِ
قولُه : ( وقد تَقَدَّمَ أنَّ نَفْيَ ما يُنْفَى عنه سبحانَه: نَفْيٌ مُتَضَمِّنٌ للنفْيِ والإثباتِ؛ إذ مُجَرَّدُ النفيِ لا مَدْحَ فيه, ولا كَمالَ، فإنَّ المعدومَ يُوصَفُ بالنفيِ ، والمعدومَ لا يُشْبِهُ المَوْجوداتِ, وليس هذا مَدْحًا له؛ لأنَّ مُشابَهَةَ الناقِصِ في صِفاتِ النقْصِ نَقْصٌ مُطْلَقًا, كما أنَّ مُمَاثَلَةَ المخلوقِ في شيءٍ من الصِّفاتِ تَمثيلٌ وتشبيهٌ يُنَزَّهُ عنه الربُّ تَبارَكَ وتعالى) .
التوضيحُ
ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ هنا أنَّ النفيَ لا يأتي في الشرْعِ إلا لإثباتِ كمالِ الضِّدِّ ؛ لأنَّ النفيَ المحضَ لا مَدْحَ فيه ، ولأنَّ المعدومَ يُوصَفُ بالنفيِ فيقالُ : ليس بمَوْجودٍ وليس بشيءٍ, ولا يُشْبِهُ المَوْجوداتِ ، ونحوَ ذلك, وليس في هذا مَدْحٌ له ، ويُنَزَّهُ اللهُ تعالى عن مُمَاثَلَةِ المخلوقينَ؛ لأنَّ مُمَاثَلَةَ الناقِصِ نقْصٌ ، وهذه مُقَدِّمَةٌ للتفريقِ بينَ صفاتِ النقْصِ والكمالِ.
الرَّدُّ على ما اسْتَدَلَّ به الْمُفْتَرُونَ وبيانُ الفرْقِ بينَ الكمالِ والنقْصِ
قولُه : ( والنقْصُ ضِدُّ الكمالِ ، وذلك مِثْلَ أنه قد عُلِمَ أنه حيٌّ, والموتُ ضِدُّ ذلك, فهو مُنَزَّهٌ عنه، وكذلك النومُ والسِّنَةُ ضِدُّ كَمالِ الحياةِ، فإنَّ النومَ أَخُو الموتِ، وكذلك اللُّغوبُ نَقْصٌ في القُدْرَةِ والقوَّةِ، والأكْلُ والشرْبُ ونحوَ ذلك من الأمورِ فيه افتقارٌ إلى مَوْجودٍ غيرِه, كما أنَّ الاستعانةَ بالغيرِ والاعتضادَ به ونحوَ ذلك تَتَضَمَّنُ الافتقارَ إليه والاحتياجَ إليه. وكلُّ مَنْ يَحتاجُ إلى مَن يَحْمِلُه أو يُعينُه على قِيامِ ذاتِه وأفعالِه فهو مُفْتَقِرٌ إليه ليس مُسْتَغْنيًا عنه بنفسِه ، فكيف مَن يأكُلُ ويَشرَبُ؟ والآكِلُ والشارِبُ أَجْوَفُ, والْمُصْمَتُ الصَّمَدُأكْمَلُ من الآكِلِ والشاربِ ، ولهذا كانت الملائكةُ صُمُدًا، لا تَأْكلُ ولا تَشربُ ، وقد تَقَدَّمَ أنَّ كلَّ كمالٍ ثَبَتَ لمخلوقٍ فالخالِقُ أَوْلَى به، وكلَّ نقْصٍ تَنَزَّهُ عنه المخلوقُ فالخالِقُ أَوْلَى بتنزيهِه عن ذلك. والسمْعُ قد نَفَى ذلك في غيرِ موضِعٍ كقولِه تعالى : { اللهُ الصَّمَدُ } والصمَدُ الذي لا جَوْفَ له ، ولا يأكُلُ ولا يَشرَبُ، وهذه السورةُ هي نَسَبُ الرحمنِ ، أو هي الأصْلُ في هذا البابِ.
وقالَ في حقِّ المسيحِ وأمِّه: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ } فجَعَلَ ذلك دليلاً على نَفْيِ الألوهيَّةِ. فدَلَّ ذلك على تنزيهِه عن ذلك بطريقِ الأَولى والأَحْرَى ، والكَبِدُ والطِّحالُ ونحوَ ذلك هي أعضاءُ الأكْلِ والشرْبِ، فالغنيُّ الْمُنَزَّهُ عن ذلك مُنَزَّهٌ عن آلاتِ ذلك، بخِلافِ اليدِ ، فإنها للعمَلِ والفعْلِ ، وهو سبحانَه موصوفٌ بالعمَلِ والفعْلِ، إذ ذاك من صفاتِ الكمالِ ، فمَن يَقْدِرُ أن يَفْعَلَ أكْمَلَ مِمَّنْ لا يَقْدِرُ على الفِعْلِ، وهو سبحانَه مُنَزَّهٌ عن الصاحِبَةِ والوَلَدِ وعن آلاتِ ذلك وأسبابِه ، وكذلك البُكاءُ والحزْنُ هو مُسْتَلْزِمٌ للضعْفِ والعجْزِ الذي يُنَزَّهُ عنه سبحانَه بخِلافِ الفرَحِ والغضَبِ، فإنه من صفاتِ الكمالِ . فكما يُوصَفُ بالقُدْرَةِ دونَ العجْزِ ، وبالعلْمِ دونَ الْجَهْلِ ، وبالحياةِ دونَ الموتِ ، وبالسمْعِ دونَالصَّمَمِ ، وبالبصَرِ دونَ العَمَى، وبالكلامِ دونَ البَكَمِ، فكذلك يُوصَفُ بالفرَحِ دونَ الْحُزْنِ، وبالضحِكِ دونَ البُكاءِ ، ونحوَ ذلك ) .
التوضيحُ
بدأَ شيخُ الإسلامِ في بيانِ الفَرْقِ بينَ صِفاتِ الكمالِ الثابتةِ للهِ تعالى وصِفاتِ النقْصِ فقالَ : إذا سَوَّى الْمُفْتَرُونَ بينَ صفاتِ النقصِ والكمالِ فيُجابُ عليهم بالقاعدةِ العامَّةِ في التنزيهِ كما يَلِي :
إنَّ اللهَ حيٌّ والموتُ ضِدُّ الحياةِ, فيُنَزَّهُ اللهُ عنه ، وكذلك النَّوْمُ والسِّنَةُ ضِدُّ كمالِ الحياةِ.
واللُّغوبُ نقْصٌ في كمالِ القُدْرَةِ والقوَّةِ فيُنَزَّهُ اللهُ عنه.
الأكْلُ والشرْبُ يُسْتَدَلُّ على نفيِهما عنه من وُجوهٍ:
أنَّ فيهما افتقارًا إلى مَوْجودٍ غيرِه, وهو الطعامُ والشرابُ.
أنَّ الآكِلَ والشارِبَ أجْوَفُ ، واللهُ سبحانَه وتعالى مُصْمَتٌ صَمَدٌ, أي: لا جَوْفَ له, على تفسيرِ جماعةٍ ، وقد ثَبَتَ هذا التفسيرُ عن ابنِ عبَّاسٍ ومجاهِدٍ والحسَنِ والضحَّاكِ وغيرِهم.
بل وثَبَتَ أنَّ الصَّمَدَ هو الذي لا يَأكُلُ ولا يَشْرَبُ عن الشَّعْبِيِّ ، وهو صريحٌ في نَفْيِ هذا النقْصِ عن اللهِ تعالى . قولُه " وهذه السورةُ هي نَسَبُ الرحمنِ " ثَبَتَ ذلك عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: أنَّ المشركينَ قالوا للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْسِبْ لنا رَبَّك ، فَأَنْزَلَ اللهُ سورةَ الإخلاصِ .
أنَّ الملائكةَ صُمُدٌ لا تأكُلُ ولا تَشرَبُ ، هذا كمالٌ لها ، وتَقَدَّمَ قِياسُ الأَوْلَى, وهو أنَّ كلَّ كمالٍ اتَّصَفَ به المخلوقُ فالخالِقُ أَوْلَى به، فيُوصَفُ هنا بأنه صَمَدٌ لا يَأكُلُ ولا يَشْرَبُ.
قولُه : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامِ } فجَعَلَ الأكْلَ دليلاً على نَفْيِ الألوهيَّةِ ، فاللهُ أَوْلَى بالتنَزُّهِ عنه.
أمَّا الكَبِدُ والطِّحالُ وأعضاءُ الأكْلِ والشُّرْبِ فالغنيُّ الْمُنَزَّهُ عن الأكْلِ والشرْبِ مُنَزَّهٌ عن آلاتِ ذلك ولوازمِه، بخِلافِ اليدِ فإنها للفعْلِ ، واللهُ موصوفٌ بالفعْلِ وهو كمالٌ , فالفاعِلُ أكمَلُ مِمَّنْ لا يَقْدِرُ على الفِعْلِ بالإضافةِ إلى ثبوتِها في النصوصِ.
واللهُ مُنَزَّهٌ عن الصاحبةِ والولَدِ فيُنَزَّهُ عن آلاتِ ذلك وأسبابِه كالشهوةِ والأعضاءِ.
وأمَّا البُكاءُ والحزْنُ فمُسْتَلْزِمٌ للضَّعْفِ والعَجْزِ بخِلافِ الفرَحِ والغضَبِ والضحِكِ فإنها من صفاتِ الكمالِ الثابتةِ شَرْعًا, فكما يُوصَفُ بالقُدْرَةِ دونَ العَجْزِ، فكذلك يُوصَفُ بالفرَحِ دونَ الحزْنِ وبالضحِكِ دونَ البُكاءِ؛ لعَدَمِ مُنافاتِها لصفاتِ الكمالِ. ودليلُ ثبوتِ الفَرَحِ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَلَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِه من أَحَدِكم... الحديثَ" ودليلُ ثبوتِ الضَّحِكِ قولُه" يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ, كِلاَهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ" .
نَفْيُ المُمَاثَلَةِ عن اللهِ
قولُه : ( وأيضًا فقد ثَبَتَ بالعقْلِ مَا أَثْبَتَه السمْعُ من أنَّ اللهَ سبحانَه لا كُفْؤَ له ولا سَمِيَّ له ، وليس كَمِثْلِه شيءٌ ، فلا يَجُوزُ أن تكونَ حقيقتُه كحقيقةِ شيءٍ من المخلوقاتِ ، ولا حقيقةُِ شيءٍ من صفاتِه كحقيقةِ شيءٍ من صفاتِ المخلوقاتِ ، فيُعْلَمُ قطعًا أنه ليس من جِنْسِ المخلوقاتِ، لا الملائكةِ ولا السماواتِ ولا الكواكبِ ولا الهواءِ ولا الماءِ ولا الأرضِ ولا الآدميِّينَ ولا أبدانِهم ولا أنفسِهم ولا غيرِ ذلك ، بل يُعْلَمُ أنَّ حقيقتَه عن مُمَاثَلَةِ شيءٍ من المَوْجوداتِ أَبْعَدُ من سائرِ الحقائقِ ، وأنَّ مُمَاثَلَتُهُ لشيءٍ منها أَبْعَدُ من مُمَاثَلَةِ حقيقةِ شيءٍ من المخلوقاتِ لحقيقةِ مخلوقٍ آخَرَ، فإنَّ الحقيقتينِ إذا تَمَاثَلَتَا جازَ على كلِّ واحدةٍ ما يَجُوزُ على الأخْرَى ، ووَجَبَ لها ما يَجِبُ ، فيَلْزَمُ أن يَجُوزَ على الخالقِ القديمِ الواجبِ بنفسِه ما يَجُوزُ على الْمُحْدَثِ المخلوقِ من العَدَمِ والحاجَةِ ، وأن يَثْبُتَ لهذا ما يَثْبُتَ لذلك من الوجوبِ والفَنَاءِ ، فيكونُ الشيءُ الواحدُ واجبًا بنفسِه غيرَ واجبٍ بنفسِه مَوْجودًا معدومًا ، وذلك جَمْعٌ بينَ النقيضينِ ، وهذا مما يُعْلَمُ به بُطلانُ قولِ المشَبِّهَةِ الذين يقولون : بَصَرٌ كبَصَرِي, أو يدٌ كَيَدِي ، ونحوَ ذلك, تعالى اللهُ عن قولِهم عُلُوًّا كبيرًا) .
التوضيحُ
ثَبَتَ نَفْيُ التمثيلِ نَقْلاً وعَقْلاً :-
أمَّا نَقْلاً فكقولِه تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}.
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} .
وأمَّا عَقْلاً : فلو قُلْنَا بالتَّمَاثُلِ لَلَزِمَ أن يَجِبَ له ما يَجِبُ للمخلوقينَ ، وأن يَجُوزَ عليه ما يَجُوزُ على المخلوقينَ ، وهذا باطلٌ؛ لأنه يَلْزَمُ أن يكونَ الخالقُ القديمُ الواجبُ بنفسِه جائزًا عليه العدَمُ والحاجةُ ، ويكونَ للمخلوقِ صفةُ الوجوبِ والقِدَمِ ، فيكونُ الشيءُ الواحدُ واجبًا غيرَ واجبٍ بنفسِه قديمًا ومُحْدَثًا ، وذلك جَمْعٌ بينَ النقيضينِ, وهو مُمْتَنِعٌ ، ومِن هنا يُعْلَمُ بُطلانُ قَوْلِ المشَبِّهَةِ الذين يقولون: له بَصَرٌ كبَصَرِي ويَدٌ كيَدِي, كما سَبَقَ النقْلُ عن إسحاقَ بنِ رَاهَوَيْهِ قولُه : ( إِنَّمَا يكونُ التشبيهُ إذا قالَ يَدٌ مِثْلُ يَدِي أو سَمْعٌ مِثْلُ سَمْعِي فهذا تَشبيهٌ) .
خاتِمَةُ القاعدةِ السادسةِ
قولُه : (وليس المقصودُ هنا استيفاءَ ما يَثْبُتُ له ولا ما يُنَزَّهُ عنه واستيفاءَ طرُقِ ذلك ؛ لأنَّ هذا مبسوطٌ في غيرِ هذا الموضِعِ ، وإنما المقصودُ هنا التنبيهُ على جوامِعِ ذلك وطُرُقِه, وما سَكَتَ عنه السمْعُ نَفْيًا وإثباتًا ، ولم يكنْ في العَقْلِ ما يُثْبِتُه ولا يَنْفِيه سَكَتْنَا عنه فلا نُثْبِتُه ولا نَنْفِيه ، فنُثْبِتُ ما عَلِمْنَا ثبُوتَه ونَنْفِي ما عَلِمْنا نفيَه, ونَسْكُتُ عما لا نَعْلَمُ نَفْيَه ولا إثباتَه ، واللهُ أَعْلَمُ) .
التوضيحُ
المقصودُ بيانُ جوامعِ الكلامِ عن النفيِ والإثباتِ ، وأنَّ ما سَكَتَ عنه السمْعُ نَفْيًا وإثباتًا, ولم يكنْ في العَقْلِ ما يُثبتُه أو يَنفيهِ بالطريقةِ السابقةِ, وهي أنَّ كلَّ نافي الكمالِ فهو مُنَزَّهٌ عنه ، فإننا نَسْكُتُ عنه فنَنْفِي ما نفاه, ونُثْبِتُ ما أَثْبَتَه ، وما لم نَعْلَمْ نَفْيَه أو إثباتَه فلا نَنفيه ولا نُثْبِتُه ، واللهُ أَعْلَمُ .
خُلاصَةُ القاعدةِ السادسة
للمُتَكَلِّمِينَ طريقتانِ في التنزيهِ: الأُولى التنزيهُ بنَفْيِ التشبيهِ ، الثانيةُ التنزيهُ بنَفْيِ التجسيمِ ، وهما طريقتانِ باطلتانِ.
الطريقةُ الصحيحةُ في التنزيهِ هي:
أوَّلاً : نَفْيُ ما نَفَى اللهُ تصريحًا .
ثانيًا : نَفْيُ النقصِ والعيبِ عن اللهِ وضابطُه.
كلُّ ما يُضَادُّ الكمالَ فهو نَقْصٌ.
كلُّ ما كان من لَوازِمِ النقْصِ.
ثالثًا : نَفْيُ مُمَاثَلَةِ اللهِ لمخلوقاتِه.
نهايةُ المُتَكَلِّمِينَ هي الْحَيْرَةُ والاضطرابُ.
المَوْجوداتُ هي عينُ ماهِيَّتِها في الخارِجِ وزائدةٌ على ماهيَّتِها في الذِّهْنِ.
الوُجودُ متواطئٌ لَفْظًا ومَعْنًى .
الأحوالُ لا حقيقةَ لها في الأعيانِ .
المعدومُ شيءٌ في الذهْنِ وليس بشيءٍ في الخارِجِ, أي: شيءٌ عِلْمِيٌّ لا عَيْنِيٌّ.
المُنَاقَشَةُ
ما الفَرْقُ بينَ التمثيلِ والتشبيهِ؟
ما هي طُرُقُ التنزيهِ عندَ المُتَكَلِّمِينَ؟
اذْكُرْ شُبْهَةَ تَعَدُّدِ القُدَمَاءِ ومَن القائلينَ بها, وما الرَّدُّ عليهم؟
اذْكُر الطريقةَ الصحيحةَ في النفيِ, أي: التنزيهِ؟
اذكُرْ وُجوهَ بُطلانِ طريقةِ التنزيهِ بنفيِ التشبيهِ؟
اذكُرْ وُجوهَ بُطلانِ طريقةِ التنزيهِ بنَفْيِ التجسيمِ؟
كيف تُجيبُ على مَن زَعَمَ أنَّ إثباتَ القَدْرِ المشترَكِ يَسْتَلْزِمُ أن يَجُوزَ على اللهِ ما يَجُوزُ على المخلوقاتِ ، وأنَّهُ يَجِبُ له ما يَجِبُ لهم وأنْ يَمْتَنِعُ عليه ما عليهم ؟
اذكُرْ أَمْثِلَةً من المُتَكَلِّمِينَ الذين شَهِدُوا على أنفسِهم بالْحَيْرَةِ والاضطرابِ.
ما القولُ الحقُّ في المسائلِ التاليةِ؟
وُجودُ الربِّ عينُ ماهيَّتِه أو زائدٌ عنها؟
لفظُ الوُجودِ من قَبيلِ المشترَكِ اللفظيِّ أمْ المتواطِئِ أمْ الْمُشَكَّكِ؟
إثباتُ الأحوالِ ؟
المعدومُ شيءٌ أمْ لا ؟
وُجودُ المَوْجوداتِ عينُ ماهيَّتِها أمْ لا ؟
هل يَكفِي الاعتمادُ في النفيِ على مُجَرَّدِ عَدَمِ وُرُودِ السمْعِ ولماذا ؟
كيف تَرُدُّ على مَن سَوَّى بينَ وَصْفِ اللهِ بالنقائصِ كالْمَعِدَةِ والأمعاءِ والبُكاءِ, ووَصَفَه بالكمالِ كالوجهِ والضَّحِكِ والفَرَحِ؟ .
اذكُرْ أَدِلَّةَ نَفْيِ التمثيلِ نَقْلاً وعَقْلاً؟