القارئ: قال: أول من جمع صحاح الحديث:
فائدة: أول من اعتنى بجمع الصحيح أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري,وتلاه صاحبه وتلميذه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري,فهما أصح كتب الحديث .
والبخاري أرجح؛لأنه اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا,أن يكون الراوي قد عاصر شيخه,وثبت عنده سماعه منه,ولم يشترط مسلم الثاني,بل اكتفى بمجرد المعاصرة.
ومن ههنا ينفصل لك النزاع في ترجيح وتصحيح البخاري على مسلم,كما هو قول الجمهور,خلافا لأبي علي النيسابوري,شيخ الحاكم وطائفة من علماء المغرب,قال: ثم إن البخاري ومسلما لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث؛فإنهما قد صححا أحاديث وليست في كتابيهما,كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده,بل في السنن وغيرها.
الشيخ:هذا المبحث يتعلق بمسألتين:
المسألة الأولى: من هو أول من ألف في الصحيح المجرد.
والمسألة الثانية: في الموازنة بين الصحيحين,وما يتعلق من الكلام عنهما,ويتلوه أيضا بعض الكلام عنهما.
أما المسألة الأولى: فهي ما يتعلق بأول من ألف في الصحيح المجرد,والمقصود بالمجرد,أي: الذي لا يخالطه شيء من الضعيف,الذي عرف عنه أنه أول من ألف في الصحيح المجرد بلا منازعة هو البخاري,ثم تلاه مسلم بن الحجاج.
ولكن هناك من حاول إثارة بعض الإشكال على هذا,ولعل ذلك لعدم الرضا عن البخاري,فمغلطاي حاول أن يقطع الطريق,فزعم أن هناك من سبق البخاري في التأليف في الصحيح المجرد, زعم أن مالكا سبق البخاري, وأن الإمام أحمد سبق البخاري, وأن الدارمي سبق البخاري.
وفهم من عبارة لأبي موسى المديني اعتباره مسند الإمام أحمد مما ألف في الصحيح المجرد,فعلى هذا الاعتبار يكون سابقا للبخاري, وعلى عبارة أبي موسى المديني اتكأ مغلطاي,كما سننبه عليه,فما هي حجة مغلطاي ؟ وبماذا يرد عليه؟
مغلطاي اتكأ على عبارة للإمام الشافعي,سيأتي ذكرها,لكن لا بأس من تقديمها في هذا الموضع,وهي فيما يتعلق بموطأ الإمام مالك,جاءت عبارة عن الشافعي اختلف في نقلها على ألفاظ متعددة,لكن مؤداها تفضيل كتاب الإمام مالك الذي هو الموطأ على جميع الكتب الموجودة في عصره,فمن جملة ما قيل: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مالك.ووردت العبارة بلفظ آخر.على كل حال ليس الإشكال الآن في تحديد لفظ الشافعي؛ هل قال هكذا أو هكذا,ولكن الإشكال تفضيل الإمام الشافعي كتاب مالك على الكتب الموجودة في عصره.
هذه العبارة أمسك بها مغلطاي,وقال: هذا دليل على أن موطأ الإمام مالك من الكتب التي ألفت في الصحيح المجرد,وأنه ممن سبق البخاري في التأليف في الصحيح المجرد,فلا يسلم بدعوى أن البخاري هو أول من ألف في الصحيح.
الجواب عن هذا الإشكال,أو الدعوة التي أثارها مغلطاي سهل وميسور,إذا ما رجعنا لتاريخ وفاة الشافعي نجد أنه رحمه الله توفي في سنة أربع ومائتين,والبخاري ولد في سنة أربع وتسعين ومائة,فكم كان عمر البخاري حينما توفي الشافعي ؟ عشر سنوات.
إذن الشافعي أطلق هذه العبارة حينما كان البخاري له من العمر عشر سنوات أو أقل,فهل في هذا السن يكون البخاري قد ألف الصحيح ؟
إذن عبارة الإمام الشافعي مقيدة بعصره,ففي عصره نعم ليس هناك أصح من كتاب مالك؛لأن الكتب التي ألفت في ذلك العصر فيها الغث والسمين,أحسنها وأجودها وأنقاها هو كتاب الإمام مالك,هناك كتب متعددة كانت ألفت في ذلك العصر,مثل كتاب السنن لابن جريج,وكتاب السنن لمحمد بن إسحاق بن يسار,وكتاب السنن لهشيم بن بشير الواسطي,والسنن لعبد الله بن المبارك,والسنن لسفيان الثوري وغير هؤلاء كثير,ومصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني,وهكذا عدة مصنفات كانت موجودة في ذلك العصر.
حينما ألقى الشافعي رحمه الله عليها الضوء,وجد أن أحسنها وأجودها كتاب الموطأ للإمام مالك,وهذا قول حق, ولا ينازع فيه إطلاقا,لكن هذا لا يدل على أن الإمام مالك قصد التأليف في الصحيح المجرد,وحتى لو قصد ذلك لم يسلم له به,بناء على قواعد المحدثين؛ لأن موطأ الإمام مالك إذا ما نظرنا للأحاديث المرفوعة المتصلة السند التي فيه,وإذا بها أحاديث منها ما هو من أعلى درجات الصحيح,ومنها ما هو صحيح,ومنها ما هو محل نظر,وإن كان بعضهم تساهل كالسيوطي وكالشيخ أحمد شاكر كما ترونه في التعليق وقال: إن هذه الأحاديث المرفوعة المتصلة السند جميعها صحيحة.فهذه الدعوى قد ينازع فيها؛لأن فيها أحاديث فيها مقال, ولكنها لا تصل لدرجة الضعيف المنحط الذي لا ينجبر,بل هي محل نظر بين الناس.
لكن الكلام الآن على بقية الأحاديث الأخرى,فالإمام مالك رحمه الله عرف عنه أنه يحتج بالأحاديث المرسلة,بل كما أوضح ذلك الحافظ ابن عبد البر بأن المرسل والمتصل عند مالك سواء,فلا يفضل المتصل على المرسل.
فهذا المنهج الذي اتبعه الإمام مالك لا يسلم به أهل الحديث,هم يخالفونه في هذا,فالمرسل عندهم من أنواع الحديث الضعيف,كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
كما أن موطأ الإمام مالك اشتمل على أحاديث غير المراسيل,هي أشد انقطاعا من المراسيل,وهي ما يسمى بالبلاغات,والبلاغات عديمة الإسناد,يقول الإمام مالك: بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا,ويذكر حديثا بدون إسناد ، فهذا على أقل الأحوال يعتبر معضلا ، هذه البلاغات التي في موطأ الإمام مالك وجد بعض العلماء أن بعض الناس بدأ يعزف عن كتاب الإمام مالك؛لأجل وجود مثل هذه الأحاديث,فأخذتهم الغيرة على هذا الكتاب,فحاولوا وصل هذه البلاغات ليقولوا للناس: إن الإمام مالك حتى وإن لم يسند هذه الأحاديث فإنها أحاديث صحاح,موجودة بأسانيد مروية.
ممن تصدى لهذا الحافظ ابن عبد البر,فوصل هذه البلاغات إلا أربعة أحاديث,أعياه وصلها,بقي من هذه البلاغات التي في موطأ الإمام مالك أربعة أحاديث,جاء بعد ذلك ابن الصلاح فوصلها على حد زعمه,ولكن المطالع لهذا الوصل الذي قام به ابن الصلاح يجد أنه وصل ضعيف,ليس المقصود بالضعف ضعف السند,ولكن ضعف الطريقة؛فإنه يأتي لحديث من الأحاديث يرويه الإمام مالك بلاغا,وعجز ابن عبد البر عن وصله,فيحاول أن يأتي بحديث يشترك معه,ولو في جزئية من جزئيات معناه,لكن البون شاسع بين هذا الحديث وذاك الحديث,ونعرف من خلال فروق اللفظ وفروق المعنى أيضا,أن هذا الحديث غير ذلك الحديث,وليس المقصود ورود معنى من المعاني مشترك بين حديثين,أن يكون هذا الحديث هو ذاك الحديث بعينه الذي قصده الإمام مالك رحمه الله.
فعلى كل حال وصْل ابن الصلاح هذه الأربعة أحاديث وصل في غير محله فيما أرى,ولا يتفق مع قواعد أهل الحديث التي تكلموا عنها حينما تكلموا عن المتابع والشاهد,ولا أظن ابن عبد البر حينما ترك وصل هذه الأربعة أحاديث إلا وقد استنفذ الجهد في محاولة وصلها.
أما ما هو حكمنا على وصل ابن عبد البر لهذه الأحاديث ؟
فالحقيقة أن وصل ابن عبد البر لها أعياني طلبه,هناك من قال: إنه وصلها في التمهيد,ونص على هذا هو في آخر كتاب التمهيد,لكن حينما نظرت في كلامه ما وجدت الأحاديث مسندة,وإنما أشبه ما يكون بالتعاليق والأشياء الخفيفة,فلم أجد في كتاب التمهيد في الموضع الذي في الآخر وصل لهذه الأحاديث,إلا أن يكون في موضع آخر لم أقف عليه.
لكنني وجدت الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في أحد المواضع في تعليقه على مسند الإمام أحمد,يبين أن ابن عبد البر وصلها في تأليف مستقل,لكن لم يذكر دليله على هذا,وإنما هذه دعوى أطلقها,فهل يا ترى أخذ هذا الكلام عن إمام آخر نقله عنه ولم يبينه,أو عرف ذلك من خلال اطلاعه على المخطوطات؟ كل هذا محتمل. فالله أعلم أي ذلك كان.
على كل حال عرف عن ابن عبد البر أنه وصل هذه الأحاديث,لكن مع ذلك أيضا يبقى الحكم على وصلها,هل أسانيدها صحيحة أو فيها كلام ؟
هذا كله محتمل,ولا بد من الوقوف على تلك الأحاديث؛حتى نرى ذلك الوصل الذي قام به ابن عبد البر.
هذا بالنسبة للكلام على موطأ الإمام مالك من حيث الأحاديث المرفوعة,أما ما تضمنه موطأ الإمام مالك من الأشياء الزائدة على الأحاديث المرفوعة,فإنه تضمن على كثير من الآثار عن الصحابة,بل وآثار عن بعض التابعين,وتضمن أيضا على أقواله هو,لذلك اعتبر مثل هذا كله ينبغي أن يخرج الكتاب عن حد الصحيح؛إذ الصحيح لابد أن يركز فيه على الأحاديث المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم,وما في حكمها,كما هو صنيع البخاري رحمه الله تعالى في الأحاديث التي هي صلب الصحيح.
ولا نقصد بالأحاديث جميع ما في صحيحه,يعني: بحيث يدخل فيه المعلق لا المعلقات,البخاري رحمه الله قصد تعليقها ليخرجها عن وصف الصحة الذي اشترطه في كتابه,فلنكن متنبهين لهذا؛ لأن مغلطاي ممن أثار هذه الدعوى, قال: فإن قيل: إن في موطأ الإمام مالك الآثار المقطوعة والموقوفة,وهلم جرا,قيل: فإن في البخاري أيضا أحاديث كذلك,لكن أجيب عنه بأن البخاري لم يخرج هذه الأحاديث في صلب الصحيح,وإنما أخرجها على أنها من المعلقات,والمعلقات يأتي بها البخاري للاستئناس بها في المسائل الفقهية التي يبوب عليها,كما هو معروف.
نأتي للكلام على مسند الإمام أحمد,كما قلت: إن أبا موسى المديني رحمه الله أطلق على مسند الإمام أحمد: وصف الصحة,واحتج بعبارة وردت عن الإمام أحمد حينما قال لابنه عبد الله؛يرشده إلى كتاب المسند,ويقول: احتفظ بهذا الكتاب؛فإنه سيكون للناس إماما.أو نحو هذه المقولة,ثم قال.. وأظن ذلك جاء على صفة جواب على سؤال وجه إليه,حينما وجه له سؤال عن حديث من الأحاديث قال: انظر فإن كان في كتاب المسند,وإلا فليس بحجة.
المهم عندنا هذه العبارة التي جاءت عن الإمام أحمد: إن كان في كتاب المسند وإلا فليس بحجة.أمسكها أبو موسى المديني,وفهم منها أن مقصود الإمام أحمد أن جميع ما في مسنده محتج به,والمحتج به دائر بين الصحيح والحسن,وبعض العلماء القدامى لم يكونوا يفرقون بين الصحيح والحسن.
إذن كل ذلك داخل في دائرة الاحتجاج؛إذن وصف الصحة يمكن أن يطلق على مسند الإمام أحمد,هذه الدعوى التي تساهل في إطلاقها أبو موسى المديني اتكأ عليها مغلطاي,وعض عليها بناجذيه,وادعى أن الإمام أحمد سبق البخاري في التأليف في الصحيح المجرد.
والحقيقة أن نسبة هذا الكلام للإمام أحمد,أي: أنه قصد أن جميع ما في كتابه محتج به,هذه النسبة لا تصح,ولا يؤدي مفهوم هذه العبارة ما أراده مغلطاي,ولا ما فهمه أبو موسى المديني.
ولعلي أقرب لكم مفهوم هذه العبارة بالمثال الآتي: لو كان عندي مكتبة تتضمن العديد من الكتب في شتى الفنون؛في التفسير,في الحديث,في العقيدة ، في الفقه,في اللغة,في الأدب,في التاريخ ، في الرجال ، وهكذا في سائر الفنون,ولكنني عنيت بالكتب الحديثية,فلا يكاد يغادرني منها كتاب,وأما ما سواها من الكتب فأنا حريص على جمعها,ولكن قد يفوتني منها أشياء.
إذا ما وجه إلي سؤال عن كتاب في الكتب الحديثية,وقلت للسائل: انظر فإن كان في مكتبتي,وإلا لم يطبع؛لأنني عنيت بجمع المطبوع من الكتب الحديثية,فلا يكاد يغادرني منها كتاب,انظر فإن كان في مكتبتي وإلا فلم يطبع.
هل هذا الكلام يدل على أنه ما من كتاب مطبوع في أي فن من الفنون إلا ويوجد في مكتبتي؟ لا يؤدي كلامي هذا المفهوم.
كذلك أيضا كلام الإمام أحمد حينما يقول: انظر,فإن كان في كتابي المسند,وإلا فليس بحجة.
الإمام أحمد رحمه الله قصد جمع الأحاديث المحتج بها بالدرجة الأولى,كما قصدت جمع الكتب التي تتعلق بالحديث,سيان الأمر,ولكنه لم يقصد أن جميع ما في كتابه محتج به؛ لأنه بالدرجة الأولى جمع الأحاديث المحتج بها,وجمع معها ما ليس محتجا به من أحاديث فيها ضعف.
فالأحاديث التي فيها ضعف يمكن من باب تقريب المثال فقط,يمكن أن ننزلها منزلة الكتب التي في الفنون الأخرى.
فبهذا المثال يتبين أن مقصود الإمام أحمد من هذه العبارة,أنه جمع الأحاديث المحتج بها,ولكن ليس كل ما في كتابه محتج به,فرق بين العبارتين.
وهذا أيضا بحسب فهمه,فهل يسلم له يا ترى بأنه جمع جميع الأحاديث المحتج بها ؟
أنا حينما أقول: إنني جمعت جميع الكتب الحديثية,قد يفوتني منها بعض الكتب, ولكن في حد زعمي أنه لم يفتني شيء,ولكن يمكن أن يعترض علي معترض فيقول: بلى,هذا الكتاب الفلاني فاتك؛ ففوق كل ذي علم عليم.
ولذلك الإمام أحمد رحمه الله فاته بعض الأحاديث التي تعتبر من أصح الصحيح,ولم يخرجها في كتابه,مثل حديث أم زرع,ولعلكم تعرفون حديث أم زرع؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم.. وهذا الحديث في صحيح البخاري, النبي عليه الصلاة والسلام قال لعائشة: (( كنت لك كأبي زرع لأم زرع )).وحديث أم زرع حديث طويل تذكر عائشة رضي الله عنها أن عشرا.. أو إحدى عشرة من النساء اجتمعن,فأصبحت كل امرأة تذكر بعض الصفات عن بعلها,ومن جملتهن امرأة يقال لها: أم زرع,تصف أبا زرع بأنه طلقها وذهب وتركها,وتتحسر وتتندم عليه,مما يدل على مكانته في نفسها,فيقول النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة: (( كنت لك كأبي زرع لأم زرع )).
هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه,ولكنه لا يوجد في مسند الإمام أحمد,فاته هذا,وفاته أيضا شيء كثير,كما نبه عليه الحافظ ابن كثير فيما سيأتي من عبارته,وهو من أدرى الناس وأعلمهم بمسند الإمام أحمد؛لأنه رحمه الله كان يحفظ المسند جميعه,وحفظه للمسند أفاده جدا في معرفة الأحاديث الأخرى؛ لأن الأحاديث التي في الكتب الستة في معظمها موجودة في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
إذن عرفنا أن هذه العبارة من الإمام أحمد لا تؤدي هذا المفهوم الذي أراده أبو موسى المديني,أو أراده مغلطاي,فلا يفهم من: انظر فإن كان من كتابي,وإلا فليس بحجة.أن جميع ما في كتابه حجة,أي: محتج به.
أما بالنسبة لسنن الدارمي,أو مسند الدارمي, فالدارمي معاصر للبخاري,وهو قرين البخاري,فلا يمكن بحال من الأحوال أن نقول: إن الدارمي سبق البخاري في التأليف,هذه الدعوى تحتاج إلى إقامة دليل,وهيهات لمغلطاي أن يقيم الدليل.
إذن ما دام أنه عاجز عن إقامة الدليل,فلننظر أيضا في دعواه هذه,من أين فهم أن سنن الدارمي تعتبر من الكتب التي ألفت في الصحيح المجرد ؟ الحافظ ابن حجر يشير إلى أنه بعد التتبع وجد نسخة من نسخ سنن الدارمي,أو مسند الدارمي؛لأن التسمية واردة بالسنن والمسند,نسخة من هذا الكتاب وجد عليها بخط الحافظ المنذري تسمية سنن الدارمي بالجامع الصحيح,فأمسك بها مغلطاي وأطلق هذه الدعوى العريضة.
والدارمي متوفى سنة مائتين وخمسة وخمسين للهجرة,والبخاري متوفى في سنة مائتين وستة وخمسين للهجرة,فهما قرينان,الفرق بين وفاتيهما سنة,وهذا لا يشكل فرقا كبيرا؛ فقد يكون البخاري ألف قبل الدارمي.
على كل حال هذه العبارة التي وجدت بخط المنذري أولا: هل تصح نسبتها للمنذري؟ ثم لو صحت هل يسلم له بها ؟
بين الحافظ ابن حجر رحمه الله,أن هذه العبارة ليست للمنذري؛ وإنما هي بخط رجل يقال له: أبو الحسن الحصني,خطه يشبه خط الحافظ المنذري,وهو الذي كتبها على غلاف هذه النسخة,وأبو الحسن الحصني ليس ممن يعتد بقوله ويعتمد عليه في مثل هذا المقام.
ثم لو صحت عن المنذري,على فرض ذلك,فإنه لا يسلم للمنذري بذلك؛ لأن المطالع في كتاب الدارمي يجد فيه أحاديث لا تصح ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, بالإضافة لأحاديث فيها انقطاع,وفيها إرسال,وآثار كثيرة عن الصحابة,فلا يليق بمثل هذا الكتاب أن يطلق عليه وصف الصحة.
فانتفى بهذا ما أراده مغلطاي من قطع الطريق على البخاري للحظوة بهذا الشرف الذي تميز به,وهو أنه رحمه الله فعلا حظي بهذه المكانة,وهي أنه: أول من ألف في الصحيح المجرد.
ولعلكم تعرفون قصة تأليفه لهذا الكتاب؛بسبب الرؤيا التي رآها,وبسبب ما سمعه من شيخه إسحاق بن راهويه حينما تمنى أن يكون هناك من يؤلف في صحيح حديث النبي صلى الله عليه وسلم ,فنشط البخاري رحمه الله لهذا أيما نشاط,ونحسبه إن شاء الله أنه صاحبه ما صاحبه من الإخلاص الذي تدل عليه مكانة هذا الكتاب في نفوس المسلمين قاطبة.
تلى البخاري تلميذه أبو الحجاج,مسلم بن الحجاج النيسابوري,أو أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوي,رحمه الله تعالى,وهذا أمر أيضا مسلم به؛فهو الذي تلا البخاري في التأليف في الصحيح المجرد.
لكن هناك دعوى أثيرت وهي لا تشكل عبئا كبيرا,هذه الدعوى هي الموازنة بين الصحيحين,أيهما أصح؟ وأيهما أحسن: صحيح البخاري أو صحيح مسلم؟
تجدون الحافظ ابن كثير رحمه الله أشار إلى من أثار هذه الدعوى,فقرر أن كتاب البخاري مقدم على كتاب مسلم عند الجمهور,خلافا لأبي علي النيسابوري,الذي هو شيخ الحاكم,وخلافا لبعض المغاربة ، المغاربة ممن انتشر بينهم كتاب مسلم,وانتشرت رواياته,وعنوا به أشد من عنايتهم بصحيح البخاري,ولعل هناك من أطلق منهم عبارة تفيد تفضيله لصحيح مسلم على صحيح البخاري,ومن ذلك عبارة جاءت لابن حزم صاحب كتاب (المحلى)؛ فإنه فضل كتاب مسلم,ثم أردف ذلك بقوله: لأنه ليس فيه بعد المقدمة إلا الحديث السرد,أو لأنه ليس فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد.
ما مقصوده بالحديث السرد؟
يقول: إن البخاري يعنون للأبواب بعناوين,ويورد في ثنايا تلك العناوين أحاديث معلقة,وآثارا وأقوالا لأناس, وأقوالا له أيضا ، ثم بعد ذلك يأتي بالأحاديث المسندة,فأما مسلم بن الحجاج فإنه بعد المقدمة شرع في الأحاديث,فلم يفصل بين الأحاديث بفاصل,لا من كلام إمام ولا من كلام تابعي,ولا من كلام صحابي,ولا أحاديث ليست على شرطه ، وإنما كل ما جاء به من الأحاديث فكلها على شرطه,فليس فيه بعد المقدمة إلا الحديث السرد ، يقصد سرد الحديث كله وراء بعض.
إذن تفضيل ابن حزم لكتاب مسلم جاء من ناحية الصناعة الحديثية,من حيث جودة الترتيب,وجمع طرق الحديث في مكان معين,وإبعاد الآثار وأقوال العلماء والمعلقات عن الكتاب ، لكنه لم يفضل هذا الكتاب على ذلك الكتاب من حيث الأصحية,لم يقل: إن الأحاديث التى في صحيح مسلم أصح من الأحاديث التي في صحيح البخاري,ما قال هذا ابن حزم,أما أبو علي النيسابوري فإنه وردت عنه عبارة أنه قال: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم.فهذه العبارة التي أطلقها أبو علي النيسابوري وما ذكر عن بعض هؤلاء المغاربة,ومن جملتهم ابن حزم ، لابد من فهمها الفهم الصحيح.
ثم على فرض أنهم قصدوا ذلك فهل يسلم لهم بهذا ؟
أما ابن حزم فبين ما المراد من كلامه,وأن كلامه لايدل على تفضيله صحيح مسلم من حيث الأصحية,وأما من حيث بعض الجوانب الحديثية,فهذا يمكن,وسنشير إليه إن شاء الله تعالى ، إن كان هناك بعض المغاربة أطلق الأصحية فلا يسلم له بهذا؛ لأن واقع الكتابين ينفي هذه الدعوى,كما سنبينه أيضا إن شاء الله.
أما كلام أبي علي النيسابوري فإنه حينما قال: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم. هذه العبارة قد تدل على أنه لا يرى لصحيح البخاري ميزة على صحيح مسلم من حيث الأصحية, لكنه لم يقل: إن صحيح مسلمأصح من صحيح البخاري,إنما نفى أن يكون هناك كتاب يفوق صحيح مسلم,وفرق بين العبارتين,فرق بين أن يقول: ليس هناك أصح من صحيح مسلم,وفرق بين أن يقول: إن صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري ، ما قال أبو علي النيسابوري: إن صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري,ولكنه نفى أن يكون صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم.
ثم على فرض أنه قصد أن صحيح مسلم أصح,أو قصد العبارة الأخرى,أن صحيح البخاري ليس أصح من صحيح مسلم,فلا يسلم لأبي علي النيسابوري بهذا الكلام؛لأن واقع الكتابين ينفي هذه الدعوى ، فمن نظر في الكتابين وجد جوانب التفضيل من حيث الأصحية لصحيح البخاري ترجح وتربو على كتاب مسلم.
أما مع مراعاة بعض المعاني الأخر فنعم,قد يكون هناك جوانب لتفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري,لا من حيث الأصحية ، دعونا الآن ننبه على مسألة الأصحية: لماذا قلنا: إن صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم,وهذا لا ينبغي أن يكون فيه منازعة؛ لأن الدليل قائم على رد الدعوى التي تشكك في مثل هذا الكلام.
إذا ما نظرنا للأحاديث التي انتقدت على الصحيحين من قبل بعض الحفاظ,كالدارقطني وغيره,نجد أن مجموعها مائتان وعشرون حديثا,هذا مجموع الأحاديث التي انتقدت على البخاري ومسلم في صحيحيهما ، منها مائة وعشرة أحاديث اتفقا على إخراجها,فهذه لا نشغل أنفسنا بالكلام فيها.
ولكن لننظر في المائة والعشرة الباقية,هناك مائة وعشرة أحاديث انتقد على البخاري منها اثنان وثلاثون حديثا فقط,وثمانية وسبعون حديثا انتقدت على مسلم,فأيهما أكثر؟
الأحاديث المنتقدة على مسلم أكثر من الأحاديث المنتقدة على البخاري,وهذا دليل أول على أن صحيح مسلم أقل من حيث الأصحية من صحيح البخاري,أقل مكانة وأنزل مكانة.
الأمر الآخر: إذا ما نظرنا للرجال المتكلم فيهم من رجال البخاري ورجال مسلم,نجد أن عدد الرجال المتكلم فيها من رجال البخاري أقل بكثير من عدد الرجال المتكلم فيهم عند مسلم؛فعدد الرجال المتكلم فيهم من رجال البخاري يربو على الأربعمائة قليلا,أما عدد الرجال المتكلم فيهم عند مسلم فأكثر من ستمائة راو ، وكون الإمام يجتنب الإخراج للرجال المتكلم فيهم,هذا يدل على نقاوة تلك الأحاديث التي يخرجها من طريق الرواة الذين لم يتكلم فيهم,وكونه يخرج لعدد أكبر ممن تكلم فيهم هذا يدل على وجود بعض الدعاوى التي تقدح في صحة بعض الأحاديث التي يخرجها في صحيحه,هذه مسألة أخرى.
أمر آخر:إذا ما ألقينا الضوء على هؤلاء الرواة الذين تكلم فيهم عند البخاري,والرواة الذين تكلم فيهم عند مسلم ، نجد البون شاسعا بين هؤلاء وهؤلاء؛ فالرواة الذين تكلم فيهم عند البخاري لا يكاد البخاري يخرج للواحد منهم إلا الحديث والحديثين,فلا يكثر من تخريج أحاديثهما,مثل خالد بن مخلد القطواني الذي تكلم فيه,أخرج له البخاري حديث الولاية المشهور: (( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب )).ما أخرج له إلا هذا الحديث.
أما الرجال الذين تكلم فيهم عند مسلم,فإن مسلما يخرج لهم الكثير من الأحاديث,بل يخرج لبعضهم صحفا بأكملها.
ففرق بين صنيع البخاري وفرق بين صنيع مسلم, فسيكون إذن عدد الأحاديث التي يتكلم فيها عند مسلم بسبب الكلام في هؤلاء الرواة أكثر من عدد الأحاديث التي يتكلم فيها عند البخاري,وهذا مرجح آخر.
ننظر في أمر آخر: وهو أن الرجال الذين تكلم فيهم أيضا عند البخاري,تختلف طريقة البخاري في إخراج أحاديثهم,عن طريقة مسلم في إخراجه للرجال الذين تكلم فيهم عنده,كيف؟
هؤلاء الرواة,الذين تكلم فيهم من رجال البخاري,كثير منهم من شيوخه,الذين لازمهم,وسبر أحاديثهم,وميز صحيحها من سقيمها,وعرف ما يمكن أن يخطئ فيه شيخه,وما لا يمكن, وما يمكن أن يتقى من حديث شيخه,وما لا يمكن,فانتقى من أحاديث هؤلاء الشيوخ ما تأكد لديه صحته,بخلاف مسلم؛فإنه يخرج عن أناس متقدمين,ليسوا من شيوخه,أي:من الذين تكلم فيهم.
فهذه الأمور بالنسبة للرجال وغيرها أيضا كثير,راجعوا إن شئتم كلام الحافظ ابن حجر عنها في كتاب (النكت)؛فإنه أطال النفس في هذه المسألة,هذه الأمور وغيرها كلها تدعونا للقول بأن صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم,هذا مع مراعاة الأمر الذي اشتهر عنهما,وهو مسألة اتصال السند,وهي من أقوى الأدلة على تفضيل صحيح البخاري على صحيح مسلم من حيث الأصحية.
عرف عن البخاري رحمه الله,أنه في مسألة الاتصال بين الروايتين يشترط اللقاء بين الراوي وشيخه,ولو مرة,أما مسلم فيكتفي بالمعاصرة,لذلك تكلم في بعض الأحاديث التي عند مسلم من الأحاديث التي لم يتحقق اللقاء بين الراوي وبين شيخه,بينما البخاري رحمه الله حينما يتأكد لديه أن هذا الراوي قد لقي شيخه,ولو مرة,معنى ذلك أن احتمال وجود الاتصال قوي جدا.
لذلك اعتبر شرط البخاري أقوى من شرط مسلم من حيث الاتصال,ولا يهولنكم ما يثيره بعض الناس من أن شرط مسلم في الاتصال هو قول الجمهور,هذا ليس بصحيح,بل قول الجمهور هو الذي ذهب إليه البخاري,ومن أنه لابد من تحقق اللقاء ولو مرة ، هذا مع أن هناك من اشترط شروطا زائدة عن هذا ولكنها شروط فيها شيء من التشدد ، لذلك أوسط الأمور هو ما ذهب إليه البخاري من اشتراط اللقاء ولو مرة.
فإذن شرط البخاري من حيث الاتصال أقوى من شرط مسلم,وبسبب شرط مسلم هذا تكلم في بعض الأحاديث التي عنده مثل حديث.. أول حديث في كتاب الطهارة,وهو حديث أبي مالك الأشعري,ويرويه عنه أبو سلام,أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( الطهور شطر الإيمان...)) إلى آخر الحديث,هذا الحديث تبين أن أبا سلام هذا لم يسمعه من أبي مالك الأشعري,وإنما بينهما انقطاع ، حصل الخلل لمسلم في إخراجه لهذا الحديث,بسبب ماذا ؟
بسبب أنه تساهل في شرط الاتصال,فاكتفى بالمعاصرة من وجهة نظره ، ومع هذا لا نقول: إن هذا الحديث ضعيف,ولكن الصواب أن بين أبي سلام وبين أبي مالك الأشعري واسطة,وهذه الواسطة هي عبد الرحمن بن غنم الأشعري,وقد نبه على هذا الدارقطني رحمه الله في انتقاداته على مسلم,فالحديث من حيث الصحة صحيح,ولكن ليس بالطريقة التي أخرجها مسلم,وإنما بطريقة أخرى,أي: من طرق أخرى.
هذا من حيث التفضيل بين الكتابين,أما المسألة الأخرى وهي هل اشترطا البخاري ومسلم, أو التزما إخراج جميع الحديث الصحيح,أو لم يلتزما ذلك؟
الحقيقة أن البخاري ومسلم حينما ألفا هذين الكتابين,إنما ألفاها اختصارا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه,ولم يقصدا إخراج جميع الحديث الصحيح,ولم يلتزما ذلك.
وقد جاءت عنهما بعض العبارات التي تدل على هذا المراد.
أما بالنسبة للبخاري فإنه مرة استلقى على قفاه,وقال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح,ومائتي ألف حديث غير صحيح. فحينما قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح كما عدد الأحاديث التي أخرجها ، هل تصل إلى هذا العدد ؟
الجواب: لا,كما سيأتي التنبيه عليه معنا؛ لأن عدد أحاديثه بغير المكرر ألفان وستمائة واثنان ، وبالمكرر تسع آلاف واثنان وثمانين ، وهناك اختلاف في عدد الأحاديث,لكن لعل هذا هو الراجح كما ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح,وأما بالنسبة لهذا العدد مائة ألف حديث صحيح,فحتى بالمكرر لا يصل عدد أحاديث صحيح البخاري إلى هذا العدد ولا يقاربه ولا يدانيه,فأين ذهبت إذن هذه الأعداد التي ذكرها البخاري ؟
إذن هو يصحح أحاديث لم يخرجها في صحيحه,فلم يلتزم إخراج جميع الحديث الصحيح,يدل على ذلك أيضا أنه وردت عنه عبارة: لعلي أنسيتها.مؤداها أنه لم يقصد أو لم يلتزم بإخراج جميع الحديث الصحيح في كتابه.
أما بالنسبة لمسلم فإنه في آخر كتاب الصلاة سئل عن حديث أبي هريرة,أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا قرأ الإمام فأنصتوا )) فقال: هو عندي حديث صحيح.فقيل له: لِمَ لم تخرجه ههنا,أو لِمَ لم تخرجه في صحيحك ؟
فقال: ليس كل حديث عندي صحيح أخرجته ههنا,وإنما أخرجت ههنا ما أجمعوا عليه.
فإذن هو يصحح أحاديث لم يخرجها في صحيحه,ولم يلتزم بإخراج جميع الأحاديث التي يراها صحيحة.
ويدل على هذا أيضا أن الترمذي,وهو تلميذ البخاري,ينقل كثيرا عن البخاري تصحيحه لأحاديث لا نجدها مخرجة في صحيحه.
تمت مراجعته وتهذيبه بواسطة ام العنان