رسالة تفسيرية بالأسلوب البياني لقوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}
بسم الله و الحمد لله و لا حول و لا قوة إلا بالله
جاءت هذه الآيات ردًا على شبهة ضعاف الإيمان والمنافقين، الذين ادعوا أن من مات و قتل لو لم يسير للقتال ما قتل.
قال تعالى( ..ثمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ..)
و قال تعالى(.. يَٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزّٗى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسۡرَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ (156)
هذه الشبهة التي نمت في قلوبهم؛ لضعف إيمان المؤمنين منهم و لتسلط الشيطان عليهم، بما كسبت أيديهم، و لخبث ما في نفوس المنافقين ، أراد الله أن يرُدها تثبيتًا للمؤمنين، و تسليةً لهم، و رفعًا لهمة من ضعف إيمانه، و فترت همته في سبيل الله، و تسربت لقلبه الشكوك، رحمة منه و عناية خاصة بعباده المؤمنين، هذه العناية التي تورث في القلب محبة الله فيقبل على طاعته معظمًا لأمره، راجيًا ثوابه، خائفًا من فواته و من أن يناله سخط الله و غضبه.
قال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}
قررت هذه الآيات أن الموت واقع و لا بد،قتلتم في سبيل الله، أو متم أو قتلتم و متم بأي سبب آخر، و ذلك تأكيدًا لما جاء في الآية التي سبقتها؛ قال تعالى(قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ ..)
كما بينت هذه الآيات خيرية القتل و الموت في سبيل الله، و ذلك تثبيتا للمؤمنين و ترغيبا لهم بما عند الله، و و بما في قلوبهم من إيمان بكلام الله يُرزقون يقينًا يزهدون به في المتاع القليل؛ الدنيا الفانية التي أقعدت غيرهم من ضعاف الإيمان و المنافقين و الكافرين، و أثقلتهم إلى الأرض، و جاء ذلك في نظم بليغ البيان، دقيق المعاني، يغدو بالقلب في رحلة من أعمال القلوب يزداد بها إيمانًا، و من خلال هذه الرسالة القصيرة أبين بعض ما ظهر لي من عظيم بلاغة القرآن، نبدأ و بالله نستعين:
بدايةً: ناسب الأسلوب الخبري الإنكاري مقصد الآيات الذي ذكرناه، كما ناسب حال المخاطبين من المؤمنين الذين شاب قلوبهم تردد بما بثه المنافقين من شبهة؛ فقد جاءت الآيات بأسلوب خبري به عدد من أساليب التوكيد و أدواته؛ من قسم، و إسلوب الشرط بإن المؤكدة، و التعبير بالجملة الإسمية،كل ذلك مما يثمر اليقين بالخبر، الذي هو بيان حقيقة الموت و الحياة، و ثمرة الموت و القتل في سبيل الله.
كما ناسب هذا الأسلوب التوبيخ و التهديد و الوعيد المكذبين المنافقين منهم.
- و بتفصيل أكثر نجد أن كل أداة و أسلوب في الآية أفاد منفردًا معنًا، ففي قوله تعالى(ولئن قتلتم في سبيل اللّه أو متّم)، فالقسم الذي أتى هنا مع - إن- الشرطية- أفاد تحقيق حصول الجواب عند حصول الشرط، فيكون المعنى إذا حقق الشرط و هو القتل و الموت في سبيل الله، نال الوعد و هو جزاء الشرط المغفرة و الرحمة.
- و كذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لِإِلَى اللَّه تُحْشَرُونَ﴾ يتحقق الحشر إلى الله تعالى بتحقق الموت أو القتل، ولما كان ذلك مجهول الزمن جاءت- إن- الشرطية لتناسب الندرة مع الجهل بالزمن و لتناسب ما دلت عليه الآية من المعنى المقطوع بحصوله والمتحقق .
- و قد حذف جواب الجزاء للاستغناء بجواب القسم في قوله: (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ) و هذا لأن القسم له صدر الكلام، و أفاد هنا الجواب وعدًا خرج مخرج الخبر و المعنى( لَيَغْفِرَنَّ لَكُمْ)، و لأن ( وعد الله حق و من اصدق من الله قيلًا)، تجعل هذه الآية قلب العبد ممتلئ بالرجاء و محبة الله عز و جل، فيحدث مقصود الآية في الحث على الإقبال على الجهاد.
- كما أن التعبير بالجملة الإسمية (لمغفرةٌ من الله ورحمة خير مما يجمعون) دلالة على أن الأمر واقع و لا بد، و الحكم ثابت لا يتغير .
- و من بلاغة البيان في الآية أيضًا ؛ الجمع بين القتل و الموت ، فظاهر الأمر ان هناك ترادف، و لكن بالرجوع لمعاجم اللغة، نجد أن القتل : هو زهوق الروح بتسبُب ؛يفعل فيه فعل يضر به بأي آلة تؤدي إلى أن يموت ، و بناء الفعل لمن لم يسمى فاعله: قتلتم: أفاد عموم من تسبب في القتل.، أما الموت، فهو حَتْفَ الأنْفِ وأنْتُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ فِعْلًا أوْ نِيَّةً، من غير جناية، من غير تسبُب، أو مُباشرة، و عدم ذكر سبب الموت دل على الموت بأي سبب في سبيل الله.
- و تقييد القتل ب( فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عُرف منه أن المراد به هو الجِهادِ، و ذلك لأنها مطلقة، و مما يدل على ذلك ما عند أبي داود، أن أعرابيًّا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليُحْمَد، ويقاتل ليغنَم، ويقاتل ليُرَى مكانُه؛ فمَن في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
- و في الآيتين فن منتظم في باب التقديم والتأخير، فالقرآن غاية الدقة لا يقدم لفظا ولا يؤخره إلا لعلة، لتناسب كل كلمة سياقها المراد منها، نورد بعض ما قد يكون حكمة من التقديم و التاخير، مما ذكره المفسرين و أهل اللغة و مما تبين ، و الله أعلم:
- قدم القتل في قوله تعالى: ولئن قتلتم لأنه ابتداء إخبار، و سياق الكلام في الحديث عن الجهاد في سبيل الله للتحريضٍ عليه؛ فقدم لأنه الأشرف و الأهم و الأكمل، و دل على ذلك قوله تعالى (لمغفرة من الله ورحمة) فهذا جزاء الشهيد ومن مات في سبيل الله، و القتل في سبيل الله أعظم ثوابًا عند الله، فتَرتُب المغفرة و الرحمة عليه أقوى، كذلك مظنة القتل في الجهاد حاضرة، و هو الأغلب في حال المجاهدين فالآية نزلت في غزوة أحد ، وقد أصاب المسلمين ما أصابهم من المشقة والاستشهاد في سبيل الله .
و مِن حسن تقديم القتل عن الموت و تأخيره في الآيتين ؛ جعل القتل مبدأ الكلام و عوده، ذلك رَدِّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ ، فقدم في الأولى و أخر في الثانية، كما أن ذلك قد يكون ذلك من باب التنويع.
- و تقديم الموت في قوله تعالى: ولئن متّم أو قتلتم ، ناسب مقصد الآية في الوعظ بالآخرة و التذكير بالحساب ، كما أنها آية تزهيد في الدنيا والحياة، والموت المذكور فيها غير مقيد؛ فهو موت على الإطلاق سواء كان في السبيل أو في المنزل وكيف كان، فقدم لعمومه، وأنه الأغلب في الناس من القتل.
- و في قوله تعالى ( في سبيل الله)، الذي هو الجهاد ، حمل التعبير هنا بحرف الجر (في) القصد و النية ،التي هي لله ،كما أن فيه تصوير لمن انطلق للجهاد مخلصا قصده ومطلبه بأنه إنما سائر في سبيل الله، كما حمل حرف الجر (في ) معنى الانغماس في الشيء حتى يحيط به فيكون معنى الإحاطة حاضرًا، فهو سائر في سبيل الله محاطًا بمعية الله، و عنايته، ومن كان كذلك فإن قلبه غارق في الطمأنينة، و السكينة.
- و مما قيل في اصطفاء كلمة " سبيل" إيماء إلى أنَّ فيه امتدادًا وسهولة، وفي هذا إيماء إلى أن سبيل الله إلى الجنة ممدود لا يتناهى يتفاوت العباد في اجتيازه، وهذا فيه حثٌ على أن يسعى العبد سعيها، كما أن السبيل منبثق من الطريق الواسع، و الطرق المتفرعة سبل، فكأنما الجهاد واحد من سبل الله تعالى التي يسير فيها العبد و سبل الله كثيرة، فكل عمل صالح (أي أريد به وجه الله تعالى ووافق الشرع) فاعله سائر في سبيل الله تعالى.
- و في إضافة السبيل لله دون باقي الأسماء: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾،المقام مقام عبودية، يراد فيه تذليل للقلوب لله: فتخضع لأمره و تستسلم، فهو المألوه الذي إذا أمر اطيع، و هنا موضع طاعة لله لأمر يشق على النفوس، فيذكرهم الله بمن يعبدون، ليعظموا الأمر، و يستسلموا له، و يخلصوا النية.
- و بمفهوم المخالفة إن لم يكن في سبيل الله ؛فلن يكون هناك مغفرة و لا رحمة، و إن لم يكن في سبيل الله فهو في سبيل الطاغوت و سبيل الشيطان، ففيها دعوة لتخليص القلب من عبودية غير الله، و التعلق بالدنيا و زينتها؛ تعلق المنافقين و الكافرين.
و ذلك كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ ٧٦ النساء.
و في الأثر: رأى شابًّا قويًّا يسرع إلى عمله، فقال بعضهم: "لو كان هذا في سبيل الله" فرد عليهم النبي صلى الله عليه و سلم: "لا تقولوا هذا، فإنه إن كان خرج يسعى على ولد له صغارًا فهو في سبيل الله، وإذا كان يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"،
- و قيد القتل في سبيل الله ،و لم يكرر مع الموت و حذف، و ذلك لدلالة الكلام عليه و دفعًا للتكرارِ ، و للملل و للإيجاز .
- و معنى المغفرة في قوله ( لمغفرة) يسترَ الله عى العبد ذنوبه و لا يفضحه، و كان الوعد بالمغفرة لا العفو و الله أعلم ؛لأن الوعد بالمغفرة أعظم من الوعد بالعفو، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الْعَفْوُ مُتَضَمِّنٌ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ قِبَلِهِمْ وَمُسَامَحَتِهِمْ بِهِ، وَالْمَغْفِرَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِوِقَايَتِهِمْ شَرَّ ذُنُوبِهِمْ، وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِمْ، وَرِضَاهُ عَنْهُمْ؛ بِخِلَافِ الْعَفْوِ الْمُجَرَّدِ؛ فَإِنَّ الْعَافِيَ قَدْ يَعْفُو ، وَلَا يُقْبِلُ عَلَى مَنْ عَفَا عَنْهُ ، وَلَا يَرْضَى عَنْهُ ، َالْعَفْوُ تَرْكٌ مَحْضٌ، وَالْمَغْفِرَةُ إحْسَانٌ وَفَضْلٌ وَجُودٌ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (14/ 140).
- أما الرحمة: فهي إنعامٌ من الله، وكرم منه في زيادة الحسنات، والصَّفْح عن السيئات، وذلك بتثقيل ميزاننا مع إفلاسنا.
- ذكر الوعد بالمغفرة و لحقها وعد بالرحمة، و المغفرة هي من رحمة الله ، و خصت بالذكر هنا و الله أعلم؛ لأن من أسباب خوف العبد من الموت ذنوبه، و أن يحاسب على معاصيه، فكان ذلك مما يدفع العبد للسير في سبيل الله طلبًا لهذه المغفرة.
- و أيضًا -والله تعالى أعلم- لأن بالمغفرة يمحو الله الذنوب و يستر عبده فهي من باب التخلية، وبالرحمة يدخل الجنة ، فهي من باب التحلية، فالتخلية تسبق التحلية،و بالمغفرة يزول المكروه، وبالرحمة يحصل المطلوب، و في هذا كمال السعادة للعبد.
- و لمزيد تحريض للإقبال على الجهاد و هو عبادة يسير فيها العبد بجناحي الخوف و الرجاء، فجاء الوعد بالمغفرة ليتعبدوا الله بالخوف من العقاب، و تذكيرًا لحاجتهم لهذه المغفرة، و في وعد بالرحمة إعلاء للرجاء في قلوبهم.
- حذف متعلق المغفرة و تنكيرها مع التَّنْوِينُ أفاد أنها مغفرة عظيمة حتى لما قل من الذنوب، و رحمة عظيمة تناسب الله المعبود الكامل الأسماء و الصفات المستحق للعبودية و الطاعة مالك الملك الرحمن الرحيم، كما أن في التنكير ( لمغفرة من الله و رحمة خير) إشارة بليغة إلى أن أيسر جزء منها خير من الدنيا، وأنه كاف في فوز العبد المؤمن.
- و في قوله تعالى (من الله) الجار و المجرو أفاد الحصر، هذه المغفرة من الله لا من غيره ، فأطيعوه.
- (لمغفرة من الله و رحمة) تضمّن هذا أنّ القتل في سبيل اللّه، والموت أيضًا، وسيلةٌ إلى نيل رحمة اللّه وعفوه ورضوانه، و قد ذكر هذا الوعد في آيات أخرى، كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين)-سورة الصف آية 40،31-
- و قال تعالى(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٢١٨ البقرة﴾
- وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿74 الأنفال﴾
- و في تأكيد الخبر باسمية الجملة، واللام ما يدل على ثبوت الأمر و تحققه، و يقذف اليقين في الفلب قذفًا، و يكون تأويل الكلام: ولئن قتلتم في سبيل اللّه أو متّم، ليغفرنّ اللّه لكم وليرحمنّكم، مغفرة و رحمة ثابتة الحكم لمن حقق الشرط.
- و في اظهار ما حقه التقدير: مغفرة من الله و ليس مغفرة منه و قد ذكر اسم الله أولا: و هذا فيه معنى التعظيم كما يحمل معنى زيادة التقرير والتوكيد.
و في بيان الخيرية بلفظ خير (خير مما يجمعون) دون غيره من الألفاظ فضلٌ بينه ابن رجب فقال: والذي ظهر لي في الفرق بين " خير " أن لفظ " أفضل " إنما تستعمل في شيئين اشتركا في غير فضل، وامتاز أحدهما عن الآخر بفضل اختص به، فهذا الممتاز قد شارك ذاك في الفضل واختص عنه بفضل زائد فهو ذاك. وأما لفظه " خير " فتستعمل في شيئين: في كل منهما نوع من الخير أرجح مما في الآخر سواء كان لزيادة عليه في ذاته أو في نفعه أو غير ذلك، وإن اختلف جنساهما فترجيح أحدهما على الآخر يكون بلفظة خير،
و ناسب ذلك نسبة الخيرية لما يجمعه الكفار ، فهو خير من حيث أنه كونه حلال في ذاته، أو أنه خير كما يدعون، و قد يكون المقصود مطلق الاتصاف بالخيرية ، و ليس معنى التفضيل، فلا مقارنة بين المغفرة و الرحمة من الله و بين متاع الدنيا القليل.
- ( خير مما يجمعون) هنا لرفع ما قد يشتبه على المؤمنين في المقارنة بما لديهم من خير و مال، و ما يصيبهم من ضيق بسبب إقبالهم على الجهاد تاركين الدنيا لأهلها، و هذا من تثبيت الله و تسليته للمؤمنين؛ فما فاتهم شيء، فطلبهم لدار المقر خير من طلب الكفار لدار الممر، فالقتل و الموت في سبيل الله الذي فر منه المنافقين، و أعلوا به شبهتهم، هو خير من كل وجوه، خيرية عظيمة، دائمة في دار الخلد.
و هذا كقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾38 التوبة، و دل على ذلك أيضًا ما روي عنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَغَدْوَةٌ في سبِيلِ اللَّهِ، أوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِن الدُّنْيَا وَمَا فِيها. متفقٌ عليهِ.
- و ما رواه ابن عباس رضى اللَّه عنهما: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء
و أفادت ما الموصولة العموم؛ كل ما يجمعونه من أمور الدنيا و زينتها، من مال و بنين و ذهب و فضة و خيل و غيرهم، مما يأخذ بلب العباد و يثقلهم التعلق به عن طاعة ربهم.
في بيان هذه الخيرية بهذا الشكل مما يجلي القلب من الخوف من الموت، و القتل في سبيل الله، و يثبت النفوس و يهيجها للإقبال على الجهاد و الرغبة في نيل الشهادة في سبيل الله، و فيه دعوة للتنافس في هذا الباب، كما أنه حمل تسلية للمؤمنين عما أصابهم و ما قد يصيبهم في سبيل الله.
و بتدبر قوله تعالى ( لألى الله تحشرون) ؛ نجد أن فيه تقدبم ما حقه التاخير في قوله تعالى (لإلى الله) أسلوب حصر أفاد الإختصاص؛ إثبات الشيء للشيء ونفيه عن غيره ، فإنه يدل على القصر، فإلى الله لا إلى غيره يكون حشر المؤمنين و الكافرين، و هذ الحصر فيه وعيد و تخويف، و خاصة أنه جاء باسم (الله)، المألوه المعبود الذي لا يقهر مالك يوم الدين، و فيه استثارة لعبودية الخوف من الله في القلب، فيعظم أمره فيها، و فيه استثارة للرجاء من وجه تلقي موعود الله بالمغفرة و الرحمة يوم الحشر من الله المتصف بصفات الكمال، الرحمن الرحيم الغفور.
- و في قوله تعالى (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ)وعظ من جهتين؛ إحداهما: التبصير بالهدى فيما يُحتاج إليه، والتذكير به
. والأخرى: استحثاث محركات القلوب الثلاثة ( المحبة والخوف والرجاء ) فإنَّ هذه العبادات العظيمة هي أصل صلاح القلوب، وإذا صلح القلب صلح الجسد كلّه، و يكون المعنى الذي تقف عليه القلوب؛ لا تفروا من القتال، و من طاعة أمر الله و فروا من عقابه يوم تلقونه في يوم الحشر.
- وقد ناسب ذكر الحشر في الآية مقصدها ف الحث على الإقبال على الجهاد؛ فالحشر يطلق على يوم القيامة ، وهو سوق الناس وجمعهم إلى المحشر لحسابهم، و جاء ِالبِناءِ لِلْمَجْهُولِ ليقوي المعنى؛ فهذا السوق أمر ليس لكم فيه إرادة، يقع عليكم و لا بد، و عندها يكون الحساب.
و إذا كان هذا أمر واقع و الحشر سواء متم في قتال أو غيره سيكون الحشر لله، فالإقبال على الشهادة باب المحسنين يومها أولى لكم، و لا تقعدكم زينة الدنيا و بهرجها عن الجهاد، و عن طلب ما عند الله.
- و من مناسبة لفظ الحشر و الله أعلم أن شبهة المنافقين أنه الذهاب الى الجهاد كان سببًا في الموت، و لو أنهم لم يذهبوا لما ماتوا، فجاء الحشر ليناسب حشر الجميع، من قتل و مات في سبيل الله و من كان في بيته و مات و قتل ، كلهم سيساقون إلى ربهم يوم الحشر.
هذا ما تيسر جمعه و بيانه، من لطائف بلاغية و بيانية، تبرز مقصد الآية و تأخذ بالقلوب لليقين بموعود الله، و تدفع الشبهة و ترفع الهمة في الإقبال على الجهاد بجناحي الخوف و الرجاء و يتقدمهم محبة الله و تعظيمه، هذا و الله أعلم.
المصادر:
1- معاني القرآن للأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ
2- عدد من معاجم اللغة
3- تفسير الطبري
4- تفسير ابن عطية
5- تفسير ابن كثير
6- مفاتيح الغيب لفخر الدين ارازي
7- الوجيز للواحدي
8- الدر المصون للسمين الحلبي
9- الكشاف للزمخشري
10- فتح الباري لابن رجب
11- أحكام القرآن للقرطبي
12- مجموع الفتاوي لابن تيمية
13- نظم الدرر للبقاعي
14- روح المعاني للألوسي
15- التحرير و التنوير للطاهر بن عاشور
16- كتاب لمسات بيانية في نصوص من التنزيل فاضل السمرائي
17- بدائع التقديم والتأخير في القرآن أحمد درويش