أمثلة من أقوال المفسرين:
المسألة الأولى: تنكير لفظ البلد وتعريفه في قول الله تعالى:{ربّ اجعل هذا بلداً آمنا} وقوله تعالى: {ربّ اجعل هذا البلد آمنا}.
- قال ابن كثير رحمه الله: (قال في هذه القصة: {رب اجعل هذا البلد آمنا} فعرَّفه كأنه دعا به بعد بنائها؛ ولهذا قال: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة، فإنه دعا أيضا فقال: {رب اجعل هذا بلدا آمنا}).
- وقال ابن عاشور: (إن كان المشار إليه في وقت دعاء إبراهيم أرضا فيها بيت أو بيتان؛ فالتقدير في الكلام اجعل هذا المكان بلدا آمنا أي قرية آمنة فيكون دعاء بأن يصير قرية وأن تكون آمنة.
وإن كان المشار إليه في وقت دعائه قرية بنى أناس حولها ونزلوا حذوها وهو الأظهر الذي يشعر به كلام «الكشاف» هنا وفي سورة إبراهيم كان دعاء للبلد بحصول الأمن له، وأما حكاية دعوته في سورة إبراهيم بقوله: {اجعل هذا البلد آمنا} فتلك دعوة له بعد أن صار بلدا).
وشرح كلام ابن عاشور أن قول الخليل عليه السلام: {ربّ اجعل هذا البلد آمنا} بعد أن كان المكان بلداً لأنه إشارة إلى ما يقع عليه اسم البلد.
وأما قوله: {رب اجعل هذا بلداً آمنا} فيحتمل أن يراد به أن يجعله بلداً فيكون الدعاء قبل أن يكون بلداً، ويحتمل أن يراد به أن يجعله بلداً آمناً بعد أن صار بلداً.
المسألة الثانية: تنكير الإناث وتعريف الذكور في قول الله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}
- قال زين الدين محمد بن أبي بكر الرازي: (فإن قيل: كيف قدم سبحانه الإناث على الذكور في قوله تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)مع تقدمهم عليهن، ثم رجع فقدمهم عليهن، ولم نكر الإناث وعرف الذكور؟
قلنا: إنما قدم الإناث لأن الآية إنما سيقت لبيان عظمة ملكه ونفاد مشيئته، وأنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء عبيده، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه عبيده أهم، والأهم واجب التقديم، فلما قدمهن وأخر الذكور لذلك المعنى تدارك تأخيرهم، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشهير، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المشهورين الذين لا يخفون على أحد، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، فعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن، ولكن لمقتضى آخر فقال تعالى: {ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}وقال: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}).
- وقال د.فاضل السامرائي:(قال تعالى في سورة الشورى {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) }
سورة الشورى عموماً هي في مستكرهات الأمور أي فيما يشاؤه الله تعالى لا ما يشاؤه الإنسان {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) }
وقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}
وكذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ (48)
{فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)}.
وعند العرب الإناث مما يُستكره من الأمور كما في قوله تعالى:{وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى}
وقوله تعالى: {ويجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون}
إذن تنكير الإناث وتقديمهم على الذكور جاء للأسباب التالية:
1- الله سبحانه يهب ما يشاء هو لا ما يشاء الناس
2- التقديم فيه أمر آخر وهو أن الإحسان إليهن ستر من النار
3- التقديم له دلالة أخرى وهي أن الإناث ألصق بالأب من الذكور، فالذكر تنتهي رعايته عند البلوغ إنما البنت فلابد من وجود قيّم عليها من الذكور (أبوها أو أخوها هي في بيت أهلها ثم زوجها بعد أن تتزوج)
4- تعريف الذكور وتنكير الإناث: هناك قاعدة عامة عند العرب سجّلها أهل اللغة مفادها أن العرب لا يذكرون أسماء الإناث وينكّرونها عن التحدث فنسأل (كيف الأهل؟ ولا نقول كيف أختك فلانة أو ابنتك فلانة) أي لا يُصرّح باسم الإناث، لأن العرب يصونون بناتهم وإناثهم عن الذكر بخلاف الذكور حتى في الغرب ينسبون المرأة إلى زوجها.
5- والذكور من المعارف وإناث من التنكير (جاري بحسب طبيعة العرب صوناً للإناث) وليس من باب الحظوة أو تفضيل الذكور على الإنسان كما يفهمها البعض. وقد قال الشاعر:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... وما التذكير فخرٌ للهلال).
المسألة الثالثة: تنكير الحياة في قول الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاة}
- قال عبد القاهر الجرجاني(ت:471هـ): (ومما ينظر إلى مثل ذلك قوله تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} إذا أنت راجعت نفسك وأذكيت حسَّك، وجدت لهذا التنكير وأن قيل: {على حياة}، ولم يقل: "على الحياة"، حسنا وروعة ولطف موقع لا يقادره قدره، وتجدك تعدم ذلك مع التعريف، وتخرج عن الأريحية والأنس إلى خلافهما.
والسبب في ذلك أن المعنى على الازدياد من الحياة لا الحياة من أصلها، وذلك أنه لا يحرص عليه إلا الحي، فأما العادم للحياة فلا يصح منه الحرص على الحياة ولا على غيرها.
وإذا كان كذلك، صار كأنه قيل: "ولتجدنهم أحرص الناس، ولو عاشوا ما عاشوا، على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهنه، حياة في الذي يستقبل".
فكما أنك لا تقول ههنا: "أن يزدادوا إلى حياتهم الحياة" بالتعريف، وإنما تقول: "حياة" إذ كان التعريف يصلح حيث تراد الحياة على الإطلاق، كقولنا: "كل أحد يحب الحياة، ويكره الموت"، كذلك الحكم في الآية).
- وقال ابن عاشور: (ونكر (الحياة) قصدا للتنويع أي كيفما كانت تلك الحياة وتقول يهود تونس ما معناه «الحياة وكفى»).
المسألة الرابعة: تعريف الخلق وتنكيره في قول الله تعالى: {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}
قال الدكتور محمود بن عبد الرحيم صافي (ت:1376هـ) رحمه الله: (في قوله تعالى {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} فقد عرّف الخلق الأول، ونكّر اللبس والخلق الجديد، والتعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه، ومنه تعريف الذكور في قوله: {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ}ولهذا المقصد عرّف الخلق الأول، لأن الغرض جعله دليلا على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى، أي إذا لم يعي تعالى بالخلق الأول على عظمته، فالخلق الآخر أولى أن لا يعبأ به، فهذا سرّ تعريف الخلق الأول.
وأما التنكير فأمر منقسم: فمرة يقصد به تفخيم المنكر، من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة ومرة يقصد به التقليل من المنكر والوضع منه.
- وعلى الأول {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وقوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وهو أكثر من أن يحصى.
- والثاني: هو الأصل في التنكير، فلا يحتاج إلى تمثيله، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم، كأنه قال: في لبس أيّ لبس، وتنكير الخلق الجديد للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول، ويحتمل أن يكون للتفخيم، كأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه متلبسا عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته).