الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
يجب أن نفرّق بين أمرين عظيمين:
الأمر الأول: أن القرآن كلام الله تعالى وهو غير مخلوق، فالقرآن يتلوه القارئ، ويكتبه الكاتب في المصحف، ولا يخرج بذلك عن كونه كلام الله، لأن الكلام يُنسب إلى من قاله ابتداء.
فإذا سمعت قارئاً يقرأ: (قل هو الله أحد). وسئلت كلام من هذا ؟
قلت: هو كلام الله.
وإذا سمعت من يقرأ: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكلّ امرئ ما نوى).
عرفت أنّ هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لشهرته عنه، وأنّ الذي قرأ هذا لم يُنشئ هذا الكلام من تلقاء نفسه.
وإذا سمعت من يُنشد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل
عرفت أنّ هذا من قصيدة لبيد بن ربيعة لشهرتها عنه.
وكذلك إذا سمعت قصيدة معروفة لشاعر قديم ينشدها أحدهم ، وسُئلت: قصيدة من هذه؟
فإنّك تنسبها للشاعر الذي قالها ابتداءً، ولا تنسبها لمن أنشدها، ولو أن واحداً من الناس ألقى هذه القصيدة ونسبها لنفسه لعدَّه الناس كذاباً منتحلاً.
لأن الكلام يُنسب نسبة إنشاء إلى من قاله ابتداءً.
والمقصود أن القرآن كلام الله تعالى، وقارئ القرآن إنما يقرأ كلام الله تعالى، فهذا الكلام يُنسب إلى الله تعالى لا إلى القارئ.
وكلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله تعالى غير مخلوقة.
وهذه المسألة خالف فيها المعتزلة والجهمية وزعموا أنَّ كلام الله مخلوق.
الأمر الثاني: أنَّ أفعال العباد مخلوقة، فكما أنَّ ذواتهم مخلوقة؛ فكل ما يصدر منهم من قول أو فعل فهو مخلوق؛ كما هو معلوم متقرر من أدلّة كثيرة؛ منها قول الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}.
وهذه المسألة خالف فيها القدرية؛ فكفَّرهم العلماء؛ لأنَّ من زعم أن الله لم يخلق أفعال العباد؛ وأن العباد يخلقون أفعال أنفسهم فقد أثبت خالقاً غير الله تعالى، ولذلك سمّيت القدرية مجوس هذه الأمة.
وكلام السلف في تكفير من لم يقل بخلق أفعال العباد معروف مشتهر.
قال يحيى بن إسحاق العنبري: سألت حمّاد بن زيدٍ عمن قال: كلام النّاس ليس بمخلوقٍ.
فقال: هذا كلام أهل الكفر "
وقال يحيى بن إسحاق أيضاً: سألت معتمر بن سليمان عمن قال: كلام النّاس ليس بمخلوقٍ.
قال: «هذا كفرٌ»
وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: (حدثنا عبيد الله هو ابن قدامة بن سعيد، ثنا حماد بن زيد، قال: «من قال كلام العباد ليس بمخلوق فهو كافر» وتابعه على ذلك يحيى بن سعيد القطان ومعتمر بن سليمان).
والمقصود أن قراءة القارئ من فعله وفعله مخلوق.
فيقال في تلخيص هذين الأمرين: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة.
فجاءت مسألة اللفظ للتلبيس بين الأمرين؛ فقول القائل: لفظي بالقرآن مخلوق؛ قد يريد به ملفوظه وهو كلام الله الذي تلفّظ به فيكون موافقاً للجهمية الذين يقولون بخلق القرآن.
وقد يريد به فعلَ العبد الذي هو القراءة والتلفّظ بالقرآن؛ لأنَّ اللفظ في اللغة يأتي اسماً ومصدراً؛ فالاسم بمعنى المفعول أي الملفوظ، والمصدر هو التلفظ.
ويتفرّع على هذين الاحتمالين احتمالات أخرى، ولذلك اختلف الناس في تأويل قول القائل: "لفظي بالقرآن مخلوق" إلى أقوال، يأتي بيانها بإذن الله.
فهي كلمة مجملة حمّالة لوجوه، ولا نفع في إيرادها، والناس كانوا أحوج إلى البيان والتوضيح والتصريح بأنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق.
لا أن تلقى إليهم كلمة مجملة فيها تلبيس تتأوَّلها كلّ فرقة على ما تريد.
ولذلك فرحت طائفة من الجهمية بهذه المقالة؛ فقالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ومنهم من قال: القرآن بألفاظنا مخلوق.
وهم يريدون أنَّ القرآن مخلوق؛ لكن القول باللفظ أخفّ وطأة وأقرب إلى قبول العامّة من التصريح بقولهم: إن القرآن مخلوق.
فتستّروا باللفظ؛ كما تستّرت طائفة منهم بالوقف.
ولذلك قال الإمام أحمد: (افترقت الجهمية على ثلاث فرق:
فرقة قالوا: القرآن مخلوق.
وفرقة قالوا :كلام الله، وتسكت.
وفرقة قالوا: لفظنا بالقرآن مخلوق).
فالفرقة الأولى هم جمهور المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن، وأظهروا هذا القول وأشهروه ودعوا إليه.
والفرقة الثانية هم الذين سُمّوا بالواقفة.
والفرقة الثالثة هم اللفظية.
وليس كلّ من قال باللفظ جهمي، كما أنَّه ليس كلّ من قال بالوقف جهمي، وقد سبق بيان ذلك.
وقد اشتدّ إنكار الإمام أحمد على من قال باللفظ إثباتاً أو نفياً لأنه تلبيس يفتن العامة ولا يبيّن لهم حقاً ولا يهديهم سبيلاً.
وجرت محنة عظيمة للإمام البخاري بسبب هذه المسألة، ووقعت فتنة بين أصحاب الإمام أحمد بعد وفاته بسب هذه المسألة، ودخل الغلط على بعض أهل الحديث بسبب هذه المسألة.