محاضرة علاج الفتور في طلب العلم
الواجب:
س1: إقامة الدين لا تكون إلا بالعلم والإيمان. بيّن ذلك
جعل الله رفعة الأمة و عزتها بالعلم و الإيمان، فقال تعالى:{ و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} و قال أيضا: { يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات}.
فكلما كانت الأمة أكثر حظاً و نصيباً من العلم و الإيمان كانت رفعتها و عزتها أظهر و أشهد، و كلما ضعف حظها من العلم و الإيمان كانت أكثر تخلفاً و انحطاطاً. و التاريخ و الواقع شاهدان على ذلك:
فظهور الفرق الضالة و البدع و الأهواء و الخرافات و التيارات المنحرفة ، كل ذلك سببه ضعف العلم و ضعف القائمين به و فشو الجهل.
و ظهور المعاصي و المنكرات و استحلال المحرمات و خيانة الأمانات و الاستهانة بالفرائض و الواجبات كل ذلك سببه ضعف الإيمان.
فبقدر ما يرتفع الفرد بالعلم و الإيمان ترتفع الأمة، و بقدر ما ينحط نصيب الفرد من العلم و الإيمان تنحط الأمة ( فهذه المعادلة سنة كونية ).
و الدين لا يكون إلا على أساس العلم و الإيمان، فبالعلم يُعرف هدى الله جلَّ جلاله، و بالإيمان يتبع هذا الهدى حتى تحصل العاقبة الحسنة في الدنيا و الآخرة.
و من قام بهذين الأمرين فقد أقام الدين، و كان له وعد من الله بالهداية و النصر، و إن خذله من خذله و إن خالفه من خالفه، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم:( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم و لا من خالفهم حتى يأتي أمر الله و هم على ذلك ). "رواه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما".
و معنى الحديث: أن الله تعالى ضمن لمن يقوم بأمره أن لا يضره من يخذله و لا من يخالفه مهما كانت درجة الخذلان و درجة المخالفة.
و إقامة الدين لا تكون إلا بالعلم و الإيمان، و أهل العلم و الإيمان هم أئمة المسلمين في الدنيا بل كُتبت لهم الرفعة و العزة و شرفهم الله و أكرمهم و وعدهم بالفضل الكبير، فقال تعالى:{ و بشر الذين آمنوا بأن لهم من الله فضلا كبيرا }. و لهذه الآية ثلاث دلالات عظيمة:
الأولى: دلالتها على محبة الله تعالى للمؤمنين بأن نص على أن هذا الفضل من الله جلَّ جلاله، و قد خص بم المؤمنين دون غيرهم.
الثانية: دلالتها على أن هذا الفضل عظيم جد عظيم لأنه فضل من الله و ليس من غيره.
الثالثة: و من ذلك أنه فضل يكفي عن وصفه و تعيين نوعه و إفراده بأنه فضل من الله.
و المقصود: النص على أنه فضل من الله، و دليل على تعظيمه فتشرئبُّ الأعناق إليه و تشتاق النفوس إليه و تتطلع إليه، و زادهم بياناً بوصفه بأنه كبير، و التبشير دليل عناية الله تعالى بالمؤمنين.
س2: ما يعتري طالب العلم من الفتور على نوعين؛ بيّنهما
النوع الأول: فتور تقتضيه طبيعة جسد الإنسان، و ما جُبِل عليه من الضعف و النقص، و هذا من طبائع النفوس و لا يُلام عليه الإنسان.
لما رُويَ عن النبي صلى الله عليه و سلم قوله: ( لكل عملٍ شِرَّة، و لكل شِرَّةٍ فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، و من كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك ). "أخرجه الإمام أحمد و الطحاوي و ابن حبان".
بيان الحديث:
- أن كل عملٍ يعمله الإنسان له فترة، فمن كانت فترته إلى قصد و اعتدال و ما لا يخل بالفرائض فهو غير ملوم.
-و من كانت فترته إلى انقطاعٍ و إلى سلوك غير سبيل السنة فهو مذموم.
و هذا الفتور العارض هو بمثابة الاستراحة و إجمام النفس، و يعود العامل بعدها إلى ما كان يعمل بنشاط متجدد.
و ينبغي لطالب العلم أن يوطِّن نفسه على أمر الفتور الطبيعي.
النوع الآخر: الفتور الذي يُلام عليه العبد، و هو الفتور الذي يكون سببه ضعف اليقين و ضعف الصبر.
س3: وجّه رسالة في سبعة أسطر لطالب علم افتتن بأمور تثبّطه عن طلب العلم وتصرفه إلى الدنيا وملذاتها
يا من طلبت العلم و رمت طريقه ؛ اعلم أن طريق العلم شاق طويل إلا أن في آخر هذا الطريق خيرا عظيما و فضلا كبيرا لا يدركه إلا من ألزم نفسه الجادة و اتبع طريق السلف الصالح بالصبر و الثبات أمام عواصفه القوية، و زهد في الدنيا و ابتعد عن ملذَّاتها و صوارفها و لم يأخذ منها إلا بقدر الحاجة، و اعلم أنك إن اشتغلت بالدنيا و افتتنت بملذاتها من فضول النظر و الكلام و الطعام و مخالطة الناس، أفسد ذلك قلبك و جلبت له من الآلام و الهموم و الغموم ما ينحصر به قلبك فيضيق عن طلب العلم و تغشاه آفات الجهل، فخذ من الدنيا بقدر ما يبلغك طاعة ربك عز وجلّ و اعرف لهذه الدنيا قدرها، فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة. فإن فعلت ذلك نلت محبة الله عز و جل، فإنها لا تُنال إلا بالزهد في الدنيا و ترك ملذاتها، كما رُوي عن النبي صلى الله عليه و سلم: ( ازهد في الدنيا يحبك الله ).
س4: اذكر سبعة أسباب للفتور مع التوضيح الموجز لكل سبب
أسباب الفتور عديدة منها:
1- ضعف اليقين و ضعف الصبر ( فأسباب الفتور التي يعددها العلماء كلها تندرج تحت هذين السببين الجامعين):
فإذا ضعف اليقين و ضعف الصبر سلطت على الإنسان آفات من كيد الشيطان و علل النفس و عواقب الذنوب و لا سبيل له إلى الخلاص منها إلا بالاعتصام بالله تعالى و الإلحاح عليه بالدعاء أن يرزقه العلم و الإيمان، وأن يصرف عنه كيد الشيطان و أن يعيذه من شر نفسه و سيئات أعماله.
و ضعف اليقين سبيل لضعف العزيمة و تدني الهمة و الاحتجاب عن رضا الله عز و جل و اتباع الهوى و الافتتان بالدنيا و الاغترار بطول الأمل ، و تدبُّ إلى النفس آفات خطيرة من العجب و الرياء و كفران النعمة..
و ضعف الصبر سبيل لوهن النفس و ضعف العزيمة و سرعة التأثر بالأعراض و طلب الأمور العاجلة التي لا يحتاج فيها المرء إلى الصبر ، و اتباع الهوى الذي هو طريق إلى قسوة القلب و طول الأمد..
2- علل النفس الخفية:
من العجب و الرياء و الحرص على المال و الشرف فكل هذا يورث الفتور في طلب العلم.
-العجب: من أسباب حرمان طالب العلم من بركة العلم ، فطالب العلم إن حصَّل علما كثيراً ينبغي له أن يحذر من آفة العجب فإنها ماحقة لبركة العلم.
-الرياء: ناتج عن ضعف اليقين ، لأن الذي يوقن بمراقبة الله عز و جلّ يوقن بأن ثواب الله عز وجلّ خير و أبقى، و يوقن بأن الناس لا يملكون له خير و لا ضر إلا ما شاء الله، فلأي شيءٍ يصرف قلبه إليهم؟!
- الحرص على المال و الشرف: و هو أن ينشط الطالب في علمه لأجل أن يمدحه الناس و ينال ثناءهم، و لأجل أن يتكسب بعلمه من متاع الدنيا، فهذا طلب العلم لغير الله عز وجلّ ، و هذا شأن خطير؛ لأن أول من تُسعّر بهم النار يوم القيامة من طلب العلم ليُقال عالم.
3- عواقب الذنوب:
اقتراف الإنسان للذنوب الخطيرة يكون سبباً لأن يُعاقب عليها بالحرمان من فضل طلب العلم و الحرمان من بركته. كالوقيعة في الأعراض خصوصاً أعراض العلماء؛ فينبغي لطالب العلم أن يحتاط لنفسه و يحذر آفات لسانه.
4- تحميل النفس ما لا تطيق:
فمن عرّض نفسه ما لا تطيق فقد عرّضها للانقطاع عن طلب العلم و الحرمان من شرفه.
5- الموازنات الجائرة:
هو أن يوازن نفسه بكبار العلماء و كبار القُرّاء و كبار الحُفّاظ فإن رأى نفسه لم يُطِق ما أطاقوه و لم يتمكن من محاكاتهم و مجاراتهم عاد على نفسه باللوم و التعنيف و ربما قاده ذلك إلى الفتور و الانقطاع، لأنه يرى أن بينه و بينهم مسافات لا يمكن أن يبلغها، و هذه حيلة من حِيَل الشيطان.
6- الرِّفقة السيئة:
على طالب العلم أن يحذر و يتقي شر الرفقة السيئة، و تأثيرهم عليه بالفتور خصوصاً إذا كان في قلبه وازع إلى الاستمتاع بشهوات الدنيا. فيرغِّبونه في فضول المباحات ثم في بعض المكروهات، ثم يجرونه إلى المحرمات، و أقلُّ ذلك أن ينهونه عن طلب العلم بأمور لا تنفعه في دينه و دنياه.
فعلى طالب العلم أن يحذرهم مالم يكن في ذلك قطيعة للرحم، و إن كانوا كذلك وصلهم بقدر الواجب .
7- التذبذب في مناهج طلب العلم:
أن يتذبذب الطالب في طلبه للعلم فيقرأ مرة في كتاب و مرة في آخر، و مرة يقرأ عند شيخ و مرة عند آخر ولا يكون عند هذا ولا عند هذا و لا يتم هذا الكتاب و لا هذا الكتاب.. فتمضي عليه الأيام و الشهور و السنين و هو لم يحصِّل شيئاً فيفتر عن طلب العلم و ينقطع و هذا قد أُوتيَ من ضعف البصيرة في طريقة طلب العلم.
فينبغي لطالب العلم إذا سار على طريق صحيح أن يثبُت عليه و يصبر حتى يؤتي أُكُله بإذن الله عز وجلّ.
س5: اذكر سبعة وصايا لعلاج الفتور ، مع التوضيح الموجز لكل وصية
الوصية الأولى: تحسين اليقين و تحسين الصبر:
هما أصل العلاج، و بقية العلاجات الأخرى تبع لهذين العلاجين.
و اليقين هو أصل العلاج لأن صاحب اليقين يسهل له الصبر أكثر من ضعف يقينه، و اليقين أمر مهم جداً بل هو أعظم نعمة أنعم الله بها عز و جلّ على عباده، كما جاء في وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قام خطيباً على المنبر ثم قال: (سلوا الله العفو و العافية فإن الناس لم يُعطَوا بعد اليقين شيئاً خيراً من العافية...)
فكانت نعمة اليقين أعظم من نعمة العافية و بيان ذلك أن اليقين يثمر في قلب المؤمن قوة العلم، حتى يكاد يستوي عنده الغيب و الشهادة من قوة التصديق، التصديق بالثواب و التصديق بالعقاب فيكون في قلبه من الرغبة و الرهبة و الخشية و الإنابة ما يجعل القلب صالحاً فتصلح الجوارج كلها و يصلح العمل.
مما يعين على اكتساب اليقين:
- إقبال القلب على الله تعالى و طلب الهدى منه جلّ و علا .
- كثرة الذكر و التذكر و معاودة التفكُّر و التدبر.
حتى يكون العلم يقيناً يقر في قلب صاحبه فيحيا به و يبصر به و يمشي به ثم يتصبر و يصبره الله، قال الله عز وجل: { واصبر نفسكَ معَ الذِين يدعُونَ ربهم بِالغَداةِ و العشِيِّ يُريدون وجهَه }.
و مما يعين على اكتساب الصبر:
- اليقين بأن الله عز و جلّ لا يضيع أجر من أحسن عملاً و لا يضيع أجر كل حسنة و إن كانت مثقال ذرة. قال تعالى: { واصبر فإن الله لا يُضيعُ أجر المحسنين }.
- التصبّر ، فإن الصبر بالتصبُّر.
فإذا استحضر طالب العلم ذلك و أن من يتصبَّر يصبِّره الله سَهُل عليه و هان عليه الصبر.
الوصية الثانية: الفرح بفضل الله و شكر نعمة الله:
لهما تأثير عظيم بالتوفيق و الخذلان، و هما من وثيق الصلة بباب القضاء و القدر.
و هاتان الخصلتان إذا كانتا عند طالب العلم و رسخت في قلبه و انتهجها في عمله فليبشر بالخير و البركات الكثيرة، فإن الله عزّ و جلّ يحب من يفرح بفضله لفرح المحمود ، قال تعالى: { قُل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا }.
فإذا كان طالب العلم يعرف لهدى الله عز وجلّ قدره و يفرح به و يرفع به رأسه و يدعو إليه و يبينه للناس فإن الله عز و جلّ يحب منه هذا العمل، و إذا أحبه الله توالت عليه زيادات هذا العمل.
و كذلك إذا كان العبد يشكر الله عز وجلّ ، شكراً بالثناء و شكراً بالعمل، و شكراً بطلب المزيد ، فإن الله عز وجلّ يعطيه و يزيده و لا حدود لعطائه سبحانه. قال تعالى: { قالوا أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين }. فمن تأمل هذه الآية و آثارها في إنعام الله عز وجل بالهدى على بعض القلوب لأنه يعلم أنها قلوب شاكرة تشكر لله عز وجل فيزيدها من عطائه و يحبها و يُنعم عليها لأنه يعلم أن إنعامه عليها إنعام على محل قابل و أرض طيبة تُثمر و تشكر و تفرح بعطاء المعطي عز و جلّ..
الوصية الثالثة: تذكير النفس بفضل العلم و شرفه:
مما يزيد طالب العلم يقيناً و يزيل عنه حجاب الغفلة و طول الأمد و ما يحصل له من نسيان بعض فضائل طلب العلم، فإنه بالتذكر يعالج كثير من هذه الآفات بإذن الله تعالى.
الوصية الرابعة: الإعراض عن اللغو:
لا يستقيم لطالب العلم حصول العلم على الوجه الصحيح المُرضي و هو لا يُعرض عن اللغو.
و هو من أسباب الفلاح جعله الله بعد الصلاة مباشرة لقوله تعالى: { قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون . و الذين هم عن اللغو معرضون }.
- و كثير من الآفات إنما تتسلط على الإنسان بسبب عدم إعراضه عن اللغو باتباعه لفضول الكلام، و فضول المخالطة...
فإعراضه عن اللغو من أوله يسهل له النجاة و السلامة من آفاتٍ كثيرة.
الوصية الخامسة: معرفة قدر النفس و عدم تحميلها ما لا تطيق:
قال تعالى: { لا يُكلِّف الله نفساً إلاما آتاهَا }.
طالب العلم يعرف قدر نفسه و قدر ما تطيقه، فيجتهد في ما تطيقه و ما يسره الله له، حتى تنفتح له أبواب العلم بإذن العلي القدير و يحصل منها على ما تُيِسّر له. و عليه أن يستعين على ذلك بشكر الله لينال المزيد من ربه الكريم المنان، قال تعالى:{ و إذ تأذَّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم}.
الوصية السادسة: الحذر من علل النفس الخفيَّة:
التي قد يُحرم بسببها من بركة العلم و من مواصلة طلبه، كالعجب و الغرور و المُراءاة و التسميع و حب الرياسة و العلو في الأرض و المِراء و التعالي باستكثار العلم و التفاخر و نحو ذلك..
الوصية السابعة: الحرص على بذل العلم:
العلم يزكو بتبليغه و تعليمه، و ذلك ما يدفع الطالب إلى الاستكثار من العلم بالبحث و السؤال و التنقيب لأنه يكون عرضةً لسؤال الناس.. ، و ما يحصل له من العناية بهذا الأمر و كثرة الإفادة و السؤال و التثبُّت..، و إذا سُئل في ما لا يعلم لا يعجل بالجواب بل يتريّث و يبحث في المسألة قبل أن يجيب بتعجُّل.. و ليسأل الله التوفيق فهو الموفق و هو الذي يهدي بصيرته..
تم بحمد الله،،،