938- وعَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا أنَّ ابْنَةَ الجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ودَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ. فَقَالَ: ((لَقَدْ عُذْتِ بعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ)). رَواهُ البُخارِيُّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثِ:
1- تَزَوَّجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعَمْرَةَ بِنْتِ الجَوْنِ، فلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قَالَت اجْتِهَاداً مِنها: أَعُوذُ باللهِ مِنْكَ. وقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ، فَأَعِيذُوهُ)). فأعاذَها صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وقالَ: ((لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ)).
2- ففيهِ دَلِيلٌ على أنَّ لَفْظَ: ((الْحَقِي بِأَهْلِكِ)). هو طَلاقٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ بلفظِ الطلاقِ وما تَصَرَّفَ منه.
3- قولُه: ((الْحَقِي بأَهْلِكِ)). كِنايةٌ من كناياتِ الطلاقِ الخَفِيَّةِ، والكِنَايَةُ ـ على المَشهورِ مِن مَذْهَبِ أحمدَ ـ لا بُدَّ فيها من نِيَّةِ الطلاقِ، المُقارِنَةِ لتلَفُّظِ المُطَلِّقِ، أو أنْ تَكُونَ في حالِ غَضَبٍ، أو خُصُومَةٍ، أو جَوابٍ لسُؤالِ المرأةِ الطَّلاقَ، وبدونِ النِّيَّةِ، أو هذه القرائنِ، فلا يَقَعُ بالكنايةِ طَلاقٌ.
4- الطَّلاقُ لَهُ صَريحٌ وكِنَايَةٌ:
فأمَّا صَرِيحُه: فلفظُ الطلاقِ، وما تَصَرَّفَ منه من المُشْتَقَّاتِ، فيَقَعُ فيه الطلاقُ جَادًّا، أو هَازِلاً، ولَوْ لَمْ يَنْوِهِ.
5- أمَّا كِنَايَاتُ الطَّلاقِ فقِسْمَانِ: ظَاهِرَةٌ، وخَفِيَّةٌ.
فالظَّاهِرَةُ، نَحْوُ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، وبَرِيَّةٌ، وبَائِنٌ، وبَتَّةٌ، وبَتْلَةٌ، وتَزَوَّجِي مَن شِئْتِ.. إلخ.
والخَفِيَّةُ، نَحْوُ: اخْرُجِي، واذْهَبِي، واعْتَدِّي، واسْتَبْرِئِي، ولَسْتِ لِي بامْرَأَةٍ، وخَلَّيْتُكِ، والْحَقِي بأهْلِكِ.. إلخ.
6- الفَرْقُ بَيْنَ الكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ والكِنَايَةِ الخَفِيَّةِ، أَنَّ أَلْفاظَ الظَّاهِرَةِ: مَوْضُوعَةٌ للبَيْنُونَةِ، فيَقَعُ بِهَا ثلاثاً، ولَوْ نَوَى وَاحِدَةً، وهذا هو المَشْهُورُ عن مَذْهَبِ الحَنابِلَةِ.
أمَّا الخَفِيَّةُ: فمَوضوعَةٌ لطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، مَا لَمْ يَنْوِ أكْثَرَ، فيَقَعُ ما نَوَاهُ.
7- هذا التَّقْسِيمُ فِي ألْفَاظِ الطَّلاقِ هُوَ المَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ الإمامِ أحمدَ، رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
8- قالَ ابْنُ القَيِّمِ: تَقْسِيمُ الألفاظِ إلى صَرِيحٍ أو كِنَايَةٍ، وإِنْ كانَ تَقْسيماً صَحِيحاً في أَصْلِ الوَضْعِ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ باختلافِ الأشخاصِ، والأزمنةِ، والأمكنةِ، فليسَ حُكْماً ثَابِتاً للفظٍ في ذاتِه، فرُبَّ لَفْظٍ صَرِيحٍ عِنْدَ قَوْمٍ، كِنَايَةٌ عِنْدَ آخَرَينَ، أَوْ صَرِيحٍ في زَمانٍ ومَكَانٍ، كِنَايَةٌ في غَيْرِ ذلك المَكانِ والزمانِ، والوَاقِعُ شَاهِدٌ بذلك.
وقالَ الشيخُ عَلِيُّ بنُ عِيسَى، قَاضِي بَلْدةِ شَقْرَاءَ: إنَّ لَفْظَ التخلاةِ صَرِيحٌ في عُرْفِنا اليومَ.
وقالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السِّعْدِيُّ: الصحيحُ أَنَّ ألفاظَ الطلاقِ لا تَتَعَيَّنُ بلَفْظٍ مَخْصوصٍ، فكُلُّ لَفْظٍ أَفَادَ مَعْنَى الطلاقِ، فإِنَّه يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِن ألفاظِ الطلاقِ، كما هو في المُعاملاتِ وغَيْرِه، واللهُ أعْلَمُ.
9- قالَ الشيخُ محمدُ بنُ إبراهيمَ آلُ الشيخِ: لا شَكَّ أَنَّ الإمضاءَ على وَرَقَةِ الطلاقِ، ليسَ مِن صِيَغِ الطلاقِ، لا مِن الصريحِ ولا مِن الكنايةِ؛ إذِ الزوجُ لَمْ يَكْتُبْ طَلاقَ زَوْجَتِهِ، وغايةُ مَا في الأمْرِ أنه كَتَبَ اسْمَه تحتَ كتابةِ وإِنْشَاءِ غَيْرِه، فإذا لَمْ يَتَلَفَّظْ بشَيْءٍ مِمَّا كُتِبَ في الوَرَقَةِ، فلا يَظْهَرُ لَنَا وُقوعُ الطَّلاقِ منه بإمضائِهِ الوَرَقَةَ.