(( قولُهُ : إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ ، لا تُضَامُونَ في رُؤيَتِهِ ، فإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِها ؛ فافْعَلُوا . مُتَّفَقٌ عليهِ ))(1) .
(1)هَذَا الحَدِيثُ أخرجاهُ فِي الصحيحينِ عَن جريرِ بنِ عبدِ اللهِ البَجَليِّ . قَالَ كنا جلوساً عند النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظرَ إلى القمرِ ليلةَ أربعَ عشرةَ فقَالَ : إِنَّكم سترونَ ربكم عِيَاناً كما ترونَ هَذَا لا تُضَامُّونَ فِي رؤيتِه فإِن استطعتم أن لا تُغلبوا عَلَى صلاةٍ قبل طلوعِ الشمسِ وقبل الغروبِ فافعلوا ثُمَّ قرأ قَوْلَه :(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) وفِي بَعْض ألفاظِه فستُعاينونَ ربَّكم كما تُعاينون هَذَا القمرَ .
وله طرقٌ كثيرةٌ فِي بعضِها: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلةَ البدرِ فقَالَ :
وفِي الصحيحين عَن أبي هريرةَ :إِنَّ ناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربَّنا يومَ القِيامَةِ ؟ قَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((هل تُضارُّونَ فِي القمرِ ليلةَ البدرِ ؟)) فقالوا : لا يا رسولَ الله. قَالَ : (( هل تُضَارُّون فِي الشمسِ لَيْسَ دونها حِجَابٌ ؟)) قالوا: لا يا رسول الله. قَالَ : ((فإِنَّكم تَرَوْنَه كذَلِكَ)) . ولهما عَن أبي سعيدٍ مثلُه .
وأحاديثُ الرُّؤْيةِ متواترةٌ . قَالَ يحيى بنُ معينٍ : عندي سبعةَ عشرَ حديثاً فِي الرُّؤْيةِ, كلُّها صحاحٌ .وقَالَ الْإِمَام أَحْمَدُ: والْأَحَادِيثُ التي رويتْ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((إِنَّكُم ترونَ ربَّكُم)) صحيحةٌ وأسانيدُها غيرُ مدفوعةٍ والْقُرْآنُ شاهدٌ أَنَّ اللهَ يُرى فِي الآخرةِ .
وقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وسمعتُ أَحْمَدَ بنَ حنبلٍ _ وذُكرَ عنده شيءٌ فِي الرُّؤْية فغضبَ وقَالَ : مَن قَالَ : إِنَّ اللهَ لا يُرى فهُوَ كافرٌ أه
وقد رَوى أحاديثَ الرُّؤْيةِ أكثرُ مِن خمسةٍ وعشرين صحابياً .
قَوْلُه ((إِنَّكُم سَتَرَونَ ربَّكُم)) لفظُ البخاريِّ فِي التوحيدِ عَن جريرٍ قَالَ كنا جلوساً عند رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظرَ إلى القمرِ ليلةَ البدرِ فقَالَ:((إِنَّكُم سَتُعْرَضُونَ عَلَى ربِّكم فَتَرَوْنَهُ كَما تَرَوْنَ هَذَا القمرَ )).
قَوْلُه :((هل تُضَامُونَ)) بضمِّ أولِه وتخفيفِ الميمِ للأكثرِ . وفيه رواياتٌ أخرى قَالَ البيهقيُّ سمعتُ الشيخَ الْإِمَامَ أبا الطيِّبِ سهلَ بنَ مُحَمَّدٍ الصُّعْلُوكِيَّ يَقُولُ فِي إملائِه فِي قَوْلِهِ : ((لا تُضامُّونَ)) فِي رؤيتِه بالضمِّ والتشديدِ ,معناه لا تجتمعونَ لرؤيته فِي جهةٍ ولا يُضَمُّ بعضُكم إلى بَعْضٍ ، ومعناه بفتحِ التاءِ كذَلِكَ والأصلُ لا تتضامُّون فِي رؤيتِه باجتماعٍ فِي جهةٍ ، وبالتخفيفِ مِن الضَّيمِ ومعناه لا تُظلمون فيه برؤيةِ بعضِكم دون بَعْضٍ فإِنَّكم ترونه فِي جهاتِكم كلِّها قَالَ الحافظُ: وقَوْلُه (( هل تُضَارُّون )) بضمِّ أوله بالضادِ المعجمةِ وتشديدِ الراءِ بصيغةِ المفاعلةِ مِن الضُّرِّ ، وأصلُه تُضاررون بكسرِ الراءِ وبفتحِها أي: لا تضرُّونُ أحداً ، ولا يضرُّكُم بمنازعةٍ ولا مجادلةٍ ولا مضايقةٍ وجاءَ بتخفيفِ الراءِ مِن الضيرِ وهُوَ لغةٌ فِي الضررِ أي: لا يخالفُ بَعْضٌ بعضاً فيكذبُه وينازعُه فيضيرُه بذَلِكَ ، يُقَالُ : ضارَه يَضيرُه . وقِيلَ : المعنى : لا تَضايقون . أي لا تَزاحمون كما جاء فِي الروايةِ الأخرى ((لا تَضامُّون)) بتشديدِ الميمِ مَعَ فتحِ أولِه . وقِيلَ : المعنى : لا يحجبُ بعضُكم بعضاً عَن الرُّؤْيةِ فيضُرَّبه : وحكى الجوهريُّ : ضرَّني فلانٌ إذا دنا مني دُنوًّا شديداً . قَالَ ابنُ الأثيرِ : فالْمُرَادُ المضارّةُ بازدحامٍ . وقَالَ النوويُّ : أولُه مضمومٌ مثقلاً ومخففاً . قَالَ : وروى ((تَضامّون)) بالتشديدِ مَعَ فتحِ أولِه وهُوَ بحذفِ إحدى التاءينِ وهُوَ مِن الضمِّ وبالتخفيفِ مَعَ ضمِّ أوله مِن الضيمِ . والْمُرَادُ المشقةُ والتعبُ . وقَالَ عياضٌ : قَالَ بعضُهم فِي الَّذِي بالرَّاءِ وبالميمِ بفتحِ أولِه والتشديدِ .
وأشارَ بذَلِكَ إلى أنَّ الروايةَ بضمِّ أولِه مخفَّفاً ومثقَّلاً, وكلُّه صحيحٌ ظاهرُ المعنى ووقعَ فِي روايةِ البخاريِّ:((لاتضامّون أو تضاهون)) بالشكِّ كما مضى فِي فضلِ صلاةِ الفجرِ .ومعنى الَّذِي بالهاءِ لا يشتبِه عليكم ولا ترتابونَ فيه فيعارضُ بعضُكم بعضاً.
ومعنى الضيمِ : الغلبةُ عَلَى الحقِّ والاستبدادُ به _ أي لا يظلِم بعضُكم بعضاً . وتقدَّم فِي بابِ فضلِ السجودِ مِن روايةِ شعيبٍ : ((هل تُمَارُون ؟)) بضمِّ أولِه وتخفيفِ الراءِ أي تجادلون فِي ذَلِكَ أو يَدخلُكم فيه شيءٌ مِن المِرْيةِ, وهُوَ الشكُّ . وجاء بفتحِ أولِه وتخفيفِ الراءِ عَلَى حذفِ إحدى التاءينِ .
وفِي روايةِ البيهقيِّ : ((تَتَمارَوْن)) باثباتِهما قَوْلُه ((تَرَونَه كذلِك)) الْمُرَادُ تشبيهُ الرُّؤْيةِ بالرُّؤْيةِ فِي الوضوحِ وزوالِ الشكِّ ورفعِ المشقةِ والاختلافِ . وقَالَ الزَّينُ بنُ المنيرِ :
إِنَّما خصَّ الشمسَ والقمرَ بالذكرِ مَعَ أنَّ رؤيةَ السَّماءِ بغيرِ سحابٍ أكبرُ آيةً، وأعظمُ خلقاً مِن مجردِ الشمسِ والقمرِ؛ لما خصا به مِن عظيمِ النورِ والضياءِ بحَيْثُ صارَ التشبيهُ بهما فيمن يُوصَفُ بالجمالِ والكمالِ سائغاً شائعاً فِي الاستعمالِ .
وقَالَ ابنُ الأثيرِ : قد يتخيل بَعْضُ النَّاسِ : أنَّ الكافَ كافُ التشبيهِ للمرئى وهُوَ غلطٌ وإِنَّما كافُ التشبيهِ للرؤيةِ وهُوَ فعلُ الرائي . ومعناه : أنَّها رؤيةٌ مزاحٌ عنها الشكُّ مثل رؤيتكِم القمرَ . وحققَ عَلَيْهِ السلامُ وقوعَ الرُّؤْيةِ عِيَاناً برؤيةِ الشمسِ والقمرِ تحقيقاً لها ونفياً لتوهمِ المَجَازِ الَّذِي يظنُّ المعطِّلون قَوْلَه : (( فإِنَّ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا )) فيه إشارةٌ إلى قطعِ أسبابِ الغفلةِ المنافيةِ للاستطاعةِ كالنومِ والشغلِ ومقاومةِ ذَلِكَ بالاستعدادِ له وقَوْله: فافعلوا , أي: عدمَ الغلبةِ وهُوَ كنايةٌ عمَّا ذَكَرَ مِن الاستعدادِ ووقعَ فِي روايةِ شعبة المذكورةِ فلا تغفلُوا عَن صلاةٍ – الحَدِيث, قَوْله: (( قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها)) زادَ مسلمٌ :يعني العصرَ والفجرَ ولابنِ مردويه مِن وَجْهٍ آخر عَن إسماعيلَ : قبل طلوعِ الشمسِ صلاةُ الصبحِ ، وقبلَ غروبِها صلاةُ العصرِ . قَالَ ابنُ بطالٍ قَالَ المهلبُّ :قَوْله :(( فإِن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صلاةٍ )) أي: فِي الجماعةِ وخصَّ هذينِ الوقتينِ لاجتماعِ الملائكةِ فيهما ورفعِهم أعمالَ الْعِبَادِ لئلا يفوتَهم هَذَا الفضلُ العظيمُ ( قلتُ ): وعُرِفَ بهَذَا مناسبةُ إيرادِ حَدِيثِ يَتعاقبونَ عَقِبَ هَذَا الحَدِيثِ ولكن لم يظهرْ لي وَجْهُ تقييدِ ذَلِكَ بكونِه فِي جماعةٍ وإِن كَانَ فضلُ الجماعةِ معلوماً مِن أحاديثَ أُخرَ, بل ظاهرُ الحَدِيثِ يتناولُ مَن صلاهما ولو منفرداً إذ مُقتضاهُ : التحريضُ عَلَى فعلهِما, أعم مِن كونه جماعةً أو لا .
قَوْله: (( فافعلوا)) . قَالَ الخطَّابيُّ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيةَ قد يُرجى نيلُها بالمحافظةِ عَلَى هاتينِ الصلاتينِ اه
وقد يُستشهدُ لذَلِكَ بما أخرجَه الترمذيُّ مِن حَدِيثِ ابنِ عمرَ رفَعَه : قَالَ : ((إِنَّ أدْنى أَهْلِ الجَنَّةِ منزلةً)) – فذكر الحَدِيثَ – وفيه : (( وأَكْرَمَهُم عَلَى اللهِ مَن ينظرُ إلى وجهِه ِغُدْوَةً وعَشِيّةً )) وفِي سندهِ ضعفٌ قَوْله ثُمَّ قرأ كذا فِي جميعِ رواياتِ الجامَعِ ,وأكثرِ الرواياتِ فِي غيرِه بإبهامِ فاعلِ قرأَ و ظاهرُه أنَّه النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن لم أرَ ذَلِكَ صريحاً وحمَلَه عَلَيْهِ جماعةٌ مِن الشراحِ ووقعَ عندَ مسلمٍ عَن زهيرِ بنِ حربٍ عَن مروانَ بنِ معاويةَ بإسنادِ حَدِيثِ البابِ ثُمَّ قرأَ جريرٌ – أي: الصحابيُّ - وكذا أخرجَه أبو عَوانَةَ فِي صحيحِه مِن طريقِ يعْلَى بنِ عبيدٍ عَن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ فظهرَ أنَّه وقعَ فِي سياقِ حَدِيثِ البابِ وما وافقَه إدراجٌ قَالَ العلماءُ : ووَجْهُ مناسبةِ ذكرِ هاتينِ الصلاتينِ عندَ ذكرِ الرُّؤْيةِ أِنَّ الصلاةَ أفضلُ الطاعاتِ ، وقد ثبتَ لهاتينِ الصلاتينِ مِن الفضلِ عَلَى غيرِهما ما ذكرَ مِن اجتماعِ الملائكةِ فيهما ورفعِ الأعمالِ وغيرِ ذَلِكَ فهما أفضلُ الصلواتِ فناسبَ أِن يجازَى المُحافظُ عليهما بأفضلِ العطايا وهُوَ النظرُ إلى اللهِ تَعَالَى .
وقد استَدلَّ الْمُعْتَزِلَةُ ومَن تبعهم مِن نُفاةِ الرُّؤْيةِ بقَوْله تَعَالَى :{ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } وبقَوْله تَعَالَى لمُوسَى :(لَن تَراِني) والجواب عَن الأَوَّلِ : أنَّه لا تدركُه الأبصارُ فِي الدُّنْيا جمعاً بين دليلي الآيتينِ . وبأَنَّ نفيَ الإدراكِ لا يستلزمُ نفيَ الرُّؤْيةِ لإمكَانِ رؤيةِ الشيءِ مِن غيرِ إحاطةٍ بحقيقتِه . وعَن الثاني: الْمُرَاد لن تراني فِي الدُّنْيا جمعاً أيضاً ولأنَّ نفيَ الشيءِ لا يقتضي إحالتَه مَعَ ما جاءَ مِن الأَحَادِيث الثابتةِ عَلَى وفقِ الآيَةِ وقد تلقَّاها المُسْلِمونَ بالقبولِ مِن لدن الصَّحَابَة والتابعينَ حتى حَدثَ مَنْ أنَكرَ الرُّؤْية وخالفَ السَّلَفَ ))
وما أحسنَ ما قَالَ الصَّرْصَرِيُّ .
ونُثْبِتُ فِي الأُخْرَى لرؤيةِ ربِّن=حديثاً رواه فِي الصحيحِ جريرُ .