وَرَوَى أَبُو القَاسِمِ الأَزَجِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ مَنْ يَدْفَعُ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: (سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وَوُلاةُ الأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا. الأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، لَيْسَ لأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَغْيِيرُهَا وَلا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا، مَن اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَمَن اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ، وَلاَّهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )(1).
وَرَوَى الْخَلاَّلُ بِإِسْنَادٍ -كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ- عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: (سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) (طَهَ: 5 ) كَيْفَ اسْتَوَى؟ قَالَ: ( الاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِن اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ البَلاغُ المُبِينُ، وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ ).
وَهَذَا الكَلامُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ تِلْمِيذِ رَبِيعَةَ بن أبي عبد الرحمن مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ(2).
مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الأَصْبَهَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ بِرَأْسِهِ حَتَّى عَلاهُ الرُّحَضَاءُ، ثُمَّ قَالَ: ( الاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَمَا أَرَاكَ إِلاَّ مُبْتَدِعًا ) ثم أُمِرَ بِهِ أَنْ يُخْرَجَ.
فَقَوْلُ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ: (الاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ والإيمان به واجب) مُوَافِقٌ لِقَوْلِ البَاقِينَ: (أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفٍ ) فَإِنَّمَا نَفَوْا عِلْمَ الكَيْفِيَّةِ، وَلَمْ يَنْفُوا حَقِيقَةَ الصِّفَةِ.
وَلَوْ كَانَ القَوْمُ قَدْ آمَنُوا بِاللَّفْظِ المُجَرَّدِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لَمَا قَالُوا: (الاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ) وَلَمَا قَالُوا: ( أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفٍ ) فَإِنَّ الاسْتِوَاء حِينَئِذٍ لاَ يَكُونُ مَعْلُومًا بَلْ مَجْهُولاً بِمَنْزِلَةِ حُرُوفِ المُعْجَمِ. وأَيْضًا فَإِنَّهُ لاَ يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ عِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ، إِذَا لَمْ يُفْهَمْ مِنَ اللَّفْظِ مَعْنًى، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ عِلْمِ الكَيْفِيَّةِ إِذَا أُثْبِتَتِ الصِّفَاتُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ الخَبَرِيَّةَ، أَو الصِّفَاتِ مُطْلَقًا لاَ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: بِلا كَيْفٍ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ عَلَى العَرْشِ، لاَ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ: بِلا كَيْفٍ، فَلَوْ كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ نَفْيُ الصِّفَاتِ فِي نَفْسِ الأَمْرِ لَمَا قَالُوا:" بِلا كَيْفٍ".
وأَيْضًا: فَقَوْلُهُمْ: " أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ ". يَقْتَضِي إِبْقَاءَ دَلالَتِهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا جَاءَتْ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَاني ; فَلَوْ كَانَتْ دَلالَتُهَا مُنْتَفِيَةً لَكَانَ الوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: أَمِرُّوا أَلْفَاظَهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ المَفْهُومَ مِنْهَا غَيْرُ مُرَادٍ، أَوْ أَمِرُّوا أَلْفَاظَهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ لاَ يُوصَفُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَحِينَئِذٍ فَلا تَكُونُ قَدْ أُمِرَّتْ كَمَا جَاءَتْ، وَلا يُقَالُ حِينَئِذٍ بِلا كَيْفٍ; إِذْ نَفْيُ الكَيْفِيَّةِ عَمَّا لَيْسَ بِثَابِتٍ لَغْوٌ مِنَ القَوْلِ(3).