دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الأقسام العامة > الأقسام العلمية العامة > القراءة المنظمة

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19 جمادى الآخرة 1431هـ/1-06-2010م, 06:03 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي تطبيق2: مقدمة الوابل الصيب للإمام ابن القيم

التطبيق الثاني: مقدمة الوابل الصيب للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر الزُّرَعي الدمشقي المعروف بابن القيم رحمه الله.
المطلوب: تلخيص مقاصد هذه المقدمة وبيان جوانب القوة العلمية لدى الكاتب

تمهيد: هذا الكتاب النفيس يعد من أصول مراجع علم السلوك ففيه تأصيل متين لمسائل السلوك والتعبد، وأنا أحث الطلاب على قراءته كاملاً، بل مراجعته من وقت لآخر ، وتلخيص مسائله وفهمها جيداً.




مقدمة كتاب الوابل الصيب
لابن القيم رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم
الله سبحانه وتعالى المسئول المرجو الإجابة أن يتولاكم في الدنيا والآخرة وأن يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وأن يجعلكم ممن إذا أنعم الله عليه شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر فإن هذه الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه ولا ينفك عبد عنها أبدا فإن العبد دائما يتقلب بين هذه الأطباق الثلاث.
الأول: نعم من الله تعالى تترادف عليه فقيدها الشكر وهو مبني على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطنا والتحدث بها ظاهرا وتصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها.
الثاني: محن من الله تعالى يبتليه بها ففرضه فيها الصبر والتسليم.
والصبر حبس النفس عن التسخط بالمقدور وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن المعصية كاللطم وشق الثياب ونتف الشعر ونحو ذلك.
فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة فإذا قام به العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة واستحالت البلية عطية وصار المكروه محبوبا فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء كما له عليه عبودية في السراء وله عليه عبودية فيما يكره كما له عليه عبودية فيما يحب وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون والشأن في إعطاء العبودية في المكاره فبه تفاوتت مراتب العباد وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى.
فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية ونفقته عليها وعلى نفسه وعياله عبودية هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية وترك المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية ونفقته في الضراء عبودية ولكن فرق عظيم بين العبوديتين.
فمن كان عبدا لله في الحالين قائما بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده} وفي القراءة الأخرى (عباده) وهما سواء لأن المفرد مضاف فيعم عموم الجمع.
فالكفاية التامة مع العبودية التامة والناقصة مع الناقصة فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان.
قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} ولما علم عدو الله إبليس أن الله تعالى لا يسلم عباده إليه ولا يسلطه عليهم قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} قال الله تعالى: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك} فلم يجعل لعدوه سلطانا على عباده المؤمنين فإنهم في حرزه وكلاءته وحفظه وتحت كنفه وإن اغتال عدوه أحدهم كما يغتال اللص الرجل الغافل فهذا لا بد منه لأن العبد قد بلي بالغفلة والشهوة والغضب.
ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة ولو احترز العبد ما احترز فلا بد له من غفلة ولا بد له من شهوة ولا بد له من غضب وقد كان آدم أبو البشر (صلى الله عليه وسلم) من أحلم الخلق وأرجحهم عقلا وأثبتهم ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيما أوقعه فيه فما الظن بفراشة الحلم ومن عقله في جنب عقل أبيه كتفلة في بحر.
ولكن عدو الله لا يخلص إلى المؤمن إلا غيلة على غرة وغفلة فيوقعه ويظن أنه لا يستقيل ربه عز وجل بعدها وأن تلك الواقعة قد اجتاحته وأهلكته وفضل الله تعالى ورحمته وعفوه ومغفرته من وراء ذلك كله.
فإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له بابا من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستغاثة به وصدق اللجأ إليه ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته حتى يقول عدو الله يا ليتني تركته ولم أوقعه.
وهذا معنى قول بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار قالوا: كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه خائفا منه مشفقا وجلا باكيا نادما مستحيا من ربه تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له فيكون ذلك الذنب سبب سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة.
ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول: فعلت وفعلت فيورثه ذلك من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيرا ابتلاه بأمر يكسره به ويذل به عنقه ويصغر به نفسه عنده وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك.
فمن أراد الله به خيرا فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وظلمها وعدوانها ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين لا يمكنه أن يسير إلا بهما فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث سيد الاستغفار أن يقول العبد: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي)) بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت وأن لا يرى نفسه إلا مفلسا.
وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى باب الإفلاس فلا يرى لنفسه حالا ولا مقاما ولا سببا يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض دخول من قد كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته.
ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدعوى.
والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها حب كامل وذل تام ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرة وغفلة وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته.

فصل:
وإنما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجوارحه فاستقامة القلب بشيئين:
أحدهما : أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه فرتب على ذلك مقتضاه.
وما أسهل هذا بالدعوى وما أصعبه بالفعل فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
وما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبه كبيره أو أميره أو شيخه أو أهله على ما يحبه الله تعالى فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب ولا كانت هي الحاكمة عليها المؤمرة عليها وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابه وينغصها عليه فلا ينال شيئا منها إلا بنكد وتنغيص جزاء له على إيثاره هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى.
وقد قضى الله عز وجل قضاء لا يرد ولا يدفع أن من أحب شيئا سواه عذب به ولا بد وأن من خاف غيره سلط عليه وأن من اشتغل بشيء غيره كان شؤما عليه ومن آثر غيره عليه لم يبارك له فيه ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ولا بد.
الأمر الثاني: الذي يستقيم به القلب تعظيم الأمر والنهي وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي فإن الله تعالى ذم من لا يعظمه ولا يعظم أمره ونهيه قال سبحانه وتعالى: {مالكم لا ترجون لله وقارا} قالوا في تفسيرها: مالكم لا تخافون لله تعالى عظمة.
وما أحسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الأمر والنهي هو أن لا يعارضا بترخيص جاف ولا يعرضا لتشديد غال ولا يحملا على علة توهن الانقياد.
ومعنى كلامه أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه وذلك المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه وتعظيم نهيه واجتنابه فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر.
فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق وطلب المنزلة والجاه عندهم ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع صلى الله عليه وسلم على المناهي فهذا ليس فعله وتركه صادرا عن تعظيم الأمر والنهي ولا عن تعظيم الآمر الناهي.
فعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها والمسارعة إليها عند وجوبها والحزن والكآبة والأسف عند فوات حق من حقوقها كمن يحزن على فوت الجماعة ويعلم أنه لو تقبلت منه صلاته منفردا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفا.
ولو أن رجلا يعاني البيع والشراء يفوته في صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة سبعة وعشرون دينارا لأكل يديه ندما وأسفا فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى.
فإذا فوت العبد عليه هذا الربح خسر قطعا.
وكثير من العلماء يقول: لا صلاة له وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها فهذا من عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه.
وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه ولكانت قرعة.
وكذلك فوت الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلته وكلما كثر الجمع كان أحب إلى الله عز وجل وكلما بعدت الخطا كانت خطوة تحط خطيئة وأخرى ترفع درجة.
وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب عز وجل الذي هو روحها ولبها فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدا ميتا أو جارية ميتة فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره؟!
فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد أو الأمة الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا ولا يثيبه عليها فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها كما في السنن ومسند الإمام أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها)) حتى بلغ عشرها.
وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر تكفيرا كاملا والناقص بحسبه.
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة وهما:
تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه «إن صوم يوم عرفة يكفر سنتين» «ويوم عاشوراء يكفر سنة» قالوا: فإذا كان دأبه دائما أنه يصوم يوم عرفة فصامه وصام يوم عاشوراء فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة.
وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات.
ويا لله العجب فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض.
والتكفير بهذه مشروط بشروط موقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها وانتفت عنه الموانع كلها فحينئذ يقع التكفير وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره وفقد الإخلاص الذي هو روحه ولبه ولم يوف حقه ولم يقدره حق قدره فأي شيء يكفر هذا العمل.
فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرا وباطنا ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره ولا مبطل يحبطه من عجب أو رؤية نفسه فيه أو من به أو يطلب من العباد تعظيمه به أو يستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه أو يعادي من لا يعظمه عليه ويرى أنه قد بخسه حقه وأنه قد استهان بحرمته فهذا أي شيء يكفر.
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر وليس الشأن في العمل إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه.
فالرياء وإن دق محبط للعمل وهو أبواب كثيرة لا تحصر وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضا موجب لكونه باطلا والمن به على الله تعالى بقلبه مفسد له وكذلك المن بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها كما قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}.
وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}.
فحذر سبحانه المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض وليس هذا بردة بل معصية يحبط بها العمل وصاحبها لا يشعر بها.
فما الظن بمن قدم على قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر.
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)).
ومن هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها لزيد بن أرقم رضي الله عنه لما باع بالعينة: إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب.
وليس التبايع بالعينة ردة وإنما غايته أن يكون معصية.
فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد ويحرص على عمله ويحذره.
وقد جاء في أثر معروف: «إن العبد ليعمل العمل سرا لله لا يطلع عليه أحدا إلا الله تعالى فيتحدث به فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية ثم يصير في ذلك الديوان على حسب العلانية فإن تحدث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى أبطله كما لو فعله لذلك.
فإن قيل فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟
قيل: إن كان قد عمله لغير الله تعالى وأوقعه بهذه النية فإنه لا ينقلب صالحا بالتوبة بل حسب التوبة أن تمحو عنه عقابه فيصير لا له ولا عليه.
وأما إن عمله لله تعالى خالصا ثم عرض له عجب أو رياء أو تحدث به ثم تاب من بعد ذلك وندم فهذا قد يعود له ثواب عمله ولا يحبط وقد يقال إنه لا يعود إليه بل يستأنف العمل.
والمسالة مبنية على أصل وهو أن الردة هل تحبط العمل بمجردها أو لا يحبطه إلا الموت عليها فيه للعلماء قولان مشهوران وهما روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه.
فإن قلنا تحبط العمل بنفسها فمتى أسلم استأنف العمل وبطل ما كان قد عمل قبل الإسلام وإن قلنا لا يحبط العمل إلا إذا مات مرتدا فمتى عاد إلى الإسلام عاد إليه ثواب عمله.
وهكذا العبد إذا فعل حسنة ثم فعل سيئة تحبطها ثم تاب من تلك السيئة هل يعود إليه ثواب تلك الحسنة المتقدمة يخرج على هذا الأصل.
ولم يزل في نفسي شيء من هذه المسالة ولم أزل حريصا على الصواب فيها وما رأيت أحدا شفى فيها والذي يظهر لي والله تعالى أعلم وبه المستعان ولا قوة إلا به أن الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل ويكون الحكم فيها للغالب وهو يقهر المغلوب ويكون الحكم له حتى كأن المغلوب لم يكن فإذا غلبت على العبد الحسنات رفعت حسناته الكثيرة سيئاته ومتى تاب من السيئة ترتب على توبته منها حسنات كثيرة قد تربي وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة فإذا عزمت التوبة وصحت ونشأت من صميم القلب أحرقت ما مرت عليه من السيئات حتى كأنها لم تكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وقد سال حكيم بن حزام رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن عتاقة وصلة وبر فعله في الشرك هل يثاب عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (( أسلمت على ما أسلفت من خير )).
فهذا يقتضي أن الإسلام أعاد عليه ثواب تلك الحسنات التي كانت باطلة بالشرك فلما تاب من الشرك عاد إليه ثواب حسناته المتقدمة.
فهكذا إذا تاب العبد توبة نصوحا صادقة خالصة أحرقت ما كان قبلها من السيئات وأعادت عليه ثواب حسناته.
يوضح هذا أن السيئات والذنوب هي أمراض قلبية كما أن الحمى والأوجاع أمراض بدنية والمريض إذا عوفي من مرضه عافية تامة عادت إليه قوته وأفضل منها حتى كأنه لم يضعف قط فالقوة المتقدمة بمنزلة الحسنات والمرض بمنزلة الذنوب والصحة والعافية بمنزلة التوبة سواء بسواء.
وكما أن من المرضى من لا تعود إليه صحته أبدا لضعف عافيته ومنهم من تعود صحته كما كانت لتقاوم الأسباب وتدافعها وعود البدن إلى كماله الأول ومنهم من يعود أصح مما كان وأقوى وأنشط لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لأسباب الضعف والمرض حتى ربما كان مرض هذا سببا لعافيته كما قال الشاعر:


لعل عتبك محمود عواقبه = وربما صحت الأجسام بالعلل
فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.

فصل:
وأما علامات تعظيم المناهي فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها ومجانبة كل وسيلة تقرب منها كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها وأن يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس وأن يجانب الفضول من المباحات خشية الوقوع في المكروهات ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو إليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته.
ومن علامات تعظيم النهي أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه وأن يجد في قلبه حزنا وكسرة إذا عصي الله تعالى في أرضه ولم يطع بإقامة حدوده وأوامره ولم يستطع هو أن يغير ذلك.
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيا غير مستقيم على المنهج الوسط.
مثال ذلك أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصا جافيا.
وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور ويفعل العبادة بتكره وضجر فمن حكمة الشارع صلى الله عليه وسلم أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر فيصلي العبد بقلب حاضر ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى.
ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط لتعلق قلبه من ذلك بما يشوش عليه مقصود الصلاة فلا يحصل المراد منها فمن فقه الرجل في عبادته أن يقبل على شغله فيعمله ثم يفرغ قلبه للصلاة فيقوم فيها وقد فرغ قلبه لله تعالى ونصب وجهه له وأقبل بكليته عليه فركعتان من هذه الصلاة يغفر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه.
والمقصود أنه لا يترخص ترخصا جافيا.
ومن ذلك أنه رخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير وتعذر النزول أو تعسره عليه فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة أو أقام اليوم فجمعه بين الصلاتين لا موجب له لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أو لم يوجد بل الجمع رخصة عارضة والقصر سنة راتبة فسنة المسافر قصر الرباعية سواء وجد له عذر أو لم يوجد وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة فهذا لون وهذا لون.
ومن هذا أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التخمة والامتلاء فيتطلب ما يصرف به الطعام فيكون همه بطنه قبل الأكل وبعده بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع ويدع الطعام وهو يشتهيه وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه )) فلا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.
وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغاليا فيه حتى يفوت الوقت أو يردد تكبيره الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو تكاد تفوته الركعة أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئا من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه.
ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع أن يأكل شيئا من بلاد المسلمين وكان يتقوت بما يحمل إليه من بلاد النصارى ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان.
فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف ولا يعرضا لتشديد غال فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه.
وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما تقصير وتفريط وإما إفراط وغلو فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين فإنه يأتي إلى قلب العبد فيشامه فإن وجد فيه تقصيرا وفتورا وتوانيا وترخيصا أخذه من هذه الخطة فثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك حتى ربما ترك العبد المأمور جملة.
وإن وجد عنده حذرا وجدا وتشميرا ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد وسول له أن هذا لا يكفيك وهمتك فوق هذا وينبغي لك أن تزيد على العاملين وأن لا ترقد إذا رقدوا ولا تفطر إذا أفطروا وأن لا تفتر إذا فتروا وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغتسل أنت سبعا وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها ونحو ذلك من الإفراط والتعدي فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم كما يحمل الأول على التقصير دونه وأن لا يقربه.
ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم هذا بأن لا يقربه ولا يدنو منه وهذا بأن يتجاوزه ويتعداه.
وقد فتن بهذا أكثر الخلق ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط والله المستعان.

فصل:
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه ممتثلا ما أمر به سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد بالبذل والتسليم لأمر الله ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه جملة كما حمل ذلك كثيرا من زنادقة الفقراء والمنتسبين إلى التصوف.
فإن الله عز وجل شرع الصلوات الخمس إقامة لذكره واستعمالا للقلب والجوارح واللسان في العبودية وإعطاء كل منها قسطه من العبودية التي هي المقصود بخلق العبد فوضعت الصلاة على أكمل مراتب العبودية.
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الآدمي واختاره من بين سائر البرية وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان والتوحيد والإخلاص والمحبة والحياء والتعظيم والمراقبة وجعل ثوابه إذا قدم عليه أكمل الثواب وأفضله وهو النظر إلى وجهه والفوز برضوانه ومجاورته في جنته.
وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة وابتلاه بعدوه إبليس لا يفتر عنه فهو يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه فتميل نفسه معه لأنه يدخل عليها بما تحب فيتفق هو ونفسه وهواه على العبد ثلاثة مسلطون آمرون فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم والجوارح آلة منقادة فلا يمكنها إلا الانبعاث فهذا شأن هذه الثلاثة وشأن الجوارح فلا تزال الجوارح في طاعتهم كيف أمروا وأين يمموا.
هذا مقتضى حال العبد.
فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم به أن أعانه بجند آخر وأمده بمدد آخر يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه فأرسل إليه رسوله وأنزل عليه كتابه وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان فإذا أمره الشيطان بأمر أمره الملك بأمر ربه وبين له ما في طاعة العدو من الهلاك فهذا يلم به مرة وهذا مرة والمنصور من نصره الله عز وجل والمحفوظ من حفظه الله تعالى.
وجعل له مقابل نفسه الأمارة نفسا مطمئنة إذا أمرته النفس الأمارة بالسوء نهته عنه النفس المطمئنة وإذا نهته الأمارة عن الخير أمرته به النفس المطمئنة فهو يطيع هذه مرة وهذه مرة وهو للغالب عليه منهما وربما انقهرت إحداهما بالكلية قهرا لا تقوم معه أبدا.
وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نورا وبصيرة وعقلا يرده عن الذهاب مع الهوى فكلما أراد أن يذهب مع الهوى ناداه العقل والبصيرة والنور الحذر الحذر فإن المهالك والمتالف بين يديك وأنت صيد الحرامية وقطاع الطريق إن سرت خلف هذا الدليل.
فهو يطيع الناصح مرة فيبين له رشده ونصحه ويمشي خلف دليل الهوى مرة فيقطع عليه الطريق ويؤخذ ماله وتسلب ثيابه فيقول: ترى من أين أتيت والعجب أنه يعلم من أين أتي ويعرف الطريق التي قطعت عليه وأخذ فيها ويأبى إلا سلوكها لأن دليلها قد تمكن منه وتحكم فيه وقوي عليه ولو أضعفه بالمخالفة له وزجره إذا دعاه وبمحاربته إذا أراد أخذه لم يتمكن منه ولكن هو مكنه من نفسه وهو أعطاه يده فهو بمنزلة الرجل يضع يده في يد عدوه فيأسره ثم يسومه سوء العذاب فهو يستغيث فلا يغاث فهكذا العبد يستأسر للشيطان والهوى ولنفسه الأمارة ثم يطلب الخلاص فيعجز عنه.
فلما أن بلي العبد بما بلي به أعين بالعساكر والعدد والحصون وقيل له قاتل عدوك وجاهده فهذه الجنود خذ منها ما شئت وهذه العدد البس منها ما شئت وهذه الحصون تحصن بأي حصن شئت ورابط إلى الموت فالأمر قريب ومدة المرابطة يسيرة جدا فكأنك بالملك الأعظم وقد أرسل إليك رسله فنقلوك إلى داره واسترحت من هذا الجهاد وفرق بينك وبين عدوك وأطلقت في دار الكرامة تتقلب فيها كيف شئت وسجن عدوك في أصعب الحبوس وأنت تراه فالسجن الذي كان يريد أن يودعك فيه قد أدخله وأغلقت عليه أبوابه وأيس من الخروج والفرج وأنت فيما اشتهت نفسك وقرت عينك جزاء على صبرك في تلك المدة اليسيرة ولزومك الثغر للرباط وما كانت إلا ساعة ثم انقضت وكأن الشدة لم تكن.
فإن ضعفت النفس عن ملاحظة قصر الوقت وسرعة انقضائه فليتدبر قوله عز وجل: { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة } وقوله عز وجل: { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } وقوله عز وجل: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعملون } وقوله عز وجل: {يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما}.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما فلما كانت الشمس على رؤوس الجبال وذلك عند الغروب قال: ((إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومك هذا فيما مضى منه)).
فليتأمل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث وليعلم أي شيء حصل له من هذا الوقت الذي قد بقي من الدنيا بأسرها ليعلم أنه في غرور وأضغاث أحلام وأنه قد باع سعادة الأبد والنعيم المقيم بحظ خسيس لا يساوي شيئا ولو طلب الله تعالى والدار الآخرة لأعطاه ذلك الحظ هنيئا موفرا وأكمل منه كما في بعض الآثار «ابن ادم بع الدنيا بالآخرة تربحهما جميعا ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرهما جميعا».
وقال بعض السلف: ابن ادم أنت محتاج إلى نصيبك من والدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج فإن بدأت بنصيبك من الدنيا أضعت نصيبك من الآخرة وكنت من نصيب الدنيا على خطر وإن بدأت بنصيبك من الآخرة فزت بنصيبك من الدنيا فانتظمته انتظاما.
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في خطبته: أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى وإن لكم معادا يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم والفصل بينكم فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء وجنته التي عرضها السموات والأرض وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف الله تعالى واتقى وباع قليلا بكثير وفانيا بباق وشقاوة بسعادة ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفكم بعدكم الباقون ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديا إلى الله ورائحا قد قضى نحبه وانقطع أمله فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد خلع الأسلاب وفارق الأحباب وواجه الحساب.
والمقصود أن الله عز وجل قد أمد العبد في هذه المدة اليسيرة بالجنود والعدد والإمداد وبين له بماذا يحرز نفسه من عدوه وبماذا يستفك نفسه إذا أسره.
وقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه والترمذي من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله سبحانه وتعالى أمر يحيى بن زكريا صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وأنه كاد أن يبطئ بها فقال له عيسى عليه السلام: إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب فجمع يحيى الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف فقال: إن الله تبارك وتعالى أمرني بخمس كلمات أن أعملهن وآمركم أن تعملوا بهن.
أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا فإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال له: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك.
وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت.
وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجب -أو يعجبه- ريحه وإن ريح الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك.
وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم.
وأمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى)).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم)).
فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟
قال: ((وإن صلى وصام فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
فقد ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح العظيم الشأن الذي ينبغي لكل مسلم حفظه وتعقله ما ينجي من الشيطان وما يحصل للعبد به الفوز والنجاة في دنياه وأخراه.
فذكر مثل الموحد والمشرك فالموحد كمن عمل لسيده في داره وأدى لسيده ما استعمله فيه والمشرك كمن استعمله سيده في داره فكان يعمل ويؤدي خراجه وعمله إلى غير سيده فهكذا المشرك يعمل لغير الله تعالى في دار الله تعالى ويتقرب إلى عدو الله تعالى بنعم الله تعالى عليه.
ومعلوم أن العبد من بني آدم لو كان له مملوك كذلك لكان أمقت المماليك عنده وكان أشد شيئا غضبا عليه وطردا له وإبعادا وهو مخلوق مثله كلاهما في نعمة غيرهما فكيف برب العالمين الذي ما بالعبد من نعمة فمنه وحده لا شريك له ولا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يصرف السيئات إلا هو وهو وحده المنفرد بخلق عبده ورحمته وتدبيره ورزقه ومعافاته وقضاء حوائجه.
فكيف يليق به مع هذا أن يعدل به غيره في الحب والخوف والرجاء والحلف والنذر والمعاملة فيحب غيره كما يحبه أو أكثر ويخاف غيره ويرجوه كما يخافه أو أكثر وشواهد أحوالهم بل وأقوالهم وأعمالهم ناطقة بأنهم يحبون أندادهم من الأحياء والأموات ويخافونهم ويرجونهم ويعاملونهم ويطلبون رضاهم ويهربون من سخطهم أعظم مما يحبون الله تعالى ويخافونه ويرجونه ويهربون من سخطه.
وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله عز وجل قال الله سبحانه وتعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة ديوان لا يغفر الله منه شيئا وهو الشرك به فإن الله لا يغفر أن يشرك به.
وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئا وهو ظلم العباد بعضهم بعضا فإن الله تعالى يستوفيه كله.
وديوان لا يعبأ الله به شيئا وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محوا فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ونحو ذلك بخلاف ديوان الشرك فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها.
ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرم الجنة على أهله فلا يدخل الجنة نفس مشركة وإنما يدخلها أهل التوحيد فإن التوحيد هو مفتاح بابها فمن لم يكن معه مفتاح لم يفتح له بابها وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن الفتح به.
وأسنان هذا المفتاح هي: الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المكر وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وبر الوالدين فأي عبد اتخذ في هذه الدار مفتاحا صالحا من التوحيد وركب فيه أسنانا من الأوامر جاء يوم القيامة إلى باب الجنة ومعه مفتاحها الذي لا يفتح إلا به فلم يعقه عن الفتح عائق اللهم إلا أن تكون له ذنوب وخطايا وأوزار لم يذهب عنه أثرها في هذه الدار بالتوبة والاستغفار فإنه يحبس عن الجنة حتى يتطهر منها وإن لم يطهره الموقف وأهواله وشدائده فلا بد من دخول النار ليخرج خبثه فيها ويتطهر من ذنوبه ووسخه ثم يخرج منها فيدخل الجنة فإنها دار الطيبين لا يدخلها إلا طيب.
قال سبحانه وتعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة} وقال تعالى: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين}.
فعقب دخولها على الطيب بحرف الفاء الذي يؤذن بأنه سبب للدخول أي بسبب طيبكم قيل لكم ادخلوها.
وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب ودار الخبيثين قال الله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} فالله تعالى يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء المتراكب بعضه على بعض ثم يجعله في جهنم مع أهله فليس فيها إلا خبيث.
ولما كان الناس على ثلاث طبقات طيب لا يشوبه خبث وخبيث لا طيب فيه وآخرون فيهم خبث وطيب كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض وهاتان الداران لا تفنيان ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد فإنهم إذا عذبوا بقدر أعمالهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة ولا يبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبث المحض.
وقوله في الحديث: ((وأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت)).
الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان:
أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى.
الثاني : التفات البصر.
وكلاهما منهي عنه.
ولا يزال الله مقبلا على عبده ما دام العبد مقبلا على صلاته فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)).
وفي أثر آخر يقول الله تعالى: «إلى خير مني إلى خير مني».
ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه وأقبل يناديه و يخاطبه وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينا وشمالا أو قد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه به لأن قلبه ليس حاضرا معه فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتا مبعدا وقد سقط من عينيه فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته وذلت عنقه له واستحي من ربه تعالى أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض.
وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل والآخر ساه غافل.
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالا ولا تقريبا فما الظن بالخالق عز وجل.
وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها ملأى منها فكيف يكون ذلك إقبالا وقد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب.
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه فإنه قدم قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه بل لا يزال به يعده ويمنيه وينسيه ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شأن الصلاة فيتهاون بها فيتركها.
فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه ويحول بينه وبين قلبه فيذكره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة وأيس منها فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها ويأخذه عن الله عز وجل فيقوم فيها بلا قلب فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة.
فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها وأكمل خشوعها ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه وأحس بأثقال قد وضعت عنه فوجد نشاطا وراحة وروحا حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها لأنها قرة عينه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)) ولم يقل أرحنا منها وقال صلى الله عليه وسلم: ((جعلت قرة عيني في الصلاة)) فمن جعلت قرة عينه في الصلاة فكيف تقر عينه بدونها وكيف يطيق الصبر عنها.
فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرة عينه في الصلاة هي التي تصعد ولها نور وبرهان حتى يستقبل بها الرحمن عز وجل فتقول حفظك الله تعالى كما حفظتني وأما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني.
وقد روي في حديث مرفوع رواه بكر بن بشر عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه أنه قال: «ما من مؤمن يتم الوضوء إلى أمكانه ثم يقوم إلى الصلاة في وقتها فيؤديها لله عز وجل لم ينقص من وقتها وركوعها وسجودها ومعالمها شيئا إلا رفعت له إلى الله عز وجل بيضاء مسفرة يستضيء بنورها ما بين الخافقين حتى ينتهى بها إلى الرحمن عز وجل.
ومن قام إلى الصلاة فلم يكمل وضوءها وأخرها عن وقتها واسترق ركوعها وسجودها ومعالمها رفعت عنه سوداء مظلمة ثم لا تجاوز شعر رأسه تقول: ضيعك الله كما ضيعتني ضيعك كما ضيعتني)).
فالصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه عز وجل فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به كانت مقبولة.
والمقبول من العمل قسمان:
أحدهما: أن يصلي العبد ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله عز وجل ذاكر لله عز وجل على الدوام فأعمال هذا العبد تعرض على الله عز وجل حتى تقف قبالته فينظر الله عز وجل إليها فإذا نظر إليها رآها خالصة لوجهه مرضية قد صدرت عن قلب سليم مخلص محب لله عز جل متقرب إليه أحبها ورضيها وقبلها.
القسم الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله فأركانه مشغولة بالطاعة وقلبه لاه عن ذكر الله وكذلك سائر أعماله فإذا رفعت أعمال هذا إلى الله عز وجل لم تقف تجاهه ولا يقع نظره عليها ولكن توضع حيث توضع دواوين الأعمال حتى تعرض عليه يوم القيامة فتميز فيثيبه على ما كان له منها ويرد عليه ما لم يرد وجهه به منها.
فهذا قبوله لهذا العمل إثابته عليه بمخلوق من مخلوقاته من القصور والأكل والشرب والحور العين وإثابة الأول رضا العمل لنفسه ورضاه على عامله وتقريبه منه وإعلاء درجته ومنزلته فهذا يعطيه بغير حساب فهذا لون والأول لون.
والناس في الصلاة على مراتب خمسة:
أحدهما: مرتبة الظالم لنفسه المفرط وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.
الثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالث: من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق منه صلاته فهو في صلاة وجهاد.
الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها لئلا يضيع منها شيئا بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي وإكمالها وإتمامها قد استغرق قلب شأن الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها.
الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل ناظرا بقلبه إليه مراقبا له ممتلئا من محبته وعظمته كأنه يراه ويشاهده وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات وارتفعت حجبها بينه وبين ربه فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أعظم مما بين السماء والأرض وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل قرير العين به.
فالقسم الأول معاقب والثاني محاسب والثالث مكفر عنه والرابع مثاب والخامس مقرب لأن له نصيبا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة فمن قرت عينه بصلاته في الدنيا قرت عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة وقرت عينه أيضا به في الدنيا ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
وقد روي أن العبد إذا قام يصلي قال الله عز وجل: «ارفعوا الحجب فإذا التفت قال أرخوها».
وقد فسر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عز وجل إلى غيره فإذا التفت إلى غيره أرخى الحجاب بينه وبين العبد فدخل الشيطان وعرض عليه أمور الدنيا وأراه إياها في صورة المرآة وإذا أقبل بقلبه على الله ولم يلتفت لم يقدر الشيطان على أن يتوسط بين الله تعالى وبين ذلك القلب وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب فإن فر إلى الله تعالى وأحضر قلبه فر الشيطان فإن التفت حضر الشيطان فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة.

فصل:
وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه عز وجل إذا قهر شهوته وهواه وإلا فقلب قد قهرته الشهوة وأسره الهوى ووجد الشيطان فيه مقعدا تمكن فيه كيف يخلص من الوساوس ومن الأفكار؟!
والقلوب ثلاثة:
قلب خال من الإيمان وجميع الخير فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه لأنه قد اتخذه بيتا ووطنا وتحكم فيه بما يريد وتمكن منه غاية التمكن.
القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية فللشيطان هناك إقبال وإدبار ومجاولات ومطامع فالحرب دول وسجال وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة فمنهم من أوقات غلبته لعدوه أكثر ومنهم من أوقات غلبة عدوه له أكثر ومنهم من هو تارة وتارة.
القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان وانقشعت عنه حجب الشهوات وأقلعت عنه تلك الظلمات فلنوره في قلبه إشراق ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس احترق به فهو كالسماء التي حرست بالنجوم فلو دنا منها الشيطان ليتخطاها رجم فاحترق.
وليست السماء بأعظم حرمه من المؤمن وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء والسماء متعبد الملائكة ومستقر الوحي وفيها أنوار الطاعات وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان وفيه أنوارها فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو فلا ينال منه شيئا إلا على غرة وغفلة خطفة.
وقد مثل ذلك بمثال حسن وهو ثلاثة بيوت:
بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره.
وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره وجواهره وليس فيه جواهر الملك وذخائره.
وبيت خال صفر لا شيء فيه.
فجاء اللص يسرق من أحد البيوت فمن أيها يسرق؟!
فإن قلت: من البيت الخالي كان محالا لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يسرق ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب.
وإن قلت: يسرق من بيت الملك كان ذلك كالمستحيل الممتنع فإن عليه من الحرس واليزك ما لا يستطيع اللص الدنو منه كيف وحارسه الملك بنفسه وكيف يستطيع اللص الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله.
فلم يبق للص إلا البيت الثالث فهو الذي يشن عليه الغارة.
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل ولينزله على القلوب فإنها على منواله.
فقلب خلا من الخير كله وهو قلب الكافر والمنافق فذلك بيت الشيطان قد أحرزه لنفسه واستوطنه واتخذه سكنا ومستقرا فأي شيء يسرق منه وفيه خزائنه وذخائره وشكوكه وخيالاته ووساوسه.
وقلب قد امتلأ من جلال الله عز وجل وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه فأي شيطان يجترئ على هذا القلب وإن أراد سرقة شيء منه فماذا يسرق منه وغايته أن يظفر في الأحايين منه بخطفة ونهبة تحصل له على غرة من العبد وغفلة لا بد له منها إذ هو بشر وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو والذهول وغلبة الطبع.
وقد ذكر عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى أنه قال: في بعض الكتب الإلهية لست أسكن البيوت ولا تسعني وأي بيت يسعني والسموات حشو كرسي ولكن أنا في قلب المؤمن الوادع التارك لكل شيء سواي.
وهذا معنى الأثر الآخر: «ما وسعتني سمواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن».
وقلب فيه توحيد الله تعالى ومعرفته ومحبته والإيمان به والتصديق بوعده ووعيده وفيه شهوات النفس وأخلاقها ودواعي الهوى والطبع.
وقلب بين هذين الداعيين فمرة يميل بقلبه داعي الإيمان والمعرفة والمحبة لله تعالى وإرادته وحده ومرة يميل بقلبه داعي الهوى والشيطان والطباع فهذا القلب للشيطان فيه مطمع وله منه منازلات ووقائع ويعطي الله النصر من يشاء {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}.
وهذا لا يتمكن الشيطان منه إلا بما عنده من سلاحه فيدخل الشيطان إليه فيجد سلاحه عنده فيأخذه ويقاتله به فإن أسلحته هي الشهوات والشبهات والخيالات والأماني الكاذبة وهي في القلب فيدخل الشيطان فيجدها عنده فيأخذها ويصول بها على القلب فإن كان عند العبد عدة عتيدة من الإيمان تقاوم تلك العدة وتزيد عليها انتصف من الشيطان وإلا فالدولة لعدوه عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فإذا أذن العبد لعدوه وفتح له باب بيته وأدخله عليه ومكنه من السلاح يقاتله به فهو الملوم.
فنفسك لم ولا تلم المطايا ومت كمدا فليس لك اعتذار

فصل:
عدنا إلى شرح حديث الحارث الذي فيه ذكر ما يحرز العبد من عدوه.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك مثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجب -أو يعجبه- ريحه وإن ريح الصيام أطيب عند الله من ريح المسك)).
إنما مثل صلى الله عليه وسلم ذلك بصاحب الصرة التي فيها المسك لأنها مستورة عن العيون مخبوءة تحت ثيابه كعادة حامل المسك وهكذا الصائم صومه مستور عن مشاهدة الخلق لا تدركه حواسهم.
والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور وبطنه عن الطعام والشراب وفرجه عن الرفث فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه فيخرج كلامه كله نافعا صالحا وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته له وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم.
هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب.
ففي الحديث الصحيح: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)) وفي الحديث: ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)).
فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام وصوم البطن عن الشراب والطعام فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده فكذلك الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته فتصيره بمنزلة من لم يصم.
وقد اختلف في وجود هذه الرائحة من الصائم هل هي في الدنيا أو في الآخرة على قولين.
ووقع بين الشيخين الفاضلين أبي محمد بن عبد السلام وأبي عمرو بن الصلاح في ذلك تنازع فمال أبو محمد إلى أن تلك في الآخرة خاصة وصنف فيه مصنفا ومال الشيخ أبو عمرو إلى أن ذلك في الدنيا والآخرة وصنف فيه مصنفا رد فيه على أبي محمد.
وسلك أبو عمرو في ذلك مسلك أبي حاتم بن حبان فإنه في صحيحه بوب عليه كذلك فقال: ذكر البيان بأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك ثم ساق حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام والصيام لي وأنا أجزي به ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)).
ثم قال: ذكر البيان بأن خلوف فم الصائم يكون أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة ثم ساق حديثا من حديث ابن جريج عن عطاء عن أبي صالح الزيات أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك للصائم فرحتان إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي الله فرح بصومه)).
قال أبو حاتم: شعار المؤمنين يوم القيامة التحجيل بوضوئهم في الدنيا فرقا بينهم وبين سائر الأمم وشعارهم في القيامة بصومهم طيب خلوف أفواههم أطيب من ريح المسك ليعرفوا من بين سائر الأمم في ذلك الجمع بذلك العمل جعلنا الله تعالى منهم.
ثم قال: ذكر البيان بأن خلوف فم الصائم قد يكون أيضا أطيب من ريح المسك في الدنيا ثم ساق من حديث شعبة عن سليمان عن ذكوان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل حسنة يعملها ابن آدم بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف يقول الله عز وجل: إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به يدع الطعام من أجلي والشراب من أجلي وللصائم فرحتان فرحة حين يفطر وفرحة حين يلقى ربه ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك)).
واحتج الشيخ أبو محمد بالحديث الذي فيه تقييد الطيب بيوم القيامة.
قلت: ويشهد لقوله الحديث المتفق عليه: ((والذي نفسي بيده ما من مكلوم يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى اللون لون الدم والريح ريح مسك)).
فأخبر صلى الله عليه وسلم عن رائحة كلم المكلوم في سبيل الله عز وجل بأنها كريح المسك يوم القيامة وهو نظير إخباره عن خلوف فم الصائم فإن الحس يدل على أن هذا دم في الدنيا وهذا خلوف ولكن يجعل الله تعالى رائحة هذا وهذا مسكا يوم القيامة.
واحتج الشيخ أبو عمرو بما ذكره أبو حاتم في صحيحه من تقييده ذلك بوقت إخلافه وذلك يدل على أنه في الدنيا فلما قيد المبتدأ وهو خلوف فم الصائم بالظرف وهو قوله: ((حين يخلف)) كان الخبر عنه وهو قوله: ((أطيب عند الله)) خبرا عنه في حال تقييده فإن المبتدأ إذا تقيد بوصف أو حال أو ظرف كان الخبر عنه حال كونه مقيدا فدل على أن طيبه عند الله تعالى ثابت حال إخلافه.
قال: وروى الحسن بن سفيان في مسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا)) فذكر الحديث وقال فيه: ((وأما الثانية فإنهم يمسون وريح أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك)).
ثم ذكر كلام الشراح في معنى طيبه وتأويلهم إياه بالثناء على الصائم والرضا بفعله على عادة كثير منهم بالتأويل من غير ضرورة حتى كأنه قد بورك له فيه فهو موكل به.
وأي ضرورة تدعو إلى تأويل كونه أطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله والرضا بفعله وإخراج اللفظ عن حقيقته.
وكثير من هؤلاء ينشئ للفظ معنى ثم يدعي إرادة ذلك المعنى بلفظ النص من غير نظر منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عينه أو احتمال اللغة له.
ومعلوم أن هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن مراده من كلامه كيت وكيت فإن لم يكن ذلك معلوما بوضع اللفظ لذلك المعنى أو عرف الشارع صلى الله عليه وسلم وعادته المطردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى أو تفسيره له به وإلا كانت شهادة باطلة وأدنى أحوالها أن تكون شهاجة بلا علم.
ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك فمثل النبي صلى الله عليه وسلم طيب هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم.
ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهيته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعاله لا تشبه أفعالهم وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه والعمل الصالح فيرفعه وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا.
ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله في الرضا فإن قالوا: رضاه ليس كرضا المخلوقين فقولوا استطابته ليست كاستطابة المخلوقين وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب.
ثم قال: وأما ذكر يوم القيامة في الحديث فلأنه يوم الجزاء وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلبا لرضا الله تعالى حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات فخص يوم القيامة بالذكر وفي بعض الروايات كما خص في قوله تعالى: {إن ربهم بهم يومئذ لخبير} وأطلق في باقيها نظرا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين.
قلت: ومن العجب رده على أبي محمد بما لا ينكره أبو محمد وغيره فإن الذي فسر به الاستطابة المذكورة في الدنيا بثناء الله تعالى على الصائمين ورضاه بفعلهم أمر لا ينكره مسلم فإن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وفيما بلغه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي بفعلهم فإن كانت هذه هي الاستطابة أفترى الشيخ أبا محمد ينكرها؟!
والذي ذكره الشيخ أبو محمد أن هذه الرائحة إنما يظهر طيبها على طيب المسك في اليوم الذي يظهر فيه طيب دم الشهيد ويكون كرائحة المسك ولا ريب أن ذلك يوم القيامة فإن الصائم في ذلك اليوم يجيء ورائحة فمه أطيب من رائحة المسك كما يجيء المكلوم في سبيل الله عز وجل ورائحة دمه كذلك لاسيما والجهاد أفضل من الصيام فإن كان طيب رائحته إنما يظهر يوم القيامة فكذلك الصائم.
وأما حديث جابر: ((فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب من ريح المسك)) فهذه جملة حالية لا خبرية فإن خبر أمسى لا يقترن بالواو لأنه خبر مبتدأ فلا يجوز اقترانه بالواو وإذا كانت الجملة حالية فلأبي محمد أن يقول هي حال مقدرة والحال المقدرة يجوز تأخيرها عن زمن الفعل العامل فيها ولهذا لو صرح بيوم القيامة في مثل هذا فقال: يمسون وخلوف أفواههم أطيب من ريح المسك يوم القيامة لم يكن التركيب فاسدا كأنه قال يمسون وهذا لهم يوم القيامة.
وأما قوله: ((لخلوف فم الصائم حين يخلف)) فهذا الظرف تحقيق لمعنى المبتدأ وتأكيد له وبيان إرادة الحقيقة المفهومة منه لا مجازه ولا استعارته وهذا كما تقول جهاد المؤمن حين يجاهد وصلاته حين يصلي يجزيه الله تعالى بها يوم القيامة ويرفع بها درجته يوم القيامة وهذا قريب من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)).
وليس المراد تقييد نفي الإيمان المطلق عنه حالة مباشرته تلك الأفعال فقط بحيث إذا كملت مباشرته وانقطع فعله عاد إليه الإيمان بل هذا النفي مستمر إلى حين التوبة وإلا فما دام مصرا وإن لم يباشر الفعل فالنفي لاحق به ولا يزول عنه اسم الذم والأحكام المترتبة على المباشرة إلا بالتوبة النصوح والله سبحانه وتعالى أعلم.
قلت: وفصل النزاع في المسألة أن يقال حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك الطيب يكون يوم القيامة فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال وموجباتها من الخير والشر فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك وكما تظهر فيه السرائر وتبدو على الوجوه وتصير علانية ويظهر فيه قبح رائحة الكفار وسواد وجوههم.
وحيث أخبر بأن ذلك حين يخلف وحين يمسون فلأنه وقت ظهور أثر العبادة ويكون حينئذ طيبها زائدا على ريح المسك عند الله تعالى وعند ملائكته وإن كانت تلك الرائحة كريهة للعباد فرب مكروه عند الناس محبوب عند الله تعالى وبالعكس فإن الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته أمره ورضاه ومحبته فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد وصار علانية وهكذا سائر آثار الأعمال من الخير والشر وإنما يكمل ظهورها ويصير علانية في الآخرة.
وقد يقوى العمل ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعض أثره على العبد في الدنيا في الخير والشر كما هو مشاهد بالبصر والبصيرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للحسنة ضياء في الوجه ونورا في القلب وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما عمل رجل عملا إلا ألبسه الله رداءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وهذا أمر معلوم يشترك فيه وفي العلم به أصحاب البصائر وغيرهم حتى إن الرجل الطيب البر لتشم منه رائحة طيبة وإن لم يمس طيبا فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه والفاجر بالعكس والمزكوم الذي أصابه الهواء لا يشم لا هذا ولا هذا بل زكامه يحمله على الإنكار فهذا فصل الخطاب في هذه المسالة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

فصل:
وقوله: ((وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم)).
هذا أيضا من الكلام الذي برهانه وجوده ودليله وقوعه فإن للصدقة تأثيرا عجيبا في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجر أو ظالم بل من كافر فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعا من البلاء وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم قد جربوه.
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء)).
وكما أنها تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى فهي تطفئ الذنوب والخطايا كما يطفئ الماء النار.
وفي الترمذي عن معاذ بن جبل قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقال: ((ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل)) ثم تلا {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}.
وفي بعض الآثار: «باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى الصدقة».
وفي تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بمن قدم ليضرب عنقه فافتدى نفسه منهم بماله كفاية فإن الصدقة تفدي العبد من عذاب الله عز وجل فإن ذنوبه وخطاياه تقتضي هلاكه فتجيء الصدقة تفديه من العذاب وتفكه منه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما خطب النساء يوم العيد: ((يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار)). وكأنه حثهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار.
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة)).
وفي حديث أبي ذر أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: ((الإيمان بالله)) قلت: يا نبي الله مع الإيمان عمل؟ قال: ((أن ترضخ مما خولك الله أو ترضخ مما رزق الله)) قلت: يا نبي الله فإن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ؟ قال: ((يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر)) قلت: إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قال: ((فليعن الأخرق)) قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع؟ قال: ((فليعن مظلوما)) قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مظلوما؟ قال: ((ما تريد أن تترك في صاحبك من خير ليمسك أذاه عن الناس)) قلت: يا رسول الله أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة؟ قال: ((ما من مؤمن يصيب خصلة من هده الخصال إلا أخذت بيده حتى أدخلته الجنة)) ذكره البيهقي في كتاب شعب الإيمان.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ذكر لي أن الأعمال تتباهى فتقول الصدقة: أنا أفضلكم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد أو جنتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثدييهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشي أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة مكانها.
قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتسع.
وروى البخاري هذا الحديث في كتاب الزكاة عن أبي هريرة أيضا ولفظه: أنا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع)).
وروى عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((على كل مسلم صدقة)) قالوا: يا رسول الله فمن لم يجد؟ قال: ((يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق)) قالوا: فإن لم يجد؟ قال: ((يعين ذي الحاجة الملهوف)) قالوا: فإن لم يجد؟ قال: ((فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنه له صدقة)).
ولما كان البخيل محبوسا عن الإحسان ممنوعا عن البر والخير كان جزاؤه من جنس عمله فهو ضيق الصدر ممنوع من الانشراح ضيق العطن صغير النفس قليل الفرح كثير الهم والغم والحزن لا يكاد تقضى له حاجة ولا يعان على مطلوب فهو كرجل عليه جبة من حديد قد جمعت يداه إلى عنقه بحيث لا يتمكن من إخراجها ولا حركتها وكلما أراد إخراجها أو توسيع تلك الجبة لزمت كل حلقه من حلقها موضعها.
وهكذا البخيل كلما أراد أن يتصدق منعه البخل فيبقى قلبه في سجنه كما هو والمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسح بها صدره فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه فكلما تصدق اتسع وانفسح وانشرح وقوي فرحه وعظم سروره.
ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقا بالاستكثار منها والمبادرة إليها وقد قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
وكان عبد الرحمن بن عوف أو سعد بن أبي وقاص يطوف بالبيت وليس له دأب إلا هذه الدعوة رب قني شح نفسي رب قني شح نفسي فقيل له: أما تدعو بغير هذه الدعوة؟ فقال: إذا وقيت شح نفسي فقد أفلحت.
والفرق بين الشح والبخل أن الشح هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقساء في تحصيله وجشع النفس عليه.
والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وحبه وإمساكه فهو شحيح قبل حصوله بخيل بعد حصوله.
فالبخل ثمرة الشح والشح يدعو إلى البخل والشح كامن في النفس فمن بخل فقد أطاع شحه ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقي شره وذلك هو المفلح {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
والسخي قريب من الله تعالى ومن خلقه ومن أهله وقريب من الجنة وبعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من خلقه بعيد من الجنة قريب من النار فجود الرجل يحببه إلى أضداده وبخله يبغضه إلى أولاده كما قيل:


ويظهر عيب المرء في الناس = بخله ويستره عنهم جميعا سخاؤه
تغط بأثواب السخاء فإنني = أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه
وقارن إذا قارنت حرا فإنما = يزن ويزري بالفتى قرناؤه
وأقلل إذا ما اسطعت قولا فإنه = إذا قل قول المرء قل خطاؤه
إذا قل مال المرء قل صديقه = وضاقت عليه أرضه وسماؤه
وأصبح لا يدري وإن كان = حازما أقدامه خير له أم وراؤه
إذا المرء لم يختر صديقا = لنفسه فناد به في الناس هذا جزاؤه
وحد السخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة وأن يوصل ذلك إلى مستحقه بقدر الطاقة وليس كما قال بعض من نقص عمله: حد الجود بذل الموجود ولو كان كما قال هذا القائل لارتفع اسم السرف والتبذير وقد ورد الكتاب بذمهما وجاءت السنة بالنهي عنهما.
وإذا كان السخاء محمودا فمن وقف على حده سمي كريما وكان للحمد مستوجبا ومن قصر عنه كان بخيلا وكان للذم مستوجبا وقد روي في أثر إن الله عز وجل أقسم بعزته ألا يجاوره بخيل.
والسخاء نوعان فأشرفهما سخاؤك عما بيد غيرك.
والثاني سخاؤك ببذل ما في يدك.
فقد يكون الرجل من أسخى الناس وهو لا يعطيهم شيئا لأنه سخا عما في أيديهم وهذا معنى قول بعضهم السخاء أن تكون بمالك متبرعا وعن مال غيرك متورعا.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن الله أوحى إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم أتدري لم اتخذتك خليلا؟ قال: لا قال: لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ.
وهذه صفة من صفات الرب جل جلاله فإنه يعطي ولا يأخذ ويطعم ولا يطعم وهو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وأحب الخلق إليه من اتصف بصفاته فإنه كريم يحب الكريم من عباده وعالم يحب العلماء وقادر يحب الشجعان وجميل يحب الجمال.
روى الترمذي في جامعه قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر أخبرنا خالد بن إلياس عن صالح بن أبي حسان قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم جواد يحب الجود فنظفوا أخبيتكم ولا تشبهوا باليهود. قال: فذكرت للمهاجر بن مسمار فقال: حدثنيه عامر بن سعد عن أبيه رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه قال: ((فنظفوا أفنيتكم)) هذا حديث غريب خالد بن إلياس يضعف.
وفي الترمذي أيضا في كتاب البر قال: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا سعيد بن محمد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل)).
وفي الصحيح أن الله تعالى وتر يحب الوتر.
وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء وإنما يرحم من عباده الرحماء وهو ستير يحب من يستر على عباده وعفو يحب من يعفو عنهم وغفور يحب من يغفر لهم ولطيف يحب من اللطيف من عباده ويبغض الفظ الغليظ القاسي الجعظري الجواظ ورفيق يحب الرفق وحليم يحب الحلم وبر يحب البر وأهله وعدل يحب العدل وقابل المعاذير يحب من يقبل معاذير عباده ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجودا وعدما فمن عفا عفا عنه ومن غفر غفر له ومن سامح سامحه ومن حاقق حاققه ومن رفق بعباده رفق به ومن رحم خلقه رحمه ومن أحسن إليهم أحسن إليه ومن صفح عنهم صفح عنه ومن جاد عليهم جاد عليه ومن نفعهم نفعه ومن سترهم ستره ومن تتبع عوراتهم تتبع عورته ومن هتكهم هتكه وفضحه ومن منعهم خيره منعه خيره ومن شاق الله شاق الله تعالى به ومن مكر مكر به ومن خادع خادعه ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة فالله تعالى لعبده على ما حسب ما يكون العبد لخلقه.
ولهذا جاء في الحديث: ((من ستر مسلما ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربه من كرب الدنيا نفس الله تعالى عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله تعالى حسابه)).
و((من أقال نادما أقال الله تعالى عثرته)).
و((من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله تعالى في ظل عرشه)) لأنه لما جعله في ظل الإنظار والصبر ونجاه من حر المطالبة وحرارة تكلف الأداء مع عسرته وعجزه نجاه الله تعالى من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش.
وكذلك الحديث الذي في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوما: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)).
فكما تدين تدان وكن كيف شئت فإن الله تعالى لك كما تكون أنت له ولعباده.
ولما أظهر المنافقون الإسلام وأسروا الكفر أظهر الله تعالى لهم يوم القيامة نورا على الصراط وأظهر لهم أنهم يجوزون الصراط وأسر لهم أن يطفئ نورهم وأن يحال بينهم وبين قطع الصراط جزاء من جنس أعمالهم وكذلك من يظهر للخلق خلاف ما يعلمه الله فيه فإن الله تعالى يظهر له في الدنيا والآخرة أسباب الفلاح والنجاح والفوز ويبطن له خلافها.
وفي الحديث: ((من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به)).
والمقصود أن الكريم المتصدق يعطيه الله ما لا يعطي البخيل الممسك ويوسع عليه في ذاته وخلقه ورزقه ونفسه وأسباب معيشته جزاء له من جنس عمله.

فصل:
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في إثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله)).
فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى وأن لا يزال لهجا بذكره فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب ولهذا سمي الوسواس الخناس أي يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله تعالى خنس أي كف وانقبض.
وقال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس فإذا ذكر الله تعالى خنس.
وفي مسنذ الإمام أحمد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة أنه بلغه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل)).
وقال معاذ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله قال: ((ذكر الله عز وجل)).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان فقال: ((سيروا هذا جمدان سبق المفردون)) قيل: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)).
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة)).
وفي رواية الترمذي: ((ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)).
وفي صحيح مسلم عن الأغر أبي مسلم قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده)).
وفي الترمذي عن عبد الله بن بسر أن رجلا قال: يا رسول الله إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها فأخبرني بما شئت أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى وفي رواية إن شرائع الإسلام قد كثرت علي وأنا قد كبرت فأخبرني بشيء أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى.
قال: ((لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى)).
وفي الترمذي أيضا عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: ((الذاكرون الله كثيرا)) قيل: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: ((لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما كان الذاكر لله تعالى أفضل منه درجة)).
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تبارك وتعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)).
وفي الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: ((حلق الذكر)).
وفي الترمذي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه يقول: ((إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه)).
وهذا الحديث هو فصل الخطاب في التفضيل بين الذاكر والمجاهد فإن الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد والمجاهد الغافل والذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى فأفضل الذاكرين المجاهدون وأفضل المجاهدين الذاكرون.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكرا الله كثيرا لعلكم تفلحون} فأمرهم بالذكر الكثير والجهاد معا ليكونوا على رجاء من الفلاح وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} وقال تعالى: {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} أي كثيرا.
وقال تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا}.
فقيد الأمر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه لا له وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله عز وجل.
وقال بعض العارفين: لو أقبل عبد على الله تعالى كذا وكذا سنة ثم أعرض عنه لحظة لكان ما فاته أعظم مما حصله.
وذكر البيهقي عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من ساعة تمر بابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلا تحسر عليها يوم القيامة)).
وذكر عن معاذ بن جبل يرفعه أيضا: ((ليس تحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها)).
وعن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو ذكرا لله عز وجل)).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: ((أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل)).
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: لكل شيء جلاء وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل.
وذكر البيهقي مرفوعا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((لكل شيء سقالة وإن سقالة القلوب ذكر الله عز وجل وما من شيء أنجى من عذاب الله عز وجل من ذكر الله)) قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: ((ولو أن يضرب بسيفه حتى ينقطع)).
ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء فإذا ترك الذكر صدئ فإذا ذكر جلاه.
وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبا على قلبه وصدأه بحسب غفلته وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صور الحقائق كما هي عليه.
فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه فلا يقبل حقا ولا ينكر باطلا وهذا أعظم عقوبات القلب. وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره.
قال الله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.
فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو هو من الغافلين وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة وأمره فرط لم يقتضي به ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك.
ومعنى الفرط قد فسر بالتضييع أي أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به وبه رشده وفلاحه ضائع قد فرط فيه.
وفسر بالإسراف أي قد أفرط وفسر بالهلاك وفسر بالخلاف للحق وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فإن وجده كذلك فليبعد عنه وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى واتباع السنة وأمره غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره فليتمسك بغرزه.
ولا فرق بين الحي والميت إلا بالذكر فمثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت وفي المسند مرفوعا: ((أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقال مجنون)).


رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مقدمة, تطبيق2

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تطبيق2: الرسالة التبوكية لابن القيم عبد العزيز الداخل القراءة المنظمة 1 8 جمادى الأولى 1435هـ/9-03-2014م 12:36 AM
من أروع ما قرأت ريم الحربي المنتدى العام 5 26 ذو القعدة 1431هـ/2-11-2010م 06:39 PM


الساعة الآن 02:37 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir