تفسير قول الله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم}
مقصد الآية:
هذه الآية بيان للآية السابقة، وقد تضمَّنت على وجازة ألفاظها أحسن التعريف بالصراط المستقيم، وبيان سبب سلوكه، وأحوال سالكيه وثوابهم، وما يقتضيه هذا السبب من الواجبات، وبيّنت أنواع مخالفيه، وأحوالهم وعقوباتهم؛ ومناسبة عقوباتهم لأسباب مخالفاتهم، ببيان بديع محكم غاية الإحكام.
بيان معاني الإنعام في القرآن:
الإنعام يأتي في القرآن على معنيين:
المعنى الأوَّل: إنعام عامّ، وهو إنعام فتنة وابتلاء، كما في قول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ...﴾، وقوله: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وهذا الإنعام عام للمؤمنين والكافرين كما قال تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾.
وهذا الإنعام حجة على العباد ودليل على المنعم جل وعلا ليخلصوا له العبادة ويشكروه على نِعَمِه كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾.
وقال: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.
والمعنى الثاني: إنعام خاص، وهو إنعام منَّة واجتباء، وهو الإنعام بالهداية إلى ما يحبه الله عز وجل ويرضاه من الأقوال والأعمال، وما يمنُّ به على بعض عباده من أسباب فضله ورحمته وبركاته.
والإنعام المقصود هنا هو الإنعام الخاص بالهداية والتوفيق والاجتباء، وهو المقصود في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾، وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾.
بيان معنى الإنعام في هذه الآية:
إذا تبيّن ما تقدّم فالمراد بالإنعام في هذه الآية الإنعام الخاصّ بالهداية الخاصة والتوفيق والاجتباء والإعانة وصرف المعوّقات والوقاية من الفتن وكيد الشيطان وشرّ النفس.
فالإنعام في هذه الآية شامل لأسباب الهداية وأحوالها وثمراتها؛ فإنَّ العبد يحتاج إلى إنعام يعرّفه بسبيل الهدى ويبصّره به، وإنعام لإرادة اتّباع الهدى، وإنعام لإعانته على سلوك سبيله وصرف القواطع والمعوّقات عنه، وإنعام بتثبيته وتأييده حتى يجد ثمرة هدايته، وإنعام بتوفيقه للمداومة على سلوك هذا الصراط حتى يلقى ربَّه جلَّ علا وهو راضٍ عنه.
فإنعام الله تعالى على عبده في هدايته إلى صراطه المستقيم يشمل كلَّ ما ذُكِر وغيره مما لا يحيط به العبد علماً؛ ولو ذهب يعدّد هذه النعم لم يحصها، فألهمه الله وصفاً جامعاً شاملاً رضيه سبحانه وتعالى وتقبّله من عباده وأجابهم وأثابهم عليه، والله تعالى محيط بكلّ ما يحتاجه العبد من نعمه ليهتدي بهداه ويفوز برضاه ويسلم من سخطه وعقابه؛ فكان قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} كافياً في وصف الصراط المستقيم الذي يريد الهداية إليه وفيه.
المراد بالذين أنعم الله عليهم:
الذين أنعم الله عليهم قد بيّنهم الله تعالى بقوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾
فهذه الآية تضمّنت بيان أصناف الذين أنعم الله عليهم، وأنّهم على درجات في هذا الإنعام؛ فمن الدرجات ما اختصّ الله به أنبياءَه ورسله، ومن هذه الدرجات ما جعل الأمَّة تتفاضل في طلبه وإدراكه.
وكل صنف من هؤلاء قد فضّل الله بعض أهله على بعض؛ حتى الرّسل كما دلّ على ذلك قول الله تعالى: {تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض} ، فهم وإن كانوا في درجة الرسالة؛ إلا أن بينهما تفاضلاً عظيماً فيما اختصّ الله به بعضهم دون بعض من الفضائل، ففضّل أولى العزم من الرسل على غيرهم، وفضّل بعضهم بأن كلّمهم، وفضّل نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن اتّخذهما خليلين، وفضّل نبيّنا صلى الله عليه وسلم بفضائل عظيمة من المقام المحمود والوسيلة والشفاعة الخاصة وغيرها مما اختصه الله به دون سائر النبيين والمرسلين.
فإذا كان هذا التفاضل جارياً في أفضل الدرجات وهي درجة النبوّة؛ فهو كذلك في سائر الدرجات.
فالصدّيقون يتفاضلون، والشهداء يتفاضلون، والصالحون كذلك يتفاضلون تفاضلاً عظيماً في وصف الصلاح؛ فمنهم من يكون له أصل الصلاح، وهو ما يصحّ به إسلامه؛ فيكون موعوداً بالجنّة، ومنهم من يكون من المحسنين في صلاحهم؛ فيكون من أهل الدرجات العلى.
تنوّع عبارات السلف في بيان المراد بالذين أنعم الله عليهم:
وقد تنوّعت عبارات السلف رحمهم الله تعالى في بيان المراد بالذين أنعم الله عليهم:
فروى بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {صراط الّذين أنعمت عليهم} قال: «طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، الّذين أطاعوك وعبدوك». رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال الربيع بن أنس البكري: النبيون.
وقال مجاهد: هم المؤمنون، وهي رواية ابن جريج عن ابن عباس، ولم يدرك، وإنما أخذ ابن جريج عن أصحاب مجاهد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه) رواه ابن جرير.
وقال وكيع بن الجراح: {الذين أنعمت عليهم} المسلمين.
وهذه الأقوال لا تعارض بينها، وهي من باب التفسير بالمثال لتوضيح المعنى للسائل والمستمع، فيقع الاختلاف في اللفظ بحسب سؤال السائل ومقتضى الخطاب والحاجة إلى البيان، فيذكر المفسّر بعض معنى الآية بما يفيد السائل والمستمع، لا على أنَّ الآية لا تحتمل من المعنى إلا ما ذكر.
وكلّ هؤلاء من طبقات الذين ذكرهم الله في سورة النساء من الذين أنعم الله عليهم.
الحكمة من حذف متعلّق الإنعام في هذه الآية:
معنى متعلّق الإنعام يتبيّن بسؤال: أنعم الله عليهم بماذا؟
وما الحكمة من عدم التصريح به مع الحاجة إلى معرفته؟
وكلّ حذف في القرآن فله حكمة، ولذلك اعتنى أصحاب التفسير البياني بمسائل الحذف في القرآن، واجتهدوا في تعرّف دلائلها، وأنواعها، وتلمّسوا الحِكَم من الحذف في القرآن الكريم، وخرجوا بأقوال تدهش لها العقول من حسن بيان القرآن وإحكامه.
وقد يقع في كلام بعضهم شيء من التكلف غير مقبول، لكن ما كان من كلامهم صحيحاً في نفسه، وله وجه صحيح في الاستدلال، فلا شكّ في اعتباره.
ومن ذلك حذف متعلّق الإنعام في هذه الآية؛ والأظهر أنَّ الحذف للدلالة على العموم في كلّ ما من شأنه حصول تمام الهداية، وقد تقدّم بيان ما يحتاجه العبد من النعم العظيمة لتتمّ له نعمة الهداية.
ولكثرة ما يحتاجه العبد من الهدايات في كلّ شأن من شؤونه.
وهذا نظير حذف متعلّق أفعل التفضيل في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ وذلك لإرادة العموم؛ أي أقوم في كل شيء يُحتاج إليه من أبواب الدين في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك والدعوة والسياسة وغيرها مما تتعلق به حاجة الفرد والأمة في الهداية إلى ما ينفع ويقرب إلى الله عز وجل، وتتحقق به النجاة والسلامة مما يُخشى ضرره.
تنبيه هذه الآية على سبب الهداية:
هذه الآية فيها تنبيه على سبب الهداية، وأنها لا تحصل إلا بإنعام الله تعالى على عبده، وأن العبد لولا إنعام الله عليه لما كان له أن يهتدي لمعرفة الحق، ولا لإرادة اتّباع الهدى، ولا للثبات على الهداية.
قال ابن جرير رحمه الله: (وفي هذه الآية دليلٌ واضحٌ على أنّ طاعة اللّه جلّ ثناؤه لا ينالها المطيعون إلاّ بإنعام اللّه بها عليهم وتوفيقه إيّاهم لها، أوَلا يسمعونه يقول: {صراط الّذين أنعمت عليهم}؟!!
فأضاف كلّ ما كان منهم من اهتداءٍ وطاعةٍ وعبادةٍ إلى أنّه إنعامٌ منه عليهم؟)ا.هـ.
بيان تمام نعمة الله تعالى على هذه الأمة:
قد أتمّ الله تعالى علينا نعمته بفضله ورحمته فهي نعمة تامّة غير ناقصة كما قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}
فالمراد بالنعمة هنا نعمة الهداية والبيان لما يحبّه الله عزّ وجلّ ويرضاه في كلّ شأن من شؤون المسلمين؛ فلم يترك الله أمراً يحتاج الناس فيه إلى بيان الهدى إلا وبيّنه علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
ومع تمام هذه النعمة فإنَّ المسلمين يتفاضلون في إدراك نصيبهم منها كلّ بحسب مبلغه من العلم والفقه في الدين.
وتمام هذه النعمة له أثر عظيم على نفس المؤمن إذ يطمئنّ به إلى أنَّ ما يطلبه قد تكفّل الله ببيانه وأتمّ النعمة به؛ فيحمله ذلك على تدبّر القرآن والتفقّه فيه وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى يزداد نصيبه من هذه النعمة العظيمة، ويجد ما يحتاج إليه من معرفة الهدى.
بيان ما يقتضيه وصف الإنعام:
ذكر الإنعام في هذه الآية فيه تنبيه على وجوب شكر النعمة، فالمؤمن اللبيب إذا قرأ هذه الآية؛ علم أنَّه يطلبُ نِعمةً تقتضي شكراً، فيعزم على شكر الله تعالى عند طلبه؛ فيوفّق بصلاح نيّته وصدقه وإخلاصه إلى شكر هذه النعمة؛ فيكون موعوداً بمزيدٍ من فضل الله ورحمته وبركاته، ولا يزال يسأل ربّه من نعمه، ويشكره على إنعامه، وربّه يكرمه ويزيده من فضله حتى يبلغ الدرجات العلى.
الحكمة من الإضافة في قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم}:
أثار ابن القيّم رحمه الله سؤالاً عن فائدة إضافة الصراط إلى الاسم الموصول المبهم دون أن يقول: (صراط النبيين والمرسلين) مثلاً.
وأجاب على هذا السؤال جواباً حسناً، وتلخيصه أن فيه ثلاث فوائد:
إحداها: التنبيه على علّة كونهم من المُنعم عليهم، وهي الهداية؛ فبهداية الله لهم كانوا من المنعم عليهم.
والثانية: قطع التعلّق بالأشخاص ونفي التقليد المجرّد عن القلب؛ واستشعار العلم بأنّ اتّباع من أمرنا باتّباعهم إنما هو امتثال لأمر الله.
والثالثة: أن الآية عامّة في جميع طبقات المنعَم عليهم؛ وأنه تعالى هو الذي هدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كلّ من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فكان ذكرهم بالوصف الجامع أوجز وأبلغ وأعمّ فائدة.
فائدة إسناد الإنعام في قوله: {أنعمتَ} إلى ضمير الخطاب:
وبيان هذا السؤال أنه تعالى قال: {الذين أنعمتَ عليهم} ولم يقل المنعَم عليهم كما قال: {المغضوب عليهم}.
وكلام أهل العلم في بيان الحكمة من ذلك يتلخّص في أمور:
أولها: توحيد الربّ جلّ وعلا، والتصريح بذكر إنعامه وحدَه، وأنّه لولا إنعامه لم يهتدِ أحد إلى الصراط المستقيم، فكان ذكر الضمير أدلَّ على التوحيد من قول (المنعَم عليهم).
والثاني: أنَّ ذلك أبلغ في التوسّل والثناء على الله تعالى؛ فإنّ ذلك يقتضي أنَّ كل مهتدٍ إلى الصراط المستقيم فإنّما اهتدى بما أنعم الله عليه، فيتوسّل بسابق إنعامه على كلّ من أنعم عليهم بأن يُلحقه بهم وأن يُنعم عليه كما أنعم عليهم.
قال ابن عاشور: (فيقول السائلون: اهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، وتهمُّما بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات)ا.هـ.
والثالث: أن هذا اللفظ أنسب للمناجاة والدعاء والتقرب إلى الله تعالى والتضرّع إليه.
والرابع: أنَّ مقتضى شكر النعمة التصريح بذكر المنعِم ونسبة النعمة إليه.
قال ابن القيّم رحمه الله: (الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعِم بها، وأصل الشكر ذكرُ المنعِم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمّن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من ذكره وإضافة النعمة إليه ما ليس في ذكر "المنعَم عليهم" لو قاله فضمّن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ})ا.هـ.
وقد ذكر ابن القيّم رحمه الله وغيره أوجهاً أخرى في الجواب على هذا السؤال.
الحكمة من تكرار ذكر الصراط:
وتوضيح هذا السؤال: أن قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم..} فيه ذِكْرُ الصراط أولاً معرّفاً باللام، ثمّ ذكره معرّفاً بالإضافة؛ ولم يختصر ذكر الصراط مع تقارب الموضعين.
فيقال في جواب هذا السؤال: أنّ ذكره في كلّ موضع له حكمة ومناسبة وفائدة لا تتحقق في غيره.
ففي الموضع الأول كان الأهمّ للسائل أن يُهدى إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الصحيح السهل المفضي إلى العاقبة الحسنة، وأنه طريق واحد كما دلّ عليه معنى التعريف والعهد الذهني.
وفي الموضع الثاني: أتى ذكر الصراط معرّفاً بالإضافة إلى الذين يُستأنس باتّباعهم واقتفاء آثارهم وليفيد بأنَّه صراط آمن مسلوك قد سلكه الذين أنعم الله عليهم ففازوا بفضل الله ورحمته وحسن ثوابه.
قال ابن القيّم رحمه الله: (وهذا كما إذا دللت رجلا على طريق لا يعرفها وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها؛ فأنت تقول: (هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك)، ثم تزيد ذلك عنده توكيدا وتقوية فتقول: (وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة)، أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدرا زائدا على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة فإن النفوس مجبولة على التأسّي والمتابعة فإذا ذُكِرَ لها من تتأسّى به في سلوكها أَنِسْتَ واقتحمتها، فتأمّله)ا.هـ.
ولابن عاشور كلام حسن في جواب هذا السؤال أيضاً وخلاصته أن فيه تفصيلاً بعد إجمال مفيد؛ ليتمكّن الوصف الأوّل من النفوس، ثمّ يعقب بالتفصيل المبيّن لحدود الصراط وعلاماته وأحوال السالكين وأحكامهم.
تمّ هذا الدرس والله تعالى أعلم وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.