بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول: مقدمات أصول التفسير
عناصر الدرس
- تمهيد
- معنى أصول التفسير
- فوائد معرفة أصول التفسير
- نشأة علم أصول التفسير
- عناية العلماء المتقدمين بأصول التفسير
- تتابع العلماء على الكتابة في أصول التفسير
- أصناف المؤلفات المعاصرة في أصول التفسير
- إجمال أبواب أصول التفسير
تمهيد:
الحمد لله الذي علّم القرآن وبيَّنه، وخلق الإنسان وعلّمه، وجعل كتابه هدى وشفاء لما في الصدور، ومُخرجاً من الظلمات إلى النور، وأرسل إلينا رسوله الكريم، يتلو علينا آياته، ويعلمنا الكتاب والحكمة، ويرشدنا ويزكينا، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام الأمناء، الذين تحمّلوا أمانة العلم بالتفسير أحسن التحمّل، ورعوها أحسن الرعاية، وأدّوها أحسن الأداء، فكانوا خير من تعلّم القرآن وعلّمه بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثمّ تحمّله التابعون لهم بإحسان من بعدهم ، فتعلموا على منهاج الصحابة وهديهم، ونهضوا بأعباء رعايته وتعليمه، ولم يزلْ هذا العلمَ يحمله من كلّ خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم على ما حفظوا من العلم وبلّغوه خير الجزاء.
أما بعد:
فإنّ التفاسير لمّا كثرت واشتهرت، وتنوّعت في مشاربها وطرائقها واختلفت، وتعددت مباحث التفسير واتسعت، احتاج طلاب علم التفسير إلى مختصر يعرّفهم معالم هذا العلم الجليل، فيبيّن فضله، وآداب أهله، ويعرّفهم بنشأته وأطواره، وأسباب توسّع مباحثه، وتنوّع طرائق البحث فيها، ويقرّب مناهله وموارده، ويبيّن أصوله وقواعده، وأدواته وضوابطه، حتى يحسنوا به دراسة مسائله، ويميّزون صحيح التفسير من ضعيفه، وصوابه من خطئه، وطرق الجمع والترجيح، والنقد ولإعلال، واستخراج الفوائد واللطائف، والتعريف بأساليب التفسير، وطرق تعليمه، وما يتصل بهذه المباحث الشريفة مما له تعلّق بأصول التفسير.
فكانت الحاجة داعية إلى تأليف كتاب مختصر يجمع لطالب العلم المهمّ من تلك المباحث، ويمحضه خلاصتها، ليستعين بها على إحسان التأسيس في علم أصول التفسير.
معنى أصول التفسير
الأصول جمع أصل، وهو ما يُبنى عليه الشيء.
وأصول التفسير هي الأصول التي يُبنى عليها علم التفسير، وهذا يشمل جميع مراحل دراسة المسألة التفسيرية بدءاً من أصول التعرف على المسائل التفسيرية إلى ما يخلص به الدارس من نتيجة دراسته لتلك المسألة، وكيف يؤدي التفسير إلى المتلقّين.
فللتفسير أصول في تحمّله، وأصول في أدائه.
ولذلك تطلق كلمة أصول التفسير إطلاقات متعددة:
فتطلق على مصادر التفسير، لأنّها الأصول التي تستمدّ منها مسائل التفسير.
وتطلق على طرق التفسير.
وتطلق على بعض قواعد التفسير.
وتطلق على الحدود الضابطة لمنهج الاستدلال في التفسير.
وتطلق على المسائل الكبار التي تُبنى عليها المسائل المتفرّعة منها.
وتطلق على بعض كتب التفسير؛ لأنها أصول يعتمد عليها في دراسة مسائل التفسير.
وكل إطلاق له مناسبة سائغة فهو إطلاق صحيح، وإن لم يكن حاصراً للمراد بأصول التفسير.
ولا ينبغي أن يُتوقف كثيراً عند محاولة إيجاد تعريف جامع مانع لأصول التفسير؛ لكثرة الخلاف النظري في الحدود والتعريفات، ومن عرف نشأة علم التفسير، ومناهج تعلّمه وتعليمه، وما أثر عن الصحابة والتابعين وأئمة المفسرين في أبواب أصول التفسير أدرك مدلول هذه الكلمة، وأنه شامل لكل ما ينبني عليه تحقيق الصواب أو مقاربته في التفسير تعلّماً ودراسة وتعليماً.
فوائد معرفة أصول التفسير
علم أصول التفسير من العلوم الشريفة النافعة، ولدراسته فوائد جليلة منها:
1: إمداد الدارس بما يتمكّن به من معرفة مصادر التفسير وطرقه.
2: تعريف الدارس بأصول التعرف على المسائل التفسيرية وطرق دراستها .
3: تعريف الدارس بطرق معرفة الإجماع، ومراتب الخلاف، وطرق الجمع والترجيح، والتعليل والرد.
4: تبصير الدارس بالأصول الضابطة لصحّة منهجه في دراسة التفسير، وما يسوغ فيه الاجتهاد، وما لا يسوغ.
5: تعريف الدارس بالأدوات العلمية التي تعين الدارس على إحسان دراسته لمسائل التفسير، ومعرفة مواضع الخلل والتقصير، ومواضع الإجادة والإحسان.
6: التمرّن على أساليب التفسير والتعرف على طرق تبليغ معاني القرآن الكريم والدعوة إلى الله تعالى بما تعلّمه من التفسير.
7: تعريف الطالب بالشروط التي يجب أن تتحقق فيه قبل التصدّر للتفسير، والآداب التي عليه أن يتحلّى بها.
نشأة علم أصول التفسير
نشأ علم أصول التفسير في أصله مع علم التفسير؛ فهو مصاحب له غير مزايل له،فكان في كتاب الله تعالى من التنبيه على أصول مهمّة للهداية إلى معرفة مراد الله تعالى، والاهتداء بكتابه، وكيف تحيا به القلوب، وتستنير به الأبصار، وتنشرح به الصدور، وتُنال به العاقبة الحسنة ما ينبغي لطالب علم التفسير أن يقدره حقّ قدره ويعتني به حقّ العناية.
وتدبّر طالب العلم للآيات التي لها صلة بهذا المعنى نافع جداً.
ثمّ كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير وبيانه لمعاني القرآن أحسن الهدي وأكمله، فقد كان بيانه وتفسيره مشتملاً على أصول عظيمة النفع ؛ جليلة القدر، في حسن تلقّي معاني القرآن، وتحمّل أمانته، والقيام بما أوجب الله فيه من الرعاية والصيانة، وحسن تبليغه وتعليمه.
فرويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث شريفة مباركة في شأن طرق التفسير، وفي شأن الإسرائيليات، وفي الإجماع والخلاف، والتعلم والتعليم، وفي أساليب التذكير بالقرآن، وفي التنبيه إلى قواعد كلية في التفسير، وهذه كلها من أبواب أصول التفسير.
والمقصود أنه لا يكاد يخلو باب من أبواب أصول التفسير من هدى يُقتبس من الكتاب والسنة.
ثمّ كان تلقي الصحابة رضي الله عنهم لعلم التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم تلقياً مباركاً قائماً على أصول محكمة، وآداب جليلة، ورعاية نبوية كريمة.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم خير معلّم للتفسير، وكان أصحابه خير التلاميذ والأصحاب، أطهر الأمّة قلوباً، وأزكاهم نفوساً، وأفصحهم لساناً، وأحسنهم فهماً، وأصلحهم عملاً.
والمقصود أنه لا يكاد يخلو باب من أبواب أصول التفسير من هدى يُقتبس من الكتاب والسنة.
وقد عرفوا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير، ما كانوا به صدر أئمة هذا العلم، ومقدَّم العلماء فيه؛ فلا يُدرك شأوهم، ولا يساوى بقولهم وفهمهم قول غيرهم ممن أتى بعدهم وفهمهم.
وكان من يطلب علم التفسير من التابعين يتلقّى تلك الأصول من الصحابة رضي الله عنهم مع ما يتلقّاه من التفسير، وكانت تلك الأصول تدرك بأحد طريقين:
الطريق الأول: ما أثر عنهم من الآثار التي فيها تنبيه على جمل من أصول التفسير، وقد روي عنهم في ذلك ما لو جمع بأمثلته وتقريراته لكان في جزء حسن؛ يفيد الدارس فوائد جمّة من غير تكلّف ولا تطويل.
ومن ذلك وما أثر عن علي وحذيفة من التنبيه على شروط المفسّر.
وما أثر عن عليّ وابن مسعود في التنبيه على معرفة أسباب النزول وأحواله وترتيبه.
وما أثر عن ابن مسعود في شأن الخلاف بين الصحابة في التفسير.
وما أثر عن علي وابن عباس في تفسير القرآن بالقرآن.
وما أثر عن جماعة من الصحابة في العناية بالتفسير النبوي.
وما أثر عن عمر وأبيّ بن كعب وابن عباس من الوصية بتعلم العربية، والإفادة منها في التفسير.
وما أثر عن جماعة من الصحابة من التنويه ببعض علماء الصحابة في التفسير؛ كتنويه عمر وابن مسعود بابن عباس، وتنويه ابن مسعود بمعاذ بن جبل، وتنويه عمر بأبيّ بن كعب، وتنويه عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص بابن مسعود، إلى غير ذلك مما يطول تقصّيه، وهذا التنويه لإرشاد المتعلّمين لأخذ العلم عنهم، وأن يعرفوا لهم قدرهم وفضلهم.
ومن ذلك أيضاً ما أثر عن عمر وابن عباس في شأن الإسرائيليات.
وما أثر عن أبي بكر ومعاذ وابن مسعود في شأن الاجتهاد في التفسير.
وما أثر عن عمر وعثمان ومعاذ وابن مسعود وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري وابن عمر في شأن تعليم معاني القرآن.
وما أثر عن ابن عباس من التفنن في أساليب التفسير
فانتظمت وصاياهم وآثارهم أبواب أصول التفسير، وقد اجتهدت في جمع ما استطعت منها ووضعها في مواضعها من مباحث أصول التفسير،
والطريق الثاني: أن يصحب التلميذ أحدَهم مدّة حتى يتعلّم منه تلك الأصول مع ما يتعلّمه من مسائل التفسير؛ كما يتعلّم الهدي والعمل.
ثم سار التابعون على طريقة الصحابة في تعلّم التفسير وتعليمه، وبرز منهم أئمة أدركوا معرفة تلك الأصول؛ فأثرت عنهم في ذلك آثار حسنة.
ثم لمّا كثر تدوين التفاسير، وكتب في التفسير بعض القصّاص الذين لا يميّزون صحيح المرويات من ضعيفها، ولا يعرفون عللها، واشتهرت بعض تلك التفاسير ، وراجت بعض الأقوال الخاطئة، والروايات المعلولة، وكتب في التفسير بعض أهل الأهواء، والمجروحين بكثرة الخطأ في الرواية، أو بالاتهام بالكذب، وكثر التفسير بالرأي احتاج العلماء إلى ما جمع جُملٍ من الأصول التي يُضبط بها منهج الاستدلال، حتى يصان من الخطأ والانحراف، ويعرف به غلط الذين يتكلمون في هذا العلم بما لا يصح.
وكان من أحسن العلماء أثراً في هذا الجانب ثلاثة أئمة: محمد بن إدريس الشافعي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأحمد بن حنبل رحمهم الله جميعاً.
1: أما محمد بن إدريس الشافعي(ت:204هـ)
فهو وإن لم يفرد كتاباً في التفسير إلا أنّ له أثراً كبيراً على العلماء في تناول مسائل التفسير؛ فقد أحيا علم الحِجَاج، وقعّد قواعد الاستدلال، وبيّن ما يمكن أن يسمّى بأدوات المفسّر، وأودع في كتبه - ولا سيما ما في الرسالة- من ذلك ما لو جُمع وأفرد وبيّن بأمثلته لكان من أنفع ما يدرسه طالب علم التفسير.
بل كان موضوع كتابه "الرسالة" في رسم ما يعين على فهم معاني القرآن.
- قال جعفر بن أحمد الساماني: سمعت جعفر ابن أخي أبي ثور يقول: سمعت عمي يقول: (كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شابٌّ أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة؛ فوضع كتاب الرسالة).
قال عبد الرحمن بن مهدي: (ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها). رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار والخطيب البغدادي في كتاب "الاحتجاج بالشافعي".
- وقال الإمام أحمد: (كان الفقهاء أطباء، والمحدثون صيادلة، فجاء محمد بن إدريس طبيباً صيدلانياً).
فشبّهه بالصيدلاني الذي يعرف أنواع الأدوية ودرجاتها، والطبيب الذي يعرف علة المريض وما يصلحه من الدواء.
2: وأما أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت:224هـ)
فكان واسع المعرفة بعلوم القرآن والحديث واللغة وقد جمع في كتبه من ذلك ما امتاز به في جمع متعلقات المسائل، وإحسان النظر فيها، وهو أوّل من ألّف في القراءات، وله كتاب جليل القدر في معاني القرآنجمع فيه بين أقوال اللغويين والآثار عن الصحابة والتابعين، وكلا الكتابين مفقود.
- قال أبو عبد الله الذهبي: (كذلك كتابه في " معاني القرآن "؛ وذلك أن أول من صنف في ذلك من أهل اللغة أبو عبيدة ثم قطرب ثم الأخفش، وصنف من الكوفيين الكسائي ثم الفراء، فجمع أبو عبيد من كتبهم، وجاء فيه بالآثار وأسانيدها، وتفاسير الصحابة والتابعين والفقهاء، وروى النصف منه ومات)ا.هـ.
وقد طبع من كتبه نحو عشرة كتب، وما فقد كثير، وقد جمع رحمه الله فيما طبع من كتبه ولا سيما ما في فضائل القرآن من الأحاديث والآثار في أبواب من أصول التفسير قدراً حسناً مباركاً.
وكان مع معرفته بالحديث والفقه حسن المعرفة بعلوم العربية، وله كلام حسن فيما يمكن أن يسمى بضوابط الاستدلال اللغوي.
وكان ما تركه للأمّة من الكتب عدّة صالحة للتعلم وضبط مسائل العلم، يحتاجها العلماء في التفسير والحديث والفقه واللغة.
- قال الإمام أحمد: (أبو عبيد أستاذ).
- وقال أبو بكر ابن الأنباري: (كان أبو عبيد يقسم الليل؛ فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويصنف ثلثه).
- وقال إبراهيم الحربي: (كان أبو عبيد كأنه جبل نفخ فيه الروح)
- وقال ثعلب: (لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً).
وأقوال العلماء في الثناء عليه وعلى مصنفاته وما تركه من العلم النافع كثيرة.
وقد ذُكر أنه حجّ سنة 219هـ، فلما أراد الانصراف رأى رؤيا فيها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأقام بمكة خمس سنين ثم توفّي رحمه الله سنة 224هـ.
3: وأما أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني(ت:241هـ)
ففضائله كثيرة مشتهرة، وقد نفع الله به في أصل الإيمان بالقرآن، وهو اعتقاد أنه كلام الله تعالى منزّل غير مخلوق، فثبت في محن وفتن شديدة متوالية؛ منها محنة القول بخلق القرآن، ثم فتنة اللفظية، ثم فتنة الواقفة، ثمّ فتنة الكلابية، وكان الثبات في تلك الفتن أمام قوم أصحاب جدال ومراء وشبهات كثيرة متنوّعة يتطلّب دراية واسعة وإحكاماً متيناً لأصول التفسير وضوابط القول فيه، والاحتجاج لها.
وقد روي عنه في مناظراته ومسائله ورسائله وردوده على المخالفين من ذلك ما اعترف له به العلماء بالإمامة في الدين، وحسن المعرفة، وقوّة الحجة، والثبات على الحق، والمنافحة عنه، حتى رفع الله قدره، وأعلى درجته، ونصر به السنة، فكان إماماً متّبعاً.
وقد روى من الأحاديث والآثار فأكثر وأطاب، وكثر أصحابه وأتباعهم جداً، وانتشر علمه.
- قال ابن جرير الطبري في كتابه "صريح السنة": (إن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: " اللفظية جهمية؛ لقول الله جل اسمه: {حتى يسمع كلام الله} فممن يسمع".
ثم سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه أنه كان يقول: «من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: هو غير مخلوق، فهو مبتدع».
ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله، إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع، رحمة الله عليه ورضوانه).
والمقصود أنّ لهؤلاء العلماء أثراً حسناً في علم أصول التفسير، وإن لم يكن يسمّى بهذا الاسم في زمانهم؛ فإنّ العبرة هي بما ذكروه مما يفيد طلاب علم التفسير من التنبيه على جُمل من الأصول والقواعد الضابطة لمنهج دراسة التفسير وفهم القرآن، والاستدلال به، إلى غير ذلك من مباحث أصول التفسير.
ثمّ أتى بعدهم بمدّة أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري (ت: 276هـ)؛ فكتب جملاً نافعة تصلح أن تدوّن في أصول التفسير، ولا سيّما ما ذكره في كتابيه تأويل مشكل القرآن وتأويل مختلف الحديث.
عناية العلماء المتقدمين بأصول التفسير
ثمّ كتب بعض المفسّرين في مقدّمات تفاسيرهم جُملاً من تلك الأصول ؛ كما فعل ابن جرير الطبري، وأبو إسحاق الثعلبي، والماوردي والواحدي، والراغب الأصفهاني، وأبو محمد البغوي، وابن عطية، والقرطبي، وبثوا في تفاسيرهم في هذا العلم آثاراً عن السلف.
ولبعضهم تطبيق حسن لأصول التفسير وقواعده، ولا سيّما ابن جرير وابن عطية.
ثم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية مقدّمته القيّمة الماتعة في التفسير ، وذكر فيها أصولاً مهمّة لدراسة مسائل التفسير، وأنواع الخلاف فيه، واحتمال اللفظ لأكثر من معنى، وكيف يعرف الخطأ في الدليل والاستدلال والمدلول، وأنواع وقوع الغلط في رواية بعض الثقات، وذكر مراتب المسائل التفسيرية، وضوابط الإجماع في التفسير، وطرق التفسير، وأحكام الإسرائيليات، وما تعرف به المناهج الباطلة في التفسير.
وله رسائل غيرها عظيمة النفع في التعريف بأنواع الخلاف وأسبابه والموقف الصحيح منه، ومن أنفع رسائله في ذلك "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" ، وله جملة من الرسائل التفسيرية التي حرر فيها مسائل التفسير تحريراً أثرياً ولغوياً وأصولياً ؛ فكانت رسائله في التفسير تطبيقات لما حرره من القواعد والأصول الضابطة لدراسة مسائل التفسير.
ولذلك اعتنى العلماء بدراسة مقدمته ورسائله في التفسير ، وانتفعوا بها، وما تزال مقدمته في التفسير تقرأ وتدرّس إلى عصرنا الحاضر، وقد كثرت عليها الشروح والحواشي والتعليقات.
وسار على طريقة شيخ الإسلام تلميذه ابن القيم فكانت رسائله في التفسير من أنفع الرسائل وأمتعها، وأحسنها ضبطاً وتحريراً، وأغزرها فائدة علمية وسلوكية، وله في إعلام الموقعين، والصواعق المرسلة وبدائع الفوائد والتبيان تنبيهات عظيمة النفع على جمل من أصول التفسير.
وما تركه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من تأصيل وتحرير لمسائل التفسير ؛ كان له أثر ظاهر على من بعدهم من العلماء.
فسار تلميذهما عماد الدين ابن كثير على طريقتهما، وضمّن مقدّمة تفسيره جلّ المباحث التي ذكرها شيخ الإسلام في مقدمته، وزاد عليها زيادات قيّمة، وتنبيهات وتحريرات نفيسة.
وسار في ترجيحاته لكثير من المسائل على ما أخذه عنهما وما رجحاه في كتبهما، وكان له مزيد عناية بجمع الأحاديث والآثار عن السلف في التفسير.
- وكتب نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الصرصري البغدادي(ت:716هـ) كتابه "الإكسير في قواعد التفسير"، والذي يتعلق بأصول التفسير إنما هو صدر الكتاب، وأما سائره فتلخيص لكتاب "الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور" لضياء الدين ابن الأثير الجزري.
- وكتب أبو القاسم محمد بن أحمد ابن جزي الكلبي (ت:741هـ) مقدّمة نافعة لتفسيره "التسهيل لعلوم التنزيل".
- وكذلك فعل أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي(ت:754هـ) في مقدمة تفسيره "البحر المحيط".
تتابع العلماء على الكتابة في أصول التفسير
ثم تتابع العلماء على الكتابة في أصول التفسير وعلوم القرآن، وكان بين النوعين تداخل واشتراك في جملة من المسائل؛ وكان من أشهر ما ألّف في ذلك:
1: كتاب "البرهان في علوم القرآن" لبدر الدين الزركشي (ت:795هـ) وهو كتاب حافل في علوم القرآن، وتضمّن مباحث حسنة في أصول التفسير.
2: وكتاب مواقع العلوم لسراج الدين البلقيني (ت:824هـ)
3: وكتاب التيسير في قواعد علم التفسير لمحمد بن سليمان الكافيجي (ت:879هـ).
4: وكتاب التحبير في علوم التفسير لجلال الدين السيوطي (ت:911هـ).
5: وكتاب الإتقان له أيضاً، وهو من أجلّ كتبه.
6: وله أيضاً رسالة مختصرة في أصول التفسير ضمن كتابه النُّقاية وهو كالخلاصة لمباحث أربعة عشر علماً ، وله عليها شرح سمّاه "إتمام الدراية" ، ثم أفرد ما يتعلق بأصول التفسير وطبع بتحقيق الشيخ جمال الدين القاسمي (ت:1332هـ) وتعليقه، وكان قد نظمها الشيخ عبد العزيز بن علي الزمزمي (ت:976هـ) واشتهرت منظومته، وعليها شروح عديدة.
7: وكتاب "الفوز الكبير في أصول التفسير" لوليّ الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي(ت:1176هـ)، وهو باللغة الفارسية، ثمّ تُرجم إلى العربية وطبع.
8: وكتاب "الإكسير في أصول التفسير"، لصديق حسن خان القنوجي(ت:1307هـ)، وهو باللغة الفارسية.
9:وكتاب "التكميل في أصول التأويل" للشيخ عبد الحميد الفراهي (ت:1349هـ).
10: وكتاب "القواعد الحسان لتفسير القرآن" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ت:1376هـ).
11: ومقدمة التفسير للشيخ عبد الرحمن بن قاسم العاصمي (ت:1392هـ)، وهي رسالة مختصرة، وله عليها حاشية جيّدة.
12: مقدمة التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور(ت:1393هـ).
وهذه المؤلفات المتقدّمة قد تضمّنت مباحث قيّمة في أبواب من أصول التفسير، لكن لم ينفرد كتاب منها بجمع أبواب أصول التفسير.
أصناف المؤلفات المعاصرة في أصول التفسير
وفي هذا العصر ألفت مؤلفات عدة في أصول التفسير، واختلفت فيها الاتجاهات، وأوجه العنايات العلمية، فمنهم من قصد إلى التقعيد والتنظير، ومنهم من قصد إلى تحرير بعض مباحث أصول التفسير، ومنهم من قصد إلى تقريب هذا العلم للمبتدئين.
وكانت تلك المؤلفات على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: شرح الكتب السابقة والتعليق عليها، وإعادة نشرها وتحقيقها، وإقامة الدورات العلمية لتدريسها.
- فشُرحت مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية شروحاً كثيرة أثمرت حركة علمية مباركة لبحث مسائل أصول التفسير وتحريرها.
- وشُرحت رسالة السيوطي في أصول التفسير التي أفردت من كتاب النقاية، كما شُرح نظمها للزمزمي.
- وشُرحت القواعد الحسان للسعدي.
- وشرحت مقدّمة التفسير لابن قاسم.
والصنف الثاني:المؤلفات المفردة في أصول التفسير، وأكثرها لغرض تقريب هذا العلم للمتعلمين.
والصنف الثالث:مؤلفات قُصد فيها إلى إفراد بعض أبواب أصول التفسير بالبحث والتحرير، ويكثر هذا في الرسائل العلمية، ومن الأعمال النافعة جمع أسماء تلك الرسائل وتصنيفها على أبواب أصول التفسير، والتعريف بها.