الفصلُ الثالثُ
أدَبُ الطالبِ مع شيخِه
18 – رعايةُ حُرْمَةِ الشيخِ :
بما أنَّ العِلْمَ لا يُؤْخَذُ ابتداءً من الكُتُبِ بل لا بُدَّ من شيخٍ تُتْقِنُ عليه مفاتيحَ الطلَبِ ؛ لتَأْمَنَ من العِثارِ والزَّلَلِ ؛ فعليك إذنْ بالتَّحَلِّي برعايةِ حُرْمَتِه ؛ فإنَّ ذلك عُنوانُ النجاحِ والفلاحِ والتحصيلِ والتوفيقِ ، فليكنْ شيخُك مَحَلَّ إجلالٍ منك وإكرامٍ وتقديرٍ وتَلَطُّفٍ ، فخُذْ بِمَجَامِعِ الآدابِ مع شيخِك في جلوسِك معه ، والتحَدُّثِ إليه ، وحسْنِ السؤالِ والاستماعِ ، وحُسْنِ الأدَبِ في تصَفُّحِ الكتابِ أمامَه ومع الكتابِ وتَرْكِ التطاوُلِ والمماراةِ أمامَه ، وعدَمِ التقَدُّمِ عليه بكلامٍ أو مَسيرٍ أو إكثارِ الكلامِ عندَه ، أو مُداخَلَتِه في حديثِه ودَرْسِه بكلامٍ منك ، أو الإلحاحِ عليه في جَوابٍ ؛ متَجَنِّبًا الإكثارَ من السؤالِ ، لا سِيَّمَا مع شُهودِ الملإِ ، فإنَّ هذا يُوجِبُ لك الغُرورَ وله الْمَلَلَ .
ولا تُنادِيهِ باسْمِه مُجَرَّدًا ، أو مع لَقَبِه كقولِك : يا شيخَ فلان ! بل قلْ : يا شيخي ! أو يا شَيْخَنَا ! فلا تُسَمِّه ؛ فإنه أَرْفَعُ في الأَدَبِ ، ولا تُخاطِبْهُ بتاءِ الخِطابِ ، أو تُنادِيهِ من بُعْدٍ من غيرِ اضطرارٍ .
وانْظُرْ ما ذَكَرَه اللهُ تعالى من الدَّلالةِ على الأَدَبِ مع مُعَلِّمِ الناسِ الخيرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قولِه : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ... } الآيةُ .
وكما لا يَلِيقُ أن تَقولَ لوالِدِك ذي الأُبُوَّةِ الطينيَّةِ : ( يا فلانُ ) أو : ( يا وَالِدِي فلان ) فلا يَجْمُلُ بك مع شيخِك .
والتَزِمْ تَوقيرَ المجلِسِ وإظهارَ السرورِ من الدَّرْسِ والإفادةِ به : وإذا بدا لك خطأٌ من الشيخِ ، أو وَهْمٌ فلا يُسْقِطُه ذلك من عَيْنِكَ فإنه سَبَبٌ لِحِرْمَانِكَ من عِلْمِه ، ومَن ذا الذي يَنْجُو من الخطأِ سالِمًا ؟ .
واحْذَرْ أن تُمارِسَ معه ما يُضْجِرُه ومنه ما يُسَمِّيهِ الْمُوَلَّدُون : ( حربَ الأعصابِ ) بمعنى : امتحانِ الشيخِ على القُدرةِ العِلمِيَّةِ والتَّحَمُّلِ .
وإذا بَدَا لك الانتقالُ إلى شيخٍ آخَرَ ؛ فاستأْذِنْه بذلك ؛ فإنه أَدْعَى لِحُرْمَتِه وأَمْلَكُ لقَلْبِه في مَحَبَّتِك والْعَطْفِ عليكَ .
إلى آخِرِ جُملةٍ من الآدابِ يَعْرِفُها بالطبْعِ كلُّ مُوَفَّقٍ مُبارَكٍ وفاءً لحقِّ شيخِك في ( أُبُوَّتِه الدينيَّةِ ) أو ما تُسَمِّيه بعضُ القوانينِ باسمِ ( الرَّضاعِ الأدبيِّ ) وتَسميةُ بعضِ العُلماءِ له ( الأبُوَّةَ الدينيَّةَ ) أَلْيَقُ ؛ وتَرْكُه أَنْسَبُ .
واعْلَمْ أنه بِقَدْرِ رِعايةِ حُرْمَتِه يكونُ النجاحُ والفلاحُ ، وبقَدْرِ الْفَوْتِ يكونُ من عَلاماتِ الإخْفَاقِ .
....... تَنبيهٌ مُهِمٌّ :
أُعيذُك باللهِ من صَنيعِ الأعاجِمِ ، والطُّرُقِيَّةِ ، والْمُبتدِعَةِ الْخَلَفِيَّةِ ، من الْخُضوعِ الخارِجِ عن آدابِ الشرْعِ ، من لَحْسِ الأيدِي ، وتَقبيلِ الأكتافِ والقبْضِ على اليمينِ باليمينِ والشمالِ عندَ السلامِ ؛ كحالِ تَوَدُّدِ الكِبارِ للأَطفالِ ، والانحناءِ عندَ السلامِ ، واستعمالِ الألفاظِ الرَّخوةِ المتخاذِلَةِ : سَيِّدِي ، مَوْلَاي ، ونحوِها من أَلفاظِ الْخَدَمِ والعَبيدِ .
وانْظُرْ ما يَقولُه العَلَّامَةُ السَّلفيُّ الشيخُ محمَّدٌ البشيرُ الإبراهيميُّ الجزائريُّ ( م سنةَ 1380هـ ) رَحِمَه اللهُ تعالى في ( البصائِرِ )؛ فإنه فائقُ السِّيَاقِ .
19 - رأسُ مالِك – أيُّها الطالِبُ – من شَيْخِكَ :
القدوةُ بصالحِ أخلاقِه وكريمِ شمائِلِه ، أمَّا التلَقِّي والتلقينُ ، فهو رِبْحٌ زائدٌ ، لكن لا يَأْخُذُك الاندفاعُ في مَحَبَّةِ شيخِك فتَقَعَ في الشناعةِ من حيث لا تَدْرِي وكلُّ مَن يَنْظُرُ إليك يَدْرِي ، فلا تُقَلِّدْه بصوتٍ ونَغَمَةٍ ، ولا مِشْيَةٍ وحركةٍ وهَيْئَةٍ ؛ فإنه إنما صارَ شَيْخًا جَليلًا بتلك ، فلا تَسْقُطْ أنت بالتَّبَعِيَّةِ له في هذه .
20-نشاطُ الشيخِ في دَرْسِه :
يكونُ على قَدْرِ مَدارِكِ الطالبِ في استماعِه ، وجَمْعِ نفسِه وتَفَاعُلِ أحاسيسِه مع شيخِه في دَرْسِه ، ولهذا فاحْذَرْ أن تكونَ وسيلةَ قَطْعٍ لعِلْمِه بالكَسَلِ والفُتورِ والاتِّكاءِ وانصرافِ الذهْنِ وفُتورِه .
قالَ الْخَطيبُ البَغداديُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( حقُّ الفائدةِ أن لا تُسَاقَ إلا إلى مُبْتَغِيهَا ، ولا تُعْرَضَ إلا على الراغبِ فيها ، فإذا رَأَى الْمُحَدِّثُ بعضَ الفُتورِ من المستَمِعِ فليسكُتْ ، فإنَّ بعضَ الأُدباءِ قالَ : نَشاطُ القائلِ على قَدْرِ فَهْمِ الْمُسْتَمِعِ ) .
ثم ساقَ بسَنَدِه عن زيدِ بنِ وَهْبٍ ، قال : ( قالَ عبدُ اللهِ : حَدِّث القوْمَ ما رَمَقوكَ بأبصارِهم ، فإذا رأيتَ منهم فَتْرَةً فانْزِعْ ). اهـ .