قولُهُ:
وَأَمَّا مَنْ زَاغَ وَحَادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ، من الكُفَّارِ، والمشركينَ، والذين أُوتُوا الكتابَ، ومَن دَخَلَ في هؤلاءِ من الصابِئَةِ، والمُتَفَلْسِفَةِ، والجَهْمِيَّةِ، والقَرَامِطَةِ الباطِنِيَّةِ ونحوِهِم؛ فَإِنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ذلِكَ؛ يَصِفُونَهُ بالصفاتِ السَّلْبِيَّةِ على وَجْهِ التفصيلِ، ولا يُثْبِتُونَ إلا وجوداً مُطْلَقاً، لا حقيقةَ لهُ عندَ التحصيلِ، وإنَّمَا يَرْجِعُ إلى وُجُودٍ في الأذْهَانِ، ويَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ في الأعيانِ. فقولُهم يَسْتَلْزِمُ غايةَ التعطيلِ وغايةَ التمثيلِ؛ فَإِنَّهُم يُمَثِّلُونَهُ بالمُمْتَنِعَاتِ، والمَعْدُومَاتِ، والجماداتِ، وَيُعَطِّلُونَ الأسماءَ والصفاتِ تعطيلاً يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذاتِ.
الشرحُ:
بعدَ فراغِ المُؤَلِّفِ مِن بيانِ طريقةِ السلَفِ في بابِ أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ شَرَعَ في بيانِ طريقةِ مُخَالِفِيهِم, فقالَ: وأمَّا مَن انْحَرَفَ ومَالَ عن طريقةِ الرُّسُلِ وأَتْبَاعِهِم مِن السَّلَفِ مِن أنواعِ الكُفَّارِ، وأصْنَافِ المُشْرِكِينَ، واليهودِ، والنصارَى، ومَن سارَ على مِنْهَاجِهِم, ودَخَلَ في عِدَادِهِم كالصابئةِ، والفلاسفةِ، والقَرَامِطَةِ، والجَهْمِيَّةِ ونحوِهِم كالمعتزلةِ، فإنَّهُم على العكسِ من طريقِ الرُّسُلِ وأَتْبَاعِهِمْ. فالإشارةُ في قولِ المُؤَلِّفِ (على ضِدِّ ذلِكَ) راجعةٌ إلى طريقةِ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ مِن سَلَفِ الْأُمَّةِ وأَئِمَّتِهَا، فهؤلاءِ مُثْبِتُونَ لأوصافِ الكمالِ، نَافُونَ ما يُضَادُّ هذهِ الحالَ، أمَّا أصنافُ هؤلاءِ الطوائفِ فإنَّهُم يَنْفُونَ صفاتِ الكمالِ، ويَصِفُونَ اللهَ بالصفاتِ السلْبِيَّةِ تَفْصِيلِيّاً، كَقَوْلِهِمْ: ليسَ بِمُسْتَوٍ على عَرْشِهِ، ولا يَغْضَبُ، ولا يَنْزِلُ، ولا يُحِبُّ.
وقولُهُ:" ولا يُثْبِتُونَ إلا وجوداً مُطْلَقاً، لا حقيقةَ لهُ عندَ التحصيلِ، وإنَّمَا يَرْجِعُ إلى وجودٍ في الأذهانِ، يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ في الأعيانِ " معناهُ أنَّ سَلْبَ الصفاتِ عن اللهِ غايتُهُ ونهايتُهُ أنَّ اللهَ تعالى غيرُ موجودٍ أصلاً، فإنَّ الوجودَ المُطْلَقَ – يعني: المُجَرَّدَ عن جميعِ الصفاتِ – لا حقيقةَ لهُ إلاَّ في الذِّهْنِ، وليسَ لهُ وجودٌ خارجيٌّ بَتَاتاً؛ لأنَّ الذاتَ لا تَتَحَقَّقُ بلا صِفَةٍ أصلاً؛ بلْ هذا بمنزلةِ مَن قالَ: أَثْبِتْ إِنْسَاناً لا حَيَوَانًا، ولا نَاطِقاً، ولا قَائِماً بِنَفْسِهِ، ولا بِغَيْرِهِ، ولا قُدْرَةَ لهُ، ولا حياةَ، ولا حركةَ، ولا سُكُونَ! ونحوَ ذلكَ.
أو قالَ: أَثْبِتْ نَخْلَةً ليسَ لها سَاقٌ، ولا جِذْعٌ، ولا لِيفٌ، ولا غيرُ ذلكَ.
فإنَّ هذا يُثْبِتُ مَا لا حقيقةَ لهُ في الخارجِ, ولا يُعْقَلُ؛ ولهذا كانَ السَّلَفُ والأَئِمَّةُ يُسَمُّونَ نُفَاةَ الصفاتِ مُعَطِّلَةً؛ لأنَّ حقيقةَ قولِهم تعطيلُ ذاتِ اللهِ تعالى، وبِسَلْبِهِم هذه الصفاتِ أيضاً مَثَّلُوا وَضَلُّوا، حيثُ شَبَّهُوهُ بالجماداتِ التي لا تَسْمَعُ ولا تُبْصِرُ ولا تَعْلَمُ ولا تَقْدِرُ، وَشَبَّهُوهُ بالمَعْدُومَاتِ، حيثُ زَعَمُوا أنَّهُ لا يَسْتَوِي، ولا يَغْضَبُ، ولا يُحِبُّ، ولا يَعْلَمُ، وليس بِحَيٍّ، وعَطَّلُوهُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِن الأوصافِ، فصارَ نهايةُ تَعْطِيلِهِم أنَّ ذاتَهُ غيرُ موجودةٍ؛ فإنَّ مَن ليسَ مُتَّصِفاً بهذهِ الصفاتِ؛ لا وُجُودَ لهُ.
والصَّابِئَةُ:
هم أصحابُ كَنْعَانَ وَنَمْرُودَ الذينَ بُعِثَ إليهم الخليلُ، وكانوا يَعْبُدُونَ الكواكبَ، ويَبْنُونَ لها الهَيَاكِلَ، وكانَ الصابئةُ إذْ ذاكَ على الشِّرْكِ؛ وإنْ كانَ الصابِئِيُّ قدْ لا يكونُ مُشْرِكاً, بلْ مُؤْمِناً باللهِ واليومِ الآخِرِ، كما في الآيَتَيْنِ الكرِيمَتَيْنِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} الآيَةَ، { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ} الآيةَ.
لَكِنَّ كثيراً منهم أو أَكْثَرَهُمْ كانوا كُفَّاراً ومُشْرِكِينَ، كما أنَّ كثيراً مِن اليهودِ والنصارَى بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا, وصارُوا كُفَّارًا ومُشْرِكِينَ، وقد اخْتُلِفَ في هذهِ النسبةِ، فقيلَ: إنَّهَا إلى صَابِئِ بنِ مُتَوَشْلِحَ بنِ إِدْرِيسَ – عليهِ السلامُ – وكانَ على الحَنِيفِيَّةِ الأُولَى؛ وقِيلَ، إلى صَابِئِ بنِ مَارِي، وكانَ في عصرِهِ الخليلُ (عليهِ السلامُ)، والصَّابِئُ عندَ العَرَبِ مَن خَرَجَ عنْ دينِ قومِهِ، لذلكَ كانتْ قريشٌ تُسَمِّي رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَابِئًا؛ لِخُرُوجِهِ عن دينِ قومِهِ، واللهُ أَعْلَمُ.
والمُتَفَلْسِفَةُ:
جَمْعُ مُتَفَلْسِفٍ، والفلسفةُ بلسانِ اليونانِ الحِكْمَةُ، فالفَيْلَسوفُ هو صاحِبُ الحكمةِ، والمرادُ بالفلاسفةِ هُنَا الإِلَهِيُّونَ, لا الدَّهْرِيُّونَ والدَّوْرِيُّونَ.
وهؤلاءِ الفلاسفةُ الإلهيونَ المُلْحِدُونَ، لا يُؤْمِنُونَ بالبَعْثِ والنُّشُورِ، على ما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ، كما أنَّهُم لا يُثْبِتُونَ للربِّ أسماءَهُ وصفاتِهِ، فَمِن قُدَمَائِهِمْ أَرِسْطُو تِلْمِيذُ أَفْلاَطُونَ الْيُونَانِيَّانِ، ومِن مُتَأَخِّرِيهِمْ أبو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَاءَ وَأَشْبَاهُهُمَا.
الْقَرَامِطَةُ:
كانَ ظهورُ هذه الطائفةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ بعدَ المائةِ بظهورِ مَيْمُونِ بنِ دَيْصَانَ الذي نَصَبَ للمسلمينِ الحَبَائِلَ، وبَغَى بِهم الغَوَائِلَ، وكانَ يُسِرُّ المَجُوسِيَّةَ، ويُظْهِرُ الإسلامَ، وكانَ يَجْعَلُ لكلِّ آيةٍ تفسيراً، ولِكُلِّ حديثٍ تَأْوِيلًا، وَجَعَلَ الفرائضَ والسُّنَّةَ رموزاً وإشاراتٍ، وكانَ يَخْدِمُ إسماعيلَ بنَ جعفرٍ، وظهرَ أيامَ حَمْدَانَ قِرْمِطٍ، فَاجْتَمَعَا وتَسَاعَدَا على نَشْرِ هذا المَذْهَبِ الشَّنِيعِ، فَسُمُّوا بالقَرامطةِ، وهذانِ الشخصانِ هُمَا المُؤَسِّسَانِ لِأَصْلِ هذا المذهبِ، ثم ظَهَرَ بعدَهُما في الدعوةِ الجَنَابِيُّ وهو (أبو سعيدٍ الحسنُ بنُ بَهْرَامَ الجَنَابِيُّ) وهو من أتباعِ حَمْدَانِ قِرْمِطٍ، وقد طالَتْ أَيَّامُهُم، وعَظُمَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَأَخَافُوا السبيلَ، واسْتَوْلَوْا على بلادٍ كثيرةٍ، وأخبارُهُم مُسْتَقْصَاةٌ في التاريخِ، وميمونُ بنُ دَيْصَانَ كانَ مَجُوسِيًّا مِن سَبْيِ الأهوازِ (وحَمْدَانُ قِرْمِطٍ) كانَ مِن الصَّابِئَةِ الحَرَّانِيَّةِ، والمَنْسُوبُ إليهم (قِرْمِطِيّ) بكسرِ القافِ، وسكونِ الراءِ، وكسرِ الميمِ، وبعدَها طاءٌ مُهْمَلَةٌ، وأصلُ القَرْمَطَةِ في اللغةِ: تَقَارُبُ الشيْءِ بَعْضِهِ مِن بَعْضٍ، يُقالُ: خَطٌّ مُقَرْمِطٌ وَمَشْيٌ مُقَرْمِطٌ إذا كانَ كذلكَ.
والجَهْمِيَّةُ:
هم أصحابُ جَهْمِ بنِ صَفْوَانَ، تلميذُ الجَعْدِ بنِ دِرْهَمٍ. وقدْ ظهرتْ بِدْعَتُهُ بِتِرْمِذَ، وَقَتَلَهُ سَلْمُ بنُ أَحْوَزَ المَازِنِيُّ في آخِرِ مُلْكِ بَنِي أُمَيَّةَ، وقد اشْتُهِرَ مذهبُ التعطيلِ باسمِ الجَهْمِ وإنْ كانَ أَخَذَهُ عن الجعدِ بنِ دِرْهَمٍ، والجعدُ عن أَبَّانِ بنِ سَمْعَانَ، وأبانُ عن طَالُوتَ، وطالوتُ عن لَبِيدِ بنِ الأَعْصَمِ اليَهُودِيِّ؛ نَظَراً لأنَّ جَهْماً هو الذي تَزَعَّمَ هذه المَقَالةَ وَنَشَرَهَا في الناسِ، فَكُلُّ مَن اعْتَنَقَ هذه المَقَالةَ نُسِبَ إليهِ؛ لأنَّهُ كانَ رَأْساً فِيهَا.
قَوْلُهُ:
فَغُلاَتُهُمْ يَسْلُبُونَ عنهُ النقيضَيْنِ، فيقولونَ: لا موجودٌ ولا مَعْدُومٌ، ولا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ، ولا عالمٌ ولا جاهلٌ؛ لأنَّهُم يَزْعُمُونَ أنَّهُم إذا وَصَفُوهُ بالإثباتِ شَبَّهُوهُ بالموجوداتِ، وإذا وَصَفُوهُ بالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بالمعدوماتِ، فَسَلَبُوا النقِيضَيْنِ، وهذا مُمْتَنِعٌ في بَدَاهَةِ العقولِ، وَحَرَّفُوا ما أَنْزَلَ اللهُ مِن الكتابِ، وما جاءَ بهِ الرسولُ فَوَقَعُوا في شَرٍّ مِمَّا فَرُّوا منهُ؛ فإنَّهُم شَبَّهُوهُ بالمُمْتَنِعَاتِ؛ إذْ سَلْبُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النقيضَيْنِ، كلاهُمَا مِن المُمْتَنِعَاتِ.
الشرحُ:
يعني: غُلاَةُ الجَهْمِيَّةِ المَحْضَةِ، كالقَرَامِطَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِن غُلاَةِ هذهِ الطوائفِ المذكورةِ يَنْفُونَ عن اللهِ الأمرَيْنِ المتُنَاقِضَيْنِ، والمرادُ (بالغُلاَةِ) المُتَجَاوِزُونَ الحَدَّ، المُوغِلُونَ في الأمْرِ إِيْغَالاً عميقاً، ومعنى (يَسْلُبُونَ) يَنْفُونَ، ( والنَّقِيضَانِ) هما اللذانِ لا يَجْتَمِعَانِ ولا يَرْتَفِعَانِ في آنٍ واحدٍ، بلْ يَلْزَمُ مِن ثبوتِ أَحَدِهِمَا عَدَمُ الآخَرِ، ومن نَفْيِ أَحَدِهِمَا ثبوتُ الآخَرِ.
ثم مَثَّلَ المُؤَلِّفُ للنقيضَيْنِ بقولِهِ: )كالوجودِ والعَدَمِ والحياةِ والموتِ والعلمِ والجهْلِ) ثم بَيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ الشُّبْهَةَ التي مِن أَجْلِهَا نَفَى هؤلاءِ الغُلاَةُ النَّقِيضَيْنِ عن اللهِ، فقالَ:" لاَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا وَصَفُوهُ بالإثباتِ شَبَّهُوهُ بالموجوداتِ، وإذا وَصَفُوهُ بالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بالمعدوماتِ " فَسَلَبُوا النقيضَيْنِ خَشْيَةَ التَّشْبِيهِ، هذا تقريرُ شُبْهَتِهِمْ، ولكنْ آلَ بِهِمْ إِغْرَاقُهُمْ فِي نَفْيِ التشبيهِ إلى أنْ وَصَفُوهُ بغايةِ التعطيلِ، ثم إنَّهُم لمْ يَخْلُصُوا مِمَّا فَرُّوا منهُ، بلْ يَلْزَمُهُمْ على قياسِ قولِهِم أنْ يكونوا قدْ شَبَّهُوهُ بالمُمْتَنِعِ الذي هو أَخَسُّ وأَفْظَعُ مِن المَوْجُودِ والمَعْدُومِ المُمْكِنِ، فَفَرُّوا في زَعْمِهِم مِن التشبيهِ بالموجوداتِ والمعدوماتِ، وَوَصَفُوهُ بصفاتِ المُمْتَنِعَاتِ، التي لا تَقْبَلُ الوجودَ، بخلافِ المعدوماتِ المُمْكِنَاتِ. وَتَشْبِيهُهُ بالمُمْتَنِعَاتِ شَرٌّ مِن تَشْبِيهِهِ بالموجوداتِ، والمَعْدُومَاتِ المُمْكِنَاتِ، وَمَا فَرَّ منهُ هؤلاءِ المَلاَحِدَةُ ليسَ بِمَحْذُورٍ، فإنَّهُ إذا سُمِّيَ موجوداً قائِماً بنفسِهِ، حيًّا عليماً، رَؤُوفاً، رَحِيماً، وَسُمِّيَ المَخْلُوقُ بذلكَ لم يَلْزَمْ مِن ذلكَ أنْ يكونَ مُمَاثِلًا للمخلوقِ أصلاً، ولو كانَ هذا حقًّا لكانَ كلُّ موجودٍ مُمَاثِلاً لِكُلِّ موجودٍ، ولكانَ كلُّ مَعْدُومٍ مُمَاثِلاً لِكُلِّ مَعْدُومٍ، ولكانَ كلُّ مَا يُنْفَى عنهُ شيءٌ مِن الصفاتِ مُمَاثِلًا لِكُلِّ مَا يُنْفَى عنهُ ذلكَ الوَصْفُ.
ثم ذَكَرَ المُؤَلِّفُ أنَّ سَلْبَهُمْ لِلنَّقِيضَيْنِ أَمْرٌ مُمْتَنِعٌ، وامْتِنَاعُهُ وَاضِحٌ بَدِيهِيٌّ عندَ ذَوِي العُقُولِ، (والبَدِيهِيُّ) جَمْعُهُ بَدِيهِيَّاتٌ، وَهِي العلومُ الأَوَّلِيَّةُ التي يَجْعَلُهَا اللهُ في النفوسِ ابْتِدَاءً بلا وَاسِطَةٍ، وهي كالعِلْمِ بأنَّ الواحدَ نِصْفُ الاثنينِ، فهي لا تَحْتَاجُ إلى تَأَمُّلٍ ونَظَرٍ وتَفْكِيرٍ.
ثم بَيَّنَ أنَّ هؤلاءَ النَّافِينَ لأسماءِ اللهِ وصفاتِهِ قد حَرَّفُوا بِتَأْوِيلاَتِهِم البَاطِلَةِ ما جاءَ في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الأسماءِ الحُسْنَى والصفاتِ العُلْيَا، اسْتِنَاداً إلى أَقْيِسَتِهِم الفاسدةِ وتَأْوِيلاَتِهِم الباطلةِ، وَبَيَّنَ المُؤَلِّفُ أنَّ سَلْبَ النَّقِيضَيْنِ مِثْلَ جَمْعِ النقيضَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا مُمْتَنِعٌ، فَقَوْلُكَ: " زيدٌ موجودٌ معدومٌ الآنَ " مُمْتَنِعٌ، وَقَوْلُكَ: " زيدٌ لا موجودٌ ولا معدومٌ الآنَ " مُمْتَنِعٌ أيضاً.
قولُهُ:
وقد عُلِمَ بالاضطرارِ أنَّ الوجودَ لاَ بُدَّ لهُ مِن مُوجِدٍ واجبٍ بذاتِهِ، غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ، قديمٍ أَزَلِيٍّ، لا يَجُوزُ عليهِ الحُدُوثُ ولا العَدَمُ، فَوَصَفُوهُ بِمَا يَمْتَنِعُ وجودُهُ فضلاً عن الوجوبِ أو الوجودِ أو القِدَمِ.
الشرحُ:
يَعْنِي أنَّ العِلْمَ بوجودِ اللهِ أمْرٌ ضروريٌّ فِطْرِيٌّ، وإنْ كانَ يَحْصُلُ لبعضِ الناسِ مَا يُخْرِجُهُ إلى الطُرُقِ النظريَّةِ، فنحنُ نُشَاهِدُ حدوثَ الحيوانِ والنباتِ والمعادنِ، وحوادثَ الجَوِّ؛ كالسَّحابِ، والمَطَرِ، وغيرِ ذلكَ، وهذه الحوادثُ لمْ تُوجَدْ مِن غيرِ مُوجِدٍ، ولا هي أَوْجَدَتْ نَفْسَهَا, كما قالَ تعالى: {أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وَمَعْلُومٌ أنَّ الشيءَ لا يُوجِدُ نَفْسَهُ، فالْمُمْكِنُ الذي لَيْسَ لهُ مِن نَفْسِهِ وجودٌ ولا عَدَمٌ لا يكونُ موجوداً بنفسِهِ، بلْ إنْ حَصَلَ ما يُوجِدُهُ, وإلاَّ كانَ مَعْدُوماً.
وقولُهُ: (لاَ يَجُوزُ عليهِ الحدوثُ ولا العَدَمُ) هو شَرْحٌ لقولِهِ:واجبٍبذاتِهِ، (والغَنِيِّ عَمَّا سِوَاهُ) هو القائمُ بنفسِهِ، ليسَ مُحْتَاجاً إلى غيرِهِ في شيءٍ من الأمورِ، يقولُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ واللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وَغِنَاهُ شَامِلٌ وخَزَائِنُهُ مَلْأَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}.
وقولُ المُؤَلِّفِ " قديمٍ أَزَلِيٍّ " القديمُ في لُغَةِ العَرَبِ التي نَزَلَ بها القرآنُ هو المُتَقَدِّمُ على غيرِهِ، فَيُقَالُ: هذا قديمٌ، لِلْعَتِيقِ، وهذا حديثٌ للجديدِ، ولم يُسْتَعْمَلْ هذا إلاَّ في المُتَقَدِّمِ على غيرِهِ – لاَ فِيمَا لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ – كَمَا قالَ تَعَالى: { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ} والْعُرْجُونُ القديمُ هو الذي يَبْقَى إلى حينِ وجودِ العُرْجُونِ الثاني، فإذا وُجِدَ الحديثُ قِيلَ للأوَّلِ قديمٌ، وأَمَّا إدخالُ القديمِ في أسماءِ اللهِ تعالى فهو مشهورٌ عند أكثرِ أهلِ الكلامِ، وقد أَنْكَرَ ذلكَ كثيرٌ من السَّلَفِ والخَلَفِ، وحيثُ إنَّ التَّقَدُّمَ في اللغةِ مُطْلَقٌ لا يَخْتَصُّ بالمُتَقَدِّمِ على الحوادثِ كُلِّهَا، وأسماءَ اللهِ هي الأسماءُ الحُسْنَى التي تَدُلُّ على خُصُوصِ ما يُمْدَحُ بهِ؛ فلا يَكُونُ القديمُ مِن الأسماءِ الحُسْنَى، وجاءَ الشَّرْعُ باسمِهِ الأوَّلِ وهو أَحْسَنُ مِن القديمِ؛ لأنَّهُ يُشْعِرُ بأنَّ ما بَعْدَهُ آيِلٌ إليهِ، وتابعٌ لهُ، بخلافِ القديمِ، واللهُ تعالى لهُ الأسماءُ الحُسْنَى، لكنْ لَمَّا كانَ القديمُ عندَ أهلِ الكلامِ عبارةً عَمَّا لم يَزَلْ، أو عَمَّا لم يَسْبِقْهُ وُجُوُدُ غيرِهِ، وأهلُ الاصطلاحِ تَجُوزُ مُخَاطَبَتُهُمْ باصطلاحاتِهِم عَبَّرَ بهِ المُؤَلِّفُ عن الأوَّلِ, وَقَيَّدَهُ بقولِهِ: (أَزَلِيٍّ) لأنَّ القديمَ قد يُطْلَقُ على المُتَقَدِّمِ على غيرِهِ وإنْ كانَ حادِثاً، فهذا السِّرُّ في التَّقْيِيدِ بالأَزَلِيَّةِ، فالْأَزَلِيُّ منسوبٌ إلى الْأَزَلِ، والأَزَلِيَّةُ هي الأَوَّلِيَّةُ، وقولُ المُؤَلِّفِ: (فَوَصَفُوهُ بِمَا يَمْتَنِعُ وَجُودُهُ فَضْلاً عَن الوجودِ أو الوجوبِ أو القِدَمِ) يعني أنَّ القَرَامِطَةَ ونحوَهم مِن الجَهْمِيَّةِ المَحْضَةِ السَّالِبِينَ النَّقِيضَيْنِ عن اللهِ قد شَبَّهُوا اللهَ بالمُمْتَنِعَاتِ فَضْلاًعن الوصفِ.
بالوجوبِ، أو الوصفِ بالوجودِ، أو الوصفِ بالقِدَمِ، فهذه أوْصَافُ اللهِ، والقَرَامِطَةُ بِتَشْبِيهِهِمْ إِيَّاهُ بالمُمْتَنِعِ قد جَعَلُوهُ في غايَةِ البُعْدِ عن الاتصافِ بهذه الأوصافِ.