دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 2 ذو الحجة 1429هـ/30-11-2008م, 08:59 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي طريقة أهل الضلال في هذا الباب وصف الله تعالى بالصفات السلبية على وجه التفصيل

وَأَمَّا مَنْ زَاغَ عَنْ سَبِيلِهِمْ مِنَ الكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَمَنْ دَخَلَ فِي هَؤُلاَءِ مِنَ الصَّابِئَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَلاَ يُثْبِتُونَ إِلاَّ وُجُودًا مُطْلَقًا لاَ حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْصِيلِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى وُجُودٍ فِي الْأَذْهَانِ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ، فَقَوْلُهمْ يَسْتَلْزِمُ غَايَةَ التَّعْطِيلِ وَغَايَةَ التَّمْثِيلِ، فَإِنَّهُمْ يُمَثِّلُونَ بِالْمُمْتَنِعَاتِ، والْمَعدُومَاتِ، وَالْجَمَادَاتِ، وَيُعَطِّلُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ تَعْطِيلًا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ.
فَغالِيَتُهُم يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ، فَيَقُولُونَ: لاَ مَوْجُودٌ وَلاَ مَعْدُومٌ، وَلاَ حَيٌّ وَلاَ مَيِّتٌ، وَلاَ عَالِمٌ وَلاَ جَاهِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ بِزَعْمِهِمْ إِذَا وَصَفُوهُ بِالْإِثْبَاتِ شَبَّهُوهُ بِالْمَوْجُودَاتِ، وَإِذَا وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بالمَعدُوماتِ، فَسَلَبُوا النَّقِيضَيْنِ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ، وَحَرَّفُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الكِتَابِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَقَعُوا فِي شَرٍّ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ، إِذْ سَلْبُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ، كِلاَهُمَا مِنَ المُمْتَنِعَاتِ.
وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْوُجُودَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ، وَاجِبٍ بِذَاتِهِ، غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ، قَدِيمٍ، أَزَلِيٍّ، لاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ وَلاَ الْعَدَمُ. فَوَصَفُوهُ بِمَا يَمْتَنِعُ وَجُودُهُ، فَضْلًا عَنِ الوُجُوبِ، أَوِ الْوُجُودِ، أَوِ الْقِدَمِ.


  #2  
قديم 6 ذو الحجة 1429هـ/4-12-2008م, 09:33 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

فَصْلٌ

الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: غُلاةُ الجَهْمِيَّةِ، والقَرامِطَةُ، والباطنيَّةُ ومَنْ تَبِعَهُمْ.
وطريقَتُهُمْ أنَّهُمْ يُنكرونَ الأسماءَ والصِّفاتِ ولاَ يصِفونَ اللهَ تعالى إلا بالنَّفْيِ المُجرَّدِ عنِ الإِثباتِ ويقولونَ إنَّ اللهَ هوَ الموجودُ المطلَقُ بشرطِ الإِطْلاقِ([1]). فلا يُقالُ هوَ موجودٌ، ولاَ حيٌّ، ولاَ عليمٌ، ولاَ قديرٌ وإنَّمَا هذهِ أسماءٌ لمخلوقاتِهِ أو مَجازٌ، لأنَّ إثباتَ ذلكَ يَسْتلزِمُ تشبيهَهُ بالموجودِ الحيِّ، العليمِ، القديرِ ويقولونَ إنَّ الصِّفةَ عينُ الموصوفِ، وإنَّ كلَّ صفةٍ عينُ الصِّفةِ الأخْرى فلاَ فرْقَ بينَ العِلْمِ، والقدرةِ، والسَّمعِ، والبصرِ ونحوِ ذلكَ.
وشُبْهَتُهُمْ أَنَّهُمُ اعْتقَدُوا أنَّ إثباتَ الأسماءِ والصِّفاتِ يَسْتلزِمُ التَّشْبيهَ والتَّعَدُّدَ ووجهُ ذلكَ في الأسماءِ أنَّهُ إذَا سُمِّيَ بهَا لَزِمَ أنْ يكونَ متَّصِفاً بمَعْنى الاسْمِ فإذَا أثْبَتْنَا "الحيَّ" مثلاً لَزِمَ أنْ يكونَ متًّصِفاً بالحَياةِ لأنَّ صِدْقَ المُشْتَقِّ يَسْتلزِمُ صِدْقَ المشتقِّ منْهُ وذلكَ يَقتضيِ قيامَ الصِّفاتِ بهِ وهُوَ تشْبيهٌ.
وأمّا في الصِّفاتِ فقالُوا إنَّ إثباتَ صفاتٍ متغايرةٍ مغايرةٍ للمَوْصُوفِ يسْتلزمُ التَّعَدُّدَ وهُوَ تركيبٌ ممتنعٌ مناقِضٌ للتَّوْحِيدِ.

والرَّدُّ عليهِمْ منْ وجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ اللهَ تعالى جمعَ فيمَا سمّى ووصفَ بهِ نفسَهُ بينَ النَّفْيِ والإِثباتِ "وقدْ سبقَ أمثلةٌ منْ ذلكَ" فمنْ أقَرَّ بالنَّفْيِ وأنْكَرَ الإِثباتَ فقدْ آمنَ ببعْضِ الكتابِ دونَ بعضٍ، والكفرُ ببعضِ الكتابِ كفرُ بالكتابِ كلِّهِ. قالَ اللهُ تعالى مُنْكِراً على بني إسرائيلَ: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)([2]). وقالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاًأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً)([3]).
الثَّاني: أنَّ الموجودَ المطلقَ بشرطِ الإِطلاقِ لاَ وجودَ لهُ في الخارجِ المحسوسِ وإنَّمَا هُوَ أمرٌ يفرضُهُ الذِّهْنُ ولاَ وجودَ لهُ في الحقيقةِ، فتكونُ حقيقةُ القولِ بهِ نفيَ وجودِ اللهِ تعالى إلاّ في الذِّهْنِ، وهذَا غايةُ التَّعطيلِ والكفر.
الثَّالثُ: قولُهُمْ: "إنَّ الصِّفةَ عينُ الموصوفِ، وإنَّ كلَّ صفةٍ عينُ الصِّفَة الأُخْرى" مكابرةٌ في المعقولاتِ، سَفْسَطَةٌ في البَدَهِيَّاتِ، فإنَّ منَ المعلومِ بضرورةِ العقلِ، والحسِّ أنَّ الصِّفَةَ غيرُ الموصوفِ، وأنَّ كلَّ صفةٍ غيرُ الصِّفةِ الأخْرى فالعلمُ غيرُ العالمِ، والقدرةُ غيرُ القادرِ، والكلامُ غيرُ المتكلَّمِ، كَما أنَّ العِلْمَ والقدرةَ، والكلامَ، صفاتٌ متغايرةٌ.
الرَّابعُ: أنَّ وصْفَ اللهِ تعالى بصفاتِ الإِثباتِ أدلُّ على الكمالِ منْ وصْفِهِ بصفاتِ النَّفْيِ، لأنَّ الإِثباتَ أمرٌ وجوديٌّ يقتضي تَنَوُّعَ الكمالاتِ في حقِّهِ، وأمّا النَّفْيُ فأمرٌ عدميٌّ لا يقتضيِ كمالاً إلاّ إذا تضمَّنَ إثباتاً وهؤلاءِ النُّفاةُ لاَ يقولونَ بنفيٍ الإِثباتَ.
الخامسُ: قولهُمْ: "إنَّ إثباتَ صفاتٍ متغايرةٍ مغايرةْ للموصُوفِ يستلزمُ التَّعَدُّدَ.." قولٌ باطلٌ مخالفٌ للمعقولِ، والمحسوسِ فإنَّهُ لا يَلْزَمُ منْ تعدُّدِ الصِّفاتِ تعدُّدُ الموصوفِ فَها هوَ الإِنسانُ الواحدُ يُوْصَفُ بأنَّهُ حيٌّ، سميعٌ بصيرٌ، عاقلٌ، متكلِّمٌ إلى غيرِ ذلكَ منْ صفاتِهِ ولاَ يلزَمُ منْ ذلكَ تعدُّدُ ذاتِهِ.
السَّادسُ: قولُهُمْ: "في الأسماءِ إنَّ إثباتَها يسْتلزِمُ أنْ يكونَ متَّصفاً بمعنى الاسمِ فيقتضي أنْ يكونَ إثباتُها تشبيهاً".
جوابُهُ: أنَّ المعاني الّتي تلزَمُ منْ إثباتِ الأسماءِ صفاتٌ لائقةٌ باللهِ تعالى غيرُ مستحيلةٍ عليْهِ، والمشاركةٌ في الاسمِ، أو الصِّفةِ لا تستلزمُ تماثلَ المسِّمياتِ والموصوفاتِ.
السَّابعُ: قولُهُمْ: "إنَّ الإثباتَ يستلزِمُ تشبيهَهُ بالموجوداتِ".
جوابُهُ: أنَّ النَّفْيَ – الّذي قالُوا بهِ – يستلزِمُ تشبيهَهُ بالمعدوماتِ على قياسِ قولِهِمْ وذلكَ أقْبَحُ منْ تشبيهِهِ بالموجوداتِ وحينئذٍ فإمَّا أن يُقِرُّوا بالإِثباتِ فيوافِقُوا الجماعةَ، وإمَّا أنْ يُنْكِرُوا النَّفْيَ كمَا أنْكرُوا الإِثباتَ فيوافِقُوا غلاةَ الغلاةِ منَ القَرَامِطَةِ والباطنِيَّةِ وغيرِهِمْ، وأمّا التَّفرِيقُ بيْنَ هذَا وهذَا فتناقضٌ ظاهرٌ.

فَصْلٌ

الطائِفَةُ الرَّبِعَةُ: غلاةُ الغلاةِ منَ الفلاسفَةِ، والجهميَّةِ، والقرامطَةِ والباطنيَّةِ وغيرِهِمْ.
وطريقتُهُمْ أنَّهُمْ أنكرُوا في حقِّ اللهِ تعالى الإِثباتَ والنَّفيَ، فنفُوا عنْهُ الوجودَ، والعدمَ والحياةَ، والموتَ، والعِلمَ، والجهلَ ونحوِهَا وقالُوا: إنَّهُ لا موجودٌ ولا معدومٌ، ولا حيٌّ، ولا ميْتٌ، ولا عالِمٌ، ولا جاهِلٌ ونحوِ ذلك.
وشُبْهَتُهُمْ أَنَّهُمُ اعْتقَدُوا أنَّهمْ إنْ وصَفُوهُ بالإِثباتِ شَبَّهوهُ بالموجوداتِ وإنْ وصَفُوهُ بالنَّفيِ شبَّهُوهُ بالمعْدوماتِ.

والرَّدُّ عليهمْ منْ وجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ تسميةَ اللهِ ووصْفَهُ بِمَا سَمَّى ووَصَفَ بهِ نفسَهُ ليسَ تشْبيهاً ولا يَسْتلزِمُ التَّشْبيهَ، فإنَّ الاشتراكَ في الاسمِ والصِّفةِ لاَ يَستلزِمُ تماثُلَ المُسمَّياتِ والموصوفاتِ، وتسميتُكُمْ ذلكَ تشْبيهاً ليسَ إلا تمويهاً وتلْبيساً على العامَّةِ والجُهَّالِ ولوْ قَبِلْنَا مثْلَ هذِهِ الدَّعْوى الباطلةِ لأَمكَنَ كلَّ مبْطِلٍ أنْ يُسمِّيَ الشيءَ الحقَّ بأسماءٍ يُنَفِّرُ بها الناسَ عنْ قَبُولِهِ.
الثاني: أنَّهُ قدْ عُلِمَ بضرورةِ العقلِ والحِسِّ أنَّ الموجودَ الممْكِنَ لا بدَّ لهُ منْ موجِدٍ واجبِ الوجودِ، فإنَّنَا نعْلَمُ حدوثَ المُحْدَثاتِ ونُشاهِدُهَا، ولا يُمكِنُ أنْ تَحدُثَ بدونِ محدِثٍ، ولاَ أنْ تُحْدِثَ نفسَهَا بنفسِهَا لقولِهِ تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)([4]). فتَعيَّنَ أنْ يكونَ لها خالقٌ واجبُ الوجودِ وهوَ اللهُ تعالى. ففي الوجودِ إذنْ موجودانِ:

أحدُهُمَا: أزليٌّ واجبُ الوجودِ بنفسِهِ.
الثَّاني: مُحْدَثٌ ممكِنُ الوجودِ، موجودٌ بغيرِهِ، ولا يَلْزَمُ منِ اتِّفاقِهِمَا في مُسمَّى الوُجودِ أنْ يَتَّفِقا في خصائِصِهِ، فإنَّ وُجودَ الواجبِ يَخُصُّهُ، ووجودَ المُحْدَثِ يَخصُّهُ.
فوجودُ الخالقِ واجبٌ أزليٌّ ممتنِعُ الحدوثِ أبديٌّ ممتنِعُ الزَّوالِ، ووجودُ المخلوقِ ممكِنٌ حادِثٌ بعدَ العدَمِ قابلٌ للزَّوالِ، فمنْ لمْ يُثْبِتْ مَا بينَهُمَا مِنَ الاتِّفاقِ والافتراقِ لَزِمَهُ أنْ تكونَ الموجوداتُ كلُّها إما أزليَّةً واجبةَ الوجودِ بنفسِهَا أو مُحْدَثَةً ممكِنةَ الوجودِ بِغيرِهَا وكلاهُمَا معلومُ الفسادِ والاضْطِرارِ([5]).
الثالثُ: أنَّ إنكارَهُمُ الإِثباتَ والنَّفيَ، يَستلزِمُ نفْيَ النَّقيضَيْنِ معاً وهذَا ممتنِعٌ، لأنَّ النَّقيضينِ لا يُمكِنُ اجتماعُهُمَا ولا ارتفاعُهُمَا، بلْ لاَ بدَّ منْ وجودِ أحدِهِمَا وحْدَهُ فيَلزَمُ – على قياسِ قولِهمْ – تشبيهُ اللهِ بالممتنِعاتِ لأنَّهُ يَمتنِعُ أنْ يكونَ الشَّيءُ لاَ موجوداً، ولا مَعْدوماً، ولا حَيًّا، ولا ميِّتاً، إلا أمراً يُقَدِّرُهُ الذِّهنُ ولاَ حقيقةَ لهُ، وَوَصْفُ اللهِ سبحانَهُ بهذا معَ كوْنِهِ مخالِفاً لبَداهةِ العقولِ كفْرٌ صريحٌ بمَا جاءَ بهِ الرَّسُولُ.
فإنْ قالُوا: نفيُ النَّقيضينِ ممتنِعٌ عما كانَ قابِلاً لهمَا أما مَا كانَ غيرَ قابلٍ لهما كالجمادِ الذي لا يَقبلُ الاتِّصافَ بالسَّمْعِ والصَّمَمِ فإِنَّهُ يُمكِنُ نفيُهُمَا عنْهُ فيُقالُ ليسَ بسميعٍ ولا أصمَّ.

فالجوابُ منْ أربعةِ أوْجُهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذَا لا يَصِحُّ فيمَا قالُوهُ منْ نفْيِ الوجودِ والعدَمِ فإنَّ تقابلَهُمَا تقابُلُ سلْبٍ وإيجابٍ باتِّفاقِ العُقلاءِ فإذَا انْتَفى أحدُهُمَا لزِمَ ثبوتُ الآخَرِ، فإذَا قيلَ ليسَ بموجودٍ. لَزِمَ أنْ يكونَ معدُوماً. وإذَا قيلَ: ليسَ بمعدومٍ لَزِمَ أن يكونَ موجوداً، فلاَ يُمكِنُ نفيُهمَا معاً ولاَ إثباتُهمَا معاً.
الوجْهُ الثانِي: أنَّ قولَهُمْ في الجمادِ إنَّهُ لاَ يَقبلُ الاتِّصافَ بالحياةِ، والموتِ، والعَمَى، والبصرِ، والسَّمعِ، والصَّممِ ونحوِها مما يكونُ تقابُلُهُ تقابُلَ عدَمٍ وملَكَةٍ قولٌ اصطلاحيٌّ لاَ يُغَيِّرُ الحقائِقَ مردودٌ بمَا ثَبَتَ منْ جعْلِ الجمادِ حيًّا كمَا جعَلَ اللهُ عصا موسى حيَّةً تلْقَفُ ما صَنَعَهُ السَّحَرَةُ وقدْ وَصَفَ اللهُ تعالى الجمادَ بأنَّهُ مَيِّتٌ في قولِهِ: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)([6]). وأَخْبرَ أنَّ الأَرضَ يومَ القيامةِ تُحدِّثُ أخْبارَهَا وهيَ مَا عُمِلَ عليْهَا منْ خَيْرٍ وشرٍّ وهذا يَستلزِمُ سمْعَهَا لمَا قِيلَ ورؤْيَتَهَا لِمَا فَعَلَ.
والوجْهُ الثّالثُ: أنَّ الذِي يَقبَلُ الاتِّصافَ بالكمالِ أكملُ منَ الذي لاَ يَقبَلُهُ فمَا يَقْبَلُ أنْ يُوصَفَ بالعلْمِ، والقدرةِ، والسَّمْعِ، والبصَرِ ولوْ كانَ خالياً منهُ أَكمَلُ مما لاَ يَقبلُ ذلكَ، فقولُكُمْ إنَّ الرَّبَّ لاَ يَقْبلُ أنْ يَتَّصِفَ بذلكَ يَستلزِمُ أنْ يكونَ أنْقَصَ مِنَ الإِنسانِ القابلِ لذلكَ حيثُ شبَّهتُموهُ بالجمادِ الّذي لا يَقْبَلُهُ.
الوجْهُ الرّابعُ: أنَّهُ إذَا كانَ يَمتنعُ انتفاءُ الوجودِ والعدمِ فانتفاءُ عدمِ قبولِ ذلكَ أشدُّ، وعلى هذَا يكونُ قولُهُمْ إنَّ الرَّبَّ لا يَقبلُ الاتِّصافَ بالوجودِ والعَدَمِ مُستلزِماً لتشبيهِهِ بأشدِّ المُمْتَنِعَاتِ.

فَصْلٌ

عُلِمَ ممَّا سبقَ أنَّ كلَّ طائفةٍ منْ هؤلاءِ الطَّوائفِ الأربعِ واقعونَ في محاذيرَ:
الأوَّلُ: مخالَفةُ طريقِ السَّلَفْ.
الثَّاني: تعطيلُ النُّصوصِ عنِ المرادِ بِها.
الثَّالثُ: تحريفُها إلى معانٍ غيرِ مرادةٍ بهَا.
الرَّابعُ: تعطيلُ اللهِ عنْ صفاتِ الكمالِ الَّتي تَضَمَّنَتْهَا هذِهِ النُّصوصُ.
الخامسُ: تَناقُضُ طريقتِهمْ فيمَا أَثبَتوهُ وفيمَا نَفَوْهُ.
فنقولُ لكلِّ واحدٍ منهمْ في جانبِ الإِثباتِ: أَثْبِتْ مَا نَفَيْتَ معَ نفْيِ التَّشبيهِ، كمَا أَثبَتَّ مَا أَثْبَتَّ مع نفيِ التَّشبيهِ.
ونقولُ لهُ في جانبِ النَّفْيِ: انْفِ ما أَثبَتَّ خوْفاً من التَّشْبيهِ، كَما نفيْتَ ما نفيْتَ خوْفاً منَ التَّشْبيهِ وإلا كنتَ متناقِضاً.
والقولُ الفصلُ المطَّردُ السَّالمُ منَ التَّناقُضِ مَا كَانَ عليهِ سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُهَا منْ إثباتِ ما أَثبَتَهُ اللهُ تعالى لنفْسِهِ منَ الأَسْماءِ والصِّفاتِ، إثْباتاً بلاَ تمثيلٍ، وتنزيهاً بلا تعطيلٍ، وإجراءَ النُّصوصِ على ظاهرِهَا على الوجهِ اللاَّئقِ باللهِ عزَّ وجلَّ منْ غيرِ تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ.
ويَتبيَّنُ هذَا بأصْلَيْنِ، ومَثَلَيْنِ، وخَاتِمةٍ:

([1]) معنى قولِهم بشرْطِ الإِطلاقِ أنه مطْلَقٌ عن أي صِفةٍ ثُبوتيَّةٍ لأن الصفةَ تُقَيِّدُ الموصوفَ.

([2]) سورة البقرة، الآية 85.

([3]) سورة النساء، الآية: 150.

([4]) سورة الطور، الآية : 35.

([5]) ر: 6/43 م ف ق.

([6]) سورة النحل، الآية: 20-21.


  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 09:47 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي توضيح مقاصد المصطلحات العلمية للشيخ: محمد بن عبد الرحمن الخميس


(7) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(وَلاَ يُثْبِتُونَ إِلاَّ وُجُودًا مُطْلَقًا, لاَ حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْصِيلِ..)

الشرحُ:
مَعْنَاهُ: أنَّ هؤلاءِ الكُفَّارَ ومَن مَعَهُم من الفلاسفةِ والجهميَّةِ والمُعَطِّلَةِ, لا يُؤْمِنُونَ بصفاتِ اللَّهِ تَعَالَى ولا يَصِفُونَ اللَّهَ تَعَالَى بشيءٍ من صفاتِهِ التي وَصَفَ بها نفسَهُ, وَوَصَفَهُ بها رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإِنَّما يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ خَالٍ عن الصفاتِ التي تُقَيِّدُ الموصوفَ، والشيءُ إِذَا لمْ يَكُنْ لَهُ صِفَةٌ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، ولا يَكُونُ لَهُ وجودٌ خارجَ الأذهانِ, وإِنَّما وُجُودُهُ وُجُودٌ ذِهْنِيٌّ.

فالذهنُ يَتَصَوَّرُهُ ولكنْ لا وجودَ لَهُ في الخارجِ، فَهُوَ شيءٌ معدومٌ؛ لأَنَّ المعدومَ لا صِفَةَ لَهُ.
فاللَّهُ تَعَالَى عندَ هؤلاءِ الجَهْمِيَّةِ مَعْدُومٌ في الحقيقةِ, ولا وجودَ لَهُ
؛ لأَنَّهُم يَصِفُونَهُ بصفاتِ المعدومِ بل المُمْتَنِعِ، فيَقُولُونَ: إِنَّهُ لا داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ، ولا فوقَهُ ولا تحتَهُ، ولا كذا, ولا كذا، فهؤلاءِ مع كَوْنِهِم غُلاَةَ المُعَطِّلَةِ فَهُمْ مُشَبِّهَةٌ أَيْضًا؛ لأَنَّهُم شَبَّهُوا لَهُ بالمَعْدُومَاتِ بل المُمْتَنِعَاتِ، هذا أَوَّلُ نَوْعٍ من المُعَطِّلَةِ، وسيأتي أَصْنَافٌ أُخْرَى من المُعَطِّلَةِ.


  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 09:58 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


قولُهُ:
وَأَمَّا مَنْ زَاغَ وَحَادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ، من الكُفَّارِ، والمشركينَ، والذين أُوتُوا الكتابَ، ومَن دَخَلَ في هؤلاءِ من الصابِئَةِ، والمُتَفَلْسِفَةِ، والجَهْمِيَّةِ، والقَرَامِطَةِ الباطِنِيَّةِ ونحوِهِم؛ فَإِنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ذلِكَ؛ يَصِفُونَهُ بالصفاتِ السَّلْبِيَّةِ على وَجْهِ التفصيلِ، ولا يُثْبِتُونَ إلا وجوداً مُطْلَقاً، لا حقيقةَ لهُ عندَ التحصيلِ، وإنَّمَا يَرْجِعُ إلى وُجُودٍ في الأذْهَانِ، ويَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ في الأعيانِ. فقولُهم يَسْتَلْزِمُ غايةَ التعطيلِ وغايةَ التمثيلِ؛ فَإِنَّهُم يُمَثِّلُونَهُ بالمُمْتَنِعَاتِ، والمَعْدُومَاتِ، والجماداتِ، وَيُعَطِّلُونَ الأسماءَ والصفاتِ تعطيلاً يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذاتِ.

الشرحُ:
بعدَ فراغِ المُؤَلِّفِ مِن بيانِ طريقةِ السلَفِ في بابِ أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ شَرَعَ في بيانِ طريقةِ مُخَالِفِيهِم, فقالَ: وأمَّا مَن انْحَرَفَ ومَالَ عن طريقةِ الرُّسُلِ وأَتْبَاعِهِم مِن السَّلَفِ مِن أنواعِ الكُفَّارِ، وأصْنَافِ المُشْرِكِينَ، واليهودِ، والنصارَى، ومَن سارَ على مِنْهَاجِهِم, ودَخَلَ في عِدَادِهِم كالصابئةِ، والفلاسفةِ، والقَرَامِطَةِ، والجَهْمِيَّةِ ونحوِهِم كالمعتزلةِ، فإنَّهُم على العكسِ من طريقِ الرُّسُلِ وأَتْبَاعِهِمْ. فالإشارةُ في قولِ المُؤَلِّفِ (على ضِدِّ ذلِكَ) راجعةٌ إلى طريقةِ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ مِن سَلَفِ الْأُمَّةِ وأَئِمَّتِهَا، فهؤلاءِ مُثْبِتُونَ لأوصافِ الكمالِ، نَافُونَ ما يُضَادُّ هذهِ الحالَ، أمَّا أصنافُ هؤلاءِ الطوائفِ فإنَّهُم يَنْفُونَ صفاتِ الكمالِ، ويَصِفُونَ اللهَ بالصفاتِ السلْبِيَّةِ تَفْصِيلِيّاً، كَقَوْلِهِمْ: ليسَ بِمُسْتَوٍ على عَرْشِهِ، ولا يَغْضَبُ، ولا يَنْزِلُ، ولا يُحِبُّ.

وقولُهُ:" ولا يُثْبِتُونَ إلا وجوداً مُطْلَقاً، لا حقيقةَ لهُ عندَ التحصيلِ، وإنَّمَا يَرْجِعُ إلى وجودٍ في الأذهانِ، يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ في الأعيانِ " معناهُ أنَّ سَلْبَ الصفاتِ عن اللهِ غايتُهُ ونهايتُهُ أنَّ اللهَ تعالى غيرُ موجودٍ أصلاً، فإنَّ الوجودَ المُطْلَقَ – يعني: المُجَرَّدَ عن جميعِ الصفاتِ – لا حقيقةَ لهُ إلاَّ في الذِّهْنِ، وليسَ لهُ وجودٌ خارجيٌّ بَتَاتاً؛ لأنَّ الذاتَ لا تَتَحَقَّقُ بلا صِفَةٍ أصلاً؛ بلْ هذا بمنزلةِ مَن قالَ: أَثْبِتْ إِنْسَاناً لا حَيَوَانًا، ولا نَاطِقاً، ولا قَائِماً بِنَفْسِهِ، ولا بِغَيْرِهِ، ولا قُدْرَةَ لهُ، ولا حياةَ، ولا حركةَ، ولا سُكُونَ! ونحوَ ذلكَ.

أو قالَ: أَثْبِتْ نَخْلَةً ليسَ لها سَاقٌ، ولا جِذْعٌ، ولا لِيفٌ، ولا غيرُ ذلكَ.
فإنَّ هذا يُثْبِتُ مَا لا حقيقةَ لهُ في الخارجِ, ولا يُعْقَلُ؛ ولهذا كانَ السَّلَفُ والأَئِمَّةُ يُسَمُّونَ نُفَاةَ الصفاتِ مُعَطِّلَةً؛ لأنَّ حقيقةَ قولِهم تعطيلُ ذاتِ اللهِ تعالى، وبِسَلْبِهِم هذه الصفاتِ أيضاً مَثَّلُوا وَضَلُّوا، حيثُ شَبَّهُوهُ بالجماداتِ التي لا تَسْمَعُ ولا تُبْصِرُ ولا تَعْلَمُ ولا تَقْدِرُ، وَشَبَّهُوهُ بالمَعْدُومَاتِ، حيثُ زَعَمُوا أنَّهُ لا يَسْتَوِي، ولا يَغْضَبُ، ولا يُحِبُّ، ولا يَعْلَمُ، وليس بِحَيٍّ، وعَطَّلُوهُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِن الأوصافِ، فصارَ نهايةُ تَعْطِيلِهِم أنَّ ذاتَهُ غيرُ موجودةٍ؛ فإنَّ مَن ليسَ مُتَّصِفاً بهذهِ الصفاتِ؛ لا وُجُودَ لهُ.

والصَّابِئَةُ:
هم أصحابُ كَنْعَانَ وَنَمْرُودَ الذينَ بُعِثَ إليهم الخليلُ، وكانوا يَعْبُدُونَ الكواكبَ، ويَبْنُونَ لها الهَيَاكِلَ، وكانَ الصابئةُ إذْ ذاكَ على الشِّرْكِ؛ وإنْ كانَ الصابِئِيُّ قدْ لا يكونُ مُشْرِكاً, بلْ مُؤْمِناً باللهِ واليومِ الآخِرِ، كما في الآيَتَيْنِ الكرِيمَتَيْنِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} الآيَةَ، { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ} الآيةَ.
لَكِنَّ كثيراً منهم أو أَكْثَرَهُمْ كانوا كُفَّاراً ومُشْرِكِينَ، كما أنَّ كثيراً مِن اليهودِ والنصارَى بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا, وصارُوا كُفَّارًا ومُشْرِكِينَ، وقد اخْتُلِفَ في هذهِ النسبةِ، فقيلَ: إنَّهَا إلى صَابِئِ بنِ مُتَوَشْلِحَ بنِ إِدْرِيسَ – عليهِ السلامُ – وكانَ على الحَنِيفِيَّةِ الأُولَى؛ وقِيلَ، إلى صَابِئِ بنِ مَارِي، وكانَ في عصرِهِ الخليلُ (عليهِ السلامُ)، والصَّابِئُ عندَ العَرَبِ مَن خَرَجَ عنْ دينِ قومِهِ، لذلكَ كانتْ قريشٌ تُسَمِّي رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَابِئًا؛ لِخُرُوجِهِ عن دينِ قومِهِ، واللهُ أَعْلَمُ.

والمُتَفَلْسِفَةُ:
جَمْعُ مُتَفَلْسِفٍ، والفلسفةُ بلسانِ اليونانِ الحِكْمَةُ، فالفَيْلَسوفُ هو صاحِبُ الحكمةِ، والمرادُ بالفلاسفةِ هُنَا الإِلَهِيُّونَ, لا الدَّهْرِيُّونَ والدَّوْرِيُّونَ.

وهؤلاءِ الفلاسفةُ الإلهيونَ المُلْحِدُونَ، لا يُؤْمِنُونَ بالبَعْثِ والنُّشُورِ، على ما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ، كما أنَّهُم لا يُثْبِتُونَ للربِّ أسماءَهُ وصفاتِهِ، فَمِن قُدَمَائِهِمْ أَرِسْطُو تِلْمِيذُ أَفْلاَطُونَ الْيُونَانِيَّانِ، ومِن مُتَأَخِّرِيهِمْ أبو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَاءَ وَأَشْبَاهُهُمَا.

الْقَرَامِطَةُ:
كانَ ظهورُ هذه الطائفةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ بعدَ المائةِ بظهورِ مَيْمُونِ بنِ دَيْصَانَ الذي نَصَبَ للمسلمينِ الحَبَائِلَ، وبَغَى بِهم الغَوَائِلَ، وكانَ يُسِرُّ المَجُوسِيَّةَ، ويُظْهِرُ الإسلامَ، وكانَ يَجْعَلُ لكلِّ آيةٍ تفسيراً، ولِكُلِّ حديثٍ تَأْوِيلًا، وَجَعَلَ الفرائضَ والسُّنَّةَ رموزاً وإشاراتٍ، وكانَ يَخْدِمُ إسماعيلَ بنَ جعفرٍ، وظهرَ أيامَ حَمْدَانَ قِرْمِطٍ، فَاجْتَمَعَا وتَسَاعَدَا على نَشْرِ هذا المَذْهَبِ الشَّنِيعِ، فَسُمُّوا بالقَرامطةِ، وهذانِ الشخصانِ هُمَا المُؤَسِّسَانِ لِأَصْلِ هذا المذهبِ، ثم ظَهَرَ بعدَهُما في الدعوةِ الجَنَابِيُّ وهو (أبو سعيدٍ الحسنُ بنُ بَهْرَامَ الجَنَابِيُّ) وهو من أتباعِ حَمْدَانِ قِرْمِطٍ، وقد طالَتْ أَيَّامُهُم، وعَظُمَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَأَخَافُوا السبيلَ، واسْتَوْلَوْا على بلادٍ كثيرةٍ، وأخبارُهُم مُسْتَقْصَاةٌ في التاريخِ، وميمونُ بنُ دَيْصَانَ كانَ مَجُوسِيًّا مِن سَبْيِ الأهوازِ (وحَمْدَانُ قِرْمِطٍ) كانَ مِن الصَّابِئَةِ الحَرَّانِيَّةِ، والمَنْسُوبُ إليهم (قِرْمِطِيّ) بكسرِ القافِ، وسكونِ الراءِ، وكسرِ الميمِ، وبعدَها طاءٌ مُهْمَلَةٌ، وأصلُ القَرْمَطَةِ في اللغةِ: تَقَارُبُ الشيْءِ بَعْضِهِ مِن بَعْضٍ، يُقالُ: خَطٌّ مُقَرْمِطٌ وَمَشْيٌ مُقَرْمِطٌ إذا كانَ كذلكَ.

والجَهْمِيَّةُ:
هم أصحابُ جَهْمِ بنِ صَفْوَانَ، تلميذُ الجَعْدِ بنِ دِرْهَمٍ. وقدْ ظهرتْ بِدْعَتُهُ بِتِرْمِذَ، وَقَتَلَهُ سَلْمُ بنُ أَحْوَزَ المَازِنِيُّ في آخِرِ مُلْكِ بَنِي أُمَيَّةَ، وقد اشْتُهِرَ مذهبُ التعطيلِ باسمِ الجَهْمِ وإنْ كانَ أَخَذَهُ عن الجعدِ بنِ دِرْهَمٍ، والجعدُ عن أَبَّانِ بنِ سَمْعَانَ، وأبانُ عن طَالُوتَ، وطالوتُ عن لَبِيدِ بنِ الأَعْصَمِ اليَهُودِيِّ؛ نَظَراً لأنَّ جَهْماً هو الذي تَزَعَّمَ هذه المَقَالةَ وَنَشَرَهَا في الناسِ، فَكُلُّ مَن اعْتَنَقَ هذه المَقَالةَ نُسِبَ إليهِ؛ لأنَّهُ كانَ رَأْساً فِيهَا.

قَوْلُهُ:
فَغُلاَتُهُمْ يَسْلُبُونَ عنهُ النقيضَيْنِ، فيقولونَ: لا موجودٌ ولا مَعْدُومٌ، ولا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ، ولا عالمٌ ولا جاهلٌ؛ لأنَّهُم يَزْعُمُونَ أنَّهُم إذا وَصَفُوهُ بالإثباتِ شَبَّهُوهُ بالموجوداتِ، وإذا وَصَفُوهُ بالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بالمعدوماتِ، فَسَلَبُوا النقِيضَيْنِ، وهذا مُمْتَنِعٌ في بَدَاهَةِ العقولِ، وَحَرَّفُوا ما أَنْزَلَ اللهُ مِن الكتابِ، وما جاءَ بهِ الرسولُ فَوَقَعُوا في شَرٍّ مِمَّا فَرُّوا منهُ؛ فإنَّهُم شَبَّهُوهُ بالمُمْتَنِعَاتِ؛ إذْ سَلْبُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النقيضَيْنِ، كلاهُمَا مِن المُمْتَنِعَاتِ.

الشرحُ:
يعني: غُلاَةُ الجَهْمِيَّةِ المَحْضَةِ، كالقَرَامِطَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِن غُلاَةِ هذهِ الطوائفِ المذكورةِ يَنْفُونَ عن اللهِ الأمرَيْنِ المتُنَاقِضَيْنِ، والمرادُ (بالغُلاَةِ) المُتَجَاوِزُونَ الحَدَّ، المُوغِلُونَ في الأمْرِ إِيْغَالاً عميقاً، ومعنى (يَسْلُبُونَ) يَنْفُونَ، ( والنَّقِيضَانِ) هما اللذانِ لا يَجْتَمِعَانِ ولا يَرْتَفِعَانِ في آنٍ واحدٍ، بلْ يَلْزَمُ مِن ثبوتِ أَحَدِهِمَا عَدَمُ الآخَرِ، ومن نَفْيِ أَحَدِهِمَا ثبوتُ الآخَرِ.

ثم مَثَّلَ المُؤَلِّفُ للنقيضَيْنِ بقولِهِ: )كالوجودِ والعَدَمِ والحياةِ والموتِ والعلمِ والجهْلِ) ثم بَيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ الشُّبْهَةَ التي مِن أَجْلِهَا نَفَى هؤلاءِ الغُلاَةُ النَّقِيضَيْنِ عن اللهِ، فقالَ:" لاَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا وَصَفُوهُ بالإثباتِ شَبَّهُوهُ بالموجوداتِ، وإذا وَصَفُوهُ بالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بالمعدوماتِ " فَسَلَبُوا النقيضَيْنِ خَشْيَةَ التَّشْبِيهِ، هذا تقريرُ شُبْهَتِهِمْ، ولكنْ آلَ بِهِمْ إِغْرَاقُهُمْ فِي نَفْيِ التشبيهِ إلى أنْ وَصَفُوهُ بغايةِ التعطيلِ، ثم إنَّهُم لمْ يَخْلُصُوا مِمَّا فَرُّوا منهُ، بلْ يَلْزَمُهُمْ على قياسِ قولِهِم أنْ يكونوا قدْ شَبَّهُوهُ بالمُمْتَنِعِ الذي هو أَخَسُّ وأَفْظَعُ مِن المَوْجُودِ والمَعْدُومِ المُمْكِنِ، فَفَرُّوا في زَعْمِهِم مِن التشبيهِ بالموجوداتِ والمعدوماتِ، وَوَصَفُوهُ بصفاتِ المُمْتَنِعَاتِ، التي لا تَقْبَلُ الوجودَ، بخلافِ المعدوماتِ المُمْكِنَاتِ. وَتَشْبِيهُهُ بالمُمْتَنِعَاتِ شَرٌّ مِن تَشْبِيهِهِ بالموجوداتِ، والمَعْدُومَاتِ المُمْكِنَاتِ، وَمَا فَرَّ منهُ هؤلاءِ المَلاَحِدَةُ ليسَ بِمَحْذُورٍ، فإنَّهُ إذا سُمِّيَ موجوداً قائِماً بنفسِهِ، حيًّا عليماً، رَؤُوفاً، رَحِيماً، وَسُمِّيَ المَخْلُوقُ بذلكَ لم يَلْزَمْ مِن ذلكَ أنْ يكونَ مُمَاثِلًا للمخلوقِ أصلاً، ولو كانَ هذا حقًّا لكانَ كلُّ موجودٍ مُمَاثِلاً لِكُلِّ موجودٍ، ولكانَ كلُّ مَعْدُومٍ مُمَاثِلاً لِكُلِّ مَعْدُومٍ، ولكانَ كلُّ مَا يُنْفَى عنهُ شيءٌ مِن الصفاتِ مُمَاثِلًا لِكُلِّ مَا يُنْفَى عنهُ ذلكَ الوَصْفُ.

ثم ذَكَرَ المُؤَلِّفُ أنَّ سَلْبَهُمْ لِلنَّقِيضَيْنِ أَمْرٌ مُمْتَنِعٌ، وامْتِنَاعُهُ وَاضِحٌ بَدِيهِيٌّ عندَ ذَوِي العُقُولِ، (والبَدِيهِيُّ) جَمْعُهُ بَدِيهِيَّاتٌ، وَهِي العلومُ الأَوَّلِيَّةُ التي يَجْعَلُهَا اللهُ في النفوسِ ابْتِدَاءً بلا وَاسِطَةٍ، وهي كالعِلْمِ بأنَّ الواحدَ نِصْفُ الاثنينِ، فهي لا تَحْتَاجُ إلى تَأَمُّلٍ ونَظَرٍ وتَفْكِيرٍ.

ثم بَيَّنَ أنَّ هؤلاءَ النَّافِينَ لأسماءِ اللهِ وصفاتِهِ قد حَرَّفُوا بِتَأْوِيلاَتِهِم البَاطِلَةِ ما جاءَ في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الأسماءِ الحُسْنَى والصفاتِ العُلْيَا، اسْتِنَاداً إلى أَقْيِسَتِهِم الفاسدةِ وتَأْوِيلاَتِهِم الباطلةِ، وَبَيَّنَ المُؤَلِّفُ أنَّ سَلْبَ النَّقِيضَيْنِ مِثْلَ جَمْعِ النقيضَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا مُمْتَنِعٌ، فَقَوْلُكَ: " زيدٌ موجودٌ معدومٌ الآنَ " مُمْتَنِعٌ، وَقَوْلُكَ: " زيدٌ لا موجودٌ ولا معدومٌ الآنَ " مُمْتَنِعٌ أيضاً.

قولُهُ:
وقد عُلِمَ بالاضطرارِ أنَّ الوجودَ لاَ بُدَّ لهُ مِن مُوجِدٍ واجبٍ بذاتِهِ، غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ، قديمٍ أَزَلِيٍّ، لا يَجُوزُ عليهِ الحُدُوثُ ولا العَدَمُ، فَوَصَفُوهُ بِمَا يَمْتَنِعُ وجودُهُ فضلاً عن الوجوبِ أو الوجودِ أو القِدَمِ.


الشرحُ:
يَعْنِي أنَّ العِلْمَ بوجودِ اللهِ أمْرٌ ضروريٌّ فِطْرِيٌّ، وإنْ كانَ يَحْصُلُ لبعضِ الناسِ مَا يُخْرِجُهُ إلى الطُرُقِ النظريَّةِ، فنحنُ نُشَاهِدُ حدوثَ الحيوانِ والنباتِ والمعادنِ، وحوادثَ الجَوِّ؛ كالسَّحابِ، والمَطَرِ، وغيرِ ذلكَ، وهذه الحوادثُ لمْ تُوجَدْ مِن غيرِ مُوجِدٍ، ولا هي أَوْجَدَتْ نَفْسَهَا, كما قالَ تعالى: {أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وَمَعْلُومٌ أنَّ الشيءَ لا يُوجِدُ نَفْسَهُ، فالْمُمْكِنُ الذي لَيْسَ لهُ مِن نَفْسِهِ وجودٌ ولا عَدَمٌ لا يكونُ موجوداً بنفسِهِ، بلْ إنْ حَصَلَ ما يُوجِدُهُ, وإلاَّ كانَ مَعْدُوماً.

وقولُهُ: (لاَ يَجُوزُ عليهِ الحدوثُ ولا العَدَمُ) هو شَرْحٌ لقولِهِ:واجبٍبذاتِهِ، (والغَنِيِّ عَمَّا سِوَاهُ) هو القائمُ بنفسِهِ، ليسَ مُحْتَاجاً إلى غيرِهِ في شيءٍ من الأمورِ، يقولُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ واللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وَغِنَاهُ شَامِلٌ وخَزَائِنُهُ مَلْأَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}.

وقولُ المُؤَلِّفِ " قديمٍ أَزَلِيٍّ " القديمُ في لُغَةِ العَرَبِ التي نَزَلَ بها القرآنُ هو المُتَقَدِّمُ على غيرِهِ، فَيُقَالُ: هذا قديمٌ، لِلْعَتِيقِ، وهذا حديثٌ للجديدِ، ولم يُسْتَعْمَلْ هذا إلاَّ في المُتَقَدِّمِ على غيرِهِ – لاَ فِيمَا لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ – كَمَا قالَ تَعَالى: { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ} والْعُرْجُونُ القديمُ هو الذي يَبْقَى إلى حينِ وجودِ العُرْجُونِ الثاني، فإذا وُجِدَ الحديثُ قِيلَ للأوَّلِ قديمٌ، وأَمَّا إدخالُ القديمِ في أسماءِ اللهِ تعالى فهو مشهورٌ عند أكثرِ أهلِ الكلامِ، وقد أَنْكَرَ ذلكَ كثيرٌ من السَّلَفِ والخَلَفِ، وحيثُ إنَّ التَّقَدُّمَ في اللغةِ مُطْلَقٌ لا يَخْتَصُّ بالمُتَقَدِّمِ على الحوادثِ كُلِّهَا، وأسماءَ اللهِ هي الأسماءُ الحُسْنَى التي تَدُلُّ على خُصُوصِ ما يُمْدَحُ بهِ؛ فلا يَكُونُ القديمُ مِن الأسماءِ الحُسْنَى، وجاءَ الشَّرْعُ باسمِهِ الأوَّلِ وهو أَحْسَنُ مِن القديمِ؛ لأنَّهُ يُشْعِرُ بأنَّ ما بَعْدَهُ آيِلٌ إليهِ، وتابعٌ لهُ، بخلافِ القديمِ، واللهُ تعالى لهُ الأسماءُ الحُسْنَى، لكنْ لَمَّا كانَ القديمُ عندَ أهلِ الكلامِ عبارةً عَمَّا لم يَزَلْ، أو عَمَّا لم يَسْبِقْهُ وُجُوُدُ غيرِهِ، وأهلُ الاصطلاحِ تَجُوزُ مُخَاطَبَتُهُمْ باصطلاحاتِهِم عَبَّرَ بهِ المُؤَلِّفُ عن الأوَّلِ, وَقَيَّدَهُ بقولِهِ: (أَزَلِيٍّ) لأنَّ القديمَ قد يُطْلَقُ على المُتَقَدِّمِ على غيرِهِ وإنْ كانَ حادِثاً، فهذا السِّرُّ في التَّقْيِيدِ بالأَزَلِيَّةِ، فالْأَزَلِيُّ منسوبٌ إلى الْأَزَلِ، والأَزَلِيَّةُ هي الأَوَّلِيَّةُ، وقولُ المُؤَلِّفِ: (فَوَصَفُوهُ بِمَا يَمْتَنِعُ وَجُودُهُ فَضْلاً عَن الوجودِ أو الوجوبِ أو القِدَمِ) يعني أنَّ القَرَامِطَةَ ونحوَهم مِن الجَهْمِيَّةِ المَحْضَةِ السَّالِبِينَ النَّقِيضَيْنِ عن اللهِ قد شَبَّهُوا اللهَ بالمُمْتَنِعَاتِ فَضْلاًعن الوصفِ.

بالوجوبِ، أو الوصفِ بالوجودِ، أو الوصفِ بالقِدَمِ، فهذه أوْصَافُ اللهِ، والقَرَامِطَةُ بِتَشْبِيهِهِمْ إِيَّاهُ بالمُمْتَنِعِ قد جَعَلُوهُ في غايَةِ البُعْدِ عن الاتصافِ بهذه الأوصافِ.


  #5  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 10:02 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


طريقةُ المخالِفينَ للرُّسُلِ
قولُه: ( وأمَّا مَنْ زاغَ وحادَ عنْ سبيلِهم من الكفَّارِ والمشرِكينَ والذينَ أُوتُوا الكتابَ، ومَنْ دَخَلَ في هؤلاءِ من الصابِئَةِ والمتفلْسِفَةِ والْجَهْمِيَّةِ والقرامطةِ الباطنيَّةِ ونحوِهم، فإنَّهُم على ضِدِّ ذلكَ ).

التوضيحُ
بعدَ أنْ بَيَّنَ الشيخُ طريقةَ أهْلِ الحَقِّ من الرسُلِ وأَتْبَاعِهِمْ، بَدَأَ ببيانِ طريقةِ المخالِفينَ لهم، كما قالَ تعالى: { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}، وذَكَرَ منها سَبْعَ طوائفَ يَدورُ انحرافُهم بينَ التعطيلِ والتمثيلِ.

(1) الكُفَّارُ: أَصْلُ الكُفْرِ التغطيةُ، ومنهُ سُمِّيَ الْمُزَارِعُ كافرًا؛ لتَغطيتِه الْحَبَّ في الأرْضِ، كما في قولِه تعالى { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} .
- والكفَّارُ كلمةٌ جامعةٌ تَشْمَلُ كلَّ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ، كالْمُشْرِكِينَ وأَهْلِ الكِتابِ والْمَجوسِ وغيرِهم، ولكنْ لَمَّا عَطَفَ المؤلِّفُ بعضَ هذهِ الطوائفِ على الكفَّارِ دَلَّ على الْمُغايَرَةِ، فيكونُ معنى الكفْرِ هنا التكذيبَ باللَّهِ ورُسُلِه، والاستكبارَ عنهم، وإنكارَ اليومِ الآخِرِ .
- وزَيْغُهم في هذا البابِ كما قالَ تعالى: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } .

(2) الْمُشْرِكُونَ: الشرْكُ هوَ مُساواةُ غيرِ اللَّهِ باللَّهِ فيما هوَ منْ خصائصِ اللَّهِ .
وزَيْغُهم في هذا البابِ وقوعُهم في التمثيلِ، كما قالَ تعالى: { إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }، وإنْ كانَ الشرْكُ أعْظَمَ أنواعِ التمثيلِ .

(3) الذينَ أُوتُوا الكتابَ: هم اليهودُ والنَّصَارى. وزَيْغُ اليهودِ وقوعُهم في التعطيلِ، والنَّصَارى في التشبيهِ.

(4) الصابئةُ: من الصَّبْوَةِ، يُقالُ: صَبَا الرجُلُ، إذا مالَ. واخْتَلَفَ الناسُ في الصابئةِ:

1- فقيلَ: همْ كلُّ مَنْ خالَفَ دِينَ آبائِه، وهذا عندَ العرَبِ.
2- وقيلَ: كلُّ مَنْ يُنْكِرُ الصانعَ، وهذا عندَ الْمُصَنِّفِينَ في الْمِلَلِ والْمَذاهِبِ.
3- وقيلَ: عُبَّادُ الملائكةِ.
4- وقيلَ: عُبَّادُ الكواكبِ، وهم قومُ إبراهيمَ.
5- وقالَ شيخُ الإسلامِ وغيرُه: الصابئةُ نوعانِ: حُنَفَاءُ مُوَحِّدُونَ، ومُشْرِكونَ.

وهذا واللَّهُ أَعْلَمُ هوَ أَصَحُّ الأقوالِ؛ فقدْ ذُكِرَت الصابِئَةُ في القرآنِ في ثلاثةِ مواضِعَ: مَوْضِعَيْنِ منها على وجهِ الوعْدِ والعَطْفِ على المؤمنينَ، كما في البَقَرَةِ والمائِدَةِ. والْمَوْضِعِ الثالثِ في الْحَجِّ؛ مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ فيهم مُوَحِّدِينَ ومُشْرِكِينَ .
وكلامُ الشيخِ هنا عن الصابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الذينَ زَاغُوا في هذا البابِ بوقوعِهم في التمثيلِ.

(5) الْمُتَفَلْسِفَةُ: أصْلُ الفلسَفَةِ بلسانِ اليُونانِ هيَ مَحَبَّةُ الْحِكْمَةِ، ويُقْصَدُ بالمتفلْسِفَةِ مَنْ دَخَلُوا في الفَلْسَفَةِ منْ أهْلِ الإسلامِ؛ لأنَّ الفلاسفةَ قِسمانِ: دَهْرِيُّونَ مُلْحِدُونَ، وإِلاَهِيُّونَ، وهم المقصودونَ كالفارابيِّ وابنِ سِينَا. وكلُّ مَنْ حاوَلَ الجَمْعَ بينَ الفلسفةِ والشرْعِ فهوَ متَفَلْسِفٌ .

(6) الْجَهْمِيَّةُ: همْ أَتْبَاعُ جَهْمِ بنِ صَفْوانَ السَّمَرْقَنْدِيِّ الضالِّ، الذي أَخَذَ مَقالَتَهُ في التعطيلِ عن الْجَعْدِ بنِ الدِّرْهَمِ، وأَخَذَها الْجَعْدُ عنْ أَبَانَ بنِ سَمْعَانَ، عنْ طالوتَ، عنْ لَبيدٍ الساحرِ اليهوديِّ .

وقدْ أَطْلَقَ السلَفُ هذا اللقَبَ على كلِّ مَنْ عَطَّلَ الصفاتِ أوْ بَعْضَها، كالعُلُوِّ والنزولِ والاستواءِ . ثمَّ اخْتُصَّ هذا الاسمُ بِمَنْ جَمَعَ بينَ نَفْيِ الأسماءِ والصفاتِ وقالَ بالإرجاءِ والْجَبْرِ .

(7) القرامِطَةُ الباطنيَّةُ: القَرامِطَةُ نِسبةٌ إلى حَمْدَانَ قُرْمُطٍ، وسُمُّوا بالباطنيَّةِ لزَعْمِهِم أنَّ للنصوصِ ظَاهرًا عندَ العَامَّةِ، وبَاطنًا عندَ الخاصَّةِ. ولهم تحريفاتٌ شنيعةٌ وانحرافاتٌ فَظِيعَةٌ كما سيأتي .

ومن الباطنيَّةِ الآنَ: الدُّروزُ، والنُّصَيْرِيَّةُ، والإسماعيليَّةُ، وغُلاةُ الرافِضَةِ، وغُلاةُ الْمُتَصَوِّفَةِ. ومنهم الْبُهَرَةُ، الجامعينَ بينَ الرَّفْضِ والتصوُّفِ، والْحُلولِ والغُلُوِّ، وهم طائفةٌ من الإسماعيليَّةِ.
قولهُ: ( ونحوَهمْ؛ فإنَّهُم على ضِدَّ ذلكَ ):
أيْ: ونحوَ هذهِ الطوائفِ فإنَّهُم على ضِدِّ طريقةِ الرُّسُلِ، ومعرفةُ الضِّدِ تَزيدُ الحقَّ وُضُوحًا؛ فإنَّ العافيةَ تاجٌ على رُءُوسِ الأصِحَّاءِ، لا يَعْرِفُها إلَّا مَنْ أُصيبَ بداءٍ .


وكما قيل: " ونُذِيمُهُمْ وبَهِمْ عَرَفْنَا فَضْلَهُ وبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأشياءُ " .
تفصيلُ طُرُقِ المخالِفينَ للرُّسُلِ

قولُه: ( فإنَّهُم يَصِفُونَه بالصفاتِ السَّلبيَّةِ على وجهِ التفصيلِ، ولا يُثْبِتُونَ إلَّا وُجودًا مُطْلَقًا لا حقيقةَ لهُ عندَ التحصيلِ، وإنَّما يَرْجِعُ إلى وجودٍ في الأذهانِ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُه في الأعيانِ، فقولُهم يَسْتَلْزِمُ غايةَ التعطيلِ وغايةَ التمثيلِ؛ فإنَّهُ يُمَثِّلُونَه بالْمُمْتَنِعَاتِ والْمَعْدُومَاتِ والْجَمَاداتِ، ويُعَطِّلُونَ الأسماءَ والصِّفاتِ تَعْطِيلاً يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ ) .

التوضيحُ
أيْ: فهذهِ الْفِرَقُ تُخَالِفُ طريقةَ الرُّسُلِ منْ وُجوهٍ:

1- أنَّهُم لا يَصِفُونَه إلَّا بالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، والمقصودُ بها الْمَنْفِيَّةُ عن اللَّهِ نَفْيًا لا يَتَضَمَّنُ إثباتَ كَمالِ الضِّدِّ، بلْ هوَ نَفْيٌ مَحْضٌ، فيقولون مَثَلاً: لا دَاخِلَ العالَمِ ولا خارجَهُ، ولا جِسْمَ ولا جوْهَرَ ولا عَرَضَ .... .
أمَّا طريقةُ الرُّسُلِ فهوَ الوصْفُ بصفاتِ الإثباتِ، وأمَّا النفيُ فهوَ لإثباتِ كمالِ الضِّدِّ كما سَبَقَ.

2- أنَّهُم يُفَصِّلُونَ في النَّفْيِ ولا يُجْمِلُونَ، بينَما طريقةُ الرُّسُلِ الإجمالُ في النفيِ، ولا يأتي التفصيلُ إلَّا لأسبابٍ كما سَبَقَ تفصيلُه.

3- أنَّهُم لا يُثْبِتُون إلَّا وُجُودًا مُطْلَقًا، والوجودُ الْمُطْلَقُ هوَ الوجودُ العامُّ الكلِّيُّ الذي يَصْدُقُ على كثيرينَ في الذِّهْنِ، فإذا وُجِدَ في الْخَارِجِ كانَ مُقَيَّدًا خاصًّا بِمَنْ أُضِيفَ إليه.

فلا يكونُ الوُجودُ الْمُطْلَقُ الْمُشْتَرَكُ إلَّا في الذِّهْنِ؛ ولذلكَ يقولُ الشيخُ: ( لا حقيقةَ لهُ عندَ التحصيلِ )، أيْ وعندَ التحقيقِ والتَّمْحِيصِ لا يُوجَدُ هذا الإطلاقُ في الخارِجِ .

فقَوْلُ هؤلاءِ يَسْتَلْزِمُ لازِمَيْنِ مِنْ أَفْسَدِ اللوازمِ:

أحدُهما: غايةُ التعطيلِ؛ لأنَّهُم بقولِهم هذا نَفَوْا وُجودَ ذاتِه تعالى .

ثانيهما: غايةُ التمثيلِ؛ لأنَّهُم إذا نَفَوْا وجودَه شَبَّهُوهُ بالمعدوماتِ، وإذا نَفَوْا وجودَه وعَدَمَهُ معًا شَبَّهُوهُ بالْمُمْتَنِعَاتِ؛ لأنَّ نَفْيَ الوجودِ والعدَمِ مُمْتَنِعٌ في ضَروراتِ العقولِ، وإذا نَفَوْا بعضَ الصفاتِ كالعِلْمِ والحياةِ والكلامِ وغيرِها شَبَّهُوهُ بالْجَماداتِ.

فهذه اللوازمُ الثلاثةُ، أي: التشبيهُ بالْمُمْتَنِعَاتِ أو المعدوماتِ أو الْجَماداتِ، لا تَلْزَمُ جميعَ الفِرَقِ، بلْ كلٌّ بِحَسَبِ مَدَى تعطيلِه. وإنَّما جَمَعَها الشيخُ؛ لأنَّها تَلْزَمُ مجموعَها لا آحادَها .


مُصْطَلَحَاتٌ لا بُدَّ منها:
قبلَ الشروعِ في تَفصيلاتِ الفِرَقِ وشُبُهَاتِهِمْ، لا بُدَّ منْ تقديمِ بعضِ الْمُصْطَلحاتِ الْمُستخدَمَةِ تقريبًا للْفَهْمِ .
1) فأَوَّلاً: الوجودُ: قِسمانِ: واجبٌ ومُمْكِنٌ .

أ - الوجودُ الواجبُ: هوَ ما لمْ يُسْبَقْ بعَدَمٍ، ولا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ، ( ولا يَفْتَقِرُ إلى غيرِه في الإيجادِ )، وهوَ وجودُ اللَّهِ تعالى .

ب- الوجودُ الممكِنُ: هوَ ما جازَ عليهِ العدَمُ، ( وافْتَقَرَ إلى غيرِه في الإيجادِ )، وهوَ وجودُ المخلوقاتِ جميعِها .

ثانيًا: العَدَمُ: قِسمانِ: مُمْكِنٌ ومُمْتَنِعٌ .

أ - المعدومُ الْمُمْكِنُ: وهوَ المعدومُ الذي يَجوزُ وُجودُه، كغُرابٍ أخْضَرَ، وبَحْرٍ منْ زِئْبَقٍ، وغيرِها؛ فهيَ معدومةٌ لكنَّهُ لا يَستحيلُ وُجودُها .

ب- المعدومُ الْمُمْتَنِعُ: وهوَ المعدومُ المستحيلُ وجودُه، كالجمْعِ بينَ الضِّدَّيْنِ، مِثْلَ: إنسانٍ وَجَمَادٍ معًا.
ونُوَضِّحُ هذهِ الْمُصْطَلَحَاتِ في الشكْلِ الآتي:

(هنا أشكال توضيحية تحتاج أن تؤخذ كصورة)


2) العَلاقاتُ بينَ الأشياءِ:

أربَعُ عَلاقاتٍ: إمَّا مساواةٌ، أوْ مُبَايَنَةٌ، أوْ عمومٌ وخُصوصٌ منْ وجهٍ كما سَبَقَ في الحمْدِ والشكْرِ، أوْ عمومٌ وخصوصٌ مُطْلَقٌ كما سَبَقَ في التعطيلِ والتحريفِ . والذي يَهُمُّنا هنا ( التبايُنُ )، فهوَ قِسمانِ:

1) تَبَايُنُ مُخَالَفَةٍ ( التخالُفُ ): كالحَجَرِ والسوادِ، فلا عِلاقَةَ بينَهما، بلْ هما مُخْتَلِفَانَ تَمَامًا، قدْ يَرْتَفِعَانِ وقدْ يَجْتَمِعَانِ.

2) تبايُنُ مُقَابَلَةٍ ( التقابُلُ ): أيْ كونُ الشيئينِ متقابلينِ، وهيَ التي تَهُمُّنَا هنا .
والتقابُلُ أربعةُ أنواعٍ:
تنبيهٌ: ( سيُنَاقِشُ شيخُ الإسلامِ هذا التقسيمَ في القاعدةِ السابعةِ ).

1- تَقَابُلُ النقيضينِ: وهوَ تقابُلُ أَمْرَيْنِ؛ أحدُهما وُجوديٌّ والآخَرُ عَدَمِيٌّ؛ بحيثُ لا يَجْتَمِعَانِ ولا يَرْتَفِعَانِ، بلْ يَجِبُ وجودُ أحدِهما دونَ الآخَرِ، مِثلُ السلْبِ والإيجابِ.

2- تقابُلُ الضِّدَّيْنِ: وهوَ تقابُلُ أَمْرَيْنِ وُجُودِيَّيْنِ لا يَجتمعانِ معًا، ولكنْ يُمْكِنُ ارتفاعُهما، مِثْلُ السوادِ والبَيَاضِ. لا يَجتمعانِ في مَحَلٍّ واحدٍ، ولكنْ يَجوزُ أنْ يَرْتَفِعَا بالأحمَرِ أو الأخضرِ مَثَلاً.

3- تَقَابُلُ الْمُتَضَايِفَيْنِ: هما أَمْرَانِ وُجُودِيَّيْنِ لا يُمْكِنُ إدراكُ أحدِهما إلَّا بالإضافةِ إلى الآخَرِ، مِثْلَ الأبوَّةِ والبُنُوَّةِ والقَبْلِ والبَعْدِ. وهذا قولُ عامَّةِ الْمَنَاطِقَةِ. وأمَّا عامَّةُ المتكلِّمينَ فيَزْعُمُونَ أنَّ الصفاتِ الإضافيَّةَ اعتباريَّةٌ عَدَمِيَّةٌ وليستْ وُجُودِيَّةً.

4- تَقَابُلُ الْمَلَكَةِ والْعَدَمِ: وهوَ تَقَابُلٌ بينَ أَمْرَيْنِ؛ أحدُهما وُجودِيٌّ والآخَرُ عَدَمِيٌّ، بحيثُ لا يَجْتَمِعانِ ولا يَرتَفِعَانِ عن الْمَحَلِّ الذي شَأنُهُ أنْ يَتَّصِفَ به، كالْعَمَى والْبَصَرِ.

وهذا قريبٌ من النقيضينِ، والفَرْقُ بينَهما في هذا القيْدِ الأخيرِ، فإنَّ النقيضينِ تَقَابُلٌ بينَ جميعِ الأشياءِ، والْمَلَكَةَ والعَدَمَ تَقَابُلٌ في مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ، إذا ارْتَفَعَ قَبولُ الْمَحَلِّ ارْتَفَعَ المتقابلانِ، مثلَ الْعَمَى والبَصَرِ في الإنسانِ، لا يَجتمعانِ ولا يَرْتفعانِ معًا، ولكنْ يَرتفعانِ في الْجِدارِ؛ لأنَّهُ ليسَ منْ شأنِه أنْ يَتَّصِفَ بهما .


ونُوَضِّحُ العَلاقاتِ بالشكْلِ التالي:

(هنا شكل توضيحي يحتاج أن يؤخذ كصورة)


أوَّلاً: مَذْهَبُ الغُلاةِ الباطنيَّةِ

قولُه: ( فَغَالِبِيَّتُهُمْ يَسْلُبُونَ عنهُ النقيضينِ فيقولونَ: لا موجودَ ولا مَعدومَ، ولا حَيَّ ولا مَيِّتَ، ولا عالِمَ ولا جاهِلَ؛ لأنَّهُم بِزَعْمِهِم إذا وَصَفُوهُ بالإثباتِ شَبَّهُوهُ بالموجوداتِ، وإذا وَصَفُوهُ بالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بالْمَعدوماتِ، فَسَلَبُوا النقيضينِ، وهذا مُمْتَنِعٌ في بَدَاءَةِ العُقولِ . وحَرَّفُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى من الكتابِ، وما جاءَ بهِ الرَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَقَعُوا في شَرٍّ مِمَّا فَرُّوا منهُ، فإنَّهُم شَبَّهُوهُ بالْمُمْتَنِعاتِ؛ إذْ سَلْبُ النقيضينِ كجَمْعِ النقيضينِ كِلاَهُمَا من الْمُمْتَنِعاتِ . وقدْ عُلِمَ بالاضطرارِ أنَّ الوُجودَ لا بُدَّ لهُ منْ مُوجِبٍ واجبٍ بذاتِه، غَنِيٍّ عما سِواهُ، قديمٍ أَزَلِيٍّ لا يَجوزُ عليهِ الحدوثُ ولا الْعَدَمُ، فوصفُوهُ بما يَمْتَنِعُ وجودُه فَضْلاً عن الوجوبِ أو الوجودِ أو القِدَمِ ) .

التوضيحُ

فأَشَدُّ هذهِ الْفِرَقِ الْمُنْتَسِبَةِ للإسلامِ غُلُوًّا هم الباطنيَّةُ. وسَبَقَ التعريفُ بهم، ويَتَلَخَّصُ الكلامُ عنهم فيما يَلِي:

أوَّلاً: مذْهَبُهُمْ في الصفاتِ: نَفْيُ النقيضينِ، وقدْ سَبَقَ تعريفُه، فيقولونَ: لا موجودَ ولا معدومَ، ولا حَيَّ ولا مَيِّتَ، ولا عالِمَ ولا جَاهِلَ. والصحيحُ أنَّ الحياةَ والموتَ، والعلْمَ والجهْلَ، نقيضانِ خِلافًا للمتكلِّمينَ، فإنَّهُم يَزْعُمونَ أنَّها منْ قَبيلِ الْمَلَكَةِ والعَدَمِ، فيَشترطونَ في الموصوفِ بها أنْ يكونَ مَحَلًّا شأنُهُ الاتِّصَافُ بها مِثْلُ العَمَى والبَصَرِ عندَهم .

ثانيًا: شُبْهَتُهُمْ: زَعَمُوا أنَّ وَصْفَهُ بالإثباتِ تَشْبِيهٌ لهُ بالموجوداتِ، ووَصْفَه بالنفيِ تشبيهٌ لهُ بالمعدوماتِ؛ فلذلكَ رَفَعُوا السلْبَ والإيجابَ، أي: النَّفْيَ والإثباتَ.

ثالثًا: الرَّدُّ عليهمْ منْ وجوهٍ:
1- أنَّ نَفْيَ النقيضينِ مُمْتَنِعٌ في بَدَاءَةِ العُقولِ، أيْ: يَحْكُمُ العقْلُ بامتناعِه منْ أوَّلِ وَهْلَةٍ دونَ نَظَرٍ أو استدلالٍ.
2- أنَّ مَذْهَبَهُمْ هذا تحريفٌ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتابِ، وَلِمَا جاءتْ بهِ الرُّسُلُ في هذا البابِ، وقدْ سَبَقَ سَرْدُ الآياتِ في الإثباتِ للأسماءِ والصِّفاتِ، وفي النفيِ لِمَا لا يَلِيقُ بهِ منْ أَضْدَادِ الْكَمَالاَتِ.
3- أنَّهُم وَقَعُوا في شَرٍّ مِمَّا فَرُّوا منهُ، فإنَّهُم فَرُّوا منْ تشبيهِه بالموجوداتِ والمعدوماتِ، فوَقَعُوا في تشبيهِه بالْمُمْتَنِعَاتِ التي يَسْتَحِيلُ وجودُها أَصْلاً، فإنَّ رفْعَ النقيضينِ معًا مُمْتَنِعٌ كجَمْعِهِمَا عندَ عامَّةِ العُقلاءِ، فكما أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يكونَ الشيءُ موجودًا مَعْدُومًا في آنٍ واحدٍ، فكذلكَ لا يُمْكِنُ أنْ يكونَ غيرَ موجودٍ وغيرَ معدومٍ في آنٍ واحدٍ، بلْ لا بُدَّ أنْ يكونَ إِمَّا مَوْجودًا أوْ مَعْدومًا .
4- ثمَّ إنَّهُ عُلِمَ بالاضطرارِ، أيْ: بالعِلْمِ الضروريِّ الذي يَجِدُهُ الإنسانُ في نفسِه كما يَجِدُ الجوعَ والْعَطَشَ، عُلِمَ أنَّ جميعَ الموجوداتِ لا بُدَّ لها منْ مُوجِدٍ واجبٍ بذاتِه لا بغيرِه، لا يَقْبَلُ الحدوثَ ولا العَدَمَ، غَنِيٍّ عمَّا سواهُ، قديمٍ أَزَلِيٍّ . وفي هذا إثباتٌ لموجودٍ موصوفٍ بالصفاتِ، وهيَ الوجوبُ والْغِنَى والأوليَّةِ .
5- ويَظْهَرُ مَدَى انحرافِهم في أنَّهُم ( وَصَفُوهُ بما يَمْتَنِعُ وجودُه فَضْلاً عن الوجوبِ أو الوجودِ أو القِدَمِ )، وترتيبُ هذهِ العِبارةِ من الامتناعِ إلى الوجوبِ كما يَلِي:

1) الامتناعُ 2) مُجَرَّدُ الوجودِ 3) القِدَمُ 4) الوجوبُ

لأنَّ الامتناعَ لا يَتَحَقَّقُ وُجودُه، ثمَّ الوجودُ منهُ الْمُمكنُ ومنهُ الواجبُ، ثمَّ القَديمُ منهُ النِّسْبِيُّ، كالتَّقَدُّمِ بينَ المخلوقاتِ، ومنهُ الْمُطْلَقُ، وهوَ الوجوبُ الذي لا يَصْدُقُ إلَّا على عَلَّامِ الغُيوبِ .

فائدةٌ في قولِه ( قديمٍ أَزَلِيٍّ ):
1) القديمُ هوَ الْمُتَقَدِّمُ على غيرِه، وهوَ نوعانِ:

1- تَقَدُّمٌ أَزَلِيٌّ: وهوَ ما لا نِهايةَ لهُ في الماضي، وهوَ الْقِدَمُ الْمُطْلَقُ، ولا يَصِحُّ إلَّا للَّهِ تعالى .

2- تَقَدُّمٌ نِسْبِيٌّ: وهوَ التَّقَدُّمُ بينَ المخلوقاتِ بالنِّسبةِ إلى بعضِها، كما قالَ تعالى: { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}، فالقديمُ أَعَمُّ من الْأَزَلِيِّ؛ لأنَّهُ يَشْمَلُ الْأَزَلِيَّ والنِّسْبِيَّ؛ فلذلكَ قَيَّدَ القديمَ بالْأَزَلِيِّ .

2) اخْتَلَفَ العُلماءُ في إطلاقِ القديمِ على اللَّهِ، وَرَجَّحَ الْمُحَقِّقُونَ أنَّهُ منْ بابِ الإخبارِ عن اللَّهِ تعالى، وليسَ منْ أسمائِه الْحُسْنَى، كما يُقالُ: واجبُ الوجودِ، وشيءٌ، وقائمٌ بنفسِه، وغيرُ ذلكَ، فهوَ خبَرٌ وليسَ اسْمًا.
وأمَّا قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ))، فلا يَدُلُّ على التسميةِ؛ لأنَّهُ لم يُطْلَقْ عليهِ تعالى، وإنَّما يَدُلُّ على الإخبارِ كما سَبَقَ.

والإخبارُ أنْ يُخْبِرَ عن اللَّهِ تعالى بألفاظٍ وإنْ لمْ تكُنْ وَارِدَةً إنْ دَلَّتْ على معنًى صحيحٍ ولا يُتَعَبَّدُ باللفظِ، وأمَّا الأسماءُ الْحُسْنَى فهيَ كَمَالٌ مُطْلَقٌ يُتَعَبَّدُ بألفاظِها ومَعَانِيها، فبابُ الإخبارِ أوْسَعُ منْ بابِ الأسماءِ .


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
أهل, طريقة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:09 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir