باب أقسام ما يخصص القرآن
اعلم أن القرآن إذا أتت اللفظة منه تعم ما تحتها حملت على ذلك من عمومها –عند مالك وأصحابه- حتى يأتي ما يخصصها فتحمل عليه. والذي يخصص العام من لفظ القرآن ينقسم خمسة أقسام:
• الأول: هو أن يخصص الآية العامة آية أخرى. فهذا تخصيص القرآن بالقرآن- وقد مضى تمثيله وشرحه في الفصل الذي قبل هذا الباب-.
• الثاني والثالث: هما أن يخصص القرآن بالسنة المتواترة، أو بخبر العدل عن العدل، لا اختلاف في ذلك، بخلاف النسخ.
وذلك نحو قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}.
فجاء الأمر بالقطع عامًا لكل من سرق أدنى شيء من أي موضع كان.
ثم خصص ذلك وبيّن بما ثبت من الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أن المراد
[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 101]
من ذلك من سرق ربع دينار عينًا فأكثر أو ما قيمته ربع دينار إذا كان الربع دينار في القيمة قيمة ثلاثة دراهم فأكثر. أو سرق ثلاثة دراهم عينًا فأكثر- وهو قول مالك وجماعة من الفقهاء غيره- وفيه اختلاف.
وخصصت السنة أيضًا أن السرقة من غير حرزٍ لا قطع فيها.
وخصصت السنة أيضًا من هذا العموم أشياءً كثيرة على اختلاف فيها. وهذا كثير في الأحكام. ولا اختلاف في جواز هذا التخصيص. إنما الاختلاف في التحديد. فالنبي - صلى الله عليه وسلم- مبين مفسر لمجمل القرآن.
• الرابع: هو أن يخصص القرآن بالإجماع بخلاف النسخ.
وذلك نحو قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}.
فجاء هذا اللفظ عامًا في كل ولدٍ عبدٍ أو حر، على دين أبيه أو على غير دين أبيه هلك عنه أب حرٌّ أو عبدٌ.
ثم أجمع المسلمون أن الولد إذا كان عبدًا لم يرث. وكذلك الأب إذا
[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 102]
كان عبدًا لم يرث من ابنه الحر.
فخصّ هذا الإجماع الآية. وصار معناها: يوصيكم الله في أولادكم الأحرار مثلكم للذكر مثل حظ الأنثيين.
وخصصت السنة من الآية أن لا يرث الولد إذا كان على غير دين أبيه، وكذلك الأب لقوله - صلى الله عليه وسلم-: ((لا يتوارث أهل ملتين)).
وخصصت السنة أيضًا من الآية أن لا يرث الولد إذا كان قاتلاً لأبيه عمدًا.
وهذا الباب واسعٌ كبير في كتاب الله. فقس على ما ذكرت لك.
• الخامس: هو أن يخصص القرآن بالقياس، بخلاف النسخ.
وذلك نحو قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة}.
فأتى لفظ الآية عامًا في كلّ زانٍ.
ثم خصصها الله بآية الإماء فقال: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشةٍ
[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 103]
فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}.
فدل ذلك على أن الأمة لم تدخل في عموم الآية بجلد مائة. ولم يجر للعبد ذكرٌ ولا حكم منصوص. فقيس العبد على حكم الأمة.
فصار العبد خارجًا من حكم عموم آية الزاني والزانية بالقياس يجلد إذا زنى خمسين قياسًا على الأمة التي خرج حكمها من عموم الآية بالنص.
فصارت آية الزاني والزانية مخصصة بنصٍ وقياسٍ على النص.
وقد قيل: إن حدّ العبد كان مائة جلدةٍ لعموم الآية، ثم نسخ من حده خمسون بقوله في الإماء: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}.
والقول الأول أولى به من النسخ. وهو أن يكون مخصصًا بالقياس على الأمة التي قد نص على حدها.
فافهم هذه الأصول فإنها تنبهك –إن شاء الله- على تصاريف أحكام كتاب الله –جل ذكره- وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم-.
[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 104]