مجلس مذاكرة القسم الثاني من كتاب تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي
لخِّص الأصول التي اعتمد عليها السيوطي في بيان تناسب السور، مع نقدها وتوضيح إجابتك بالأمثلة.
(يرجى مراعاة أصول النقد العلمي عند الإجابة).
بسم الله الرحمن الرحيم
نبدأ بذكر بعض الأصول التي اعتمد عليها السيوطي رحمه الله تعالى في بيان تناسب السور:
أولا: اعتمد بداية على ما ترجح عنده بأن ترتيب السور في القرآن توقيفي, وهذه هي القاعدة الأساسية التي بنى عليها ما ذكره من مناسبات.
وقد بين هذا في مقدمته فقال: (ترتيب كل السور توقيفي، سوى الأنفال وبراءة) , وقد استدل على إفادة الترتيب بقطع النظير عن نظيره, وهو من أساليب العرب التي تفيد إرادة الترتيب, فاعتبر مثلا بأن الفصل بين الانفطار والانشقاق بالمطففين، وهما نظيرتان في المطلع والمقصد، وهما أطول منها، دليل على أن ترتيب السور توقيفي, ولولا ذلك لأخرت "المطففين" أو قدمت.
ثانيا: اعتمد على تأمل الآيات والسور, والتفكر فيما فيها من معاني وأسرار, والنظر في العلوم المودعة في القرآن, وكرر هذا وأعاده بما لديه من فكر ونظر وذكاء ومهارات في العلوم المختلفة, وقدرة على الاستنباط؛ حتى خرج علينا بهذا الكتاب.
ثالثا: النظر في أسباب النزول؛ وقد ذكر في مقدمته بأنه نظر في (مواقع نزوله), واستفاد منه عدة أمور منها:
• زيادة فهم معاني الآيات وما يتعلق بها من أحكام وأخبار.
• معرفة تعلق الآيات بآيات أخرى فسرت مجملها أو شرحت مفردة فيها أو غيره.
• معرفة المكي من المدني, وهذه من المباحث التي برزت لديه.
رابعا: اعتمد رحمه الله على على بيان مناسبات ترتيب السور، وحكمة وضع كل سورة منها على مقاصد السور؛
فمثلا بالنسبة لسورة الفاتحة:
ذكر بأن القرآن افتتح بها لأنها جمعت مقاصده فصارت كالعنوان وبراعة الاستهلال.
وبالنسبة لسورة البقرة؛ فبعد بيان مقاصد القرآن بشكل إجمالي في سورة الفاتحة؛ تلتها سورة البقرة وبينت قواعد الدين، ثم جاءت آل عمران مكملة للمقصود.
فالبقرة فيها إقامة الدليل على الحكم، وآل عمران فيها الجواب عن شبهات الخصوم.
اطراد مثل هذا الأصل على جميع سور القرآن متعذر, فترتيب السور اجتهد فيه الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا الاجتهاد لم يستند إلى مجرد الرأي أو الاستحسان العقلي، بل استند إلى علم تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم, فهم أعلم الناس بالوحي, فكان اجتهادهم قائماً على أصول صحيحة وأدلّة تفصيلية علموها.
لذا لا يلزم أن ترتيب السور في المصحف جاء معتمدا فقط على مسألة المحتوى أو مكان النزول.
خامسا: من الأصول التي اعتمد عليها الاستدلال بالسنة كحديث سعيد بن خالد أنه -صلى الله عليه وسلم- "صلّى بالسبع الطوال في ركعة، وأنه كان يجمع المفصل في ركعة" "أخرجه ابن أبي شيبة". وأنه -صلى الله عليه وسلم- "كان إذا أوى إلى فراشه قرأ قل هو الله أحد، والمعوذتين" "أخرجه البخاري.
كما ذكر عن سورة المطففين وعلاقتها مع السور الثلاث التي قبلها, فذكر بأن السور الأربع كانت جاءت في صفة حال يوم القيامة، وقد ذكرت على ترتيب ما يقع فيه.
فغالب ما وقع في التكوير، وجميع ما وقع في الانفطار، يقع في صدر يوم القيامة، ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل، ومقاساة العرق والأهوال، فذكره في المطففين:{يوم يقوم النّاس لربّ العالمين},وقد ورد في الحديث:(يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه).
ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى، فتنشر الكتب، فأخذٌ باليمين، وأخذٌ بالشمال، وأخذ من وراء الظهر، ثم بعد ذلك يقع الحساب, وقد وردت الأحاديث بهذا الترتيب، فناسب تأخير سورة الانشقاق التي فيها إتيان الكتب والحساب، عن السورة التي قبلها، والتي فيها ذكر الموقف عن التي فيها مبادئ يوم القيامة.
سادسا: الاستدلال بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم, كما استدل بقول ابن مسعود -رضي الله عنه- في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: "إنهن من العتاق الأول، وهنّ من تلادي".
سابعا: اعتمد أحيانا على أقوال بعض المفسرين, وأكثر من نقل عنه هو الرازي, كما نقل قوله في أوجه تناسب المطففين مع الانشقاق, فقال: (ثم رأيت الإمام فخر الدين قال في سورة المطففين أيضًا: اتصال أولها بآخر ما قبلها ظاهر...) إلى آخر كلامه.
ثامنا: اعتمد على إيجاد روابط ومناسبات بين السورة والتي تليها, وبين السورة والسورة السابقة لها, مما سماه (الاتحاد والتلازم بين السورتين), وجعلها كقواعد وأصول اعتمدها وسار عليها في جميع السور, فمن هذه الروابط:
• بيان مناسبة وضع السورة عقب السورة السابقة لها, كما ذكر في بيان المناسبة لمجيء سورة مريم بعد سورة الكهف, فلأن سورة الكهف اشتملت على عدة أعاجيب: وسورة مريم فيها أعجوبتان فناسب تتاليهما.
• تشابه الأطراف, فهناك مناسبة بين آخر السورة مع مطلع السورة التي تليها, كما ذكر عن سورة الحج ومناسبتها مع سورة الأنبياء؛ بأن الأنبياء ختمت بوصف الساعة، وافتتحت سورة الحج بالكلام عن الساعة وأهوالها.
• كل سورة شارحة لما أجمل في السورة التي قبلها, فذكر مثلا أن وجه اتصال الشعراء بالفرقان؛ أنه قد ذكر في الفرقان قصص مجملة , فجاء شرح وتفصيل هذه القصص في الشعراء، ورتبت على ترتيب ذكرها في القرقان.
• البسط والإطناب؛ فيبسط ما أوجز في سورة في السورة التي تليها, كما ذكر في المناسبة بين سورتي ص والزمر, فقد ذكر الله تعالى في آخر "ص" قصة خلق آدم، وذكر في صدر الزمر قصة خلق زوجه منه، وخلق الناس كلهم منه، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم، ثم ذكر موتهم، ثم ذكر وفاة النوم والموت، ثم ذكر القيامة، والحساب، والجزاء، والنار، والجنة، ففصل المجمل من خلق آدم من المبدأ إلى المعاد في الزمر .
• السورة تتمة لما قبلها, فإكمال ما ورد في سورة يأتي في السورة التي تليها, فقد وصف سورة النمل بأنها: وجه اتصالها بما قبلها: أنها كالتتمة للشعراء فيما يتعلق بذكر بقية القرون؛ فزاد فيها ذكر سليمان وداود.
• الاشتراك في المطلع: كما ذكر في اشتراك العنكبوت مع الروم في الابتداء بقوله تعالى:{الم}.
• الاشتراك بين السورة والتي تليها ببعض المواضيع والجمل؛ ؛ كما بين سورة الضحى وسورة الشرح.
• الاشتراك في الحروف المقطعة؛ كما في الحواميم، وذوات {الر}.
• اعتبار الوزن في اللفظة؛ كآخر سورة المسد وأول سورة الإخلاص.
• اعتبار طول السورة؛ فمثلا سورة البقرة أطول سورة في القرآن، والقرآن قد افتتح بالسبع الطوال، فناسب البداءة بأطولها.
• اعتبار الأولية في النزول؛ فمثلا سورة البقرة أول ما نزل بالمدينة، فناسب الابتداء بها.
• الاشتراك بالاسم: كما ذكر عن سورة الإخلاص وسورة الفلق وسورة الناس، لأن الثلاثة سميت في الحديث بالمعوذات وبالقواقل.
• الاشتراك في المكي والمدني؛ فقد ذهب إلى أن ترتيب الأنفال وبراءة اجتهاد من عثمان رضي الله عنه, لأن المناسب اتباع الأعراف بيونس وهود؛ لأنها مكية النزول.
التعليق على ما سبق:
جاءت الكثير من جمل هذا الكتاب في بيان المناسبات بين السور لتحث المسلم على النظر في كتاب الله سبحانه, ثم النظر, ثم التأمل والتفكر في كلام الخالق سبحانه, فكلما فعل العبد ذلك؛ كلما فتحت له أبواب من الهدايات والبينات والبصائر.
لذا قال السيوطي في معترك الأقران: علم المناسبة علم شريف قل اعتناء المفسرين به لدقته.
فكانت هناك بعض القواعد المعتبرة: كالاعتماد على السنة وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم, واعتبار الوزن في اللفظة, وطول السورة-مع كونه غير مطرد- وغيرها من القواعد.
ومع أهمية الكتاب, وجلالة موضوعه؛ إلا أن مبحث المناسبات قد يدفع صاحبه دفعا إلى التكلف والتعسف في سياق بحثه عن المناسبة بين آيتين, أو المناسبة بين سورتين, وذلك لأن القرآن كلام الله سبحانه, ولا يمكن لبشر أن يحيط بما جاء فيه من علوم, ولا يمكن لبشر أن يطلع على جميع ما جاء فيه من مناسبات أو معان.
لذا حذر بعض العلماء من التسرع في تحديد المناسبات, وحذروا كذلك من التكلف؛
فقال العز بن عبدالسلام: (المناسبة علم حسن، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره).
وقال الشوكاني رحمه الله حيث في فتح القدير عند تفسيره للآية رقم 42 من سورة البقرة: (اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب سبحانه...).
لذا سنذكر بعض المآخذ على بعض ما جاء في كلام السيوطي عن المناسبات بين السور, مع التمثيل والشرح لما سأذكره إن شاء الله.
بداية: فيما يختص بترتيب سور القرآن الكريم:
اجتهد الصحابة رضي الله عنهم في ترتيب سور القرآن في المصحف، وهذا الاجتهاد لم يستند إلى مجرد الرأي أو الاستحسان العقلين، بل استند إلى علم تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم, فهم أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم, وأعلم الناس بالوحي, فكان اجتهادهم قائماً على أصول صحيحة وأدلّة تفصيلية علموها، لذلك حصل الإجماع على ما قاموا به من عهد الصحابة إلى من تتابع بعدهم, والأمّة لا تجتمع على ضلالة, فدخل في ترتيب السور اجتهاد الصحابة مع ما أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ترتيب بعض السور.
- كذلك القول في استدلاله على إفادة الترتيب بقطع النظير عن نظيره, وهو من أساليب العرب التي تفيد إرادة الترتيب, فاعتبر مثلا بأن الفصل بين الانفطار والانشقاق بالمطففين، وهما نظيرتان في المطلع والمقصد، دليل على أن ترتيب السور توقيفي, ولولا ذلك لأخرت "المطففين" أو قدمت.
وهذا يناقض قوله السابق في استثناء الأنفال وبراءة من الترتيب التوقيفي, فلقد اعتبر بأن في فصل التوبة عن الأعراف بسورتين هما الأنفال وبراءة؛ فصل للنظير عن سائر نظائره, مع أن الأصل أن لا يُفرّق بين المتشابهات, ولا يُمع بين المختلفات.
- ومما يؤخذ عليه أيضا رحمه الله تعالى؛ اعتماده على حديث ابن عباس رضي الله عنهما في جعل ترتيب سورتي الأنفال وبراءة من اجتهاد عثمان رشي الله عنه المحض, والحديث لا يصح, فيزيد الفارسي لم تثبت عدالته، وقد ذكره البخاري في الضعفاء، أضف إلى ذلك نكارة المتن ولا متابع له عليه.
ومثل هذه العلل كافية في ردّ رواية يزيد الفارسي، وعدم الاعتداد بها.
- ومن أصوله التي ذكرناها: اعتماده على تناسب آخر السورة مع مطلع السورة التي تليها:
ومثل هذا أوقعه في التكرار, وأوقعه في الاعتماد على الربط بين السورتين على أمور يكثر دورانها في الكثير من السور, كونها من الأصول التي جاء القرآن لتقريرها.
فمثلا عند الكلام عن تناسب بين آخر ص وأول الزمر قال: (أقول: لا يخفى وجه اتصال أولها بآخر "ص"؛ حيث قال في "ص:{إن هو إلّا ذكرٌ للعالمين}، ثم قال هنا:{تنزيل الكتاب من اللّه}, فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل، وهذا تلاؤم شديد؛ بحيث إنه لو أسقطت البسملة لالتأمت الآيتان كالآية الواحدة) .
لكننا نجد بأن سورة غافر التي تلي الزمر بُدأت بقوله تعالى:{ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}, وكذلك سورة فصلت التي تليها بدأت بقوله تعالى:{ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}؛ فلا يُعد ما ذكره رحمه الله تعالى من المناسبات الواضحة كما قال, بل هو من الأمور التي كثُر ذكرها في القرآن الكريم, ودارت عليه مواضيعه.
- ويظهر التكلف جليا للقارئ في مواضع من كتابه, في محاولاته رحمه الله تعالى الربط بين السور لتناسب مواضيع السورتين, فمثلا في الكلام عن المناسبة بين سورة الجمعة وسورة الصف قال:
(ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما ذكر في سورة الصف حال موسى مع قومه، وأذاهم له، ناعيًا عليهم ذلك، وذكر في هذه السورة حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفضل أمته؛ تشريفًا لهم؛ ليظهر فضل ما بين الأمتين؛ ولذا لم يعرض فيها لذكر اليهود) .
مع أن الله سبحانه قد ذكر اليهود في سورة الجمعة بقوله:{مثل الذين حملوا التوراة...}.
- ويظهر التكلف كذلك في محاولة تفسيره لبعض الآيات بمعاني لم يدل عليها ظاهر الآية, فمثلا في محاولته الربط بين مواضيع ومعاني سورة المنافقون والتغابن قال رحمه الله تعالى:
(لما وقع في آخر سورة المنافقون:{وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت} ، عقب بسورة التغابن؛ لأنه قيل في معناه: إن الإنسان يأتي يوم القيامة، وقد جمع مالًا، ولم يعمل فيه خيرًا، فأخذه وارثه بسهولة، من غير مشقة في جمعه، فأنفقه في وجوه الخير، فالجامع محاسب معذّب مع تعبه في جمعه، والوارث منعّم مثاب، مع سهولة وصوله إليه، وذلك هو التغابن).
وهذا ربط معقد تكلف فيه رحمه الله تعالى إيجاد الصلة بين السورتين بذكر تفاصيل لا يدل عليها ظاهر الآية, والأصل حمل اللفظ على ظاهره المراد دون تكلف, والأصل ظهور المناسبة أيضا دون تعقيد في الربط.
- ومثله ربطه بين ختام سورة إبراهيم ومطلع سورة الحجر حيث قال:
ثم ظهر لي وجه اتصال أول هذه السورة بآخر سورة إبراهيم؛ فإنه تعالى لما قال هناك في وصف يوم القيامة:{وبرزوا للّه الواحد القهّار، وترى المجرمين يومئذٍ مقرّنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطرانٍ وتغشى وجوههم النّار}, قال في الحجر:{ربما يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسلمين}, فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار، ورأوا عصاة المؤمنين الموحدين قد أخرجوا منها تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين، وذلك وجه حسن في الربط، مع اختتام آخر تلك بوصف الكتاب، وافتتاح هذه به، وذلك من تشابه الأطراف).
فقد يقال الأمر نفسه في الربط بين آخر سورة إبراهيم وأول سورة النحل حيث قال تعالى:{ أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ} وهو يحمل تهديدا ووعيدا للعذاب الذي ذكر في آخر سورة إبراهيم.
- كان مما اعتمد عليه في بيان مراعاة التناسب بالأسماء والفواتح وترتيب النزول، لذا جاء عند سور: الشمس والليل والضحى وقال:
(ولما كانت سورة الضحى نازلة في شأنه -صلى الله عليه وسلم- افتتحت بالضحى، الذي هو نور، ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل في قصة طويلة، افتتحت بالليل الذي هو ظلمة.
وقال: سورة الليل سورة أبي بكر، يعني: ما عدا قصة البخيل، وكانت سورة الضحى سورة محمد، عقب بها، ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم ألا واسطة بين محمد وأبي بكر).
ومثل هذا بعيد جدا, وفيه من التعسف الشديد ما فيه, إذ لو كان كذلك لكان الأحرى تسمية السورة ب(الشمس) فنورها هو المصدر الذي يستمد من الضحى نوره, ومثل هذا قريب من التفسير الإشاري.
- ويلاحظ القارئ بأن ما يعدّه رحمه الله تعالى أحيانا من الأصول يكون حقيقة من النوادر, ومثاله ما قاله في الربط بين سورتي الفيل وقريش, حيث قال عن سورة قريش:
(هي شديدة الاتصال بما قبلها؛ لتعلق الجار والمجرور في أولها بالفعل في آخر تلك؛ ولهذا كانتا في مصحف أبي سورة واحدة).
وقد جاءت أقوال أخرى غير ما ذكره رحمه الله تعالى, فقد قال الطبري رحمه الله تعالى: (والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن هذه اللام بمعنى التعجب....).
- كذلك كلامه في كون المناسبة بين السورتين بأن كلاهما مدنية أو مكية, وهذا لا يعد من الأصول المطردة في القرآن, ولا أثر له في مسألة ترتيب السور, فلا يمكن أن يكون ترتيب السور على ترتيب النزول, وما ذكر في هذا الشأن لا يصح منه شيء, ومع ذلك حاول رحمه الله إيجاد أسباب فصل المكي عن نظيره المكي بسورة مدنية, كما حصل في الفصل بالمطففين بين سورتي التكوير والانفطار, فعلل ذلك بأن الوقائع فيها ذكرت مرتبة بحسب ترتيبها في الأحاديث, وهذا مما لا يخفى بعده.
- وأخير:
بيان سبب بعض التكلف الذي وقع فيه رحمه الله تعالى:
وصف الله سبحانه وتعالى كتابه بقوله:{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِیثِ كِتَـٰبࣰا مُّتَشَـٰبِهࣰا مَّثَانِیَ}, فهو (متشابه), والتشابه هنا هو التشابه الكلي للقرآن من حيث الحسن والبلاغة والفصحاحة وصدق الأخبار وعدالة الأحكام.
قال السعدي رحمه الله تعالى: (متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف، بوجه من الوجوه. حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه، حتى في معانيه الغامضة، ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم).
لذلك ما يذكر من مناسبات بين السور لا يكون غالبا أمرا خاصا بها, بل قد يصدق هذا الوصف وهذه المناسبة مع غيرها من السور, وقد ذكرنا في التعليق أمثلة على ذلك مما يغني عن الإعادة.
وقوله تعالى:{ مَّثَانِیَ}؛ أي تُثنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى ﴿مَثَانِيَ﴾: كتاب الله مثاني، ثنى فيه الأمر مرارا.
وجاء عن الحسن قوله: (ثنى الله فيه القضاء، تكون السورة فيها الآية في سورة أخرى آية تشبهها).رواه الطبري في تفسيره
وقال مجاهد في قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ قال: في القرآن كله.
وقال قتادة في معنى ﴿مَثَانِيَ﴾: ثَنَى الله فيه الفرائض، والقضاء، والحدود.
والقصد بأن الآيات تكررت في القرآن, كذلك القصص, ومثلها الأوامر والنواهي, وهذا لا يقدح في القرآن؛ بل بالعكس يزيد من إعجازه حيث لا يمل القارئ منه ولا يشبع مهما قرأ فيه وأعاد وزاد.
لذلك قد يشعر القارئ لكتب المناسبات في كثير من الأحيان بأن المؤلف تكلف في كلامه, ولا تتضح له المناسبة التي أشار إليها المؤلف كون الآيات والمطالع قد تكررت في السور كما مثلنا من قبل.
هذا والله أعلى أعلم.