تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (79)}.
تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)}
القراءات في الآية:
-قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «تظلمون» بالتاء على الخطاب، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يظلمون» بالياء على ترك المخاطبة وذكر الغائب. ذكره ابن عطية.
المراد بقوله "الذين قيل لهم":
اختلف المتأولون فيمن المراد بقوله الّذين قيل لهم؟ فقيل:
- كان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن عمرو الكندي وجماعة سواهم قد أنفوا من الذل بمكة قبل الهجرة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين، فأمرهم الله تعالى بكف الأيدي، فلما كان بالمدينة وفرض القتال، شق ذلك على بعضهم وصعب موقعه، ولحقهم ما يلحق البشر من الخور والكع عن مقارعة العدو فنزلت الآية فيهم. قال به ابن عباس, ورواه ابن أبي حاتمٍ والنّسائيّ، والحاكم، وابن مردويه, وابن جرير من طريق عليّ بن الحسن، عن الحسين بن واقدٍ، عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة، عنه.
وقال به السدي, ورواه ابن جرير عن محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباط عنه.
وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
-وقيل: كان كثير من العرب قد استحسنوا الدخول في دين محمد عليه السلام على فرائضه التي كانت قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها والموادعة وكف الأيدي، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له، فنزلت الآية فيهم. ذكره ابن عطية نقلا عن المهدوي.
-وقيل: الآية حكاية عن اليهود أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم، ونهي المؤمنين عن فعل مثله. قال به ابن عباس, ورواه ابن جرير عن محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ أنه قال: : {فلمّا كتب عليهم القتال إذا فريقٌ منهم} إلى قوله: {لم كتبت علينا القتال} نهى اللّه تبارك وتعالى هذه الأمّة أن يصنعوا صنيعهم.
وقال به مجاهد, ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {ألم تر إلى الّذين قيل لهم كفّوا أيديكم وأقيموا الصّلاة} إلى قوله: {لاتّبعتم الشّيطان إلاّ قليلاً} ما بين ذلك في اليهود.
وذكره ابن عطية وابن كثير.
-المراد بالآية المنافقون من أهل المدينة عبد الله بن أبيّ وأمثاله، وذلك أنهم كانوا قد سكنوا على الكره إلى فرائض الإسلام مع الدعة وعدم القتال، فلما نزل القتال شق عليهم وصعب عليهم صعوبة شديدة، إذ كانوا مكذبين بالثواب. ذكره المهدوي ونقله ابن عطية واستحسنه لاطراد الحديث عن المنافقين في الآيات التي تليها, وقد ضعف الأقوال غيره في الآية التي تليها وذلك عند قوله: "...وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك", فقال: والهاء والميم في قوله: وإن تصبهم رد على الذين قيل لهم، كفوا أيديكم وهذا يدل على أنهم المنافقون، لأن المؤمنين لا تليق بهم هذه المقالة، ولأن اليهود لم يكونوا للنبي عليه السلام تحت أمر، فتصيبهم بسببه أسواء.
العرض والتوجيه:
وبعد سرد الأقوال سنسعى إلى تبيين الرأي الراجح فيها عبر مناقشة أقوالها, فنقول:
قبل أن نرجح قولا على آخر ينبغي أن نوجه الأقوال ونبين صحيحها من سقيمها, ما يتعارض فيها وما لا يتعارض.
فيما يخص القول الأول فإنه اجتمع فيه عدة أمور: كثرة القائلين به من السلف والخلف, والاتفاق على سند الرواية من عدة محدثين, والنص عليه في كثير من كتب التفسير, مما يقويه ويستبعد نفيه أو تضعيفه, ناهيك عن أن نص ابن عباس وغيره على أنها نزلت في جماعة من الصحابة يصعب معه أن يرد القول, ففي ذلك نوع من التكذيب والتضعيف له.
أما القول الثاني فهو في رأيي أضعف الأقوال وأوهنها, والسبب يعود إلى أنه لا يتناسب مع سياق الآية, فالآية تقول: "قيل لهم كفوا أيديكم... " أي أن السياق يدعم صورة لرجال أمروا بالكف عن القتال, ولم يؤمروا إلا لكونهم طلبوه. فكيف تقع هذه الصورة على أناس دخلوا في الإسلام لعدم أمره بالقتال مع بيان الله لكونهم أمروا بالكف؟
أما القول الثالث, فهو من أقوى الأقوال كذلك ومما لا يستبعد حصوله من اليهود, وسبب تقويتنا له يعود لكون ابن عباس القائل بالقول الأول هو كذلك ممن يقول بهذا القول, فكيف يقول به لو كان متعارضا مع الأول؟ وسنبينه بشكل أكثر في نهاية المسألة.
أما بالنسبة للقول الرابع والأخير, فيستبعد أن يكون سببا في النزول, وإنما يستفاد منه فائدة لطيفة سنذكرها كذلك عند الترجيح.
القول الراجح:
القول الراجح في المسألة -والله أعلى وأعلم- هو القول الأول متبوعا بالثالث, فبالإضافة لكون هذين القولين قال بهما صحابة وتابعين, فإن ابن عباس القائل بأول قول فيهما هو القائل بالثالث كذلك, ونستطيع الجمع بين القولين بتلك الصورة:
أن الآية نزلت في صحب من رسول الله كان حالهم كما ذكرنا, فكانوا هم المخاطبين في الآية بذلك, مع الإشارة إلى أن عملهم كان من عمل اليهود قبلهم, أي: احذروا بعملكم هذا أن تكونوا كيهود.
ومما يقوي هذا الرأي أيضا: ما قاله الحسن وذكره ابن عطية: أن قوله: كخشية اللّه يدل على أنها في المؤمنين.
أما القول الثاني فبينا ضعفه, والرابع يستفاد منه فائدة لطيفة, وهي أن في هذا الفعل تشبها بالمنافقين, وذلك أن الآية تبعتها آيات في الحديث عن المنافقين, فكان في مناسبة التتابع بين هذه الآيات, تذكير بتقارب تلك الصفات التي قد وجدت في اليهود مع المنافقين وأضرابهم.
لا سيما وأن ابن كثير ذكر أن هذه الآية مشابهة للآية التي نزلت في المنافقين: {ويقول الّذين آمنوا لولا نزلت سورةٌ فإذا أنزلت سورة محكمةٌ وذكر فيها القتال [رأيت الّذين في قلوبهم مرضٌ ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت فأولى لهم طاعةٌ وقولٌ معروفٌ فإذا عزم الأمر فلو صدقوا اللّه لكان خيرًا لهم]} [محمّدٍ: 20، 21]..
معنى "كفوا أيديكم":
-أمسكوا عن القتال. ذكره ابن عطية.
معنى الفريق:
-الفريق: الطائفة من الناس. ذكره ابن عطية.
المراد بقوله: "يخشون النّاس كخشية اللّه":
- يعني أنهم كانوا يخافون الله في جهة الموت، لأنهم لا يخشون الموت إلا منه، فلما كتب عليهم قتال الناس رأوا أنهم يموتون بأيديهم، فخشوهم في جهة الموت كما كانوا يخشون الله، وقال الحسن: قوله: كخشية اللّه يدل على أنها في المؤمنين، وهي خشية خوف لا خشية مخالفة. ذكره ابن عطية.
- ويحتمل أن يكون المعنى يخشون الناس على حد خشية المؤمنين الله عز وجل. ذكره ابن عطية ورجحه ولم يقطع به.
وهو الراجح والله أعلم لظهور معناه, وقد رجعت للطبري فوجدته ممن فسر بهذا التفسير, بل ولم يعرض لغيره.
معنى حرف "أو" في الآية:
استعرض ابن عطية الأقوال في الآية, وأنها قد تكون:
- بمعنى الواو.
-بمعنى «بل».
-للتخيير.
-على بابها في الشك في حق المخاطب.
-على جهة الإبهام على المخاطب.
ثم بين أن المعنى: أن الموضعين سواء.
دلالة قولهم: "لم كتبت علينا القتال":
-رد في صدر أوامر الله تعالى وقلة استسلام. ذكره ابن عطية.
معنى "لولا أخرتنا":
-المعنى: هلّا أخرتنا. ذكره الزجاج.
المراد بالأجل القريب:
-الموت. ذكره ابن عطية وابن كثير, ورواه عن السدي في القول الذي خرجناه مسبقا.
وزاد ابن عطية أنه: موتهم على فرشهم، هكذا قال المفسرون.
وعقب أنه: يحسن إذا كانت الآية في اليهود أو المنافقين، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام وكثرة عددهم.
المخاطب في قوله: "قل":
-محمد عليه الصلاة والسلام. ذكره ابن عطية.
معنى قوله: "قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى":
أي الاستمتاع بالحياة قليلٌ، لأنه فان زائل, والآخرة التي هي نعيم مؤبد خيرٌ لمن أطاع الله واتقاه. مجموع ما ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
متعلق الظلم في قوله: "ولا تظلمون فتيلا":
-أعمالكم. ذكره ابن كثير.
معنى الفتيل:
الخيط في شق نواة التمرة. ذكره ابن عطية.
دلالة ختام الآيات:
-فيه تسليةٌ لهم عن الدّنيا, وترغيبٌ لهم في الآخرة، وتحريضٌ لهم على الجهاد. ذكره ابن كثير.
هدايات على ضوء الآية:
-نقل ابن كثير عن ابن أبي حاتمٍ قال: حدّثنا أبي، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدّورقي، حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، حدّثنا حمّاد بن زيد، عن هشام قال: قرأ الحسن: {قل متاع الدّنيا قليلٌ} قال: رحم اللّه عبدًا صحبها على حسب ذلك، ما الدّنيا كلّها أوّلها وآخرها إلّا كرجلٍ نام نومةً، فرأى في منامه بعض ما يحبّ، ثمّ انتبه.
وقال ابن معين: كان أبو مسهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له = من اللّه في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدّنيا رجالا فإنها = متاع قليلٌ والزّوال قريب
تفسير قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}
القراءات الواردة في الآية:
- قرئت: "أينما تكونوا يدرككم الموت" جزاء وجوابه. وهكذا قراءة الجمهور، وقرأ طلحة بن سليمان «يدرككم» بضم الكافين ورفع الفعل، قال أبو الفتح: ذلك على تقدير دخول الفاء كأنه قال: فيدرككم الموت، وهي قراءة ضعيفة. ذكره ابن عطية.
- وقف أبو عمرو والكسائي على قوله فما ووقف الباقون على اللام في قوله: فما ل، اتباعا للخط، ومنعه قوم جملة، لأنه حرف جر فهي بعض المجرور، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس، وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء فلا. ذكره ابن عطية.
مناسبة الآية لما قبلها:
-فيها بيان وإعلام أن آجالهم تخطئهم ولو تحصنوا بأمنع الحصون, وتركوا الجهاد, فمن هنا جاء المعنى مكملا ومحققا للمعنى المذكور في الآية السابقة. حاصل ما ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
فيما ورد حول قوله: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة":
-نقل ابن كثير عن ابن جريرٍ، وابن أبي حاتمٍ هاهنا حكايةً مطوّلةً عن مجاهدٍ: أنّه ذكر أنّ امرأةً فيمن كان قبلنا أخذها الطّلق، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنارٍ، فخرج، فإذا هو برجلٍ واقفٍ على الباب، فقال: ما ولدت المرأة؟ فقال: جاريةً، فقال: أما إنّها ستزني بمائة رجلٍ، ثمّ يتزوّجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فكرّ راجعًا، فبعج الجارية بسكّينٍ في بطنها، فشقّه، ثمّ ذهب هاربًا، وظنّ أنّها قد ماتت، فخاطت أمّها بطنها، فبرئت وشبّت وترعرعت، ونشأت أحسن امرأةٍ ببلدتها فذهب ذاك [الأجير] ما ذهب، ودخل البحور فاقتنى أموالًا جزيلةً، ثمّ رجع إلى بلده وأراد التّزويج، فقال لعجوزٍ: أريد أن أتزوّج بأحسن امرأةٍ بهذه البلدة. فقالت له: ليس هنا أحسن من فلانةٍ. فقال: اخطبيها عليّ. فذهبت إليها فأجابت، فدخل بها فأعجبته إعجابًا شديدًا، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه ؟ فأخبرها خبره، وما كان من أمره في هربه. فقالت: أنا هي. وأرته مكان السّكّين، فتحقّق ذلك فقال: لئن كنت إيّاها فلقد أخبرتني باثنتين لا بدّ منهما، إحداهما: أنّك قد زنيت بمائة رجلٍ. فقالت: لقد كان شيءٌ من ذلك، ولكن لا أدري ما عددهم؟ فقال: هم مائةٌ. والثّانية: أنّك تموتين بالعنكبوت. فاتّخذ لها قصرًا منيعًا شاهقًا، ليحرزها من ذلك، فبينا هم يومًا إذا بالعنكبوت في السّقف، فأراها إيّاها، فقالت: أهذه الّتي تحذرها عليّ، واللّه لا يقتلها إلّا أنا، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتا بإبهام رجلها فقتلتها، فطار من سمّها شيءٌ فوقع بين ظفرها ولحمها، فاسودّت رجلها وكان في ذلك أجلها.
والظاهر أن مجاهدا رواها على سبيل الاستشهاد بها في هذا الموضع لا غير.
معنى " أينما تكونوا يدرككم الموت":
-المقصود: أنّ كلّ أحدٍ صائرٌ إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيءٌ، وسواءٌ عليه جاهد أو لم يجاهد، فإنّ له أجلًا محتومًا، وأمدًا مقسومًا. حاصل ما ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
واستشهد ابن كثيرا مقويا المعنى بآيات أخر: قال تعالى: {كلّ من عليها فانٍ [ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام]} [الرّحمن: 26، 27] وقال تعالى {كلّ نفسٍ ذائقة الموت} [آل عمران: 185] وقال تعالى: {وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلد} [الأنبياء: 34].
معنى "بروج":
في المعنى اللغوي للكلمة نبين أن: برج معناه ظهر، ومنه البروج أي المطولة الظاهرة، ومنه تبرج المرأة, كما ذكر ذلك ابن عطية, ويقع هذا المعنى على عدة أمور, اختلف المتأولون في إيقاع مراد الآية عليها, فقيل:
-الأكثر والأصح: أنه أراد البروج والحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله لهم بها، وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: في بروجٍ مشيّدةٍ، معناه في قصور من حديد. وقال قتادة: المعنى في قصور محصنة، فيما رواه ابن جرير عن بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عنه.
وقاله ابن جريج فيما رواه ابن جرير عن القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عنه.
والجمهور, وذكره ابن عطية ورجحه, وكذا اختاره الزجاج وابن كثير.
-وقال السدي: هي بروج في السماء الدنيا مبنية، فيما رواه ابن جرير عن محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عنه. وحكى مكي هذا القول عن مالك، وأنه قال: ألا ترى إلى قوله والسّماء ذات البروج [البروج: 1]. وضعفه ابن كثير وابن عطية وقال: وهذا لا يعطيه اللفظ، وإنما البروج في القرآن إذا وردت مقترنة بذكر السماء بروج المنازل للقمر وغيره على ما سمتها العرب وعرفتها.
معنى "مشيدة":
يدور معنى الشيد حول:
-الطول والرفعة، لأن شاد الرجل البناء إذا صنعه بالشيد وهو الجص إذا رفعه، ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
-التحسين بالشيد، وذلك عندهم أن «شاد الرجل» معناه: جصص بالشيد، وإذا طلاه بالشيد، وهو ما يطلى به البناء من الكلس والجصّ وغيره وشيد معناه: كرر ذلك الفعل فهي للمبالغة. ذكره الزجاج وابن عطية.
وكلا المعنيين مما يصح أن يجتمع في معنى الآية فلا تعارض.
ما يفيده صيغة "مشيدة":
-جاءت مشيدة على وزن "مفعلة" وهذا الوزن يفيد التكثير والمبالغة. حاصل ما ذكره الزجاج وابن عطية.
مرجع ضمير (هم) في قوله تعالى: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيّئة يقولوا هذه من عندك} (فيمن نزلت):
-المنافقين. ذكره ابن عطية وابن كثير. وهو الراجح لسياق الآية.
-اليهود, تشاؤما بدخول رسول الله المدينة. ذكره الزجاج.
معنى قوله تعالى: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيّئة يقولوا هذه من عندك}:
-معنى الآية: وإن تصب هؤلاء حسنة رأوا أن ذلك بالاتفاق من صنع الله، لا أنه ببركة اتباعك والإيمان بك، وإن تصبهم سيّئةٌ، أي هزيمة أو شدة جوع وغير ذلك، قالوا: هذه بسببك، لسوء تدبيرك. كذا قال ابن زيد، وذكره ابن عطية, وابن كثير.
-وقيل لشؤمك علينا, وتركنا ديننا واتباعك. قاله الزجّاج وغيره, وذكره ابن عطية, وابن كثير.
واستشهد ابن كثير في تقوية المعنى: بموقف قوم فرعون: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيّئةٌ يطّيّروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131] وبقوله تعالى: {ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ [فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدّنيا والآخرة]} الآية [الحجّ: 11].
المراد بـالـ"حسنة":
- خصبٌ ورزقٌ من ثمارٍ وزروعٍ وأولادٍ ونحو ذلك. هذا معنى قول ابن عبّاسٍ وأبي العالية والسّدّيّ وقتادة وابن زيد. وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
المراد بالـ"سيئة":
- قحطٌ وجدبٌ ونقصٌ في الثّمار والزّروع أو موت أولادٍ أو نتاجٍ أو غير ذلك. كما يقوله أبو العالية والسّدّيّ وابن عباس وقتادة وابن زيد. وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
معنى " قل كلٌّ من عند اللّه":
- أي الجميع (الحسنة والسيئة) بقضاء اللّه وقدره، وهو نافذٌ في البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر. قال به ابن عباس وقتادة وابن زيد والحسن البصري. وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
تخريج أقوال أبو العالية السابقة: رواها ابن جرير عن المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن سعدٍ، وابن أبي جعفرٍ قالا: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عنه.
تخريج أقوال ابن زيد: رواها ابن جرير عن يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، عنه.
تخريج أقوال قتادة: رواها ابن جرير عن المثنّى،قال حدثنا اسحاق قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عنه.
تخريج أقوال ابن عباس: رواها ابن جرير عن المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عنه.
تخريج أقوال السدي: رواها ابن أبي حاتم عن عليّ بن الحسين، ثنا الهيثم- يعني ابن اليمان- ثنا الحكم عنه.
ونقل ابن كثير حديثا غريبا يتعلّق بقوله تعالى: {قل كلٌّ من عند اللّه} عن الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا السّكن بن سعيدٍ، حدّثنا عمر بن يونس، حدّثنا إسماعيل بن حمّادٍ، عن مقاتل بن حيّان، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه قال: كنّا جلوسًا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ فأقبل أبو بكرٍ وعمر في قبيلتين من النّاس، وقد ارتفعت أصواتهما، فجلس أبو بكرٍ قريبًا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ وجلس عمر قريبًا من أبي بكرٍ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لم ارتفعت أصواتكما؟ " فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، قال أبو بكرٍ: الحسنات من اللّه والسّيّئات من أنفسنا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "فما قلت يا عمر؟ " قال: قلت: الحسنات والسّيّئات من اللّه. تعالى. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ أوّل من تكلّم فيه جبريل وميكائيل، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكرٍ، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال: نختلف فيختلف أهل السّماء وإن يختلف أهل السّماء يختلف أهل الأرض. فتحاكما إلى إسرافيل، فقضى بينهم أنّ الحسنات والسّيّئات من اللّه". ثمّ أقبل على أبي بكرٍ وعمر فقال "احفظا قضائي بينكما، لو أراد اللّه ألّا يعصى لم يخلق إبليس".
قال شيخ الإسلام تقيّ الدّين أبو العبّاس ابن تيميّة: هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة.
-بيان أن أصل الخير والمصائب من الله, كما تثبته الآية الكريمة, وهي أصل في باب القدر.
نوع الاستفهام في قوله: "فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا":
-استفهام استنكاري توبيخي, لقلة علمهم وسوء جهلهم. ذكره ابن عطية وابن كثير.
وفي هذا الأسلوب بلاغة كما ذكر ابن عطية؛ لأنك إذا استفهمت عن علة أمر ما، فقد تضمن كلامك إيجاب ذلك الأمر تضمنا لطيفا بليغا.
تفسير قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (79)}
القراءات في الآية:
- "وما أصابك من سيئة": في مصحف ابن مسعود «فمن نفسك» «وأنا قضيتها عليك» وقرأ بها ابن عباس، وحكى أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود «وأنا كتبتها» وروي أن أبيا وابن مسعود قرأ «وأنا قدرتها عليك».
روى ذلك ابن وهب عن إسماعيل بن عيّاشٍ عن عبد الوهّاب بن مجاهدٍ قال: سمعت أبي يقول: كان في قراءة ابن مسعودٍ وأبيّ بن كعبٍ, وذكر ذلك.
الخطاب في الآية:
-لمحمد عليه الصلاة والسلام يراد به الخلق. ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
فمخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تكون للناس جميعا لأنه عليه السلام لسانهم، والدليل على ذلك: قوله {يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ}فنادى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده وصار الخطاب شاملا له ولسائر أمّته.
-وقيل: الخطاب للمرء على الجملة. ذكره ابن عطية.
معنى حرفي "ما" و"من" في الآية:
قيل:
-ما شرطية، ودخلت من بعدها لأن الشرط ليس بواجب فأشبه النفي الذي تدخله من. ذكره ابن عطية.
-ما بمعنى الذي، ومن لبيان الجنس، لأن المصيب للإنسان أشياء كثيرة: حسنة وسيئة، ورخاء وشدة، وغير ذلك. ذكره ابن عطية.
معنى {ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيّئة فمن نفسك}:
- معنى هذه الآية عند ابن عباس وقتادة والحسن والربيع وابن زيد وأبي صالح وابن جريج وغيرهم، القطع واستئناف الإخبار من الله تعالى، بأن الحسنة منه وبفضله، والسيئة من الإنسان بإذنابه، وهي من الله بالخلق والاختراع. ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير وعليه أكثر أهل التأويل.
قول الحسن: رواه عبدالرزاق عن معمر عنه.
قول أبي صالح: رواه ابن منصور في سننه عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عنه.
قول السدي: رواه ابن جرير عن محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عنه.
قول قتادة وحديثه الذي سنذكره: رواه ابن جرير عن بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عنه.
قول ابن عباس: رواه ابن جرير عن المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عنه.
قول الربيع: رواه ابن جرير عن القاسم قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني حجّاجٌ، عن أبي جعفرٍ، عنه.
قول ابن جريج: رواه ابن جرير عن القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عنه.
وفي مصحف ابن مسعود ما يؤيد ذلك, ففيه: «فمن نفسك» «وأنا قضيتها عليك» وقرأ بها ابن عباس، وحكى أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود «وأنا كتبتها» وروي أن أبيا وابن مسعود قرأ «وأنا قدرتها عليك» ويعضد هذا التأويل أحاديث عن النبي عليه السلام معناها، أن ما يصيب ابن آدم من المصائب، فإنما هي عقوبة ذنوبه. ومن ذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما نزلت من يعمل سوءاً يجز به [النساء: 123] جزع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألست تمرض؟ ألست تسقم؟ ألست تغتم؟
وقال فيما روي مرسلا عن قتادة: «ما يصيب الرجل خدشة عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر». ففي هذا بيان أو تلك كلها مجازاة على ما يقع من الإنسان، كما ذكر ابن عطية.
وهذا الّذي أرسله قتادة قد روي متّصلًا في الصّحيح: "والّذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن همٌّ ولا حزنٌ، ولا نصبٌ، حتّى الشّوكة يشاكها إلّا كفّر اللّه عنه بها من خطاياه". ذكره ابن كثير.
-وقالت طائفة: معنى الآية كمعنى التي قبلها في قوله: وإن تصبهم حسنةٌ يقولوا هذه من عند اللّه [النساء: 78] على تقدير حذف يقولون، فتقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، يقولون: ما أصابك من حسنة، ويجيء القطع على هذا القول من قوله: وأرسلناك. ذكره ابن عطية.
-وقالت طائفة: بل القطع في الآية من أولها، والآية مضمنة الإخبار أن الحسنة من الله وبفضله، وتقدير ما بعده وما أصابك من سيّئةٍ فمن نفسك، على جهة الإنكار والتقرير، فعلى هذه المقالة ألف الاستفهام محذوقة من الكلام، وحكى هذا القول المهدوي, وذكره ابن عطية.
بيان أن في هذه الآية أصلا في الرد على القدرية والجبرية:
- قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عمّارٍ، حدّثنا سهلٌ -يعني ابن بكّار -حدّثنا الأسود بن شيبان، حدّثني عقبة بن واصل بن أخي مطرّف، عن مطرّف بن عبد اللّه قال: ما تريدون من القدر، أما تكفيكم الآية الّتي في سورة النّساء: {وإن تصبهم حسنةٌ يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيّئةٌ يقولوا هذه من عندك} أي: من نفسك، واللّه ما وكلوا إلى القدر وقد أمروا وإليه يصيرون.
وهذا كلامٌ متينٌ قويٌّ في الرّدّ على القدريّة والجبريّة أيضًا. ذكره ابن كثير.
ما يفيده قوله: {وأرسلناك للنّاس رسولا}:
-تأكيد رسالته عليه الصلاة والسلام. ذكره الزجاج وابن عطية.
والمعنى: تبلغهم شرائع اللّه، وما يحبّه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه. ذكره ابن عطية وابن كثير.
سبب نزول "وكفى بالله شهيدا":
- قالت فرقة: سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبني فقد أحب الله»، فاعترضت اليهود عليه في هذه المقالة، وقالوا: هذا محمد يأمر بعبادة الله وحده، وهو في هذا القول مدّع للربوبية، فنزلت هذه الآية تصديقا للرسول عليه السلام، وتبيينا لصورة التعلق بينه وبين فضل الله تعالى. ذكره ابن عطية.
معنى {وكفى باللّه شهيدا}:
-أي: اللّه قد شهد أنه صادق، وأنه رسوله. ذكره الزجاج.
متعلق الشهادة في قوله: "وكفى بالله شهيدا":
-رسالة النبي. ذكره الزجاج.
-كذب من كذب برسالة النبي. ذكره ابن عطية.
وجمع ابن كثير بين القولين, وزاد: وهو شهيدٌ أيضًا بينك وبينهم، وعالمٌ بما تبلغهم إيّاه، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادًا.
ما يقتضيه المعنى في قوله "وكفى بالله شهيدا":
-أنه توعد للكفرة، وتهديد تقتضيه قوة الكلام، لأن المعنى شهيدا على من كذبه.