1. (عامّ لجميع الطلاب)
اكتب رسالة تفسيرية مختصرة تبيّن فيها فضل الدعاء وآدابه من خلال تفسير قول الله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} الآية.
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في فضل الدعاء وآدابه من خلال نظرة في قوله تعالى: {و إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة\186.
جاءت العديد من النصوص في الكتاب والسنة تحث المسلم على الدعاء, وترغب فيه لعظم مكانته وعظيم أجره ,كالآية التي بين أيدينا.
فقد جاء في سبب نزولها أن أعرابيًّا قال: يا رسول اللّه، أقريبٌ ربّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟ فسكت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الدّاع إذا دعان}. ورواه الطبري وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم عن جرير به.
وجاءت هذه الآية بعد آيات الصيام في سورة البقرة, وشهر رمضان شهر البركة والدعاء, فكأن الصائم يذكر بأن له دعوة مستجابة, وهذا في كل يوم.
فالله سبحانه قريب من عباده, ولا تقتضي معيته الاختلاط بهم سبحانه, بل هو مستو على عرشه بائن من خلقه, ومع ذلك هو قريب في علوه يعلم أحوال عبيده, ويسمع دعاؤهم ويجيب سبحانه بمنه وكرمه الدعاء.
وقد جاء في فضل الدعاء الكثي مما يرغب فبه, ولعلنا نذكر بعض من ذلك:
أولا: الدعاء من العبادات التي أمر الله بها ورغب فيها, قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فدعاء الله طاعة له وامتثالا لأمره.
ثانيا: الدعاء هو العبادة, كما جاء ف الحديث النُّعمان بن بَشِير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدعاء هو العبادة))، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.
ثالثا: دعاء الله فيه توحيده سبحانه, وإخلاص القلب له, فلا يشرك معه غيره في الدعاء, كما قال تعالى:{ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين }.
رابعا: الدعاء يرد القدر, كما جاء في حديث سلمان عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يرد القضاء إلا الدعاء).
رواه الترمذي بإسناد حسن.
خامسا: الدعاء من اسباب الثبات في الجهاد ومن أسباب النصر على العدو, قال تعالى:{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
سادسا: الدعاء من هدي الأنبياء عليهم السلام, وأولهم آدم لما عصى ربه ثم رجع فندم وتاب ودعا ربه قائلا:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهذا هديهم جميعا عليهم السلام, فإن كانو هم على مكانتهم يكثرون من الدعاء فعلينا نحن أن نكثر من باب أولى.
سابعا: الدعاء تكشف به الهموم وتفرج به الكربات وتشرح به الصدور, قال تعالى:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}.
ثامنا: الدعاء من أسباب الوقاية من غضب الله سبحانه,فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن لم يسأَلِ اللهَ، يغضَبْ عليه)). رواه الترمذي.
تاسعا: الدعاء من أعظم ما ينتفع به العبد بعد موته, فعن أبي هريرة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات الإنسانُ، انقطَع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتَفَع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له)). رواه مسلم.
وهذا غيض من فيض ففضل الدعاء واسع لا تحصره مجرد نقاط تقال.
ولعلنا هنا ننبه على أن الدعاء في النصوص يأتي على نوعين:
الأول: دعاء مسألة, وهو دعاء الطلب: فيطلب الداعي ما يريده من جلب نفع أو كشف ضر وطلب الحاجات من أمور الدنيا والآخرة, فالله سبحانه هو الملجأ الذي يتوجه إليه العبد بالسؤال, وسبحانه قد وعدهم بالاستجابة, قال تعالى:{فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} قال الطبري عند تفسير هذه الاية: (قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: بذلك وإذا سَألك يا محمد عبادي عَني: أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دُعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم.), وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: (لا يخيب دعاء داعٍ، ولا يشغله عنه شيءٌ، بل هو سميع الدّعاء, وفيه ترغيبٌ في الدّعاء، وأنّه لا يضيع لديه تعالى).
وقال تعالى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} قال الطبري رحمه الله تعالى:(ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد ، المرجو عند النوازل ، كما قال : ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ) ، وقال تعالى : ( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) . وهكذا قال هاهنا : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ) أي : من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه).
النوع الثاني: دعاء العبادة: وهو عبادة الله بأي نوع من أنواع العبادات، القلبية أو البدنية أو المالية، كالخوف من الله، والصلاة، وقراءة القرآن، والزكاة، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ....
وهو في حال عبادته لله يطلب رضا الله, ويرجو ثوابه وما وعد به عباده من النعيم المقيم في الجنة, فتضمن دعاء العبادة دعاء المسألة.
والعبد حين يسأل ربهمن أمور الدنيا, ففعله هذا وسؤاله هذا عبادة يمتثل فيها أمر الله إليه بسؤاله وطلبه هو وحده سبحانه.
لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - في قول الله : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} :
(هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعَيِ الدُّعاء : دعاء العبادة ، ودعاء المسألة :
فإنّ الدُّعاء في القرآن يراد به هذا تارةً وهذا تارةً ، ويراد به مجموعهما ؛ وهما متلازمان ؛ فإنّ دعاء المسألة : هو طلب ما ينفع الدّاعي ، وطلب كشف ما يضره ودفعِه ،... فهو يدعو للنفع والضرِّ دعاءَ المسألة ، ويدعو خوفاً ورجاءً دعاءَ العبادة ؛ فعُلم أنَّ النَّوعين متلازمان ؛ فكل دعاءِ عبادةٍ مستلزمٌ لدعاءِ المسألة ، وكل دعاءِ مسألةٍ متضمنٌ لدعاءِ العبادة .
وعلى هذا فقوله : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ) يتناول نوعي الدُّعاء ... وبكل منهما فُسِّرت الآية . قيل : أُعطيه إذا سألني ، وقيل : أُثيبه إذا عبدني ، والقولان متلازمان) .
فإذا عُلم هذا, وعلم العبد محبة الله للدعاء, وعلم بأنه من أفضل العبادات: لزمه معرفة آدابه التي يجب أن يتحلى بها حتى يستجاب له ويكتب له من الأجر ما الله به عليم.
لذلك سنذكر هنا جملة من آداب الدعاء لعل الله أن ينفع بها:
أولا: عن أبي هريرة قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ ) رواه الترمذي .
فدل الحديث على أن من توجه لله بالدعاء يجب أن يرافق دعائه اليقين التام الجازم بصدق كلام الله وإنجازه لوعده لما قال:{ادعوني أستجب لكم}.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: قوله: (وأنتم موقنون بالإجابة) أي والحال أنكم موقنون بها، أي كونوا عند الدعاء على حالة تستحقون بها الإجابة، من إتيان المعروف واجتناب المنكر، ورعاية شروط الدعاء، كحضور القلب وترصد الأزمنة الشريفة والأمكنة المنيفة ، واغتنام الأحوال اللطيفة ، كالسجود ، إلى غير ذلك، حتى تكون الإجابة على قلوبكم أغلب من الرد.أو أراد: وأنتم معتقدون أن الله لا يُخَيِّبكم؛ لسعة كرمه وكمال قدرته وإحاطة علمه، لتحقق صدق الرجاء ، وخلوص الدعاء؛ لأن الداعي ما لم يكن رجاؤه واثقا لم يكن دعاؤه صادقا).
فمن دعا الله دعاء المستغني المنصرف عنه, أو تكلف في اللفظ و انشغل به عن المعنى، أو تكلف البكاء و الصياح : فهذا انطبق عليه قول المصطفى بأنه قد دعا الله بقلب لاه.
فالإخلاص في الدعاء من أعظم أسباب الإجابة, قال تعالى:{وادعوه مخلصين له الدين}.
ثانيا: جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك .
فمن لوث مطعمه ومشربه وماله بالحرام لا يلومن إلا نفسه إن رُدت دعوته, فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا, والدعاء الطيب لا يكون من منشأ خبيث قد تغذى بالخبيث.
ثالثا:عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم، أو قطيعة رحِم، ما لم يستعجل))، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوتُ، وقد دعوتُ، فلم أرَ يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدَعُ الدعاء))؛ متفق عليه
فتضمن هذا الحديث أمور:
- تحريم الدعاء بإثم, فهذا من التعدي فيه, كأن يسأل الله الإعانة على كبيرة من الكبائر, أو معصية من المعاصي, أو ظلم أو بغي أو أكل لحقوق النس.
وهذا كما فعل كفار قريش كما أخبر الله عنهم:{وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}.
- أن لا يدعو بقطيعة رحم لسبب من الأسباب, وهذا مما يبغضه الله سبحانه وتعالى ويحاسب عليه, كما قال:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}.
- عدم الاستعجال عند الدعاء, وهذا بأن يقول: دعوت ولم يستجب لي, فيمل الدعاء ويتركه, وههذا كمن يعبد الله على حرف.
رابعا: عدم رقع الصوت بالدعاء, كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:" أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم". رواه مسلم.
بل الأفضل هو حال من دعا الله خفية لا يسمعه أحد, فهذا أرجى لحضور القلب وخشوعه وحصول الذل والانكسار بين يدي الله سبحانه, كما قال تعالى عن حال زكريا:{إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}, فكان الدعاء في الخفاء, أيضا توسل إلى الله بحاله الضعيفة الفقيرة العاجزة عن شيء, وذكر نفسه بسعة رحمة الله سبحانه, وكم قد استجاب له قبل هذا وكشف عنه الضر وأنعم عليه.
خامسا: استغلال الأزمنة المباركة والأوقات التي فيها يجاب الدعاء, كذلك استغلال الأمكنة, لذلك جاء قوله تعالى:{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب...} متخللا لآيات الصيام لافتا نظر الصائم إلى إن حاله والزمن الذي هو فيه من أسباب إجابة الدعاء فليحرص عليه, وقد روى عبد اللّه بن عمرٍو، عن أبيه، عن جدّه عبد اللّه بن عمرٍو، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "للصّائم عند إفطاره دعوةٌ مستجابةٌ". فكان عبد اللّه بن عمرٍو إذ أفطر دعا أهله، وولده ودعا. رواه الإمام أبو داود الطّيالسيّ في مسنده.
سادسا: دعاء الله في كل الأحوال التي تمر بالعبد, فيكون الدعاء حال الرخاء في وقت اليسر و السعة ، كما يكون في وقت الفاقة والحاجة والضرر, قال تعالى:{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا}, وقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) رواه أحمد .
سابعا: التضرع و الخشوع و التذلل و الرغبة و الرهبة ، وقد أمر الله بهذا فقال: { ادعوا ربكم تضرعا وخيفة إنه لا يحب المعتدين }.
وقد يقول البعض بأنه يكثر من الدعاء لكن لا يرى الاستجابة, فيسأل أهل الفتيا عن سبب عدم الإجابة, فلعله يكون خللا في نفسه فيصلحه, فنقول:
إن الله سبحانه وتعالى, وعد بالإجابة, لكنه لم يقل لعباده متى تكون هذه الإجابة, فاستجابة الله سبحانه للدعاء تكون بأحد امور ثلاثة:
1- أن يستجيب له نفس الدعاء فيعطيه ما سأله.
2- أن يصرف عنه من السوء مثل ما دعا به.
3- أن يدخرها له في الآخرة.
وهذا كما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا ، قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ ؟ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ ) . رواه أحمد.
فلو تفكر العبد بظم فضل الدعاء وعظم منفعته له في الدنيا والآخرة: لما تركه لحظة من لحظاته, والسعيد من منّ الله عليه فانتفع بالذكرى, والمحروم من حرمه الله وأبعده.
هذا والله أعلم.
وصل اللهم وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
المجموعة الثانية:
1: حرّر القول في المسائل التالية:
أ: مرجع الهاء في قوله تعالى: {وآتى المال على حبه}.
جاءت أربعة أقوال للمفسرين في مرجع الضمير في قوله تعالى:{وآتى المال على حبه}:
القول الأول: إن الضمير في (حبه) عائد على المال فالمصدر مضاف إلى المفعول, ويكون قوله تعالى: {على حبه} جملة معترضة, ويكون المعنى:أخرجه، وهو محب لهذا المال، راغب فيه.
وهو قول ابن مسعودٍ وسعيد بن جبيرٍ وغيرهم. ذكره ابن عطية وهو قول ابن كثير.
القول الثاني: أن الضمير يعود على ضمير الفاعل المستتر في (آتى) , ويكون المصدر مضافا إلى الفاعل, وعلى هذا يكون المعنى: أعطى المال لأنه يحب أن يعطي ما يحبه من المال, وهذا كقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. ذكره ابن عطية.
القول الثالث: إن الضمير يعود على الإيتاء, فيكون معنى الآية: أخرج المال في وقت حاجة من الناس وفاقة، فيكون إيتاء المال حبيب إليهم في هذا الوقت لعظم الحاجة إليه, وهذا كقوله تعالى:{أو إطعام في يوم ذي مسغبة}.
القول الرابع: إن الضمير يعود على اسم الله تعالى من قوله: {من آمن باللّه} فيكون المعنى: من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته, كما قال تعالى في المنفقين:{إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا}. ذكره ابن عطية.
الراجح:
معنى الآية يحتملها جميعا, فالمال محبوبا للنفوس, بل جبلت على حبه وحب امتلاكه, لذلك امتحن الله عباده بالإنفاق, وأفضل النفقات عند الناس ما جاءت في وقت الحاجة والعسر, ومع ذلك فأصعبها على صاحبها تجريد نيته وإخلاصها لله حال الإنفاق, فينفق لا يريد بنفقته تلك إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى.
ب: معنى قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.
المعنى الأول: من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه سافر بعد ذلك أو أقام. وهو قول علي وابن عباس وعبيدة السلماني, ذكره ابن عطية.
فجعلوا رخصة الفطر في رمضان لمن دخل عليه الشهر وهو في سفر.
وهذا القول ضعيف رده ابن كثير فقال:(وهذا القول غريبٌ نقله أبو محمّد بن حزمٍ في كتابه المحلى، عن جماعةٍ من الصّحابة والتّابعين. وفيما حكاه عنهم نظرٌ، واللّه أعلم. فإنّه قد ثبتت السّنّة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتّى بلغ الكديد، ثمّ أفطر، وأمر النّاس بالفطر. أخرجه صاحبا الصّحيح.).
المعنى الثاني: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه.
فيسقط القضاء على من دخل عليه شهر رمضان وهو مجنونا وانتهى الشهر وهذا حاله, لأنه لم يشهده مستوفيا شروط التكليف.
أما من جن بعد دخول أول الشهر أو في آخره: فهذا يقضي الأيام التي جن فيها وغاب عنه عقله. وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه. ذكره ابن عطية.
وهذا القول صحيح باعتبار وجوب توفر شروط الصيام لدى المكلف مع دخول الشهر, فيكون بالغا عاقلا صحيحا مقيما, أما المجنون فلا صيام عليه ولا كفارة لأن العقل هو مناط التكليف, ولو جن بعد دخول الشهر فلا قضاء عليه على الصحيح من أقوال العلماء, لأنه حال جنونه لا تكليف عليه البتة فشابه الصغير الغير بالغ.
المعنى الثالث: من حضر المصر وكان مقيما صحيح في بدنه- وشهد استهلال الشهر: فعليه أن يصوم وجوبا مادام قد توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع, ولو حصل هذا أثناء الشهر أو آخره: كعودة المسافر أو بلوغ الصبي, أو إسلام كافر. وهو قول الجمهور. قاله الزجاج وذكره ابن عطية وهو قول ابن كثير.
وهو الراجح لدلالة الآية عليه, فلا تخصص الآية بشرط واحد من شروط الصوم وهو العقل, بل تحمل على عموم معناها كما قال بذلك الجمهور.
2: بيّن ما يلي:
أ: هل قوله تعالى في حكم القصاص: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنتثى} منسوخ أم محكم؟
- قال البعض أن قوله تعالى:{الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} منها منسوخة، نسختها آية المائدة {النّفس بالنّفس}, وقال ابن عطية:(وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا يدخل صنف على صنف ثم نسخت بآية المائدة أن النفس بالنفس).
وجاء عن ابن عبّاسٍ في قوله: {والأنثى بالأنثى} وذلك أنّهم لا يقتلون الرّجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرّجل بالرّجل، والمرأة بالمرأة فأنزل اللّه: النّفس بالنّفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص سواءً فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النّفس، وفيما دون النّفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالكٍ أنّها منسوخةٌ بقوله: {النّفس بالنّفس}. ذكره ابن كثير.
وقال بعضهم إن الاية محكمة وليست منسوخة, بل فيها إجمال فسرته آية المائدة, روي هذا القول عن ابن عباس ومجاهد, ذكره ابن عطية وقال:( وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم).
الراجح:
الآية محكمة وليست بمنسوخة, ولو صح ما ورد عن ابن عباس بقوله بالنسخ: فيحمل على معنى النسخ عند السلف وليس هو بالمعنى الاصطلاحي المتأخر للنسخ, بل يعنوا به غالبا تفصيل المجمل وتقييد المطلق وتخصيص العام، ويريدون به أحيانا رفع الحكم بالكلية, لكن اغلب كلامهم في الثلاثة الأول.
ولا يصار للنسخ إلا مع تعذر الجمع, ولو رجعنا لما ورد فيها من أسباب النزول لتبين معنى الآية جليا واضحا.
وقد ذكر في سبب نزولها ما جاءعن سعيد بن جبيرٍ، في قول الله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} قال: يعني: إذا كان عمدا، (الحرّ بالحرّ). وذلك أنّ حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهليّة قبل الإسلام بقليلٍ، فكان بينهم قتلٌ وجراحاتٌ، حتّى قتلوا العبيد والنّساء، فلم يأخذ بعضهم من بعضٍ حتّى أسلموا، فكان أحد الحيّين يتطاول على الآخر في العدّة والأموال، فحلفوا ألّا يرضوا حتّى يقتل بالعبد منّا الحرّ منهم، وبالمرأة منّا الرّجل منهم، فنزلت فيهم.
كذلك ما ذكره ابن عباس في قوله:(... وذلك أنّهم لا يقتلون الرّجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرّجل بالرّجل، والمرأة بالمرأة فأنزل اللّه: النّفس بالنّفس ...) فقوله تعالى:(النفس بالنفس) يفسر الآية ويبين أن الحر إذا قتل الحر فيقتص منه رجل كان أو امرأة, فيقتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل, ويقتل العبد بالحر, فالآية فيها إلزام أن لا يتعدى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني كان من كان
ب: حكم الصيام في السفر.
اختلف الفقهاء في حكم الصيام في السفر:
- فقال البعض من صام في السفر قضى في الحضر, وهو مذهب عمر وابن عمر. فعلى هذا يجب الإفطار في السفر, فإن صام فلا يجزئه صومه وعليه القضاء, واستدلوا بقوله تعالى: {فعدّة من أيّامٍ أخر}, وهو قول ابن عباس حيث قال:: «الفطر في السفر عزمة».
- وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر.
- وقال آخرون بل الفطر أفضل, استدلالا بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أنه سئل عن الصوم في السّفر، فقال: "من أفطر فحسن، ومن صام فلا جناح عليه". وقال في حديث آخر: "عليكم برخصة اللّه التي رخّص لكم". ورد هذا عن ابن عباس وابن عمر.
كذلك إن شق عليه الصوم فالفطر أفضل, لحديث جابرٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى رجلًا قد ظلّل عليه، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائمٌ، فقال: " ليس من البرّ الصّيام في السّفر".
- وقال آخرون: بل الصوم أفضل لمن قدر عليه, قاله الشافعي ومالك.
- وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: «أيسرهما أفضلهما»
- وقال البعض هما سواء والأمر على التخيير, وهو قول الجمهور, لحديث عائشة: أن حمرة بن عمرٍو الأسلميّ قال: يا رسول اللّه، إنّي كثير الصّيام، أفأصوم في السّفر؟ فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".
والصحيح هو قول الجمهور وأن الأمر على التخيير وليس بحتم؛ حيث ثبت أن الصحابة كانوا يخرجون مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في شهر رمضان. قال أنس: "فمنا الصّائم ومنّا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصّائم ", فلو كان الفطر واجبا لبينه عليه الصلاة والسلام, كذلك لو كان الصوم واجبا أو كان هو الأفضل.
وقد صام عليه الصلاة والسلام- في السفر مرات وأفطر مرات كما ورد هذا عنه,فقد قال أبو الدرداء: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في شهر رمضان في حرٍّ شديدٍ، ... وما فينا صائمٌ إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعبد اللّه بن رواحة.
وقد يقال بأن الأفضل الصوم إن لم يشق عليه, فإن شق عليه فالفطر أفضل وقد يكره له الصوم وهو في هذه الحالة, فإن كان الصوم قد يؤذيه: فليس له الصوم لحديث جابرٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى رجلًا قد ظلّل عليه، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائمٌ، فقال: " ليس من البرّ الصّيام في السّفر".
أما إن كان صومه في السفر إعراضا منه عن السنة، فيرى أن الفطر مكروهٌ إليه، فهذا يحرم عليه الصوم ، لما جاء عن ابن عمر وجابرٍ، وغيرهما: من لم يقبل رخصة اللّه كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة. رواه أحمد.
ج: متعلّق الاعتداء في قوله تعالى: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}.
متعلق الاعتداء هو الاعتداء بالقتل, فيقتل قاتل وليه بعد أن يأخذ الدية ويسقط الدم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من أصيب بقتلٍ أو خبل فإنّه يختار إحدى ثلاثٍ: إمّا أن يقتصّ، وإمّا أن يعفو، وإمّا أن يأخذ الدّية؛ فإن أراد الرّابعة فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنّم خالدًا فيها". رواه أحمد.