المجموعة الثالثة:
لخّص مسائل الموضوعات التالية وبيّن فوائد دراستها:
1. أحكام النكاح
قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا - وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}
تشريع النكاح من محاسن الإسلام .
من منن الله على عباده تشريع النكاح بل ومحبته والحث عليه ورتب عليه حقوقا وأحكاما لمراعام مصلحة الزوجين والأسرة ودفع الضرر والمفسدة .
الأمر بعدم الجور على حق النساء اليتامي
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا}
وإن خفتم القيام بحق اليتامي اللاتي في حجوركم وتحت ولايتكم عدم محبتكم إياهن فاعدلوا إلى غيرهن .
الأمر بنكاح الطيبات
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
ينبغي أن تختاروا منهن الطيبات في أنفسهن اللاتي تطيب لكم الحياة بالاتصال بهن، الجامعات للدين والحسب والعقل والآداب الحسنة وغير ذلك من الأوصاف الداعية لنكاحهن.
وسائل اختيار الطيبات .
1- الاختيار قبل الخطبة وإباحة النظر للخطيب ليكون على بصيرة من أمره .
2- أن يتزوج الجامعة للصفات المقصودة للزواج مثل
- كفاءة البيت والعائلة .
- حسن التدبير والتربية والخلق الظاهر والباطن.
- الجامعة لصفات الدين والعقل .
- إحصان الفرج .
- الحسب والنسب الرفيع .
- نجابة الأولاد وشرفهم.
إباحة العدد الذي لا يزيد عن أربع .
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
أباح الله للزوج التعدد حتى يتم له مقصوده من الزواج الذي قد لا يتم بواحدة أو أكثر ففي الأربع غنية لكل أحد إلا ما ندر.
من خاف على نفسه الظلم فليقتصر على الواحدة .
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا
فإذا خاف من نفسه الجور والظلم بالزيادة على الواحدة فليقتصر على الواحدة، أو على ملك يمينه التي لا يجب عليه لها قسم كالزوجات، ذَلِكَ أي: الاقتصار على واحدة من الزوجات، أو ما ملكت اليمين، أدنى أن لا تعولوا أي: تظلموا وتجوروا.
الحث على إيتاء النساء الصداق
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً
حث الشارع على إيتاء النساء صدقاتهم أي مهورهن عن طيب نفس وطمأنية دون بخس ولا مطل ،وذلك لما فيه من المشقة على النفس في دفعة جملة واحدة فيؤدي ذلك بهم أن يظلموا النساء ويهضموهن حقوقهن .
استحقاق المرأة لصداقها .
المهر للمرأة، ويدفع إليها أو إلى وكيلها إن كانت رشيدة، أو إلى وليها إن لم تكن رشيدة، وأنها تملكه بالعقد لأنه أضافه إليها وأمر بإعطائه لها، وذلك يقتضي الملك.
النكاح لابد فيه من الصداق ولا يجوز النكاح بدونه .
لا بد في النكاح من صداق ، يجوز في الكثير واليسير للعموم، وأنه لا يباح لأحد أن يتزوج بدون صداق، وإن لم يسم فمهر المثل، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإن له ذلك خاصة، كما قال تعالى:
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}
لا حرج فيما طابت به نفس الزوجة لزوجها من صداقها
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا
للا حرج ولا تبعة على الأزواج فيما طابت به نفس الزوجة في صداقها بإسقاط شيء منه، أو تأخيره، أو المحاباة في التعوض عنه .
ما يستفاد من الآية الكريمة :
1- سماحة الشريعة الإسلامية وحثها على ما فيه النفع وجلب المصالح والبعد عن الجور والظلم والمفاسد .
2- أهمية رابطة الزوجية وتحري الدقة في اختيار الزوجين .
3- تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم وعدم القيام بالواجب - ولو كان مباحا - لا ينبغي له أن يتعرض له، بل يلزم السعة والعافية، فإن العافية خير ما أعطي العبد.
4- للمرأة الرشيدة التصرف في مالها ولو بالتبرع .
5- تحريم نكاح الخبيثة التي لا يحل للمسلم نكاحها، وهي الكافرة غير الكتابية، وكذلك الزانية حتى تتوب كما نص الله على الثنتين .
ضرورة اعتبار الولي في النكاح
لقوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
والولي هو العاصب، ويقدم منهم الأقرب فالأقرب، فإن تعذر الولي القريب والبعيد لعدم أو جهل أو غيبة طويلة قام الحاكم مقام الولي، فالسلطان والحاكم ولي من لا ولي لها من النساء.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}إلى قوله: {مِيثَاقًا غَلِيظًا}.
النهي عن أن توّرث الزوجة مع بقية الإرث وعن أن تمنع من الزواج بعد وفاة زوجها.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
- كان أهل الجاهلية إذا مات أحدهم ورثت زوجته عنه كما يورث ماله، فرأى قريبه كأخيه وابن عمه أنه أحق بها من نفسها، ويحجرها عن غيره، فإن رضي بها تزوجها على غير صداق، أو على صداق يحبه هو دونها، وإن لم يرض بزواجها عضلها ومنعها من الأزواج إلا بعوض من الزوج أو منها .
- كان منهم أيضا من يعضل زوجته التي هي في حباله، فيمنعها من حقوقها، ومن التوسعة لها لتفتدي منه.
جواز منع الزوجة من الزواج والافتداء منها إن أتت بفاحشة مبينة
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
يجوز في هذه الحال أن يعضلها مقابلة لها على فعلها الفاحش كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها ومن يتصل به، فلتفتدي منه؛ فإن هذا الافتداء بحق لا بظلم.
الأمر بالمعاشرة بالعرف السائد في المكان والزمان ومقتضى الحال .
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
- يشمل هذا الأمر المعاشرة القولية والفعلية
- على الزوج أن يعاشر زوجته ببذل النفقة والكسوة والمسكن اللائق بحاله،
- ويصاحبها صحبة جميلة بكف الأذى، وبذل الإحسان، وحسن المعاملة والخلق،
- وأن لا يمطلها بحقها،
- وهي كذلك عليها ما عليه من العشرة،
- وكل ذلك يتبع العرف في كل زمان ومكان وحال ما يليق به، قال تعالى:
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}
الأمر بإمساك الزوجات حتى في حال كره الأزواج لهنّ .
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا
فإن في ذلك خيرا كثيرا:
منها: امتثال أمر الله ورسوله الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة.
ومنها: أن إجباره نفسه، ومجاهدته إياها مع عدم محبة زوجته تمرين على التخلق بالأخلاق الجميلة - وربما زالت الكراهة وخلفتها المحبة،
- وربما زالت الأسباب التي كرهها لأجلها،
- وربما رزق منها ولدا صالحا نفع الله به والديه في الدنيا والآخرة،
- فينبغي إذا كره منها خلقا لحظ بقية أخلاقها،
- وعليه مجاهدة نفسه في ذلك قدر الإمكان لينال هذا الفضل الكبير .
أباح الله تعالى الفراق مع تعذر إقامة رابطة الزوجية .
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ}
لا حرج عليكم في ذلك .
النهي عن أخذ الزوج ما أعطى لزوجته من المهور وغيرها من المال حال طلاقها ولو كان كثيرا .
وآتيتم إحداهنّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
- نهي الله الأزواج عن أخذ ما أعطوه لزوجاتهم ولو كان كثيراً بل أمرهم أن يفروه لهن ولا يماطلوهن فيه .
الحكمة من تحريم أخذ الزوج ما أعطاه لزوجته .
{أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا - وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}
الأنثى قبل عقد النكاح محرمة على الزوج، وهي لم ترض بهذا الحل إلا بالعقد والميثاق الغليظ الذي عقد على ذلك العوض المشروط، فإذا دخل عليها وباشرها، وأفضى إليها وأفضت إليه، وباشرها المباشرة التي كانت قبل هذه الأمور حراما فقد استوفى المعوض، فثبت عليه العوض تاما.
المحرمات من النساء
من قوله : {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إلى أن قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
قد استوفى الباري المحرمات في النكاح في هذه الآيات في النسب والرضاع والمصاهرة.
المحرمات بالمصاهرة
فإن تزوج الرجل امرأة ترتب على هذا الزواج أربعة أحكام:
1- تحريم هذه الزوجة على أولاده وإن نزلوا نسبا ورضاعا.
2- وتحريمها على آبائه وإن علوا نسبا ورضاعا.
3- وحرمت عليه أمها في الحال.
4- وأما بنتها فإن كان قد دخل بزوجته حرمت أيضا، وصارت ربيبة، لا فرق بين بنتها من زوج سابق له، أو من زوج خلفه عليها.
المحرمات بالنسب
- فتحرم الأمهات، وهن كل أنثى لها عليك ولادة، وهي التي تخاطبها بالأم والجدة وإن علت من كل جهة.
- وتحرم البنات، وهن كل أنثى تخاطبك بالأبوة أو بالجدودة من بنات الابن وبنات البنات وإن نزلن.
- وتحرم الأخوات شقيقات كن أو لأب أو لأم.
- وبنات الإخوة وبنات الأخوات مطلقا.
- وتحرم العمات والخالات، وهن كل أخت لأحد آبائك وإن علا، أو أحد أمهاتك وإن علون.
- ،
المحرمات بالرضاع من جهة المرضعة وصاحب اللبن .
المرضعة أم للرضيع، وأمهاتها جداته، وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته، وأولادها إخوته وأخواته، وهو عم لأولادهم أو خال، وكذلك صاحب اللبن.
التحريم من جهة الرضيع .
لا ينتشر التحريم لأحد من أقاربه إلا لذريته فقط.
الحكمة من تقييد الآية في الربيبة بقوله : {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ}
- بيان لأغلب أحوالها.
- لبيان أعلى حكمة تناسب حكمة التحريم، وأنها إذا كانت في حجرك بمنزلة بناتك لا يليق إلا أن تكون من محارمك.
تقييد الآية في قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ}
يخرج ابن التبني لا يخرج ابن الرضاع في قول جمهور العلماء.
تحريم الجمع بين الأختين .
[وأن تجمعوا بين الأختين ]
تحريم الجمع بين المرأة وعمتها
حرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها.
التحريم بسبب الزواج أو البقاء في العدة .
لقوله {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ}
كل أنثى في عصمة زوج أو في بقية عدته لا تحل لغيره؛ لأن الأبضاع ليست محل اشتراك، بل قصد تمييزها التام، ولهذا شرعت العدة والاستبراء، ونحو ذلك.
ملك اليمين التي سبيت من الكفار في القتال الشرعي تحل للمسلمين بعد انقضاء عدتها أو استبرائها ..
{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
ملك السبي، فإذا سبيت المرأة ذات الزوج من الكفار في القتال الشرعي حلت للمسلمين، ولكن بعد الاستبراء أو العدة، فزوجها الحربي الذي في دار الحرب لم يبق له فيها حق، ولا له حرمة، فلهذا حلت للمسلمين كما حل لهم ماله ودمه، لأنه ليس له عهد ولا مهادنة.
ماسوى المحرمات المذكورات في الآية فحلال .
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
وما سوى ذلك من الأقارب حلال كبنات الأعمام، وبنات العمات، وبنات الأخوال، وبنات الخالات فهن حلال، ومن عداهن من الأقارب حرام.
{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}
حكم الزواج بالمملوكة
- حرم على الأحرار نكاح المملوكات لما فيه من إرقاق الولد، ولما فيه من الدناءة والضرر العائد للأولاد؛ لتنازع الملاك، وتنقلات الأرقاء.
- لكن إذا رجحت مصلحة الإباحة فقد أباحه الله بشروط:
1- المشقة لحاجة متعة أو خدمة.
2- وأن لا يقدر على الطول للحرة.
3- وأن تكون الأمة مؤمنة بإذن أهلها.
فعند اجتماع هذه الشروط كلها يحل للحر نكاح الإماء.
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}
معنى قوامة الرجل على المرأة
الرجال قوامون على النساء في أمور الدين والدنيا.
- يلزمونهن بحقوق الله، والمحافظة على فرائضه.
- ويكفونهن عن جميع المعاصي والمفاسد.
- وبتقويمهن بالأخلاق الجميلة والآداب الطيبة.
- وقوامون أيضا عليهن بواجباتهن من النفقة والكسوة والمسكن ونحو ذلك .
سبب الأمر بقوامة الرجل على المرأة
{بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}
بسبب فضل الرجال عليهن وإفضالهم عليهن، فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة: - من كون الولايات كلها مختصة بالرجال والنبوة والرسالة.
- وباختصاصهم بالجهاد البدني.
- ووجوب الجماعة والجمعة ونحو ذلك.
- وبما تميزوا به عن النساء من العقل والرزانة والحفظ والصبر والجلد والقوة التي ليست للنساء.
- وكذلك يده هي العليا عليها بالنفقات المتنوعة، بل وكثير من النفقات الأخر والمشاريع الخيرية.
أقسام النساء :
وهن قسمان:
القسم الأول: قسم هن أعلى طبقات النساء، وخير ما حازه الرجال، وهن المذكورات في قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] أي:
- مطيعات لله ولأزواجهن، قد أدت الحقين، وفازت بكفلين من الثواب.
- حافظات أنفسهن من جميع الريب.
- وحافظات لأمانتهن ورعاية بيوتهن.
- وحافظات للعائلة بالتربية الحسنة، والأدب النافع في الدين والدنيا.
- وعليهن بذل الجهد والاستعانة بالله على ذلك.
لن تنال النساء هذه المرتبة إلا بتوفيق الله تعالى .
لقوله : {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}
أي: إذا وفقن لهذا الأمر الجليل فليحمدن الله على ذلك.
ويعلمن أن هذا من حفظه وتوفيقه وتيسيره لها.
من وكل إلى نفسه فالنفس أمارة بالسوء.
ومن شاهد منة الله، وتوكل على الله، وبذل مقدوره في الأعمال النافعة، كفاه الله ما أهمه، وأصلح له أموره، ويسر له الخير، وأجراه على عوائده الجميلة.
والقسم الثاني: هن الطبقة النازلة من النساء، وهن بضد السابقات في كل خصلة.
فهن اللاتي منسوء أخلاقهن وقبح تربيتهن تترفع على زوجها، وتعصيه في الأمور الواجبة والمستحبة، فأمر الله بتقويمهن بالأسهل فالأسهل.
طريقة تقويم هذه الطبقة من النساء :
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ}
- بينوا لهن حكم الله ورسوله في وجوب طاعة الأزواج.
- ورغبوهن في ذلك بما يترتب عليه من الثواب.
- وخوفوهن معصية الأزواج، وذكروهن ما في ذلك من العقاب، وما يترتب عليه من قطع حقوقها.
- وإباحة هجرها وضربها.
- فإن تقومن بالوعظ والتذكير فذلك المطلوب
- فإن لم يفد التذكير فاهجروهن في المضاجع، بأن لا ينام عندها، ولا يباشرها بجماع ولا غيره؛ لعل الهجر ينجع فيها.
- ذلك بمقدار ما يحصل به المقصود فقط.
- القصد من الهجر :
- فإن القصد بالهجر نفع المهجور وأدبه.
- ليس الغرض منه شفاء النفس كما يفعله من لا رأي له إذا خالفته زوجته أو غيرها، ولم يحصل مقصوده
- فإن نفع الهجر للزوجة وإلا انتقل إلى ضربها ضربا خفيفا غير مبرح، فإن حصل المقصود، ورجعت إلى الطاعة، وتركت المعصية، عاد الزوج إلى عشرتها الجميلة، ولا سبيل له إلى غير ذلك من أذيتها؛ لأنها رجعت إلى الحق.
- وهو ما يسمى بالهجر الجميل الذي ليس معه معاتبة ولا تذكير بالحال الماضية ..
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}
عند استحكام الخصام بين الزوجين لابد من اللجوء للتحاكم .
وهذه إذا استطار الشر بين الزوجين، وبلغت الحال إلى الخصام وعدم الالتئام، ولم ينفع في ذلك وعظ ولا كلام {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}
صفات الحكمين التي يجب أن يكونا عليهما
- عدلين عاقلين يعرفان الجمع والتفريق، ويفهمان الأمور كما ينبغي.
- فيبحثان في الأسباب التي أدت بهما إلى هذه الحال.
- ويسألان كلا منهما ما ينقم على صاحبه.
- ويزيلان ما يقدران عليه من المعتبة بترغيب الناقم على الآخر بالإغضاء عن الهفوات واحتمال الزلات.
- وإرشاد الآخر إلى الوعد بالرجوع.
- وإرشاد كل منهما إلى الرضى والنزول عن بعض حقه.
- وإن أمكنهما إلزام المتعصب على الباطل منهما بالحق فَعَلَا.
- ومهما وجدا طريقا إلى الإصلاح والاتفاق والملاءمة بينهما لم يعدلا عنها، إما بتنازل عن بعض الحقوق، أو ببذل مال، أو غير ذلك.
- فإن تعذرت الطرق كلها، ورأيا أن التفريق بينهما أصلح لتعذر الملاءمة فرقا بينهما بما تقتضيه الحال بعوض أو بغير عوض، ولا يشترط في هذا رضى الزوج؛ لأن الله سماهما حكمين لا وكيلين.
- ومن قال إنهما وكيلان اشترط في التفريق رضى الزوج، ولكن هذا القول ضعيف.
يحب الله الاتفاق بين الزوجين وترجيحه على غيره.
{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}
بسبب الرأي الميمون، والكلام اللطيف، والوعد الجميل الذي يجذب القلوب، ويؤثر فيها.
من كمال علمه وحكمته شرع لكم هذه الأحكام الجليلة
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًاحكيماً }
هذه الأحكام هي الطريق الوحيد إلى القيام بالحقوق
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}
سببيل الصلح إذا كان الزوج راغبا عن زوجته إما لعدم محبة أو طمعا .
- هو طريق الصلح من المرأة أو وليها ليعود الزوج إلى الاستقامة.
- بأن تسمح المرأة عن بعض حقها اللازم لزوجها على شرط البقاء معه.
- وأن يعود إلى مقاصد النكاح أو بعضها.
- كأن ترضى ببعض النفقة أو الكسوة أو المسكن.
- أو تسقط حقها من القسم.
- أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها بإذنه.
- متى اتفقا على شيء من ذلك فهو أحسن من المقاضاة في الحقوق المؤدية إلى الجفاء أو إلى الفراق، ولهذا قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}
يمكن تعميم هذا الحكم على كل حق متنازع عليه .
- وهذا أصل عظيم في جميع الأشياء، وخصوصا في الحقوق المتنازع فيها أن المصالحة فيها خير من استقصاء كل منهما على حقه كله؛ لما في الصلح من بقاء الألفة، والاتصاف بصفة السماح، وهو جائز بين المسلمين في كل الأبواب - إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا -.
- كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضى لذلك، فقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان مع ذلك قد أمر الله به وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه، وذكر المانع بقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] أي: جبلت النفوس على الشح،
- معنى الشح :
وهو الاستئثار والتفرد في الحقوق، وعدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له.
- فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا.
سبل تيسير الصلح بين المتنازعين
· أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتقليله وتلطيفه.
- وتستبدلوا به ضده، وهو السماحة ببذل جميع الحقوق التي عليك،
- والاقتناع ببعض الحق الذي لك، والإغضاء عن التقصير،
- فمتى وفق العبد لهذا الخلق الطيب سهل عليه الصلح بينه وبين كل من بينه وبينه منازعة ومعاملة،
- وتسهلت الطريق الموصلة إلى المطلوب،
- ومن لم يكن بهذا الوصف تعسر الصلح أو تعذر؛ لأنه لا يرضيه إلا جميع ما له كاملا مكملا، ولا يهون عليه أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر.
أمر تعالى بالإحسان في عبادته والإحسان مع خلقه .
{وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} [النساء: 128] أي: تحسنوا في عبادة الخالق، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتحسنوا إلى المخلوقين بكل إحسان قولي أو فعلي، وتتقوا الله بفعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات، أو تحسنوا بفعل المأمور، وتتقوا بترك المحظور {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] فيجازيكم على قيامكم بالإحسان والتقوى، أو على عدم ذلك بالجزاء بالفضل والعدل.
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}
2. أحكام الأيمان.
قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ - لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 87 - 89]
تحريم الطيبات من الاعتداء الذي يبغضه الله تعالى
قال تعالى :يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
يأمر الله تعالى عباده بالعمل بمقتضى هذا الإيمان في تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم من المطاعم والمشارب وغيرها فهي نعم تفضل بها عليهم وعليهم بقبولها وشكرها ، فلا يعتقدوا تحريمها ولا يحلفوا على عدم تناولها فكل ذلك يعد من الإعتداء الذي لا يحبه الله بل يبغضه ويمقته .
لا يتم الإيمان إلا بأكل الحلال الذي ساقه الله للعبد ما دام كسبه طيبا لا خبث فيه ،وتقوى الله في ذلك.
فقال تعالى : وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
تحريمم الطيبات باليمين لا يحرمها ولكن يكفر اليمين .
v العبد إذا حرم حلالا عليه من طعام وشراب وكسوة واستعمال وسرية ونحو ذلك، فإن هذا التحريم منه لا يحرم ذلك الحلال
v لكن إذا فعله فعليه كفارة يمين، لأن التحريم يمين كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 1 - 2]
v وهذا عام في تحريم كل طيب، إلا أن تحريم الزوجة يكون ظهارا فيه كفارة الظهار .\
ليس للعبد تحريم الطيبات لا بحلف ولا غلوا في الدين .
لا يؤاخذ الله العبد بالحلف بغير قصد أو نية .
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
كما قال في الآية الأخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ }
العبد مخير في كفارة اليمين بين أمور ثلاثة
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
v فإذا عقد العبد اليمين وحنث - بأن فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله - خير في الكفارة بين إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم،
وذلك يختلف باختلاف الناس والأوقات والأمكنة،
v أو كسوتهم بما يعد كسوة، وقيد ذلك بكسوة تجزي في الصلاة،
v أو تحرير رقبة صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، بشرط أن تكون الرقبة مؤمنة، كما في الآية المقيدة بالأيمان، وأن تكون تلك الرقبة سليمة من العيوب الضارة بالعمل،
v فمتى كفر بواحد من هذه الثلاثة انحلت يمينه.
v وهذا من نعمة الله على هذه الأمة أنه فرض لهم تحلة أيمانهم، ورفع عنهم الإلزام والجناح،
v فمن لم يجد واحدا من هذه الثلاثة فعليه صيام ثلاثة أيام، أي: متتابعة مع الإمكان، كما قيدت في قراءة بعض الصحابة
أمر الله تعالى بحفظ الأيمان
v عن أن تحلفوا بالله وأنتم كاذبون،
v وعن كثرة الأيمان لا سيما عند البيع والشراء،
v واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها
v واحفظوا أيضا أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم بالكفارة، فإن الكفارة بها حفظ اليمين الذي معناه تعظيم المحلوف به، فمن كان يحلف ويحنث ولا يكفر فما حفظ يمينه، ولا قام بتعظيم ربه
إباحة الحنث في الحلف إن كان خيرا من المضي فيه
كما قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}
v فلا تقولوا: إننا قد حلفنا على ترك البر، وترك التقوى، وترك الإصلاح بين الناس، فتجعلوا أيمانكم مانعة لكم من هذه الأمور التي يحبها الله ورسوله، بل احنثوا وكفروا وافعلوا ما هو خير وبر وتقوى،
من نعم الله المستوجبة للشكر بيانه آياته المبينة لأحكامه
· فعلى العباد أن يشكروا ربهم على بيانه وتعليمه لهم آياته المبينة للحلال من الحرام، الموضحة للأحكام وتعليمه لهم ما لم يكونوا يعلمون، فإن العلم أصل النعم وبه تتم .
3. قصة هود عليه السلام
لمن بعث هود
بعث الله هودا عليه الصلاة والسلام إلى قومه عادا الأولى المقيمين بالأحقاف - من رمال حضرموت ، أعطاهم الله القوة والبسط في الرزق
الحكمة من بعث هود لقومه.
لشركهم وتكذيبهم لرسل الله فأرسله الله إليهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وينهاهم عن الشرك
لكثرة شرهم وتجبرهم على العباد فجاء يدعوهم بكل وسيلة، ويذكرهم ما أنعم الله عليهم به من خير الدنيا والبسطة في الرزق والقوة.
موقفهم من بعثة هود عليه السلام
v ردوا دعوته وتكبروا عن إجابته وقالوا:
{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}وهم كاذبون في هذا الزعم.
آيات هود المؤيدة له
الآيات العامة التي اشترك فيها مع غيره من الرسل
v ما من نبي إلا أعطاه الله من الآيات ما على مثله يؤمن البشر.
v ولو لم يكن من آيات الرسل إلا أن نفس الدين الذي جاءوا به أكبر دليل أنه من عند الله لإحكامه وانتظامه للمصالح في كل زمان بحسبه وصدق أخباره، وأمره بكل خير ونهيه عن كل شر.
v وأن كل رسول يصدق من قبله ويشهد له، ويصدقه من بعده ويشهد له.
الآيات الخاصة بهود عليه السلام .
v أنه متفرد وحده في دعوته وتسفيه أحلامهم وتضليلهم والقدح في آلهتهم، وهم أهل البطش والقوة والجبروت، وقد خوَّفوه بآلهتهم إن لم ينته أن تمسه بجنون أو سوء فتحدَّاهم علنا، وقال لهم جهارا:
{إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ - مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ - إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56]
فلم يصلوا إليه بسوء.
فأي آية أعظم من هذا التحدي لهؤلاء الحريصين على إبطال دعوته بكل طريق؟
v ما انتهى طغيانهم تولَّى عنهم وحذَّرهم نزول العذاب، فجاءهم العذاب معترضا في الأفق، وكان الوقت وقت شدة عظيمة وحاجة شديدة إلى المطر، فلما استبشروا وقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]
قال الله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 24]
بقولكم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 24 - 25]
تمر عليه: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]
{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25]
v فبعدما كانت الدنيا لهم ضاحكة، والعز بليغ، ومطالب الحياة متوفرة، وقد خضع لهم من حولهم من الأقطار والقبائل، إذ أرسل الله إليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات؛ لنذيقهم عذاب الخزي في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60]
نجاة هود وأتباعه ونصرتهم ، وعاقبة الشرك وأهله.
نجى الله هودا ومن معه من المؤمنين، إن في ذلك لآية على كمال قدرة الله وإكرامه الرسل وأتباعهم، ونصرهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وآية على إبطال الشرك، وأن عواقبه شر العواقب وأشنعها، وآية على البعث والنشور.
ما يستفاد من القصة
v الانتفاع بطريقة تذكير القرآن وما قص الله علينا من الأمم السابقة المجاورة للعرب ويعرفون أخبارها ويفهمون لغتها ومحاولة محاكاة هذه الطريقة وتنويع الوسائل عند الدعوة إلى الله تعالى .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} [الأحقاف: 27]أي: نوعناها بكل فن ونوع {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27]أي: ليكون أقرب لحصول الفائدة.
v اتخاذ المساكن والبنايات للانتفاع والسكنى والتحصن لا أن تتخذ للخيلاء والبطش والتباهي والتفاخر على خلق الله .
v القوة العقلية والذهنية مهما بلغت فلا تنفع صاحبها إلا بمقارنتها للإيمان بالله ورسله وإلا ستكون وبالا على صاحبها واستدراجا له ولن تغني عنه من الله شيئا .
· كما قال الله عن عاد:
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26]
وفي الآية الأخرى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}
4. قصة موسى وهارون عليهما السلام
أهمية ذكر قصة موسى عليه السلام في القرآن
v ذكر الله لموسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلام سيرة طويلة، وساق قصصه في مواضع من كتابه بأساليب متنوعة واختصار أو بسط يليق بذلك المقام،
v ليس في قصص القرآن أعظم من قصة موسى لأنه :
عالج فرعون وجنوده، وعالج بني إسرائيل أشد المعالجة،
وهو أعظم أنبياء بني إسرائيل،
وشريعته وكتابه التوراة هو مرجع أنبياء بني إسرائيل
وعلمائهم وأتباعه أكثر أتباع الأنبياء غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم،
وله من القوة العظيمة في إقامة دين الله والدعوة إليه والغيرة العظيمة ما ليس لغيره
حال بني إسرائيل وقت ولادة موسي عليه السلام
ولد موسى عليه السلام في وقت قد اشتد فيه فرعون على بني إسرائيل: فكان يذبح كل مولود ذكر يولد من بني إسرائيل، ويستحيي النساء للخدمة والامتهان،
تدبير الله لموسى وأمه ولطفه بهما
v لما ولدته أمه خافت عليه خوفا شديدا؛ فإن فرعون جعل على بني إسرائيل من يرقب نساءهم ومواليدهم،
v وكان بيتها على ضفة نهر النيل فألهمها الله أن وضعت له تابوتا إذا خافت أحدا ألقته في اليم، وربطته بحبل لئلا تجري به جرية الماء،
v ومن لطف الله بها أنه أوحى لها أن لا تخافي ولا تحزني، إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين.
v فلما ألقته ذات يوم انفلت رباط التابوت، فذهب الماء بالتابوت الذي في وسطه موسى، ومن قدر الله أن وقع في يد آل فرعون.
v فزعت أمه فزعاً شديداً، وأصبح فؤادها فارغا، وكاد الصبر أن يغلب فيها، إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين،
v وقالت لأخته: قصيه وتحسسي عنه،
v وكانت امرأة فرعون قد عرضت عليه المراضع فلم يقبل ثدي امرأة، وعطش وجعل يتلوى من الجوع، وأخرجوه إلى الطريق؛ لعل الله أن ييسر له أحدا،
v فحانت من أخته نظرة إليه، وبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون بشأنها، فلما أقبلت عليه وفهمت منهم أنهم يطلبون له مرضعا قالت لهم: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن.
· موقف امرأة فرعون من موسى وشكر الله لعملها .
v لما جيء بموسى إلى امرأة فرعون آسية ورأته أحبته حبا شديدا، وكان الله قد ألقى عليه المحبة في القلوب
v وشاع الخبر ووصل إلى فرعون، فطلبه ليقتله، فقالت امرأته: لا تقتلوه. . قرة عين لي ولك، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، فنجا بهذا السبب من قتلهم
v وكان هذا الأثر الطيب والمقدمة الصالحة من السعي المشكور عند الله، فكان هذا من أسباب هدايتها وإيمانها بموسى بعد ذلك.
* الفوائد المستنبطة نصا أو ظاهرا أو تعميما أو تعليلا من قصة موسى صلى الله عليه وسلم.
v الفوائد من حال بني إسرائيل مع فرعون .
v أن آيات الله وعبره في الأمم السابقة إنما يستفيد منها، ويستنير بها المؤمنون، والله يسوق القصص لأجلهم، كما قال تعالى في هذه القصة:
{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 3]
v أن الله إذا أراد شيئا هيأ أسبابه، وأتى به شيئا فشيئا بالتدريج لا دفعة واحدة.
v أن الأمة المستضعفة، ولو بلغت في الضعف ما بلغت، لا ينبغي أن يستولي عليها الكسل عن السعي في حقوقها، ولا اليأس من الارتقاء إلى أعلى الأمور، خصوصا إذا كانوا مظلومين، كما استنقذ الله بني إسرائيل على ضعفها واستبعادها لفرعون وملئه منهم، ومكنهم في الأرض، وملكهم بلادهم.
v أن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة لا تطالب بحقها لا يقوم لها أمر دينها كما لا يقوم لها أمر دنياها.
- الفوائد من مولد موسى ونشأته صغيرا في بيت فرعون .
· لطف الله بأم موسى بذلك الإلهام الذي به سلم ابنها،
· ثم تلك البشارة من الله لها برده إليها، التي لولاها لقضى عليها الحزن على ولدها، ثم رده إليها بإلجائه إليها قدرا بتحريم المراضع عليه، وبذلك وغيره يعلم أن ألطاف الله على أوليائه لا تتصورها العقول، ولا تعبر عنها العبارات، وتأمل موقع هذه البشارة، وأنه أتاها ابنها ترضعه جهرا، وتأخذ عليه أجرا، وتسمى أمه شرعا وقدرا، وبذلك اطمأن قلبها، وازداد إيمانها، وفي هذا مصداق لقوله تعالى:
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]
· فلا أكره لأم موسى من وقوع ابنها بيد آل فرعون، ومع ذلك ظهرت عواقبه الحميدة، وآثاره الطيبة.
· - أن الخوف الطبيعي من الخلق لا ينافي الإيمان ولا يزيله، كما جرى لأم موسى ولموسى من تلك المخاوف.
· - أن الإيمان يزيد وينقص لقوله: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]
· والمراد بالإيمان هنا زيادته وزيادة طمأنينته.
· - أن من أعظم نعم الله على العبد تثبيت الله له عند المقلقات والمخاوف، فإنه كما يزداد به إيمانه وثوابه فإنه يتمكن من القول الصواب والفعل الصواب، ويبقى رأيه وأفكاره ثابتة، وأما من لم يحصل له هذا الثبات، فإنه لقلقه وروعه يضيع فكره، ويذهل عقله، ولا ينتفع بنفسه في تلك الحال.
· - أن العبد وإن عرف أن القضاء والقدر حق، وأن وعد الله نافذ لا بد منه، فإنه لا يهمل فعل الأسباب التي تنفع، فإن الأسباب والسعي فيها من قدر الله، فإن الله قد وعد أم موسى أن يرده عليها، ومع ذلك لما التقطه آل فرعون سعت بالأسباب، وأرسلت أخته لتقصه، وتعمل الأسباب المناسبة لتلك الحال.
· ومنها: جواز خروج المرأة في حوائجها وتكليمها للرجال إذا انتفى المحذور، كما صنعت أخت موسى وابنتا صاحب مدين.
· ومنها: جواز أخذ الأجرة على الكفالة والرضاع، كما فعلت أم موسى، فإن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد من شرعنا ما ينسخه
.
v الفوائد من قصة موسى مع القبطي .
· أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف لا يجوز، فإن موسى ندم على قتله القبطي، واستغفر الله منه وتاب إليه.
· أن الذي يقتل النفوس بغير حق يعد من الجبارين المفسدين في الأرض، ولو كان غرضه من ذلك الإرهاب، ولو زعم أنه مصلح حتى يرد الشرع بما يبيح قتل النفس.
· أن إخبار الغير بما قيل فيه وعنه على وجه التحذير له من شر يقع به لا يكون نميمة، بل قد يكون واجبا، كما ساق الله خبر ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى محذِّرا لموسى على وجه الثناء عليه.
· إذا خاف التلف بالقتل بغير حق في إقامته في موضع، فلا يلقي بيده إلى التهلكة ويستسلم للهلاك، بل يفرّ من ذلك الموضع مع القدرة كما فعل موسى.
· إذا كان لا بد من ارتكاب إحدى مفسدتين تعين ارتكاب الأخف منهما، الأسلم دفعا لما هو أعظم وأخطر، فإن موسى لما دار الأمر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل، أو ذهابه إلى بعض البلدان البعيدة التي لا يعرف الطريق إليها، وليس معه دليل يدله غير هداية ربه، ومعلوم أنها أرجى للسلامة، لا جرم آثرها موسى.
.
v الفوائد من مواقف موسى حال توجهه وتواجده في مدين .
· فيه تنبيه لطيف على أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى العمل أو التكلم به، إذا لم يترجح عنده أحد القولين، فإنه يستهدي ربه، ويسأله أن يهديه إلى الصواب من القولين بعد أن يقصد الحق بقلبه ويبحث عنه، فإن الله لا يخيب من هذه حاله، كما جرى لموسى لما قصد تلقاء مدين ولا يدري الطريق المعين إليها قال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]وقد هداه الله وأعطاه ما رجاه وتمناه.
· أن الرحمة والإحسان على الخلق، من عرفه العبد ومن لا يعرفه، من أخلاق الأنبياء، وأن من جملة الإحسان الإعانة على سقي الماشية، وخصوصا إعانة العاجز، كما فعل موسى مع ابنتي صاحب مدين حين سقى لهما لما رآهما عاجزتين عن سقي ماشيتهما قبل صدور الرعاة.
· أن الله كما يحب من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته، ونعمه العامة والخاصة، فإنه يحب منه أن يتوسل إليه بضعفه وعجزه وفقره، وعدم قدرته على تحصيل مصالحه، ودفع الأضرار عن نفسه كما قال موسى:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]لما في ذلك من إظهار التضرع والمسكنة، والافتقار لله الذي هو حقيقة كل عبد.
· أن الحياء والمكافأة على الإحسان لم يزل دأب الأمم الصالحين.
· أن العبد إذا عمل العمل لله خالصا، ثم حصل به مكافأة عليه بغير قصده فإنه لا يلام على ذلك، ولا يخل بإخلاصه وأجره، كما قبل موسى مكافأة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يطلبه، ولم يستشرف له على معاوضة.
· جواز الإجارة على كل عمل معلوم في نفع معلوم أو زمن مسمى، وأن مرد ذلك إلى العرف، وأنه تجوز الإجارة وتكون المنفعة البضع، كما قال صاحب مدين:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27]
· وأنه يجوز للإنسان أن يخطب الرجل لابنته، ونحوها ممن هو ولي عليها ولا نقص في ذلك، بل قد يكون نفعا وكمالا، كما فعل صاحب مدين مع موسىى
· ومنها قوله:
{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26 ، هذان الوصفان بهما تمام الأعمال كلها، فكل عمل من الولايات أو من الخدمات أو من الصناعات، أو من الأعمال التي القصد منها الحفظ والمراقبة على العمال والأعمال إذا جمع الإنسان الوصفين، أن يكون قويا على ذلك العمل بحسب أحوال الأعمال، وأن يكون مؤتمنا عليه، تم ذلك العمل وحصل مقصوده وثمرته، والخلل والنقص سببه الإخلال بهما أو بأحدهما.
· من أعظم مكارم الأخلاق تحسين الخلق مع كل من يتصل بك من خادم وأجير وزوجة وولد ومعامل وغيرهم، ومن ذلك تخفيف العمل عن العامل لقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]
· وفيه أنه لا بأس أن يرغب المعامل في معاملته بالمعاوضات والإجارات بأن يصف نفسه بحسن المعاملة بشرط أن يكون صادقا في ذلك.
· جواز عقد المعاملات من إجارة وغيرها بغير إشهاد لقوله: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28]
· وتقدم أن الإشهاد تنحفظ به الحقوق، وتقل المنازعات، والناس في هذا الموضع درجات متفاوتة وكذلك الحقوق.
ما يستفاد من وجود الآيات البينات لموسى والنبيين عموما .
· تأييد الأنبياء ونجاجتهم من أعدائهم
· اليقين وإقامة الحجة على كل من شاهد وعاين هذه الآيات والمعجزات
· الدليل على وحدانية الله وكمال قدرته وأن أقداره لا يخرج عنها شئ
· الكرامات والمعجزات لا تنافي الأسباب الكونية المعهودة وأن سنة الله قسمان :
- أن معظم الحوادث والأمور خاضعة لقانون السببية ولا تخرج أيضا عن قدرة الله وقضائه ، وفي ذلك الحث على الأخذ بالأسباب مع عدم التعلق بها والاستعانة بالله في الإتيان بالنتائج.
- معجزات وكرامات الأنبياء الخارة للعادة والقوانين الكونية ويدخل فيه ما يكرم الله به عباده من إجابة الدعوات، وتفريج الكربات، وحصول المطالب المتنوعة، ودفع المكاره التي لا قدرة للعبد على دفعها، والفتوحات الربانية، والإلهامات الإلهية، والأنوار التي يقذفها الله في قلوب خواص خلقه، فيحصل لهم بذلك من اليقين والطمأنينة والعلوم المتنوعة ما لا يدرك بمجرد الطلب وفعل السبب، ومن نصره للرسل وأتباعهم، وخذلانه لأعدائهم وهو مشاهد في كثير من الأوقات ، فهذا القسم لا يدرك بالخبرات ولا يتوصل إليه بشئ من قبل العباد .
· الكلام عن معجزات وكرامات الأنبياء مهم لأمرين :
1- أن الزنادقة الملحدين المتأخرين أنكروا كل ما يعارض أو ينافي ما يجدوه بحواسهم وما تدركه عقولهم ، وزعوا أن الكون وليد الصدفة وأنه آلة تعمل بذاتها بلا رب ولا مدبر ولا خالق .
2- بعض أهل العلم المعاصرين أرادوا الرد عليهم ولكنهم ضلوا في هذا الباب وأضلوا لأنهم أرادوا أن يطبقوا السنن الإلهية وأمور الآخرة على ما يعرفه العباد بحواسهم، ويدركونه بتجاربهم، فحرفوا لذلك المعجزات، وأنكروا الآيات البينات .
الفوائد من قصة فرعون وملئه وموقف موسى منه:
- من أعظم العقوبات على العبد أن يكون إماما في الشر وداعيا إليه، كما أن من أعظم نعم الله على العبد أن يجعله إماما في الخير هاديا مهديا، قال تعالى في فرعون وَمَلَئه:
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]
وقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]
- أن الذي ينبغي في مخاطبة الملوك والرؤساء ودعوتهم وموعظتهم: الرفق والكلام اللين الذي يحصل به الإفهام بلا تشويش ولا غلظة، وهذا يحتاج إليه في كل مقام، لكن هذا أهم المواضع؛ وذلك لأنه الذي يحصل به الغرض المقصود، وهو قوله:
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]
ما يستفاد من قوله تعالى عن جواب موسى لربه لما سأله عن العصا
· استحبابُ استصحاب العصا لما فيه من هذه المنافع المعينة والمجملة في قوله: {مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]
· الرحمة بالبهائم، والإحسان إليها، والسعي في إزالة ضررها
موقف موسى مع هارون
إحسان موسى صلى الله عليه وسلم على أخيه هارون، إذ طلب من ربه أن يكون نبيا معه، وطلب المعاونة على الخير والمساعدة عليه إذ قال:
{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي - هَارُونَ أَخِي - اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي - وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 - 32
تكرار الكلام عن الذكر في قصة موسى .
أن قوله جلَّ ذكره: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أي أن ذكر العبد لربه هو الذي خُلق له العبد، وبه صلاحه وفلاحه، وأن المقصود من إقامة الصلاة إقامة هذا المقصود الأعظم، ولولا الصلاة التي تتكرر على المؤمنين في اليوم والليلة لتذكِّرهم بالله، ويتعاهدون فيها قراءة القرآن، والثناء على الله، ودعائه والخضوع له الذي هو روح الذكر، لولا هذه النعمة لكانوا من الغافلين.
وكما أن الذكر هو الذي خلق الخلق لأجله، والعبادات كلها ذكر لله، فكذلك الذكر يعين العبد على القيام بالطاعات وإن شَقَّت، ويهون عليه الوقوف بين يدي الجبابرة، ويخفف عليه الدعوة إلى الله، قال تعالى في هذه القصة:
{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا - وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 33 - 34]
وقال: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42]
الفصاحة والبيان مما يعين على الدعوة
الفصاحة والبيان مما يعين على التعليم، وعلى إقامة الدعوة، لهذا طلب موسى من ربه أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وأن اللثغة لا عيب فيها إذا حصل الفهم للكلام، ومن كمال أدب موسى مع ربه أنه لم يسأل زوال اللثغة كلها، بل سأل إزالة ما يحصل به المقصود.
معية الله لعبادة المؤمنين
من كان في طاعة الله، مستعينا بالله، واثقا بوعد الله، راجيا ثواب الله، فإن الله معه، ومن كان الله معه فلا خوف عليه، لقوله تعالى:
{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]
وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]
أسباب العذاب وأسباب الغفران .
- أسباب العذاب منحصرة في هذين الوصفين:
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]
أي: كذب خبر الله وخبر رسله، وتولى عن طاعة الله وطاعة رسله، ونظيرها قوله تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15 - 16]
-استوعب الله الأسباب التي تدرك بها مغفرة الله في قوله :
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]
* أحدها: التوبة، وهو الرجوع عما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه الله ظاهرا وباطنا، وهي تَجُبُّ ما قبلها من الذنوب صغارها وكبارها.
* الثاني: الإيمان، وهو الإقرار والتصديق الجازم العام بكل ما أخبر الله به ورسوله، الموجب لأعمال القلوب، ثم تتبعها أعمال الجوارح، ولا ريب أن ما في القلب من الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر الذي لا ريب فيه أصلُ الطاعات وأكبرها وأساسها، ولا ريب أنه بحسب قوته يدفع السيئات، يدفع ما لم يقع فيمنع صاحبه من وقوعه، ويدفع ما وقع بالإتيان بما ينافيه وعدم إصرار القلب عليه، فإن المؤمن ما في قلبه من الإيمان ونوره لا يجامع المعاصي.
* الثالث: العمل الصالح، وهذا شامل لأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، والحسنات يذهبن السيئات.
* الرابع: الاستمرار على الإيمان والهداية والازدياد منها، فمن كمل هذه الأسباب الأربعة فَلْيُبْشر بمغفرة الله العامة الشاملة؛ ولهذا أتى فيه بوصف المبالغة فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} [طه: 82]
الدلالة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
في هذه القصة من الدلالة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إذ أخبر بهذه القصة وغيرها خبرا مفصَّلا مطابقا وتأصيلا موافقا، قصه قصًّا صدق به المرسلين، وأيد به الحق المبين، وهو لم يحضر في شيء من تلك المواضع، ولا درس شيئا عرف به أحوال هذه التفصيلات، ولا جالس وأخذ عن أحد من أهل العلم، إن هو إلا رسالة الرحمن الرحيم، ووحي أنزله عليه الكريم المنان ينذر به العباد أجمعين، ولهذا يقول في آخر هذه القصة:
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} [القصص: 46]
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: 44]
{وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: 45]
وهذا نوع من أنواع براهين رسالته.
5. قصة أصحاب الكهف.
التعريف بأصحاب الكهف
هم فتية وفقهم الله، وألهمهم الإيمان، وعرفوا ربهم، وأنكروا ما عليه قومهم من عبادة الأوثان، وقاموا بين أظهرهم معلنين فيما بينهم عقيدتهم، خائفين من سطوة قومهم فقالوا:
{رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14]
{شَطَطًا} [الكهف: 14]
{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]
سبب توجههم للكهف
أرادوا الهروب بدينهم خوفا من بطش قومهم ،واتفقوا على هذا الأمر، وعرفوا أنهم لا يمكنهم إظهار ذلك لقومهم سألوا الله أن يسهل أمرهم فقالوا:
{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]
فأووا إلى غار يسره الله غاية التيسير
وصف الكهف وكيف كان مكوثهم واستيقاظهم فيه.
كان الكهف واسع الفجوة، بابه نحو الشمال لا تدخله الشمس، لا في طلوعها ولا في غروبها، فناموا في كهفهم بحفظ الله ورعايته ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا، وقد ضرب الله عليهم نطاقا من الرعب على قربهم من مدينة قومهم، ثم إنه في الغار تولى حفظهم بقوله:
{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18]
وذلك لئلا تُبلي الأرضُ أجسادهم، ثم أيقظهم بعد هذه المدة الطويلة: {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف: 19]
الفوائد من قصة أصحاب الكهف
- أن قصة أصحاب الكهف وإن كانت عجيبة فليست من أعجب آيات الله، فإن لله آيات عجيبة وقصصا فيها عبرة للمعتبرين.
- أن من أوى إلى الله أواه الله، ولطف به، وجعله سببا لهداية الضالين؛ فإن الله لطف بهم في هذه القومة الطويلة إبقاء على إيمانهم وأبدانهم من فتنة قومهم وقتلهم، وجعل هذه النومة من آياته التي يستدل بها على كمال قدرة الله، وتنوع إحسانه، وليعلم العباد أن وعد الله حق.
- الحث على تحصيل العلوم النافعة والمباحثة فيها؛ لأن الله بعثهم لأجل ذلك، وببحثهم ثم بعلم الناس بحالهم حصل البرهان والعلم بأن وعد الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها.
- الأدب فيمن اشتبه عليه العلم أن يرده إلى عالمه، وأن يقف عند ما يعرف.
- صحة الوكالة في البيع والشراء وصحة الشركة في ذلك، لقولهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19]
- جواز أكل الطيبات، والتخير من الأطعمة ما يلائم الإنسان ويوافقه، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه، لقوله: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19]
- الحث والتحرز والاستخفاء، والبعد عن مواقع الفتن في الدين، واستعمال الكتمان الذي يدرأ عن الإنسان الشر.
- بيان رغبة هؤلاء الفتية في الدين، وفرارهم من كل فتنة في دينهم، وتركهم لأوطانهم وعوائدهم في الله.
- ذكر ما اشتمل عليه الشر من المضار والمفاسد الداعية لبغضه وتركه، وأن هذه الطريقة طريقة المؤمنين.
- أن قوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] فيه دليل على أن هؤلاء القوم الذين بعثوا في زمانهم أناس أهل تدين؛ لأنهم عظموهم هذا التعظيم حتى عزموا على اتخاذ مسجد على كهفهم، وهذا إن كان ممنوعا - وخصوصا في شريعتنا - فالمقصود بيان أن ذلك الخوف العظيم من أهل الكهف وقت إيمانهم ودخولهم في الغار أبدلهم الله به بعد ذلك أمنا وتعظيما من الخلق، وهذه عوائد الله فيمن تحمل المشاق من أجله أن يجعل له العاقبة الحميدة.
- أن كثرة البحث وطوله في المسائل التي لا أهمية لها لا ينبغي الانهماك به لقوله: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22]
- أن سؤال من لا علم له في القضية المسئول فيها أو لا يثق به منهي عنه لقوله: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]).
6. قصة نبيّنا محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
أهمية سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في معرفة تفسير كتاب الله .
الحكمة من إنزال القرآن مفرقا :
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا - وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32 - 33]
وقال: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود: 120]
حال النبي قبل البعثة
قبل البعثة قد بغضت إليه عبادة الأوثان، وبغض إليه كل قول قبيح وفعل قبيح،
وفطر صلى الله عليه وسلم فطرة مستعدة متهيئة لقول الحق علما وعملا،
والله تعالى هو الذي طهّر قلبه وزكاه وكمّله،
فكان من رغبته العظيمة فيما يقرب إلى الله أنه كان يذهب إلى غار حراء الأيام ذوات العدد، ويأخذ معه طعاما يطعم منه المساكين ويتعبَّد ويتحنث فيه،
فقلبه في غاية التعلق بربه، ويفعل من العبادات ما وصل إليه علمه في ذلك الوقت الجاهلي الخالي من العلم، ومع ذلك فهو في غاية الإحسان إلى الخلق.
بدء نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم .
فأول ما أنزل الله عليه:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]
فجاءه بها جبريل وقال له: اقرأ، فأخبره أنه ليس بقارئ - أي لا يعرف أن يقرأ - كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]
وتفسيرها الآية الأخرى:
{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]
فغطه جبريل مرتين أو ثلاثا ليهيئه لتلقي القرآن العظيم، ويتجرد قلبه وهمته وظاهره وباطنه لذلك، فنزلت هذه السورة التي فيها نبوته، وأمره بالقراءة باسم ربه، وفيها أصناف نعمه على الإنسان بتعليمه البيان العلمي والبيان اللفظي والبيان الرسمي، فجاء بها إلى خديجة ترعد فرائصه من الفرَق، وأخبرها بما رآه وما جرى عليه، فقالت خديجة رضي الله عنها: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، أي: ومن كانت هذه صفته فإنها تستدعي نعما من الله أكبر منها وأعظم، وكان هذا من توفيق الله لها ولنبيه، ومن تهوين القلق الذي أصابه.
وبهذه السورة ابتدأت نبوته,
فترة الوحي
بعد نزول الوحي على النبي وابتداء نبوته فتر عنه الوحي فترة حتى يشتاق إليه .
رأى جبريل بعدها على صورته الحقيقة .
جاء إلى خديجة خائفا منزعجا فقال: «دثروني دثروني» فأنزل الله عليه:
{يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]
فكان ذلك أمراً له بدعوة الخلق وإنذارهم ، فشمر صلى الله عليه وسلم عن عزمه، وبهذه السورى ابتدأت رسالته .
وصمم على الدعوة إلى ربه مع علمه أنه سيقاوم بهذا الأمر البعيد والقريب،
لكن الله أيَّده وقوَّى عزمه، وأيَّده بروح منه، وبالدين الذي جاء به.
ولما فتر الوحي مرة أخرى فرح المشركون وقالوا " إن رب محمد قلاه". قال:
{وَالضُّحَى - وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1 - 3] إلى آخرها. [الضحى: 1 - 3 وما بعدها] ، فبين به الله تباركط وتعالى عنايته بنبيه ووبشارته بأن كل حال له أحسن مما قبله .
التوحيد والدعوة إليه أعظم مقامات النبي صلى الله عليه وسلم.
أعظم مقامات النبي على الله عليه وسلم هو دعوته إلى التوحيد الخالص ونهيه عن الشرك
عني القرآن بالتوحيد أشد عناية فغالب السور المكية تدور عليه.
عاند المشركون دعوة النبي إلى توحيد الله أشد معاندة وقابلوه بالجحد والتكذيب.
الحكمة من إضلال المضلين وهداية المهتدين .
* أخبر الله عن جزاء المعادين لدين الله المستمعين للقرآن على وجه التكذيب والجحد والكفر أنه أضلهم وأعمى أبصارهم حتى لا يفقهوه جزاء لما اختاروه لانفسهم من الضلال قال تعالى:
{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 30]
*أما المؤمنين المهتدين الطالبين للحق على سبيل الانصاف فقد هداهم الله وازدادت به علومهم ومعارفهم وإيمانهم وهدايتهم المتنوعة، قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]
مقامات النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته للكافرين .
موقفهم من دعوته
فأنزل الله على رسوله آيات كثيرة في هذا المعنى يبين حالهم مع سماع القرآن وشدة نفورهم كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وأن شياطينهم ورؤساءهم في الشر فكروا وقدروا ونظروا فيما يقولون عن القرآن ويصفونه به؛ لينفروا عنه الناس.
وكانوا من إفكهم يقولون في القرآن الأقوال المتناقضة، يقولون: إنه سحر، إنه كهانة، إنه شعر، إنه كذب، إنه أساطير؛ فجعلوا القرآن عضين،
وكلما قالوا قولا من هذه الأقوال أنزل الله آيات يبطل بها ما قالوا، ويبين زورهم وافتراءهم وتناقضهم.
يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم الأقوال التي ليس فيها دلالة على ما كانوا يعتقدون، وليس فيها نقص بالنبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: لو أن محمدا صادق لأنزل الله ملائكة يشهدون له بذلك، ولأغناه الله عن المشي في الأسواق، وطلب الرزق كما يطلبه غيره، ولجعل له كذا وكذا ، ويقدحون في الرسول قدحا يعترضون فيه على الله، وأنه لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، ومحمد ليس كذلك، وأنك يا محمد لست بأولى بفضل الله منا، فلأي شيء تفضل علينا بالوحي؟.
كانوا يقترحون الآيات بحسب أهوائهم، ويقولون: إن كنت صادقا فأتنا بعذاب الله، أو بما تعدنا، أو أزل عنا جبال مكة، واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا، وحتى يحصل لك كذا وكذا مما ذكره الله عنهم، فيجيبهم الله عن هذه الأقوال بأن رسوله صلى الله عليه وسلم قد أيده الله بالآيات.
يسعون أشد السعي أن يكف عن عيب آلهتهم، والطعن في دينهم، ويحبون أن يتاركهم ويتاركوه، لعلمهم أنه إذا ذكر آلهتهم، ووصفها بالصفات التي هي عليه من النقص، وأنه ليس فيها شيء من الصفات يوجب أن تستحق شيئا من العبادة، يعرفون أن الناس يعرفون ذلك، ويعترفون به مثل قوله:
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].
مقامات النبي صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين .
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المؤمنين بالرأفة والرحمة العظيمة، والمحبة التامة، والقيام معهم في كل أمورهم، وأنه لهم أرحم وأرأف من آبائهم وأمهاتهم، وأحنى عليهم من كل أحد، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]
الإسراء والمعراج
-أُسْرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ ليريه من آياته، وعرج به إلى فوق السماوات السبع.
- وفرض الله عليه الصلوات الخمس بأوقاتها وهيئاتها.
- وجاءه جبريل على أثرها فعلَّمه أوقاتها وكيفيَّاتها، وصلى به يومين، اليوم الأول صلَّى الصلوات الخمس في أول وقتها، واليوم الثاني في آخر الوقت، وقال: الصلاة ما بين هذين الوقتين، ففرضت الصلوات الخمس قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين.
ولم يفرض الأذان في ذلك الوقت، ولا بقية أركان الإسلام.
الهجرة إلى المدينة ومقدماتها .
سبب انتشار الإسلام في المدينة وما حولها أن الأوس والخزرج كان اليهود في المدينة جيرانا لهم، وقد أخبروهم أنهم ينتظرون نبيا قد أظل زمانه، وذكروا من أوصافه ما دلهم عليه؛ فبادر الأوس والخزرج واجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة وتيقنوا أنه رسول الله، وأما اليهود فاستولى عليهم الشقاء والحسد، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
كان المسلمون في مكة في أذى شديد من قريش، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة أولا إلى الحبشة.
لما أسلم كثير من أهل المدينة صارت الهجرة إلى المدينة.
خاف أهل مكة من هذه الحال اجتمع ملؤهم ورؤساؤهم في دار الندوة يريدون القضاء التام على النبي صلى الله عليه وسلم.
اتفق رأيهم أن ينتخبوا من قبائل قريش من كل قبيلة رجلا شجاعا ، فيجتمعون ويضربونه بسيوفهم ضربة واحدة. قالوا: لأجل أن يتفرق دمه في القبائل، فتعجز بنو هاشم عن مقاومة سائر قريش فيرضون بالدية،
جاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعزم على الهجرة، وأخبر أبا بكر بذلك وطلب منه الصحبة، فأجابه إلى ذلك ،وأمر عليًّا أن ينام على فراشه، وخرج هو وأبو بكر إلى الغار، فلم يزالوا يرصدونه حتى برق الفجر، فخرج إليهم عليّ فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري.
ثم ذهبوا يطلبونه في كل وجهة، وجعلوا الجعالات الكثيرة لمن يأتي به، فقال أبو بكر: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وأنزل الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]
فهاجر إلى المدينة واستقر بها.
الإذن بالقتال بعد منعه
أذن له في القتال بعدما كان قبل الهجرة ممنوعا لحكمة مشاهدة، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]
وجعل يرسل السرايا.
فرض الصيام والزكاة
لما كانت السنة الثانية فرض الله على العباد الزكاة والصيام، فآيات الصيام والزكاة إنما نزلت في هذا العام وقت فرضها.
أما قوله تعالى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6 - 7]
فإن المراد زكاة القلب وطهارته بالتوحيد وترك الشرك.
غزوة بدر
في السنة الثانية كانت وقعة بدر.
وسببها : أن عيرا لقريش تحمل تجارة عظيمة من الشام، خرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن خف من أصحابه لطلبها، فخرجت قريش لحمايتها، وتوافوا في بدر على غير ميعاد، فالعير نجت والنفير التقوا مع الرسول وأصحابه، وكانوا ألفا كاملي العدد والخيل، والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر على سبعين بعيرا يعتقبونها، فهزم الله المشركين هزيمة عظيمة، قتلت سرواتهم وصناديدهم، وأُسر من أُسر منهم، وأصاب المشركين مصيبة ما أُصيبوا بمثلها.
وهذه الغزوة أنزل الله فيها وفي تفاصيلها سورة الأنفال، وبعدما رجع إلى المدينة منها مظفرا منصورا ذل من بقي ممن لم يُسلم من الأوس والخزرج، ودخل بعضهم في الإسلام نفاقا، ولذلك جميع الآيات نزلت في المنافقين إنما كانت بعد غزوة بدر.
غزوة أحد
في السنة الثالثة كانت غزوة أحد.
غزا المشركون وجيشوا الجيوش على المسلمين حتى وصلوا إلى أطراف المدينة، وخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وعبأهم ورتبهم، والتقوا في أُحد عند الجبل المعروف شمالي المدينة، وكانت الدائرة في أول الأمر على المشركين، ثم لما ترك الرماة مركزهم الذي رتبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: لا تبرحوا عنه، ظهَرنا أو غُلبنا، وجاءت الخيل مع تلك الثغرة وكان ما كان، حصل على المسلمين في أُحد مقتلة أكرمهم الله بالشهادة في سبيله.
وذكر الله تفصيل هذه الغزوة في سورة آل عمران، وبسط متعلقاتها، فالوقوف على هذه الغزوة من كتب السير يعين على فهم الآيات الكثيرة التي نزلت فيها كبقية الغزوات.
تواعد المسلمين والمشركين في بدر في السنة الرابعة من الهجرة
في السنة الرابعة تواعد المسلمون والمشركون فيها - في بدر - فجاء المسلمون لذلك الموعد، وتخلف المشركون معتذرين أن السنة مجدبة، فكتبها الله غزوة للمسلمين:
{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]
غزوة الخندق
في سنة خمس كانت غزوة الخندق.
اتفق أهل الحجاز وأهل نجد، وظاهرهم بنو قريظة من اليهود على غزو النبي صلى الله عليه وسلم، وجمعوا ما يقدرون عليه من الجنود، فاجتمع نحو عشرة آلاف مقاتل وقصدوا المدينة.
ولما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم خندق على المدينة، وخرج المسلمون نحو الخندق.
وجاء المشركون كما وصفهم الله بقوله:
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]
ومكثوا محاصرين المدينة عدة أيام.
حال الخندق بينهم وبين اصطدام الجيوش، وحصل مناوشات يسيرة بين أفراد من الخيل، - وسبب الله عدة أسباب لانخذال المشركين، ثم انشمروا إلى ديارهم،
لما رجع المشركون خائبين لم ينالوا ما كانوا جازمين على حصوله، تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة الذين ظاهروا المشركين بقولهم وتشجيعهم على قصد المدينة، ومظاهرتهم الفعلية ونقضهم ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فحاصرهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وفي هذه الغزوة أنزل الله صدر سورة الأحزاب من قوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27]
صلح الحديبية
في سنة ست من الهجرة اعتمر صلى الله عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية، وكان البيت لا يُصدُّ عنه أحد، وعزم المشركون على صد النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
لما بلغ الحديبية ورأى المشركين قد أخذتهم الحمية الجاهلية جازمين على القتال دخل معهم في صلح لحقن الدماء في بيت الله الحرام، ولما في ذلك من المصالح.
وصار الصلح على أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم عامه هذا ولا يدخل البيت، ويكون القضاء من العام المقبل، وتضع الحرب أوزارها بينهم عشر سنين.
كره جمهور المسلمين هذا الصلح حين توهموا أن فيه غضاضة على المسلمين، ولم يطلعوا على ما فيه من المصالح الكثيرة.
رجع صلى الله عليه وسلم عامه ذلك، وقضى هذه العمرة في عام سبع من الهجرة، فأنزل الله في هذه القضية سورة الفتح بأكملها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]
ما أحل ببني النضير
فتح مكة
غزوة تبوك
وفي سنة تسع من الهجرة غزا تبوك .
ولم يتخلف إلا أهل الأعذار وأناس من المنافقين، وثلاثة من صلحاء المؤمنين: كعب بن مالك وصاحباه، وكان الوقت شديدا، والحر شديدا، والعدو كثيرا، والعسرة مشتدة، فوصل إلى تبوك ومكث عشرين يوما ولم يحصل قتال فرجع إلى المدينة.
أنزل الله في هذه الغزوة آيات كثيرة من سورة التوبة، يذكر تعالى تفاصيلها وشدتها، ويثني على المؤمنين، ويذم المنافقين وتخلفهم، ويذكر توبته على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، ويدخل معهم الثلاثة الذين خلفوا بعد توبتهم وإنابتهم.
في مطاوي هذه الغزوات يذكر الله آيات الجهاد وفرضه وفضله وثواب أهله، وما للناكلين عنه من الذل العاجل والعقاب الآجل، كما أنه في أثناء هذه المدة ينزل الله الأحكام الشرعية شيئا فشيئا بحسب ما تقتضيه حكمته.
فرض الحج
وفي سنة تسع من الهجرة أو سنة عشر فرض الله الحج على المسلمين
كان أبو بكر حج بالناس سنة تسع، ونبذ إلى المشركين عهودهم، وأتم عهود الذين لم ينقضوا.
ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سنة عشر واستوعب المسلمين معه، وأعلمهم بمناسك الحج والعمرة بقوله وفعله، وأنزل الله الآيات التي في الحج وأحكامه، وأنزل الله يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3])