فصل
قال أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت:728هـ) : (فصل
وبهذا يتبين أن محبة الله توجب المجاهدة في سبيله قطعا فإن من أحب الله وأحبه الله أحب ما يحبه الله وأبغض ما يبغضه الله ووالي من يواليه الله وعادي من يعاديه الله لا تكون محبة قط إلا وفيها ذلك بحسب قوتها وضعفها فإن المحبة توجب الدنو من المحبوب والبعد عن مكروهاته ومتى كان مع المحبة نبذ ما يبغضه المحبوب فإنها تكون تامة
وأما موادة عدوه فإنها تنافي المحبة قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} فأخبر أن المؤمن الذي لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما في الحديث المتفق عليه والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين لا تجده موادا لمن حاد الله ورسوله فإن هذا جمع بين الضدين لا يجتمعان ومحبوب الله ومحبوب معاديه لا يجتمعان.
فالمحب له لو كان موادا لمحاده لكان محبا لاجتماع مراد المتحادين المتعاديين وذلك ممتنع ولهذا لم تصلح هذه الحالة إلا لله ورسوله فإنه يجب على العبد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ولا يكون مؤمنا إلا بذلك ولا تكون هذه المحبة مع محبة من يحاد الله ورسوله ويعاديه أبدا فلا ولاء لله إلا بالبراءة من عدو الله ورسوله
وأما المؤمنون الذين قد يقاتل بعضهم بعضا فأولئك ليسوا متحادين من كل وجه فإن مع كل منهما من الإيمان ما يحب عليه الآخر وإن كان يبغضه أيضا فيجتمع فيهما المحبة والبغضة وكذلك كل منهما لا يجب أن تكون جميع أفعاله موافقة لمحبة الله وجميع أفعال الآخر موافقة لبغض الله بل لا بد أن يفعل أحدهما ما لا يحبه الله وإن لم يبغضه ولا بد أن يكون في الآخر أيضا ما يحبه الله إذ هو مؤمن فيجب أن يعطي كل واحد من المحبة بقدر إيمانه ولا يجب أن يحب من أحدهما ما لا يحبه وإن كان لا يبغضه بل ولا يحب من واحدهما ما كان خطأ أو ذنبا مغفورا وإن كان لا يبغض على ذلك فلا يحب إلا ما أحبه الله ورسوله فيحب ما كان من اجتهاده من عمل صالح
وهذا الذي ذكرناه أمر يجده الإنسان من نفسه ويحسه أنه إذا أحب الشيء لم يحب ضده بل يبغضه فلا يتصور اجتماع إرادتين تامتين للضدين لكن قد يكون في القلب نوع محبة وإرادة لشيء ونوع محبة وإرادة لضده فهذا كثير بل هو غالب على بني آدم لكن لا يكون واحد منهما تاما فإن المحبة والإرادة التامة توجب وجود المحبوب المراد مع القدرة فإذا كانت القدرة حاصلة ولم يوجد المحبوب المراد لم يكن الحب والإرادة تامة وكذلك البغض التام يمنع وجود البغيض مع القدرة فمتي وجد مع إمكان الامتناع لم يكن البغض تاما
ومن هنا يعرف أن قول النبي صلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" , على بابه لو كان بغضه لما أبغضه الله من هذه الأفعال تاما لما فعلها فإذا فعلها فإما أن يكون تصديقه بأن الله يبغضها فيه ضعف أو نفس بغضه لما يبغضه الله فيه ضعف وكلاهما يمنع تمام الإيمان الواجب
ومحبة الله ورسوله على درجتين واجبة وهي درجة المقتصدين ومستحبة وهي درجة السابقين.
فالأولى تقتضي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما بحيث لا يحب شيئا يبغضه كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وذلك يقتضي محبة جميع ما أوجبه الله تعالى وبغض ما حرمه الله تعالى وذلك واجب فإن إرادة الواجبات إرادة تامة تقتضي وجود ما أوجبه كما تقتضي عدم الأشياء التي نهي الله عنها وذلك مستلزم لبغضها التام.
فيجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه الله قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ}.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ}.
وأما محبة السابقين بأن يحب ما أحبه الله من النوافل والفضائل محبة تامة وهذه حال المقربين الذين قربهم الله إليه فإذا كانت محبة الله ورسوله الواجبة تقتضي بغض ما أبغضه الله ورسوله كما في سائر أنواع المحبة فإنها توجب بغض الضد علم أن الجهاد من موجب محبة الله ورسوله فإن مقصود الجهاد تحصيل ما أحبه الله ودفع ما أبغضه الله.
فمن لم يكن فيه داع إلى الجهاد فلم يأت بالمحبة الواجبة قطعا كان فيه نفاق كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق".
وكذلك جمع بينهما في قوله تعالى {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ. يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فقرنه بالمحبة في الآيتين من قوله {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْر} وفي قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فأخبر أن القوم الذين يحبهم الله ورسوله هم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم كما قال تعالى: في الآية الأخرى {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فوصفهم بالذلة والرحمة لأوليائه إخوانهم والعزة والشدة على أعدائه أعدائهم وأنهم يجاهدون في سبيل الله.
والجهاد من الجهد وهو الطاقة وهو أعظم من الجهد الذي هو المشقة فإن الضم أقوي من الفتح وكلما كانت الحروف أو الحركات أقوي كان المعني أقوي.
ولهذا كان الجُرح أقوي من الجَرح فإن الجُرح هو المجروح نفسه وهو غير الجرَح مصدر وهو فعل.
وكذلك الكره والمكروه والمكره كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}.
فالجهد نهاية الطاقة والقدرة قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}.
وفي الحديث: "أفضل الصدقة جهد من مقل يسره إلى فقير" ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الجهاد سنام العمل" فإنه أعلى الإرادات في نهاية القدرة وهذا هو أعلى ما يكون من الإيمان كالسنام الذي هو أعلي ما في البعير وقد يكون بمشقة وقد لا يكون، وأما الجهد فهو المشقة وإن لم يكن تمام القدرة.
فالجهاد في سبيل الله تعالى من الجهد وهي المغالبة في سبيل الله بكمال القدرة والطاقة فيتضمن شيئين أحدهما استفراغ الوسع والطاقة والثاني أن يكون ذلك في تحصيل محبوبات الله ودفع مكروهاته والقدرة والإرادة بهما يتم الأمر
وهنا انقسم الناس أربعة أقسام فقوم لهم قدرة ولهم إرادة ومحبة غير مأمور بها فهم يجاهدون ويستعملون جهدهم وطاقتهم لكن لا في سبيل الله بل في سبيل آخر إما محرمة كالفواحش ما ظهر منها وما وبطن والإثم والبغي بغير الحق والإشراك بالله ما لم ينزل به سلطانا والقول على الله بغير علم الحق.
وإما في سبيل لا ينفع عند الله مما جنسه مباح لا ثواب فيه لكن الغالب أن مثل هذا كثيرا ما يقترن به من الشبه ما يجعله في سبيل الله أو في سبيل الشيطان.
وقوم لهم إرادة صالحة ومحبة كاملة لله ولهم أيضا قدرة كاملة فهؤلاء سادة المحبين المحبوبين المجاهدين في سبيل الله لا يخافون لومة لائم كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة
والقسم الثالث قوم فيهم إرادة صالحة ومحبة لله قوية تامة لكن قدرتهم ناقصة فهم يأتون بمحبوبات الحق من مقدورهم ولا يتركون مما يقوون عليه شيئا لكن قدرتهم قاصرة ومحبتهم كاملة فهو مع القسم الذي قبله
وما زال في المؤمنين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده من هؤلاء خلق كثير وفي مثل هؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا سلكتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر" وقال له سعد بن أبي وقاص يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم يسهم له مثلما يسهم لأضعفهم فقال: "يا سعد وهل تنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلواتهم واستغفارهم".
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وقال: "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" وهذا كثير.
والقسم الرابع من قدرته قاصرة وإرادته للحق قاصرة وفيه من إرادة الباطل ما الله به عليم فهؤلاء ضعفاء المجرمين ولكن قد يكون لهم من التأثير بقلوبهم نصيب وحظ مع أهل باطلهم كما يوجد في العلماء والعباد والزاهدين من المشركين وأهل الكتاب ومنافقي هذه الأمة ما فيه مضاهاة لعلماء المؤمنين وعبادهم وذلك أن الشيطان جعل لكل شيء من الخلق نظيرا في الباطل فإن أصل الشر هو الإشراك بالله كما أن أصل الخير هو الإخلاص لله
فإن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه وحده لا يشركوا به شيئا وبذلك أرسل الرسل وبه أنزل الكتب كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
والعبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل فالعابد محب خاضع بخلاف من يحب من لا يخضع له بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر وبخلاف من يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم فإن كلا من هذين ليس عبادة محضة وإن كل محبوب لغير الله ومعظم لغير الله ففيه شوب من العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش".
وذلك كما جاء في الحديث: "إن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل", مع أنه ليس في الأمم أعظم تحقيقا للتوحيد من هذه الأمة ولهذا كان شداد بن أوس يقول: يا نعايا العرب يا نعايا العرب إن أخوف ما أخوف عليكم الرياء والشهوة الخفية قال أبو داود الشهوة الخفية حب الرياسة.
وفي حديث الترمذي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" , قال الترمذي حديث حسن صحيح, والحرص يكون على قدر قوة الحب والبغض
وقد قال الله تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي إذا كان الشرك أخفى من دبيب النمل فكيف نتجنبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من قليله وكثيره قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم ", فأمره مع الاستعاذة من الشرك المعلوم بالاستغفار فإن الاستغفار والتوحيد بهما يكمل الدين.
كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}.
وفي الحديث: "إن الشيطان قال أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يستغفرون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" , وهذا كذلك فإن من اتخذ إلهه هواه صار يعبد من يهواه وقد زين له سوء عمله فرآه حسنا.
قال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً. قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}.
وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}
وكمال الدين هو أداء الواجبات وترك المحرمات والفعل والترك أصلهما الحب والبغض فإذا ترك مأمورا أو فعل محظورا فإنما هو لنقص الإيمان الذي هو التصديق وحب ما يحبه الله وبغض ما يبغضه الله
والمحبوبات على قسمين قسم يحب لنفسه وقسم يحب لغيره إذ لا بد من محبوب يحب لنفسه وليس شيء شرع أن يحب لذاته إلا الله تعالى وكذلك التعظيم لذاته تارة يعظم الشيء لنفسه وتارة يعظم لغيره وليس شيء يستحق التعظيم لذاته إلا الله تعالى
وكل ما أمر الله أن يحب ويعظم فإنما محبته لله وتعظيمه عبادة لله فالله هو المحبوب المعظم في المحبة والتعظيم المقصود المستقر الذي إليه المنتهي وأما ما سوي ذلك فيحب لأجل الله أي لأجل محبة العبد لله يحب ما أحبه الله.
فمن تمام محبة الشيء محبة محبوب المحبوب وبغض بغيضه ويشهد لهذا الحديث أوثق عري الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
وفي السنن: "من أحب لله وأبغض لله وأعطي لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان".
فمن أحب شيئا لذاته أو عظمه لذاته غير الله فذاك شرك به وإن أحبه ليتوصل به إلى محبوب آخر وتعظيم آخر سوى الله فهو من فروع هذا والله سبحانه لم يشرع أن يعبد الإنسان شيئا من دونه أو يتخذ إلها ليتوصل بعبادته كما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}
فمن أحب شيئا كما يحب الله أو عظمه كما يعظم الله فقد جعله لله ندا وإن كان يقول إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفي وأنهم شفعاؤنا عند الله.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} أي يحبونهم كما يحبون الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم لأنهم أخلصوا لله فلم يجعلوا المحبة مشتركة بينه وبين غيره فإن الاشتراك فيها يوجب نقصها والله لا يتقبل ذلك كما في الحديث الصحيح يقول الله تعالى " أنا أغني الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك"
فالمؤمن الذي يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لا بد أن يكون ما أحبه الله ورسوله أحب إليه مما لم يحبه الله ورسوله وأن يبغض ما يبغضه الله ورسوله فلا يكون ذلك البغيض أحب إليه من محبوب الله ورسوله
والحب التام منا مستلزم للإرادة التامة الموجبة للفعل مع القدرة والبغض التام منا مستلزم للكراهة التامة المانعة للقدرة فإذا كان العبد قادرا على محبات الحق ولا يفعلها فلضعف محبتها في قلبه أو وجود ما يعارض الحق مثل محبته لأهله وماله فإن ذلك قد يمنعه عن فعل محبوب الحق
كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا}
وقال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وقال له عمر: "والله يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي فقال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فأنت أحب إلى من نفسي قال الآن يا عمر" وهذان الحديثان في الصحيح.
فإن كانت واجبات نقص من درجة المقتصدين من أصحاب اليمين حتى يتوب أو يمحوها بشيء آخر وإن كانت نوافل فإنها من القرب بحسب ذلك
الإنسان لا يفعل الحرام إلا لضعف إيمانه ومحبته وإذا فعل مكروهات الحق فلضعف بعضها في قلبه أو لقوة محبتها التي تغلب بعضها فالإنسان لا يأتي شيئا من المحرمات كالفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق والشرك بالله مالم ينزل به سلطانا والقول على الله بغير علم إلا لضعف الإيمان في أصله أو كماله أو ضعف العلم والتصديق وإما ضعف المحبة والبغض
لكن إذا كان أصل الإيمان صحيحا وهو التصديق فإن هذه المحرمات يفعلها المؤمن مع كراهته وبغضه لها فهو إذا فعلها لغلبة الشهوة عليه فلا بد أن يكون مع فعلها فيه بغض لها وفيه خوف من عقاب الله عليها وفيه رجاء لأن يخلص من عقابها إما بتوبة وإما حسنات وإما عفو وإما دون ذلك وإلا فإذا لم يبغضها ولم يخف الله فيها ولم يرج رحمته فهذا لا يكون مؤمنا بحال بل هو كافر أو منافق.
فكل سيئة يفعلها المؤمن لا بد أن تقترن بها حسنات له لكن قوة شهوته للسيئة وما زين له فيها حتى ظن أنها مصلحة له أوجب وقوعها وهو اتباع الظن وما تهوي الأنفس وهذا القدر عارض بعض إيمانه فترجح عليه حتى ما هو ضد لبعض الإيمان فلم يبق مؤمنا الإيمان الواجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". وهو فيما يفعله متبع للشيطان فيما زينه له حتى رآه حسنا وفيما أمره به فأطاعه وهذا من الشرك بالشيطان كما قال تعالى: {فَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
ولهذا لم يخلص من الشيطان إلا المخلصون لله كما قال تعالى: عن إبليس {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}
فإذا كان الشيطان ليس له سلطان إلا على من أشرك به فكل من أطاع الشيطان في معصية الله فقد تسلط الشيطان عليه وصار فيه من الشرك بالشيطان بقدر ذلك.
والشيطان يوالي الإنسان بحسب عدم إيمانه كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وقال تعالى: في قصة يوسف عليه السلام {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}
ويشهد لهذا ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ينتصب عرشه على البحر ويبعث سراياه".
فجميع ما نهى الله عنه هو من شعب الكفر وفروعه كما أن كل ما أمر الله به هو من الإيمان والإخلاص لدين الله ولهذا قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}
لكن قد يكون ذلك شركا أكبر وقد يكون شركا أصغر بحسب ما يقترن به من الإيمان فمتي اقترن بما نهي الله عنه الإيمان لتحريمه وبغضه وخوف العقاب ورجاء الرحمة لم يكن شركا أكبر وأما إن اتخذ الإنسان ما يهواه إلها من دون الله وأحبه كحب الله فهذا شرك اكبر والدرجات في ذلك متفاوتة.
وكثير من الناس يكون معه من الإيمان بالله وتوحيده ما ينجيه من عذاب الله وهو يقع في كثير من هذه الأنواع ولا يعلم أنها شرك بل لا يعلم أن الله حرمها ولم تبلغه في ذلك رسالة من عند الله والله تعالى يقول {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فهؤلاء يكثرون جدا في الأمكنة والأزمنة التي تظهر فيها فترة الرسالة بقلة القائمين بحجة الله فهؤلاء قد يكون معهم من الإيمان ما يرحمون به وقد لا يعذبون بكثير مما يعذب به غيرهم ممن كانت عليه حجة الرسالة
فينبغي أن يعرف أن استحقاق العباد للعذاب بالشرك فما دونه مشروط ببلاغ الرسالة في أصل الدين وفروعه ولهذا لما كثر الجهل وانتشر زين الشيطان لكثير من الناس نواعا من المحرمات ضاهوا بها حلال وقد لا يعلمون أنها محرمة بغيضة إلى الله بل قد يظنون أن ذلك محبوب لله مأمور به وقد يظنون أن فيها هذا وهذا وهم في ذلك يتبعون الظن وما تهوي الأنفس وقد يعلمون تحريم ذلك ويظهرون عدم الوجه المحرم خداعا ونفاقا فهؤلاء غير المؤمن الذي يحب الله ورسوله ويأتي بالمحرم معتقدا أنه محرم وهو مبغض له خائف راج.
وهذه الأمور توجد في الأقسام الثلاثة ونحن نذكر أمثلة ذلك في المحرمات التي ذكرها الله في قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فالله سبحانه قد حرم الفواحش كما ذكر.
وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فلم تبح إلا المرأة التي هي زوج أو ملك يمين وقد ذكر ما اشترطه في الحلال بقوله {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} وقوله {غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}.
كما في الصحيح عن عائشة قالت: "كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء وذكرت أصحاب الرايات وهن المسافحات وأن إلحاق النسب في وطئهن كان بالقافة وذكرت التي يطأها جماعة محصورة وأن الإلحاق كان بتعيين المرأة وذكرت نكاح الاستبضاع وهو غير نكاح ذوات الأخدان وذكرت النكاح الرابع وهو النكاح المعروف الذي أحله الله.
فالشيطان جعل من الحرام ما فيه مضاهاة من للحلال وان سمي باسم آخر لكن المعني فيه اشتراك فالله أباح للرجل امرأته ومملوكته وكل من الرجل والمرأة زوج الآخر فذوات الأخدان بينهن وبين أخدانهن نوع ازدواج واقتران كذلك ولهذا ميز الله بين هذا وهذا.
وأخفى من ذلك مؤاخاة كثير من الرجال لكثير من النساء أو لكثير من الصبيان وقولهم إن هذه مؤاخاة لله إذا لم تكن المؤاخاة على فعل الفاحشة كذوات الأخدان فهذا الذي يظهرونه للناس الذين يوافقونهم ويقرونهم على ذلك ويرون كلهم أن من أحب صبيا أو امرأة لصورته وحسنه من غير فعل فاحشة فإن هذا محبة لله، فهذا من الضلال والغي وتبديل الدين حيث جعل ما كرهه الله محبوبا لله وهو نوع من الشرك والمحبوب المعظم بذلك طاغوت
وذلك أن اعتقاد أن التمتع بالمحبة والنظر أو نوع من المباشرة إلى المرأة الأجنبية والصبيان هو لله وهو حب في الله كفر وشرك كاعتقاد أن محبة الأنداد حب لله وأن الاجتماع على الفاحشة تعاون على البر والتقوى وأن الإقامة على ذلك بالعبادة هي عبادة لله ونحو ذلك.
فاعتقاد أن هذه الأمور التي حرمها الله ورسوله تحريما ظاهرا أنها دين الله ومحبة الله نوع من الشرك والكفر.
ثم قد يكون منها من خفيها أشياء تروج على من لم يبلغه العلم كما اشتبه على كثير من العلماء والعباد أن استماع أصوات الملاهي تكون عبادة لله واشتبه على من هو أضعف علما وإيمانا أن التمتع بمشاهدة هذه الصور يكون عبادة لله
ثم بعد هذا الضلال وما فيه من الغي هم أربعة أقسام:
قوم يعتقدون أن هذا لله ويقتصرون عليه كما يوجد مثل ذلك في كثير من الأجناد والمتنسكة والعامة.
وقوم يعلمون أن هذا ليس لله وإنما يظهرون هذا الكلام نفاقا وخداعا لئلا ينكر عليهم وهؤلاء من وجه أمثل لما يرجي لهم من التوبة ومن جهة أخبث لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرم.
وقوم مقصودهم ما وراء ذلك من الفاحشة الكبرى فتارة يكونون من أولئك الظالمين الذين يعتقدون أن هذه المحبة التي لا وطء فيها لله فيفعلون شيئا لله ويفعلون هذا لغير الله وتارة يكونون من أولئك الغاوين المنافقين الذين يظهرون أن هذه المحبة لله وهم يعلمون أنها للشيطان فيجمع هؤلاء بين هذا الكذب وبين الفاحشة الكبرى وهؤلاء في هذه المخادنة والمؤاخاة يضاهون النكاح فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج ما يشبه اقتران الزوجين ويزيد عليه تارة وينقص عنه تارة وما يشبه اقتران المتحابين في الله والمتآخين في الله لكن الذين آمنوا أشد حبا لله
فالمتحابان في الله يعظم تحابهما ويقوي ويثبت بخلاف هذه المؤاخاة الشيطانية فإنه يترتب عليها أنواع من الفساد ثم هذا قد يظهر وينتشر حتى قد يسمونه زواجا ويقولون تزوج هذا بهذا كما يفعل ذلك بعض المستهزئين بآيات الله من فجار الفساق والمنافقين ويقره الحاضرون على ذلك ويضحكون وربما أعجبهم مثل هذا المزاح.
كما أن اعتقاد أن هذه المحبة لله أوجب لمن كان من فجار الفساق والمنافقين أن يقول لهم الأمرد حبيب الله والملتحي عدو الله وذلك يعجبهم ويضحكون منه وحتى اعتقد كثير من المردان أن هذا حق وهو داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله العبد نادي في السماء يا جبريل إني أحب فلانا". فيصير يعجبه أن يحب ويعتقد الغاوي أنه محبوب.
وذلك أن من فقهاء الكوفة من لا يوجب في اللوطية الحد بل التعزير إلا إذا أسرف فيه فإنه يبيح قتله سياسة ومن الفقهاء من يوجب فيه حد الزني كأشهر قولي الشافعي وإحدي الروايتين عن أحمد وقول أبي يوسف ومحمد وأكثر فقهاء الحجاز وأهل الحديث يوجبون قتلهما جميعا كمذهب مالك وظاهر مذهب أحمد
وزعم بعض الفقهاء أن فجور الرجل بمملوكه شبهة في درء الحد وهو موجب للتعزير كما هو أحد القولين في وطء أمته المحرمة عليه برضاع أو محرمته وأيضا فالعقوبة بالقتل إنما تكون في حق البالغ وأما الصبي وأمثاله فيجوز قتله إذا قاتل مع الكفار فأما بمجرد فعله هو بنفسه فلا يقتل بل يعاقب بما يزجره.
وكذلك النوع الثاني من الحلال وهو ملك اليمين فإن المرأة قد تملك الرجل والرجل قد يملك الصبي وقد يكون في هذا الملك نوع من ملك الرجل الأمة فربما استمتعت المرأة بمملوكها بمقدمات النكاح أو بالنكاح مضاهاة لاستمتاع الرجل بمملوكته وربما تأولت القرآن على ذلك واعتقدت أن ذلك داخل في قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} كما رفع إلى عمر ابن الخطاب امرأة تزوجت عبدها وتأولت هذه الآية ففرق بينهما وأدبه وقال ويحك إنما هذه للرجال لا للنساء
وكذلك كثير من جهال الترك وغيرهم قد يملك من الذكران من يحبهم ويستمتع بهم وقد يتأول بعضهم على ذلك {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ومن المعلوم أن هذا كفر بإجماع المسلمين فالاعتقاد بأن الذكران حلال بملك أو غير ملك باطل وكفر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم.
ثم من هؤلاء من يتأول هذه الآية ومنهم من يتأول {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} ولا يفرق بين المنكوح والناكح كما سألني مرة بعض الناس عن هذه الآية وكان ممن يقرأ القرآن ويطلب العلم وقد ظن أن معناها إباحة ذكران المؤمنين
وآخرون قد يجتمع بهم من يقول لهم إن في هذه المسألة خلافا ويكذب أئمة المسلمين الذين لا تكون مذاهبهم ظاهرة في بلاده مثل من يكون بأرض الروم فيكذب على مذهب مالك ويقول هو مباح في مذهب مالك ومنهم من يقول هذا مباح للضرورة مثل أن يبقي الرجل أربعين يوما إلى أمثال هذه الأمور التي خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء وكان عندهم من هذه الاعتقادات الفاسدة ألوان مختلفة قد صدتهم عن سبيل الله
ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء في وجوب الحد في بعض الصور فيظن أن ذلك خلاف في التحريم فربما قال ذلك أو اعتقده ولا يفرق بين الخلاف على الحد المقدر والتحريم وأن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات كالدم والميتة ولحم الخنزير وليس فيه حد مقدر
ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو خطأ بعض المجتهدين وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين ومن الكذب الذي هو فرية بعض الظالمين تبديل الدين وطاعة الشياطين وسخط رب العالمين حتى نقل أن كثيرا من المماليك يتمدح بأنه لا يعرف إلا سيده كما تتمدح الأمة بأنها لا تعرف إلا سيدها وزوجها وكذلك كثير من المردان الأحداث يتمدح بأنه لا يعرف إلا خدينه وصديقه ومؤاخيه كما تتمدح المرأة بأنها لا تعرف إلا زوجها وكذلك كثير من الزناة بالمماليك والأحداث من الصبيان قد يتمدح بأنه عفيف عما سوي خدنه الذي هو قرينه كالزوجة أو عما سوي مملوكه الذي هو قرينه كما يتمدح المؤمن بأنه عفيف إلا عن زوجته أو ما ملكت يمينه
ولا ريب أن الكفر والفسوق والعصيان درجات كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} وقد قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} وقال {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}
فالمتخذ خدنا من الرجل والنساء أقل شرا من المسافح لأن الفساد في ذلك أقل والمستخفي بما يأتيه أقل إثما من المجاهر المستعلن كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله".
وقد قال: "من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة".
وفي الحديث: "إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت الجماعة".
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب وقد ستره الله فيصبح فيتحدث بذنبه ويقول يا فلان فعلت الليلة كيت وكيت" أو كما قال
فالإقلال والاستخفاء خير من هذه الوجوه ولكن قد يقترن بها ما يكون أعظم من بعض المسافحة والمجاهرة وهي المحبة والتعظيم التي توجب محبة ما يحبه الخدن وتعظيم ما يعظمه وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه والاستسرار بذلك. والنفاق فيه فقد تكون في هذه الموالاة والمعاداة والنفاق من العدوان والضرر على المسلمين أعظم مما في المجاهرة والمسافحة ويكون ذلك بمنزلة الكافر المعلن كفره وهذا بمنزلة المنافق فأما إذا لم يكن عدوان على الناس وتضييع لحقوقهم لانتفاء المحبة أو لغير ذلك فالأول أخبث وأفحش وتفاوت الشرور في القدر والصفة كثير كما يتفاضل الخير أيضا في القدر والوصف والواجب استعمال الكتاب والسنة في جميع الأمور.
ولا ريب أن هذه المخادنة وملك اليمين ونحو ذلك مما فيه اشتراك في محرم مضاد للحلال لا بد أن يتضمن من المباح ما يصير فيه من الشبه بالحلال ومن التمييز عن الحرام ما يكون فيه رواج له إذ الحرام المحض المحض من كل وجه لا يشتبه بالحلال المحض من كل وجه بل بقتني الرجل المملوك لنوع من الاستخدام ويضم إلى ذلك الاستمتاع وقد يكون هذا أغلب في نفسه من الآخر وقد يكون بالعكس وذلك الاستخدام قد يكون مباحا في الشريعة وقد يكون فيه نوع من الظلم والعدوان إما باسترقاق الأحرار وإما باشتراء المماليك لنفسه بالمال المغصوب من بيت المال أو غيره وإما في استخدامهم على وجه الكبرياء والعلو في الأرض بإذلاله لهم في غير طاعة الله وإذلال الناس بهم في غير طاعة الله إلى أمثال ذلك من الوجوه التي يكون فيها من الظلم والعدوان أمور عظيمة وينضم إلى ذلك الفاحشة.
وكذلك في المخادنة التي صورتها مؤاخاة قد تكون لأجل الاستئجار لصناعة ونحوها وقد تكون لتعلم صناعة أو كتابة أو قراءة أو علم أو تأديب وتنوير وغير ذلك من الأمور المباحة والمستحبة والواجبة في الدين وقد تكون لكفالة وتربية إما ليتم ذلك الصبي أو غربته أو لقرابة بينهما أو غير ذلك وقد يكون اشتراكا محضا في صناعة أو تجارة أو بحمل مال أو مجاورة وصلة أو تعلم أو تأدب أو غير ذلك مما يشترك الناس فيه لغير فاحشة بشركة مباحة أو مأمور بها أو منهي عنها ويكون بينهم في ذلك من التعاقد والتحالف ما يكون بين المشتركين في الأمور وقد يسمي ذلك صديقا ورفيقا وسمي بالتركية خوشداشا وغير ذلك وهو من قسم التحالف فيكون بين المشتركين في الحلال والحرام من المعاوضة والمشاركة إما على غير فاحشة وإما معاوضة بتلك فتكون شبهة مع الشهوة فغالب وقوع المحرمات من هذا الباب وقد لبس فبه الحق بالباطل وأشرك فيه الحق بالباطل
والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة ليقدم ما هو أكثر خيرا وأقل شرا على ما هو دونه ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح
وإذا عرف ذلك فلا بد أن يقترن بعلمه العمل الذي أصله محبته لما يحبه الله ورسوله وبغضه لما يبغضه الله ورسوله وما اجتمع فيه الحبيب والبغيض المأمور به والمنهي عنه أو الحلال والمحظور أعطي كل ذي حق حقه ليقوم الناس بالقسط فإن الله بذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل فالعلم بالعدل قبل فعل العدل
فإذا علم وأحب كان من تمامه الجهاد عليه كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} والعلم هو طريق إلى العمل وسبب كما قيل في قوله تعالى {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} أي علما.
فالعلم بالخير سبب إلى فعله والعلم بالشر سبب إلى منعه هذا مع حسن النية وإلا فالنفس الأمارة بالسوء قد يكون علمها بالسوء سبب لفعله وبالخير سبب لمنعه وكذلك الإثم والبغي بغير الحق مثل الخمر الذي اتخذ منه أنواع من المسكرات وقيل إنها حلال وسميت بغير أسماء الخمر وهي من الخمر
وكذلك ظلم العباد في النفوس والأموال والأعراض فيه ما قد سمي حقا وعدلا وشرعا وسياسة وجهادا في سبيل الله وهو من الكفر والفسوق والعصيان ما لا يحصيه إلا الله وكذلك الإشراك بالله بغير حق والقول بما لا يعلم مثل أنواع الغلو في الدين واتخاذ العلماء والعباد أربابا من دون الله والقول بتحريم الحلال وتحليل الحرام وأنواع الإشراك بالمخلوقات عبادة لها واستعانة بها وغلوا فيها وقولا على الله في أسمائه وصفاته وأحكامه ما قد دخل في ذلك من الباطل الذي سمي بأسماء محمودة أو غير مذمومة كالعبادة والزهادة والتحقيق وأصول الدين والفقه والعلم والتوحيد والكلام والفقر والتصوف ما لا يحصيه إلا الله
ومما ينبغي أن يعرف أن كل تبديل يقع في الأديان بل كل اجتماع في العالم لا بد فيه من التحالف وهو الاتفاق والتعاقد على ذلك من اثنين فصاعدا، فإن بني آدم لا يمكن عيشهم إلا بما يشتركون فيه من جلب منفعتهم ودفع مضرتهم فاتفاقهم على ذلك هو التعاقد والتحالف.
ولهذا كان الوفاء بالعهود من الأمور التي اتفق أهل الأرض على إيجابها لبعضهم على بعض وإن كان منهم القادر الذي لا يوفي بذلك كما اتفقوا في إيجاب العدل والصدق فإذا اتفقوا وتعاقدوا على اجتلاب الأمر الذي يحبونه ودفع الأمر الذي يكرهونه أعان بعضهم بعضا على اجتلاب المحبوب ونصر بعضهم بعضا على دفع المكروه ولو لم يتعاقدوا بالكلام فنفس اشتراكهم في أمر يوجب عليهم اجتلاب ما يصلح ذلك الأمر المشترك ودفع ما يضره كأهل النسب الواحد وأهل البلد الواحد فإن التناسب والتجاور يوجب التعاون على جلب المنفعة المشتركة ودفع الضرر المشترك
فصار الاشتراك بينهم تارة يثبت بفعلهم وهو التعاقد على ما فيه خيرهم وتارة يثبت بفعل الله تعالى وقد جمع الله عز وجل هذين الأصلين في قوله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} وذكر في هذه السورة الأمور التي بينهم من جهة الخلق وهي من جهة العقود كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً}
وقال تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ. وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}
وقال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}
وإذا كان لا بد في كل ما يشتركون فيه من تحالف وغير تحالف من التعاون على جلب المحبوب والتناصر لدفع المكروه فالمحبوب هو الموالي والمكروه هو المعادي فلا بد لكل بني آدم من ولاية وعداوة ولهذا جميعهم يتمادحون بالشجاعة والسماحة فإن السماحة إعانة على وجود المحبوب بالأموال والمنافع وغير ذلك والشجاعة نصر لدفع المكروه بالقتال وغيره ولا قوام لشيء من أمور بني آدم إلا بذلك ومبني ذلك بينهم على العدل في المشاركات والمعاوضات
فظهر أن جميع أمور بني آدم لا بد فيها من تعاون بينهم ودفع ومنع لغيرهم فلا بد لهم من عقد وقدرة والعقد أصله الإرادة كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} أى يتعاهدون ويتعاقدون والقدرة القدرة
ومعلوم أنه لا بد في كل فعل من إرادة وقدرة والمشتركون لا بد من اتفاقهم في إرادة وفي قدرة فالذي يناله بعضهم من جلب محبوب ودفع مكروه من بعض هو بالإرادة والطوع والذي ينالونه من غيرهم من جلب محبوب ودفع مكروه وهو بالقدرة على ذلك العدو المكروه منه كما أن الوطء بملك النكاح الذي هو عقد أصله الإرادة والطوع وبملك اليمين الذي هو قهر بالقدرة على سبيل الكره واشتراكهم في الجلب والدفع إما أن يكون تبعا لتعاقدهم وإما أن يكون بأمر آمر مطاع فيهم فالأول هو التحالف والثاني ما يطاع بغير تحالف سواء كانت طاعته بحق أو بغير حق
فالذي بحق ما أمر الله بطاعته من أنبياءه وأولي الأمر من المؤمنين وطاعة الوالدين ونحو ذلك وما يجاب به بعضهم إلى مراد بعض بحق فإن ذلك هو معني الطاعة إذ المقصود بها موافقة المطلوب
وأما بغير حق فكطاعة الطواغيت وهو كل ما عظم بباطل
وكل قوم لا تجمعهم طاعة مطاع في جميع أمورهم فلا بد لهم من التعاقد والتحالف فيما لم يأمرهم به المطاع
ولهذا كانت الشريعة المنزلة من عند الله الأفعال فيها التي تجب لله وتجب لبعض الناس على بعض تارة تجب بإيجاب الله وتارة تجب بالعقد كالنذر وكعقود المفاوضات والمشاركات فلا واجب في الشريعة إلا بشرع أو عقد
وإذا لم يكونوا على شريعة منزلة من عند الله فإما أن يكونوا على شريعة غير منزلة أو سياسة وضعها بعض المعظمين فيهم بنوع قدرة وعلم ونحو ذلك وما بقدرة من هذه الأمور الجامعة أوجب التحالف بينهم فإنه لا ينتظم لهم أمر إلا بطاعة آمر متحالفون عليه أو يأمرهم به من يطيعونه ولهذا أنكر التحالف في الأمم الخارجة عن الشريعة وفي الخارجين عنها وفي الأمور التي لا ترد إلى الشريعة وإنما يظهر ذلك حيث تدرس آثار النبوة المطاعة فيتحالف قوم على طاعة ملك أو شيخ أو طاعة بعضهم لبعض في أمور يتفقون عليها ويتحالفون كما كان العرب في جاهليتهم يتحالفون ومنه الحليف الذي يكون في القبيلة فيصير منهم
قال الله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً}
وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
وكذلك ما يوجد من التحالف بالتآخي وغير التآخي للملوك والمشايخ وأهل الفتوة ورماة البندق وسائر المتفقين على بعض الأمور هو داخل في هذا وأيمان التعاقد والتحالف عام لبني آدم وهم في جاهليتهم تارة يتحالفون تحالفا يحبه الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " لقد شهدت حلفا مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان ما يسرني بمثله حمر النعم أو قال ما يسرني حمر النعم وأن أنقضه ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت"
وفى مثل هذا ما رواه مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة".
وهذا الحلف يسمي حلف المطيبين كان يقدم إلى مكة من يظلمه بعض أكابرها فيستصرخ فلا ينصره أحد حتى أنشد بعض القادمين
يا آل مكة مظلوم بضاعته ... ببطن مكة بين الركن والحجر
وكان عبد الله بن جدعان من خيارهم فاجتمعت قبائل من قريش في بيته على التحالف للتعاون على العدل ونصر المظلوم ووضعوا أيديهم في قصعة فيها طيب فسمى حلف المطيبين
فأما إذا كان القول على الشريعة التي بعث الله بها رسوله في دينهم ودنياهم فإن ذلك يغنيهم عن التحالف إلا عليها فعليها يكون تحالفهم وتعاقدهم وتعاونهم وتناصرهم كما وصف الله به المحبين المحبوبين في قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}
وعلي ذلك يبايع المطاعون فيهم من الأمراء والعلماء وغيرهم كما قال أبو بكر الصديق في خطبته للمسلمين أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم
وبذلك أمر الله ورسوله في طاعة أولى الأمر فقال النبي صلى الله عليه على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه ما لم يؤمر بمعصية الله فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الطاعة في المعروف ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
وفى الصحيح أن عبد الله بن عمر كتب بيعته إلى عبد الملك بن مروان لما اجتمع الناس عليه لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إني قد أقررت لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت وقد أقر بني لما أقررت به فأخبره أنه يعاقده على ما أمر الله به من الطاعة له في طاعة الله بحسب قدرته وهذا واجب عليه بالشرع، فهو تعاقد على ما أمر الله بمنزلة نفس الدخول في الإسلام وبيعة النبي صلى الله عليه سلم كما بايعه الأنصار وكما بايعه المسلمون تحت الشجرة وكما كان يبايع المسلمين على السمع والطاعة ويلقنهم فيما استطعتم
وطاعة الرسول واجبة على الخلق بإيجاب الله بمعاقدتهم على ذلك معاقدة على طاعة الله كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}
لكن هذا إنما كان ظاهرا في أيام الخلفاء الراشدين وبعدهم كثرت العقود الموافقة للشريعة تارة والمخالفة لها أخري فلا جرم كان الحكم العام في جميع هذه العقود أنه يجب الوفاء فيها بما كان طاعة لله ولا يجوز الوفاء فيها بما كان معصية لله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" وقال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" , وفي السنن: "المسلمون على شرطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا".
فأما أمر الدين وما يحبه الله ويقرب إليه فليس لعقود بنى آدم فيه أثر بل المرجع في ذلك إلى أمر الله ورسوله فلا دين إلا ما أمر الله به ومن اتبع في ذلك عقود بني آدم فهم الذين اتبعوا شركاءهم الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن الله به وهذه حال جميع ما ابتدع من الدين فإن الذي ابتدعه وافقه عليه غيره وحالفه فاتخذوه دينا فتدين هذا فيه يظهر حال جميع أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة وأن الموافقة عليها هي من هذا الباب
وأكثر ما ينفق بين المسلمين ما فيه حق وباطل إذ الباطل المحض لا يبقى بينهم وذلك يتضمن التحالف على غير ما أمر الله به والتبديل لدين الله بما لبس من الحق بالباطل وهذه حال اليهود والنصارى وسائر أهل الضلال فإنهم عدلوا عما أمرهم الله باتباعه فلبسوه بباطل ابتدعوه بدلوا به دين الله وتحالفوا على ذلك الذى ابتدعوه
وأما المعاملات في الدنيا فالأصل فيها أنه لا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله فلا حرام إلا ما حرم الله ولا دين إلا ما شرعه وإذا لم يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله فكأن ما كان بدله بدون التعاقد يجب بالتعاقد فإن العقد يوجب على كل واحد من المتعاوضين والمتشاركين ما أوجبه الآخر على نفسه له ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا".
وهذا الموضع كثر فيه غلط كثير من الفقهاء بتحريم عقود وشروط لم يحرمها الله كما كثر في الأول غلط كثير من العباد والعلماء بابتداع دين لم يشرعه الله وإيجابه بالتعاقد عليه حتى يوجبون طاعة شخص معين ميت أو حي من العلماء في كل شيء ويحرمون طاعة غيره في كل شيء نازعه فيه لمجرد عقد العامي الذي انتسب إلى هذا دون هذا
وكذلك في المشايخ حتى قد يأمرونه بمخالفه ما تبين له من الشريعة لأجل العقد الذي التزمه للمذهب والطريقة فيشترطون شروطا ليست في كتاب الله ويأمرون بطاعة المخلوق في معصية الخالق وأكثر ذلك يدخله نوع من الاجتهاد الظاهر الذي فيه نوع من اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
والواجب في جميع هذه الأمور أن ما يتبين أنه طاعة لله ورسوله وجب اتباعه وما اشتبه على الإنسان حاله سلك فيه مسلك الاجتهاد بحسب قدرته ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها واجتهاد العامة هو طلبهم للعلم من العلماء بالسؤال والاستفتاء بحسب إمكانهم
فإذا كان جميع ما عليه بنو آدم لابد فيه من تعاون وتناصر وفيه ما هو شرك بالله وفيه ما هو قول على الله بغير علم وفيه ما هو إثم وبغى وفيه ما هو من الفواحش علم أنه لابد في الإيمان من التعاون والتناصر على فعل ما يحبه الله تعالى ودفع ما يبغضه الله تعالى وهذا هو الجهاد في سبيله وأن أمر الإيمان لا يتم بدون ذلك كما لا يتم غير الإيمان إلا بما هو من نوع ذلك
فكل المتعاونين المتناصرين يجاهدون ولكن في سبيل الله تارة وفي سبيل غير الله تارة ولا صلاح لبنى آدم إلا بأن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هى العليا
قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وهؤلاء الذين تولوا الله فتولاهم الله والذين يدينون لغير الله هم ظالمون بتولى بعضهم بعضا كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}
ولا يتم لمؤمن ذلك إلا بأن يجمع بين ما جمع الله بينه ويفرق بين ما فرق الله بينه وهذه حقيقة الموالاة والمعاداة التي مبناها على المحبة والبغضة.
فالموالاة تقتضى التحاب والجمع والمعاداة تقتضى التباغض والتفرق والله سبحانه قد ذكر الموالاة والجمع بين المؤمنين فقولة تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} وذكر العداوة بينهم وبين الكفار فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ثم ذكر حال المستنصرين بهم فإن الموالاة موجبها التعاون والتناصر
فلا يفرق بين المؤمنين لأجل ما يتميز به بعضهم عن بعض مثل الأنساب والبلدان والتحالف على المذاهب والطرائق والمسالك والصداقات وغير ذلك بل يعطى كل من ذلك حقه كما أمر الله ورسوله ولا يجمع بينهم وبين الكفار الذين قطع الله الموالاة بينهم وبينه فإن دين الله هو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبي والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
والله سبحانه أرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فيحتاج المؤمن إلى معرفة العدل وهو الصراط المستقيم وإلى العمل به وإلا وقع إما في جهل وإما في ظلم
وذلك إنما وقع من التبديل والعقود الفاسدة كما ذكرنا من لبس الحق بالباطل حيث صارت المحرمات من الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق والإشراك بالله ما لم ينزل به سلطانا والقول على الله بغير علم قد لبس بها من الحق المأذون فيه ما صارت بسببه شبيهة للحق الحسن وإن كانت مشتملة مع ذلك على الباطل السيئ وإن صار أصحابها بين عمل صالح وآخر سيئ فقوم ينكرون ذلك كله لما علموا فيه من المنكر البغيض وأقوام يقرون ذلك كله لما فيه من المحبوب
وهذه القاعدة قد ذكرناها غير مرة وهي اجتماع الحسنات والسيئات والثواب والعقاب في حق الشخص الواحد كما عليه أهل جماعة المسلمين من جميع الطوائف إلا من شذ عنهم من الخوارج والوعيدية من المعتزلة ونحوهم وغالب المرجئة
فإن هؤلاء ليس للشخص عندهم إلا أن يثاب أو يعاقب محمود من كل وجه أو مذموم من كل وجه وقد بينا فساد هذا في غير هذا الموضع بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وذكرنا أيضا الكلام في الفعل الواحد نوعا وشخصا
والغرض هنا أن هؤلاء الذين لبسوا الحق والباطل حصل في مقابلتهم من أعرض عن الحق والباطل جميعا فصار هؤلاء مذمومين على فعل السيئات محمودين على فعل الحسنات وأولئك يذمون على ترك الحسنات الواجبات ويمدحون على ما قصدوا تركه لله من السيئات
وسبب ذلك أن الإنسان فيه ظلم وجهل فإذا غلب عليه رأى أو خلق استعمله في الحق والباطل جميعا لم يحفظ حدود الله ولهذا يأمر الله بحفظ حدوده
مثال ذلك أن من الناس من يكون في خلقه سماحة ولين ومحبة فيسمح بمحبته وبتعظيمه ونفعه وماله للحسن الذي يحبه الله ويأمر به كمحبة الله ورسوله وأوليائه المؤمنين والإنفاق في سبيله ونحو ذلك ويسمح أيضا بمحبة الفواحش والإنفاق فيها فتجده يحب الحق والباطل جميعا ويصدق بهما ويعين عليهما
ومنهم من يكون في خلقه قوة فيمتنع من فعل الفواحش ويبغضها ويمتنع مع ذلك من محبة نفع الناس والإحسان إليهم والحلم عن سيئاتهم فتجده يبغض الحق والباطل جميعا ويكذب بهما ولا يعين على واحد منهما بل ربما صد عنهما
وذلك لأن النفس أمارة بالسوء والشيطان يزين للمرء سوء عمله فيراه حسنا وهو متبع هواها وما فيها من العلم والإيمان يدعوه إلى الخير حتى تذهب الحسنات بالسيئات وإنما يفعل من الحسنات ما أقبلت عليه إرادته ومحبته دون ما أبغضته
وفي الإنسان قوتان قوة الحب وقوة البغض وإنما خلق ذلك فيه ليحب الحق الذي يحبه الله ويبغض الباطل الذي يبغضه الله وهؤلاء هم الذين يحبهم الله ويحبونه
والنفس تميل إلى الإشراك بحسب الإمكان فإذا غلب على النفوس قوة المحبة لما يناسبها فأحبت الحق فقد تنجذب بسبب ذلك إلى محبة ما يقارنه من الباطل
ومن هنا مال كثير من النساك إلى محبة الأصوات والصور وغير ذلك بسبب ما فيهم من المحبة التي فيها ما هو لله لكن لبسوا فيها الحق بالباطل وكذلك قد يكون الشخص بالمحبة يميل إلى شهوات الغي في بطنه وفرجه وإنفاق الأموال فيها ثم إنه بسبب ما فيه من الحب والدين يحب الحق وأهله ويعظمهم فتجد كثيرا من أهل الشهوات وفيهم من المحبة لله ورسوله ما لا يوجد في كثير من النساك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خمار الذي كان يشرب الخمر كثيرا "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" والحديث في صحيح البخاري وغيره).[قاعدة في المحبة 89: 136]