المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فداء حسين
تفسير قوله تعالى: "وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ۚ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم ۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22)وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) ۞ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)الزخرف
في هذ الايات البينات,رد الله على المشركين جميع شبههم ومزاعمهم في الملائكة المكرمين, فنقض كذباتهم واحدة بعد الأخرى, وبين سفاهة عقولهم, وما ساروا عليه من تقليد أعمى للآباء والأجداد دون الرجوع إلى العقل والشرع, فافتروا على الله كذبا وقالوا:
- أن الملائكة بنات الله.
- وزعموا بأن الملائكة إناثا.
- ورفعوا الملائكة لمرتبة الآله, فعبدوها.
فبدأ الله سبحانه وتعالى بتبكيتهم وتقريعهم على شناعة ما فعلوه من الإشراك به, بعد أن اقروا بربوبيته الكاملة, وكونه هو الواحد الخالق, المالك, الرازق, المدبر, قال تعالى:"وجعلوا له من عباده جزء"1, فقالوا: إن الملائكة بنات الله, فهم لم يلتزموا بلازم إقرارهم بربوبيته وخلقه وبملكه وتدبيره, وهو أن يتوجهوا إليه وحده بالعبادة, ويتركوا عبادة من سواه, ويقروا استحقاقه لها, فعبدوا من دونه الملائكة زاعمين أنها بنات الله, تعال الله عما يقولون علوا كبيرا, فرد الله قولهم بثلاث حجج عقلية:
الأولى: أن الملائكة عباد لله, مخلوقات له, مربوبة كغيرها من المخلوقات, فكيف يكون المخلوق الفاني الذي تحل به العوارض المختلفة, ابنا للخالق الأول والآخر الذي:"ليس كمثله شيئ"2؟ فهذا محال عقلا وشرعا.
الثانية: أن الذكور أفضل خلقا من الإناث, وقد فضل الله الذكور على الإناث, فقال:"وللرجال عليهن درجة"3, وقال:"الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض"4, وهم أنفسهم يفضلون الذكران على الإناث, ويفتخرون بولادة الذكور ويكرهون ولادة الإناث, فقال عنهم:"وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم"5, فكيف ينسبون لله القسم الأدنى ولأنفسهم القسم الأعلى!؟ فيلزم من هذا أن يكونوا أفضل وأعلى من الله, وهذا مرفوض عقلا وشرعا, حتى في عقولهم هم أنفسهم.
الثالثة: إن الإنثى ضعيفة الخلق والطبع, ناقصة, تنشأ في حب التزين ولبس الحلي, وهي عند الحجاج والمجادلة لا تقوى على رد خصمها, ولا إظهار حجتها, وأقوى حجة لديها دموعها, فكيف يكون الخالق الأوحد الذي اقروا له هم أنفسهم الآيات بخلقه لأعظم المخلوقات, وهي:السموات والأرض, وأقروا بتدبيره لأمور معيشتهم, وإنزاله المطر ليحي به الأرض بعد موتها, كيف ينسب للعظيم صاحب القدرة التامة, مخلوق ضعيف لا يقوى على إظهار حجته؟ إن هذا لمحال عقلا وشرعا.
وبعد أن ابطل الله زعمهم القائل بأن الملائكة بنات له, سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا, أبطل أصل زعمهم بأن الملائكة من جنس الإناث, قال تعالى:" وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا"6, فمعرفتهم بهذا الأمر يستلزم أن يكونوا قد شهدوا بأنفسهم خلق الملائكة فعرفوا انهم من جنس الإناث, وهذا باطل لا محالة, لا يستطيع أحد ادعائه, لذلك أنكر الله عليهم, وتوعدهم وهددهم, فقال تعالى:"أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ "6, فهددهم بأن ما قالوه محسوب عليهم مكتوب, وأن مسئولون عنه أمام الله تعالى, وهذا يقتضي أنهم محاسبون عليه, مجازون به بما يستحقون على كذبهم وافترائهم.
وبعد نقض جميع أباطيلهم, ما كانت حجتهم إلا الاحتجاج بالمشيئة والقدر, فقالوا:" لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم"7 وهذا تأسي واقتداء بإبليس حين قال:"رب بما أغويتني..."8, واقتداء بقول من سبقهم من المشركين, كما قال تعالى عنهم:" سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا"9, وإنما كان هذا منهم لخلطهم بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية المتعلقة بما يحب الله ويرضاه, فكذبوا, فكل عاقل يعلم من نفسه وجود مشيئة لديه تعطيه القدرة على الاختيار والفعل, فكذب الله قولهم ورده, لأن صدق ما قالوه يعتمد على أحد أمرين:
الأول: إما أن يكون عندهم دليل عقلي يستند إليه قولهم وزعمهم, وهذا باطل نفاه الله سبحانه وتعالى بقوله:"إن هم إلا يخرصون"10, أي: مقولتهم مبنية على الظن الخالص القائم على اتباع الهوى, فوجود المشيئة للبشر شيء معلوم محسوس.
الثاني: أن يكون لديهم دليل مادي,فيكون الله قد أعلمهم بهذا من خلال إنزال الكتب إليهم قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ونززول القرآن, ومعلوم للجميع إن هذا لم يحصل, فهم ما جاءهم من نذير قبل النبي عليه الصلاة والسلام, قال تعالى:"وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير"11.
ثم بين الله تعالى حقيقتهم فقال:"بل قالوا إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"12, وهنا أبطل ما كان من احتمالات قد تبرر مزاعمهم, فليس لديهم دليل, وليس لديهم كتاب سابق يتمسكون به, بل هو مجرد تقليد واتباع للآباء والأجداد والكبراء, دون إعمال للعقل أو الفكر, وبين الله بأن هذا فعل من سبقهم من الكفار, فهم لم يأتوا بقول جديد, بل ساروا على طريق من سبقهم في الكفر حذو القذة بالقذة.
ثم لو سلمنا لهم بأن آبائهم كانوا على بعض الهدى في طريقتهم, فالعقل يقتضي بأن يتفكروا ويقارنوا بين ما وجدوا عليه آبائهم, وبين ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام, إن كانوا حقا قاصدين للهداية, باحثين عنها, متبعين لها, فالإنسان بطبعه يبحث عما يفيده, ويحرص على نجاة نفسه, لذلك قال لهم:"قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ "13, فما كان ردهم إلا أن قالوا:" إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ"13, وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على تقليدهم الأعمى, وعنادهم, وعدم إعمال عقولهم فيما عرض عليهم من هداية وحق جاء به النبي عليه الصلاة والسلام, فاستحقوا ما حل بهم من عذاب.
----------------------------------------------------------------------------------------
1- الزخرف\15
2- الشورى\\11
3- البقرة\228
4- النساء\34
5- النحل\58
6- الزخرف\19
7- الزخرف\21
8- الحجر\39
9- الأنعام\148
10- الزخرف\20
11- سبأ\44
12- الزخرف\23
13- الزخرف\24
|