رسالة تفسيرية في قوله تعالى: {إِذَاجَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَفِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَوَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3(}
سورة النصر سورة مدنية عدد آياتها ثلاث آيات وهي آخر سورة نزلت من القرآن من أسمائها سورة النصر وسورة التوديع كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، جاءت بعد سورة الكافرون في ترتيب المصحف ومناسبة مجيئها أن سورة الكافرون فيها بيان الثبات على المبادئ وسورة النصر فيها إشارة على أن الثبات على المبادئ وسيلة للنصر والفتوحات الربانية.
مقصدها:
1. وعد الله بنصره الكامل وبشارته بفتح مكة
2. البشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر كما قال ابن عباس في أحد قوليه .
يقول الله عز وجل إذا جاءك يامحمد نصر الله على من عاداك، وفتح عليك مساكن الأعداء ودخول منازلهم وفتح قلوبهم لقبول الحق، وأبصرت الناس من العرب وغيرهم يدخلون في دين الله الذي بعثك به جماعات فوجا بعد فوج؛ فسبح ربك وعظمه بحمده وشكره، على ما أنجز لك من وعده. فإنك حينئذ لاحق به، وذائق ما ذاق من قبلك من رسله من الموت.
فاطلب منه المغفرة لذنبك تواضعا لله واستقصارًا بعملك فإن من شأنه التوبة على المستغفرين له، يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم، فإنه سبحانه شديد القبول لتوبة عباده كثير قبوله إياها، ووعده سبحانه بأنه سيغفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء.
الفوائد:
{إِذَاجَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}
1. النصر والفتح أمران متلازمان فالنصر يكون في معارك القتال ويكون بالحجة والسلطان، ويكون بكف العدو، وهو حق من اللهوالفتح يكون بفتح القصور والدور والمساكن والحصونفيكون الأول تمهيد للثاني.
2. المقصود بالفتح فتح مكة لأن فتح خيبر كان قبل فتح مكة وقد فتح المسلمون خيبرقبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو فتح مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد، وهو المعهود في قوله تعالى:إنا فتحنا لك فتحا مبينا 3. تعظيم ذلك النصر لإضافته لله عز وجلّ {نصر الله}. فإضافة (نصر) إلى (الله) تشعر بتعظيم هذا النصر، وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاده.
4. تحقق وتعين النصر لتقدم الفعل الماضي (جاء) في الآية.
5. إن نصر الله لعباده المؤمنين واقع لا محالة فلا يستبطأ النصر لتأخره، وليتيقين وقوعه فهو موعود الله لعباده المؤمنين.
6. لا هجرة من مكة بعد فتحها أما الهجرة من بلاد الشرك فلا تنقطع حتى تنقطع التوبة عن ابن عبّاسٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال يوم الفتح: ((لا هجرة بع الفتح، ولكن جهادٌ ونيّةٌ، وإذا استنفرتم فانفروا)). أخرجه البخاريّ ومسلمٌ في صحيحيهما
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَفِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)}
7. الرؤيا نوعان علمية وبصرية وفي الآية تجوز أن تكون معنى الرؤيا هي كلا الرؤيتين فيكون المعنى وعلمت علم اليقين أن الناس يدخلون في دين الله أفواجا وذلك بالأخبار الواردة من آفاق بلاد العرب ومواطن قبائلهم وبمن يحضر من وفودهم. فيكون جملة (يدخلون) في محل المفعول الثاني لـ (رأيت).
ويجوز أن تكون رؤية بصرية بأن رأى أفواج وفود العرب يردون إلى المدينة يدخلون في الإسلام، وهذا قد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك سنة تسع فتكون جملة يدخلون حال
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَوَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3(}
8. يستحبّ لأمير الجيش إذا فتح بلداً أن يصلّي فيه أوّل ما يدخله ثماني ركعاتٍ، وهكذا فعل سعد بن أبي وقّاصٍ يوم فتح المدائن وله شاهدٌ من صلاة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة وقت الضّحىثماني ركعاتٍ فإن من معان فسبح فصلي.
9. فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ تسبيحِ اللَّهِ الْمُؤْذِنِ بالتَّعَجُّبِ مِمَّا يَسَّرَهُ اللَّهُ لَهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَخْطِرُ بِبَالِهِ وَلا بَالِ أَحَدٍ مِن النَّاسِ، وَبَيْنَ الحمدِ لَهُ عَلَى جميلِ صُنْعِهِ لَهُ وَعَظِيمِ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ بالنصرِ والفتحِ لأُمِّ القُرَى.
10. إذا شعر الإنسان بدنو أجله كان حقا عليه أن يجتهد لأمر الآخرة، فعن ابن عبّاسٍ قال: لمّا نزلت: {إذا جاء نصر اللّه والفتح}، حتى ختم السّورة، قال: نعيت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نفسه حين نزلت. قال: فأخذ بأشدّ ما كان قطّ اجتهاداً في أمر الآخرة، رواه الطبرانيوقال أبو هريرة : اجتهد النبي بعد نزولها، حتى تورمت قدماه، ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه. وقال عكرمة:لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها. وقال مقاتل:لما نزلت قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما يبكيك يا عم؟ " قال: نعيت إليك نفسك. قال: " إنه لكما تقول "؛ فعاش بعدها ستين يوما، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا 11. تقريب أهل العلم والفضل لأن في تقريبهم مصالح جمّة، عن ابن عبّاسٍ قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدرٍ، فكأنّ بعضهم وجد في نفسه رواه البخاري
12. التنبه للصغير الذي وجد فيه شيء النبوغ وتوسم الخير فيه ومعاهدته.
13. إذا أنكر الناس على المرء عملًا يرى أنه صواب؛ فخير دليل يثبت فعله هو الدليل العملي؛عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُدْخِلُنِي مَعَ أشياخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا رَأَيْتُ أَنَّهُ دَعَانِي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ. فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لا. فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ، قَالَ:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}فَذَلِكَ عَلامَةُ أَجَلِكَ،{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.فَقَالَ عُمَرُ: لا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَقُولُ رواه البخاري
14. الآخرة خير من الدنيا ولو لم تكن كذلك لكان أختارها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم كدار بقاء.
15. دلت السورة على قرب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما فتح مكة لأن الأمور الفاضلة تختم بالاستغفار، فأمْرُ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالحمد والاستغفار إشارة إلى أن أجله قد انتهى فليستعد وليتهيأ لملاقاة ربه.
16. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتأوّل القرآن ومن تأوله قوله (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) في ركوعه وسجوده كان يتأوّل قوله تعالى {فسبح بحمد ربك واستغفره}
17. ينبغي للعبد إذا أنعم الله عليه بنعمه أن يكثر من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يكثر في آخر أمره من قول: ((سبحان اللّه وبحمده، أستغفر اللّه وأتوب إليه)). وقال: ((إنّ ربّي كان أخبرني أنّي سأرى علامةً في أمّتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبّح بحمده وأستغفره؛ إنّه كان توّاباً، فقد رأيتها: {إذا جاء نصر اللّه والفتح ورأيت النّاس يدخلون في دين اللّه أفواجاً فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّاباً})).رواه أحمد
18. أن يستغفر الله وهو متعلقا به سائلا راغبا متضرعا له مستظهرا تقصيره في أداء الحقوق، مستحضرا عظيم ما أنعم الله به عليه من النعم، فلا ينقطع إلى رؤية الأعمال.
19. من معاني الاستغفار التي جاءت في الآية
- أنها تعبد يجب إتيانه، لا للمغفرة،.
- وقيل: تنبيه لأمته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار.
- وقيل: واستغفره أي استغفر لأمتك.
20. في تقديم الأمر بالتسبيح والحمد على الأمر بالاستغفار تمهيد لإجابة استغفاره على عادة العرب، كتقديم الحمد على دعاء الحاجة حتى يكون أحرى لإجابة الدعاء.
21. تكريم الله وعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم وتلطفه في العطاء والإبلاغ إلى الكمال، ففي قوله تعالى {فسبح بحمد ربك} كان من المقتضى أن يقول : فسبح بحمده ، لتقدم اسم الجلالة في قوله : إذا جاء نصر الله لكنه عدل من الضمير إلى الاسم الظاهر وهو ربك لما فيه من الإيماء إلى أن من حكمة ذلك النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام نعمة أنعم الله بها عليه إذ حصل هذا الخير الجليل بواسطته. 22. إذا استغفر الإنسان ربه غفر الله له وهذا مؤخوذ من ذكر دليل العموم عقب أمره بالاستغفار {واستغفره إنه كان توابا}
23. قدّم التسبيح والحمد على الاستغفار لأسباب، أولها أن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص، الثاني أنه متمحض لجانب الله تعالى، وأما الحمد فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد فهو ثناء على الله لإنعامه وهو أداء العبد ما يجب عليه لشكر المنعم، فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده ، وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده لأنه يطلب من الله أن يعفو عما يؤاخذه عليه .
24. الأمر المتوقع عند النصر والفتح هو الحمد وهذا الأمر مفروغ منه ولا يحتاج إلى أمر بإيقاعه لأنه من شأن الناس فعله، فاحتيج إلى أمر خاص لا يكون معه مماثلةللأمور الأخرى، فجاء قرن التسبيح بالحمد بباء المصاحبة أي بمعنى مع وهذا يقتضي أن التسبيح لاحق للحمد، فأريد تسبيح يقارن الحمد،على ما أعطيه من النصر والفتح ودخول الأمة في الإسلام.
25. الإيماء بدنو أجل الرسول صلى الله عليه وسلم {فسبح بحمد ربك واستغفره} ووجه دلالته أن الأمر بالاستغفار عطف على الأمر بالتسبيح مع الحمد فهذا استغفار خاص أما الاستغفار الآخر فقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم الإكثار منه طيلة حياته الماضية فالأمر بالتسبيح المقرون بالاستغفار على حصول النصر والفتح هو إيماء بالتهيؤ للقاء الله.
27. سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه المغفرة هو من سؤال التجاوز عما يعرض له من اشتغاله ببعض الحظوظ الضرورية للحياة، وإلا فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
28. ختم الآية باسم الله التواب بدلا من الغفار فيه تلطف مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن الأمر بالاستغفار ليس مقتضيا إثبات ذنب بل المعنى من قبيل أن الله وفقه للتوبة وفيه إرشاد لمقام التأدب مع الله عزّ وجلّ فإنه لا يسأل عما يفعل بعباده لولا أنه تفضل ببيان مراده.
29. الأصل أن يجري الوصف على ما يناسب قوله {واستغفره} لكنه عدل بقوله{توابا} عن قوله {غفارا} لتشتد الملائمة بين فاصلة الآية التي تسبقها بفاصلة هذه الآية فمن جهة أصوات الحروف الباء والجيم تجمعهما صفة مشتركة وهي الشدة بينما الراء متوسطة فختمت الآية الأخرى بقوله {إنه كان توابا} بدلا من غفارا مناسبة لما قلناه وهذه فائدة بيانية.
المراجع/
1. تفسير الطبري
2. تفسير القرطبي
3. تفسير القرآن العظيم لابن كثير
4. تفسير البغوي
5. تيسير الكريم الرحمن للسعدي
6. التحرير والتنوير لابن عاشور
7. أضواء البيان لإيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي
8. زبدة التفسير للأشقر
9. موقع الإسلام سؤال وجواب
10. فتاوى بن باز رحمه الله